كان الفيلم الفرنسي الإيطالي البلجيكي المشترك الإنتاج “ساعي البريد” للمخرج ميشيل رادفورد أحد اكثر الأفلام الأوروبية نجاحا في العام ،1994 وهو العام الذي شهد إطلاق الفيلم في صالات العرض السينمائية. وهناك سبب أساسي من أسباب إعجاب المشاهدين النقاد بالفيلم كون أحداثه تتعلق بجزء من سيرة حياة شاعر تشيلي الكبير بابلو نيرودا والذي عاش حياة غنية بالأحداث، خاصة السياسية، حياة جعلته يعلن بصوت عال في قصيدة له: “أشهد أنني قد عشت” . وقد كان فيلم “ساعي البريد” شهادة إضافية من السينما، على أن بابلو نيرودا قد عاش فعلا وأن في ما عاشه الكثير مما يجب أن يروى . لم يرو فيلم “ساعي البريد” وقائع متسلسلة من تاريخ حياة بابلو نيرودا الذي عاصر أكثر وقائع بلاده المصيرية بكل جوانبها، ولم يختر أكثرها إثارة، بل اكتفى بسرد بعض تفاصيل الفترة التي عاش فيها بابلو نيرودا منفيا في قرية إيطالية، والتي تميزت بعلاقة خاصة نشأت تدريجيا بين الشاعر وبين ساعٍ للبريد انبهر بشخصية نيرودا وبشعره فانتقلت إليه العدوى وصار يكتب الشعر . أما شاعر إسبانيا فديريكو غارسيا لوركا الذي مات غيلة في العام 1936 وهو في ريعان شبابه، إذ لم يدعه اتباع كتائب الجنرال الفاشي فرانكو، الذين اختطفوه من منزله ذات صباح، يعيش حياة مديدة، فإن سنوات حياته القصيرة اتسمت بغنى في الأحداث جعلته يكتب قبل موته قصيدة يقول فيها: “أريد أن أنام لبرهة، لبرهة أو لقرن.. لكن دعوا الجميع يعلمون أنني لم أمت” ، وهو الذي قال ذات يوم: “أهم شيء بالنسبة لي هو أن أحيا” . وقد استجابت السينما الإسبانية بعد نحو نصف قرن من الزمن لرغبة شاعر إسبانيا الكبير، وذلك من خلال الفيلم السينمائي “لوركا.. موت شاعر” الذي يروي وقائع الأيام الأخيرة من حياة لوركا التي سبقت اختطافه ومن ثم اغتياله، وهو واحد من سلسلة من سبعة أفلام سينمائية أنتجت لحساب التلفزيون الإسباني تروي سيرة حياة لوركا قام بإخراجها المخرج الإسباني الشهير خوان انطونيو بارديم . هذان مجرد مثلين عن سينما تخلص لمبدعين شعراء فتعرف بحياتهم وسيرتهم الأدبية وتخلدهم من خلال الأفلام التي تحكي عنهم . لا يقتصر نشاط السينما الروائية العالمية على التعريف بالشعراء المبدعين وحدهم، بل توجد في السينما العالمية عشرات الأفلام التي تخصص مواضيعها لسرد سير و وقائع من حيوات مبدعين كبار في مجالات الموسيقا والرسم والرواية، مستفيدة في ذلك ليس فقط من قيمتهم الإبداعية والتاريخية، بل أيضا، وفي أحيان كثيرة، من تجاربهم الحياتية التي تتضمن قدرا كبيرا من الدراما، سواء منها الدراما ذات البعد التاريخي الاجتماعي أو ذات البعد الشخصي . من أحدث الأمثلة في السينما العالمية المتعلقة بأفلام روائية طويلة أنتجت في السنوات الأخيرة وتحدثت عن مشاهير المبدعين نذكر الفيلم الأمريكي “الساعات” الذي يروي في جانب منه جزءا من سيرة الكاتبة فرجينيا وولف عام ،2002 وفيلم “فريدا” عن الرسامة فريدا كاهلو عام ،2002 والفيلم الإسباني “غويا في بيردو” عن الرسام فرانشيسكو دي غويا 1999. واحد من أفضل الأمثلة الصارخة التي