جميل من السينما أن تهدأ قليلا.. وتتريث.. وتبتعد عن لغة الأكشن وموضوعات العنف وسفك الدماء والاغتيالات. أو حتي صخب الضحك واصطياد الافيهات.. وتتجه الي الدراما الاجتماعية والفكرية. بل كل الانسانية بكل صورها ومعانيها.. وان تتنوع حتي علي مستوي الصورة من لقطات الغضب العارم الممزوجة بلون الدم والحقد.. الي مستويات جمالية تبرز مشاكل الانسان الذاتية والنفسية. ومعها انفعالاته المتباينة تجاه قضاياه وقضايا الآخرين علي كافة المستويات.. وهذا هو الفن الحقيقي في أفضل صوره. تلك التي لا تهدف الي الاثارة المزاجية المجردة.. وانما الي تعميق فهمنا للنفس البشرية! وفيلم "الفضيحة" المعروض حاليا من هذه الأعمال التي تعطي للفنان مساحة هائلة للعزف علي الحان الأداء التمثيلي المختلفة. بمنحه فرصة أن يصول ويجول في تجسيد الشخصية التي يلعبها عن طريق الربط بين الحركة والايماءة وتلوين الصوت. وهي أساسيات فن التمثيل أو فن التقمص والتشخيص.. لذلك نجد بطلة الفيلم "نيكول كيدمان" ذات الوجه شديد التعبير تجد نفسها أكثر في هذه الأدوار التي تثبت فيها انها ممثلة بجد.. وليست مجرد جسد ممشوق تتلاعب به هوليوود من أجل المزيد من الثراء علي حساب موهبتها وانسانيتها! أفكار محمود مرسي أما "انتوني هوبكنز" بطل الفيلم العملاق. والذي يذكرني شكلا ومضمونا بالراحل محمود مرسي في أدائه. وفي أفكاره وسلوكياته الخجولة.. فقد قرر منذ سنوات أن يعتزل التمثيل وهو في قمة مجده وعطائه.. لا لشيء الا لأنه لم يجد نفسه في الأدوار الاستهلاكية المعروضة عليه.. بل وصل به الحال الي القول بعدم جدوي ما يفعله أصلا.. مادام لا يقدم للناس ما يعبر عن مشاكلهم الحقيقية وقضاياهم. وهو واجب يمليه عليه ضميره ومبادئه وقيمه.. ورفض أن يهلك تجار الفن موهبته فيما لا ينفع.. الغريب انها كانت نفس أفكار محمود مرسي! حتي عاد.. ولكن بتأن وتريث.. يمتع جمهوره بما يقتنع به هو أولا! في "الفضيحة" يناقش مؤلفه "فيليب روث" ومخرجه "روبرت بنيتون" عدة قضايا انسانية شائكة. أهمها قضية "العنصرية" التي ظننا انها من التراث. لنفاجأ بأنها مختبئة أو مسكوت عنها بداخل المجتمع الأمريكي. معششة فيه حتي أطرافه.. ولعل ما كشفته الأيام بعد 11 سبتمبر. وما يحدث الآن من اضطهاد وتعذيب الضباط والجنود الأمريكيين للمعتقلين العراقيين لهو خير دليل علي أن بهم عنصرية وجاهلية بغيضة.. وأن المدنية التي طالما دوشوا دماغنا بها ما هي الا غش وخداع. فقد سقط القناع.. وبان الوجه القبيح الخالي من المثل والقيم! ان الأستاذ الجامعي البارع كولمان سيلك "انتوني هوبكنز" يجد نفسه مرفوتا من عمادته لكلية الأدب الكلاسيكي لأنه أخطأ في التعبير في وصف طلاب غائبين من الزنوج.. حيث وضعهم بأنهم من "الجان".. ومن ادارة غير متسامحة قالوا انه تعمد الاساءة.. وعبثا يحاول اقناعهم بأنه