في فترة ما من تاريخ السينما العربية كان السينمائيون العرب الشباب ينقسمون الى فريقين: فريق ينتمي قلباً وقالباً الى السينما الروائية، وفريق منحاز للسينما التسجيلية. اختار أغلب السينمائيين الانضمام الى الفريق الأول والسير في طريق السينما الروائية الأكثر جماهيرية، والتي يشكل إنتاجها وتوزيعها النسبة الأكبر بما لا يقاس بالمقارنة مع الأفلام التسجيلية، أما من اختار طريق السينما التسجيلية فكانوا أقلية. من بين هذه الأقلية فان معظم الذين اختاروا طريق السينما التسجيلية اعتبروها مرحلة أولى في مسيرتهم السينمائية، أو فترة تدريب واكتساب خبرة ريثما تتاح لهم فرصة اخراج فيلم روائي، هذا في حين كان البعض يؤكد انحيازه المطلق للسينما التسجيلية كونها النوع الوحيد من السينما الذي يحقق طموحاته الإبداعية وينسجم مع قناعاته الفكرية. السينمائيون الروائيون والتسجيليون، على اختلاف دوافعهم، لم يبتعدوا يوما عن محيط السينما وظلوا يدورون في فلكها، وأخرجوا أفلاما سينمائية، وكانوا جميعا، من خلال أفلامهم او مواقفهم السينمائية، يرسمون خريطة الاتجاهات السائدة في السينما العربية خلال تلك الفترة من الزمن والتي توازي الثلث الأخير من القرن العشرين. كانت تلك الاتجاهات السينمائية تنتمي الى عصر ما قبل هيمنة التلفزيون، وبشكل أخص عصر انتشار البث الفضائي بتقنياته المتطورة الى حد كبير وصولا الى كاميرات الفيديو الرقمي. كان من نتائج عصر البث الفضائي المباشرة على السينما العربية ليس فقط تغيير المعادلة السائدة بين السينما الروائية والسينما التسجيلية لصالح الانتشار المتزايد للسينما التسجيلية إنتاجاً وتوزيعاً وعرضاً، بل أيضا تغيير المفاهيم المتعلقة بطبيعة الفيلم التسجيلي حيث صار يبدو، نتيجة لاعتماده على تقنيات الفيديو وليس تقنيات السينما، أقرب إلى الصحافة المصورة منه إلى الفن السينمائي، أو بكلمات أخرى أقرب إلى الريبورتاج المصور منه إلى الفيلم. التسجيلي بين السينما والتلفزيون الفروقات بين الفيلم التلفزيوني التسجيلي والفيلم السينمائي التسجيلي من الناحية البنائية كثيرة جدا، ويمكن تلخيص أهم هذه الفروقات على النحو التالي: الفيلم التسجيلي التلفزيوني يحتوي على قدر كبير من الثرثرة، ولا نقصد بالثرثرة هنا كثرة الكلام فقط، بل ايضا تعد التفاصيل غير الضرورية وتعدد المواضيع الثانوية بما يؤدي إلى تشتت الموضوع الرئيسي، وذلك مقابل قوة التركيز في الفيلم التسجيلي السينمائي على الموضوع الرئيسي وبناء وإخراج الفيلم على قاعدة ما قل ودل. ثمة فرق جوهري آخر يتعلق باختيارات المواضيع: تلهث الأفلام التلفزيونية وراء الحدث الراهن وتناقش تفصيلاته الآنية ومظاهره الخارجية، فيما تسعى الأفلام التسجيلية السينمائية للانتقال من عرض وتحليل الحدث الخاص إلى استخلاص النتائج التي تفسر الظاهرة العامة بحيث يصبح الحدث مجرد نموذج عنها، إي ان الفيلم التسجيلي السينمائي ينتقل من الخاص إلى العام، وهذه سمة أساسية من سمات العمل الإبداعي الفني. وبالطبع، فهذه الفروقات التي ذكرناها ترتبط بالأفلام التي يقف وراءها سينمائيون موهوبون، ولا يمكن تعميمها على الأفلام التي يصنعها سينمائيون غير موهوبين يفتقرون إلى الموقف الإبداعي والخلفية الفكرية العميقة. حنين إلى السينما القديمة في عصر البث الفضائي وما تلاه من انتشار متزايد للمحطات التلفزيونية الإعلامية المتخصصة التي صارت نشرات الأخبار والبرامج الإخبارية والتحقيقات المصورة والأفلام التسجيلية تشكل أساس برامجها، زادت الفرص أمام السينمائيين المبتدئين لصنع الأفلام التسجيلية التلفزيونية مقابل تقليص فرص صنع الأفلام الروائية السينمائية الطويلة. وهكذا صار العمل في الأفلام التسجيلية التلفزيونية القلب والقالب خيارا إلزاميا لمعظمهم وليس خيارا فكريا وإبداعيا. مع ذلك ظل حلم السينما يراود مخيلات السينمائيين الشباب، وظل الحنين إلى تقنيات السينما القديمة يشدهم. صار البعض منهم يصنع الأفلام بتقنيات الفيديو، ويشعرون في نفس الوقت ان أفلامهم كانت ستكون أفضل إبداعيا وأكثر تماسكا من حيث البنية فيما لو كانت تنتمي إلى السينما وليس إلى التلفزيون. تتجسد بعض الإشكاليات المرتبطة بالعلاقة ما بين التلفزيون والسينما من حيث انعكاسها على ظروف صنع الأفلام وطبيعتها ونوعيتها، في فيلم تلفزيوني تسجيلي للمخرجة الفلسطينية عزة الحسن له