تدل على بعض جوانب من حياة المبدعين المملوءة بالدراما والتي تناولتها السينما، وإن ليس بالعمق الكافي، هو سيرة الكاتب الأمريكي “إرنست هيمنجواي” الذي عاش حياة مملوءة بالتجارب وبالمغامرات المثيرة والمخاطر على المستويين الشخصي والجماعي وعايش وتفاعل مع أكثر حوادث التاريخ المعاصر له تأثرا في القرن العشرين، مثل الحرب الأهلية في إسبانيا، وهي الحياة التي كانت وقائعها مادة أساسية استمد منها مواضيع وحكايات وأفكار أعماله الأدبية الروائية والقصصية والصحافية، ثم أنهى حياته بفعل درامي عندما ختمها برصاصة قاتلة من بندقيته التي طالما استخدمها في رحلات الصيد في أدغال أفريقيا، فكان انتحاره المفاجئ والصادم، بما تضمنه من أبعاد ودلالات لا يقل إثارة عن حياته . لا يفتقر الوطن العربي إلى مبدعين كبار عاشوا حياة ثرية متعددة الأبعاد وتجارب تستحق الذكر و أنتجوا أعمالا أدبية أو فنية مهمة، سواء أكانوا ينتمون إلى الماضي السحيق أم إلى التاريخ القريب، كما لا يفتقر العالم العربي إلى مبدعين معاصرين لا تزال تجري الدماء في عروقهم . والعديد من أولئك المبدعين يمكن أن يكونوا، كما يمكن أن تكون تجاربهم الحياتية والشخصية وحتى الإبداعية ومصائرهم، مادة لدراما سينمائية حقيقية ومؤثرة. لكن السينما العربية تفتقر حقا إلى أفلام تحكي عنهم وعن مجتمعهم وتعرف بإبداعهم وأفكارهم. وما يتوفر من أفلام سينمائية عربية روائية طويلة منذ بداية السينما العربية قبل نحو ثمانية عقود من الزمن وحتى الآن يعد بالأصابع وأبرزها: الفيلم السوري “تراب الغرباء” عن المفكر عبد الرحمن الكواكبي، والفيلم المصري “المصير” عن المفكر ابن رشد، والفيلم المصري “كوكب الشرق” عن المطربة أم كلثوم، وقبله بزمن طويل الفيلم المصري “سيد درويش” . ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة الفيلم المصري “عصفور من الشرق” عن جانب من سيرة شخصية كتبها توفيق الحكيم وتحدث فيها عن فترة دراسته في فرنسا، وكذلك ثلاثية المخرج يوسف شاهين التي افتتحها بفيلم “الإسكندرية ليه” والتي يتتبع فيها مراحل تاريخه الشخصي والإبداعي . وباستثناء الفيلم التونسي “حبيبة مسيكة” الذي يروي سيرة حياة مغنية تونسية من أصل يهودي اشتهرت في عشرينات القرن الماضي، لا نعثر على أفلام تستقي مواضيعها من حياة المبدعين في باقي الدول العربية، في المشرق والمغرب، والتي يوجد فيها إنتاج للأفلام السينمائية الروائية الطويلة. يثير غياب أفلام تستقصي سيرة مبدعين عرب قضيتين رئيسيتين، بخاصة عندما يتعلق الأمر بإنتاج أفلام سينمائية روائية عن مبدعين معاصرين، أو ينتمون للقرن العشرين بكل ما جرى فيه من أحداث مصيرية متلاحقة تفاعلوا معها وعبروا عنها في أعمالهم الإبداعية. تتعلق القضية الرئيسية الأولى بالوضع الإنتاجي للسينما العربية عامة والذي يمكن تقسيمه تقسيما أوليا إلى نوعين، الأول منهما ينتمي إلى السينما التي تسعى وراء النجاح الجماهيري التجاري فتحصر اختيارات مواضيعها وحكاياتها ضمن اشتراطات التشويق والجذب الجماهيري، والنوع الثاني يرتبط بأجيال السينمائيين