لم ير شكل الطلبة أصلا حتي يسيء اليهم.. بل كان في امكانه تبرئة نفسه بسهولة لو أفشي السر الذي أخفاه منذ شبابه.. وهو انه زنجي أيضا ولكن حالفه الحظ بأن تجيء بشرته قمحية وليست سوداء.. ولأنه يعرف مجتمعه العنصري جيدا.. وان ما يدعونه ليل نهار انهم دعاة الحرية والمساواة ما هو الا كذب وتضليل.. فقد ركب الموجة وتعامل فيه علي أنه أبيض. ليصل الي أرفع المناصب به!! تموت زوجته مصدومة من فصله. ويجد نفسه فجأة وحيدا وعاطلا.. يتعرف علي مؤلف قصص "جاري ساينس" انعزل عن المجتمع ضيقا.. فيطلب منه كتابة حكايته.. ويتصادقان.. لنكتشف بصورة ممتعة ان الفيلم كله يروي علي لسان هذا المؤلف بعد مصرع بطليه! وتجيء "الفضيحة" بصورة أخري مختلفة عن فضيحة العنصرية.. بأن هذا الأستاذ الفذ يتعلق بسيدة تصغره بعشرات السنين "نيكول كيدمان" مجرد عاملة نظافة.. وانها هي الأخري ضائعة بسبب مصرع طفليها.. وزوجها أو طليقها يحملها المسئولية ويطاردها في كل مكان! وتنمو علاقة بين "الجريحين" أو المتناقضين "العالم والجاهلة" في غاية العذوبة والجمال! معني الشرف الفيلم يكشف بوضوح سوءة المجتمع الذي يقدم أنموذجاً منه علي الشاشة.. ونتساءل معهم: ما هي الفضيحة الحقيقية؟ هل هي علاقة الأستاذ بالشغالة؟ أم الاساءة التي لم يقصدها لتلاميذه ولم يجد أي متسامح معه؟ أم السر الذي أخفاه لسنوات طويلة لكي "يمر" و"يعدي" دون منغصات؟ أم من المجتمع الأمريكي ذاته الذي يحمل كل المتناقضات. وأبرزها انحدار القيم ومعني الشرف الحقيقي تحت ستار التقدم والمدنية واستعراض القوة.. وهو مخوخ من الداخل!! المهم أن يجيء كل هذا في صورة سينمائية شيقة.. من مخرج استطاع أن يحقق السلاسة والوحدة والاتساق برغم استخدامه للفلاش باك أو العودة الي الماضي بكثرة.. ولكن كيف يستخدم هذا مع القدرة علي رسم الحركة "ماضيها وحاضرها". وتكوين اللقطات. وارتفاع مستوي التمثيل. مما أثر ايجابيا في اقناعنا بالقضية المطروحة.. وكيف دعم الموقف الدرامي بتنسيق بصري تتناغم فيه الاضاءة مع شريط الصوت مع المناظر من تشكيل يعد من جماليات فن السينما! الطريف أن بالفيلم انتقادا صريحا لتخبط رؤساء الولايات المتحدة حيال الكثير من القضايا الداخلية والخارجية. بما فيها حتي قضية مونيكا وكلينتون في سخرية واضحة من سوء تصرفهم.. قال ويريدون تصوير النظم لغيرهم.. وقديما قالوا: "اللي بيته من زجاج..."!! الجمهورية في 6 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"الفضيحة".. العجوز "هوبكنز"..يعشق الصبية "نيكول كيدمان" محمد صلاح الدين |