عنوان لا يخلو من دلالة وهو “زمن الأخبار”. تفتتح عزة الحسن فيلمها بالمشهد التالي: على خلفية شاشة سوداء نسمع صوت حوار هاتفي بين المخرجة ومصور صديق يدعى عبد السلام. تسأله بداية عن أحواله، فيجيبها ان الأحوال صعبة حيث يصور ضمن ظروف خطرة وقد يصاب بالرصاص. فتطلب منه أن يتخلى عن كل ذلك لأنها ستمنحه فرصة العمل بهدوء وأمان في فيلم جديد، ولكنه يعتذر منها لأنه مرتبط بالعمل مع وكالة أنباء تلفزيونية يابانية. بعد ذلك نرى المخرجة تطل من نافذة بيتها ونسمع صوتها يخبرنا أن هذا الوضع تكرر مع أكثر من مصور. هكذا نفهم لماذا ورد اسم المخرجة في عناوين الفيلم أيضا بصفتها مصورة للفيلم سبق اسمها اسم زميل لها ساهم معها في التصوير. وهذا الوضع الذي يلعب فيه المخرج دور المصور، إضافة إلى دوره كمخرج، أمر طبيعي في الأفلام التسجيلية التلفزيونية، ولكنه أمر شاذ في الأفلام السينمائية ولا يجرؤ عليه إلا المخرجون الذين لهم خبرة كبيرة في التصوير ودراية كافية بتقنياته أو كانوا في الأصل مصورين. ومن الواضح من المشاهد الافتتاحية للفيلم أنها لم تكن سعيدة بدورها كمصورة، ولم تقم به إلا مضطرة إذ لم تجد أمامها خيارا آخر، فهي على الأغلب، تعرف مدى أهمية وجود مصور مستقل للفيلم ( هذا على الرغم من احتمال ان يكون المصور الذي عرضت عليه العمل في البداية قد فقد براعته الفنية نتيجة تورطه في تصوير الأخبار )، بما يساعدها على التركيز أكثر على دورها كمخرجة. نعثر في فيلم “زمن الأخبار” على مثال آخر صارخ: أثناء مشاهدة المخرجة لنشرة الأخبار في إحدى الفضائيات اللبنانية نراقب معها الخبر المصور التالي: اقتحم رجال الأمن اللبنانيون بيتاً في أحد المخيمات الفلسطينية بعد ورود شكوى من الجيران حول حركات غريبة في المنزل. وكانت المفاجأة أن رجال الأمن عثروا في المنزل على رجلين لم يخرجا منه منذ أربعين عاما بعد أن حبسهما والدهما في المنزل آنذاك بعد أن عيرهما أطفال الحي بأنهما لاجئان، وظل الاثنان محبوسين في المنزل طوال الأربعين عاما، على الرغم من وفاة والدهما، وذلك بانتظار ان يعودا يوما إلى وطنهما فلسطين. عرضت عزة الحسن هذا الخبر كاملا في فيلمها ولكن من دون ان توظفه بشكل واضح. وكان هذا الخبر قد مر مرور الكرام من على شاشة الفضائية التي بثته ، وعلى الأغلب أثار فضول مشاهديه للحظات قبل أن يطويه النسيان. ظل الخبر خبرا ولم يتحول إلى موضوع أو حكاية سواء في فيلم “زمن الأخبار” أو في أي فيلم آخر، إذ طغت عليه المواضيع المرتبطة بالأخبار ذات الطبيعة السياسية الصارخة الآنية. لكن خبرا مماثلا عن طفلتين حبسهما والدهما في المنزل لسنوات طوال لوجود إعاقة عندهما لم يمر مرور الكرام بل دخل التاريخ من أوسع أبوابه الفنية عندما تطور من خبر مثير إلى عمل إبداعي سينمائي شعري حتى، حيث صار الموضوع والمادة الأساسية للفيلم السينمائي الإيراني “التفاحة” الذي أخرجته قبل سنوات سينمائية صبية في الثامنة عشرة من عمرها، هي سميرة مخملباف، وعرضته بنجاح كبير في مهرجان “كان” السينمائي الدولي عام ،1998 علما بأن سميرة مخملباف تعمل ضمن آلية إنتاج سينمائية وليس تلفزيونية. لم تشر عزة الحسن في فيلمها “زمن الأخبار” صراحة، أو حتى تضمينا، إلى الفيلم السينمائي الإيراني “التفاحة” عندما عرضت مشاهد الخبر التلفزيوني المصور عن اللاجئين الفلسطينيين ولا ندري ان كان نموذج فيلم “التفاحة” كامنا في وعيها الباطني، وهي تعيد عرض مشاهد الرجلين الفلسطينيين في فيلمها. لكن المقارنة بين الحالتين، كما وردت في الفيلمين، مفيدة جدا لإدراك أفضلية المعالجة السينمائية على المعالجة التلفزيونية للحدث أو الموضوع من الناحية الفنية الإبداعية، ففي حالة الفيلم تم تحويل الحدث من خبر إلى حكاية ودراما إنسانية مؤثرة، أما بالنسبة للفيلم التسجيلي فإن الحدث ظل مجرد خبر عابر. تفيدنا هذه المقارنة أيضا في استيعاب هذا الحنين للسينما الذي لا ينتهي عند السينمائيين الذين يتورطون في التلفزيون وتقنيات الفيديو التي يعتقدونها وسيلة للوصول إلى السينما التي هي الغاية، فيكتشفون أن الوسيلة تخدع، فلاتوصلهم الى الغاية المرجوة، وهي صنع أفلام لها ديمومة وتحتوي على قيم فنية ودرامية وفكرية. جريدة الخليج في 26 يناير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أحلام السينمائيين بين السينما والتليفزيون عدنان مدانات |
|