الشباب الذين تتوفر لهم فرص خاصة لإنتاج أفلامهم، سواء عبر التمويل الخاص أو عبر الدعم الحكومي أو عبر الإنتاج المشترك مع دول أو مؤسسات سينمائية أجنبية فتخضع اختياراتهم إما لاشتراطات الإنتاج المشترك أو لتوجهات المخرجين لصنع أفلام تنتمي إلى ما يسمى “سينما المؤلف” وتعكس أفكارهم ومواقفهم الخاصة وتستمد مادتها في معظم الأحيان من خبراتهم الحياتية، أي بتعبير أدق، هم يصنعون أفلاما تحكي عنهم وليس عن مبدعين آخرين . أما القضية الرئيسية الثانية فهي ترتبط بحدود وإمكانات تقديم السيرة الذاتية لأشخاص يعيشون في مجتمعات ذات تقاليد أخلاقية واجتماعية محافظة من خلال الأفلام السينمائية الروائية، حيث يصبح “الكشف” في أحيان كثيرة بمثابة “فضيحة” . وهنا لا بد أن نلاحظ أن حجم الحرية المتاح للسينمائي الذي يريد أن يروي سيرته الذاتية أو سيرة غيره من المبدعين هو حجم أقل بكثير من الحجم المتاح للكاتب الروائي، ففي السينما ثمة الكثير من الخطوط الحمر التي لا يمكن للسينمائي العربي أن يتجاوزها، والتي بمقدور الأدب المكتوب أن يتخطاها أو، على الأقل، أن يتحايل عليها . وما جرؤ عليه الكاتب المغربي محمد شكري في سيرته الذاتية الفضائحية “الخبز الحافي” ما كان ليجرؤ عليه لو اختار السينما وسيلة للتعبير وليس الأدب المكتوب . والخطوط الحمر في السينما العربية.. متشعبة ولا تقتصر على جانب واحد، فهي سياسية وأخلاقية وثقافية ونفسانية، تكون مجتمعة أحيانا أو متفرقة أحيانا أخرى، خطوط ترسم بعض حدودها الرقابات الرسمية ويرسم حدودها الأخرى المجتمع. يتفرع عن القضية الثانية جانب مهم يتعلق بالمفهوم الأخلاقي للشخصية ذات الأصل الواقعي المعاد تجسيدها في العمل الأدبي أو السينمائي، والذي يتسبب في إبراز فقط ما هو إيجابي في سلوك الشخصية وتاريخها الحياتي وإخفاء أو تجاهل ما هو سلبي فيها . هكذا تظهر الشخصية من الناحية البنائية مسطحة و ذات بعد واحد، أي أنها تصبح شخصية غير درامية، وبالتالي غير مشوقة وغير مؤثرة . كما أن التركيز على الجانب الإيجابي وإغفال الجانب السلبي يفقد الشخصية مصداقيتها سواء من حيث هي شخصية داخل الفيلم، أي شخصية سينمائية، أو من ناحية مرجعيتها الواقعية. من جانب آخر، تعرف السينما العربية بعض الأفلام التي يمكن تصنيفها تحت بند السيرة الذاتية . لكن السيرة الذاتية في معظم هذه الأفلام اقتصرت على وقائع تستعيدها ذاكرة مرحلة الطفولة، أي المرحلة التي تستبعد احتمالات الفضيحة، كما أن معظم تلك الأفلام زاوج بين التاريخ الشخصي والتاريخ الاجتماعي، جاعلا الذاتي في خدمة الاجتماعي ومبررا لتناوله . لهذا تظل هذه الأفلام مقصرة في مجال التعريف بتجربة المبدع. مع كل تلك التحفظات، فإن القضية تبقى مطروحة، ففي الوطن العربي، تاريخا وحاضرا، الكثير من المبدعين في شتى المجالات الإبداعية الذين يوجد في تجاربهم الإبداعية والحياتية الكثير ما يستحق أن يروى وأن يشاهد. الخليج الإمارتية في 10 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نجوم في الشعر والرواية دخلوا فن السينما عدنان مدانات |
|