درامــــــا إنسـانيـــــــة كتبت ـ ماجدة حليم في عالم السينما مخرجون يجعلونك تعشق فن السينما.. والمخرج روبرت بيتون من هؤلاء المخرجين.. وهو مخرج فيلمTheHumanStain أي زلة إنسانية, وتجاريا تحت اسم الفضيحة بطولة انتوني هوبكنز ونيكول كيدمان وإدهاريس وجاري سنتير, عن قصة لبتكو لاماي. فالاقدار قد تضع الانسان أمام حدث قد يغير مجري حياته.. انتوني هوبكنز أستاذ الأدب الكلاسيكي وعميد الكلية ينتقد غياب طالبين واصفا اياهما بالجن الذي لا يظهر.. وبسبب هذا اللفظ الذي اعتبره الطالبان وإدارة الكلية لفظا عنصريا, لأن الاثنين من السود يتعرض الأستاذ للتأنيب واللوم مما يدفعه للاستقالة رغم إنه لم يقابلهما, كما أن المخرج لم يظهرهما.. ولهذا السبب ايضا تموت زوجته التي لم تتحمل صدمة الإهانة التي وجهت لزوجها. البطلة نيكول كيدمان يحترق طفلاها بينما هي لاهية عنهما, فتهرب وتعمل في ثلاثة أعمال في نفس الوقت.. وزوجها إدهاريس العائد من فيتنام ومصاب بلوثة تجعله يقوم بأعمال عدائية يطارد زوجته متهما اياها بقتل أطفاله.. وهناك الكاتب المشهور جاري سنتير الذي يهرب إلي منطقة بعيدة وسط الغابات هربا من فشله في الحب والزواج. ومع هؤلاء يشاركهم البطولة المخرج والمصور والمونتير والموسيقي التصويرية وهي سوناتا البيانو. يبدأ الفيلم بمنطقة يكسوها الثلج, سيارتان تتقابلان فيحدث الاصطدام, وهذه هي نهاية الأبطال.. والراوي هو الكاتب.. تنتقل المشاهد إلي أستاذ الأدب الكلاسيكي الذي يحاضر طلابه عن اخيل بطل معركة طراودة.. فقد اراد الاحتفاظ بحبيبته فقامت معركة طراودة التي تعتبر من أشرس المعارك الحربية في التاريخ.. وتتوالي الأحداث باستقالة الاستاذ بسبب كلمة اعتبرت عنصرية.. ثم يرجع المخرج بالفلاش بك إلي طفولة وصبا الأستاذ انتوني هوبكنز فنكشف أنه ينتمي لعائلة من السود, وهو الوحيد الذي ولد ابيض.. ويعرفنا المخرج انه كان من هواة الملاكمة, ومنعه والده من الاستمرار فيها.. ثم تنتقل الكاميرا الي الغابات التي يتعرف فيها انتوني هوبكنز بالكاتب المعروف..كل منهم هارب.. ثم المصادفة التي تعرف فيها علي نيكول كيدمان, ثم قصة الحب التي ربطت بينهما وبين سوناتا البيانو.. وقسوة حلبات الملاكمة.. والغابات.. ومشاهد الثلج يأخذك الفيلم إلي البطلة التي تعمل أكثر من عمل لتقتل التفكير.. والبطل الذي يندفع نحو حبه الأخير.. والكاتب الذي يعايش هذه القصة فيخرج عن عزلته ليكتب.. والزوج الذي يعترف بحادثة قتل لم تحدث حين لا يجد المحققون أي اثر لاصطدام السيارتين.. والعائلة السوداء التي لا تتخلي عن ابنها رغم تخليه عنها. أما الزلة الإنسانية فهي عدم اعتراف الأستاذ بأنه أسود ليتفادي الاتهام بالعنصرية.. وعدم قدرة البطلة علي مواجهة احتراق ولديها في مشهد مؤثر وهي تبكي, بينما تحتفظ برمادهم في علبتين.. والدمار النفسي الذي لحق بالزوج بعد عودته من فيتنام. والفيلم يضعك امام الدراما الإنسانية بكل نزواتها وضعفها في مشاهد سينمائية غاية في الرقة والروعة.. وهذه هي السينما الحقيقية. الأهرام اليومي 5 مايو 2004
|
انتونى هوبكنز ونيكول كيدمان فى الفضيحة