شعار الموقع (Our Logo)

 

 

ملفت هذا الاهتمام العربي والاسلامي المفاجئ بالفيلم الذي حققه الممثل ميل غيبسون عن الساعات الأخيرة من حياة السيد المسيح. إذ ان الاهتمام هذا, بلغ من القوة ما لم يبلغه أي اهتمام عربي أو مسلم بأي فيلم ديني, سواء كان مسيحياً أو غير مسيحي, في تاريخ السينما. وليس سراً أن هذا الاهتمام لا يعود الى قيمة الفيلم الفنية, بقدر ما يعود الى ما أحاط به من سجالات سياسية, وبخاصة بالنسبة الى اعتراضات بعض الجماعات اليهودية المتطرفة قبل عرض الفيلم, في صدد ما كان تردد من تركيز ميل غيبسون على مسألة مسؤولية اليهود عن صلب السيد المسيح. طبعاً نعرف ان الاعتراضات اليهودية المتطرفة هدأت كثيراً بعدما عرض الفيلم, وبعدما تبين ان المسألة حُمِّلت أكثر مما تحمل, وأن غيبسون في "اتهامه" لليهود كان أقرب الى الاعتدال. ولكن اذا كانت هذه الضجة قد هدأت في الخارج, حيث راح الفيلم يشق طريق أرباحه المالية بثقة وقوة كبيرتين, فإنها - أي الضجة - لم تهدأ عندنا في العالمين العربي والاسلامي, حيث التقط "الخلاف" بين غيبسون واليهود ليُحوَّل الى ظاهرة أدت بدورها الى تحويل ميل غيبسون نفسه الى ظاهرة قومية عربية!

المهم في الأمر أن عرض الفيلم والنجاح الكبير - مالياً على الأقل, طالما ان نقاد العالم أجمعوا على ضآلة أهمية الفيلم من الناحية الفنية - دفعا الاهتمام العربي والاسلامي به الى ناحية اخرى تماماً: ففي كل مرة دار نقاش من حول هذا الفيلم, وحُوّل دائماً الى نقاش سياسي, كان يثور سؤال لا شك ان في إمكاننا ان نكتشف شرعيته على الفور: اذا كنا نهتم كل هذا الاهتمام اليوم بفيلم عن السيد المسيح (يقال ان من الأسباب الرئيسة لنجاحه, تدفق المتفرجين عليه بفضل الخواء الروحي الذي تعيشه الأجيال الجديدة, ما يجعل من استعادة حكاية آلام السيد المسيح ضرورة روحية ماسة), فلماذا نرى السينما المتحدثة عن مواضيع دينية اسلامية غائبة تماماً؟ ومتى يكون للبعد الروحي في الإسلام أفلامه المتميزة والعاقلة والمشغولة تبعاً لمستويات فنية راقية تستفيد, كما فعل ميل غيبسون في فيلمه, من أحدث التطورات التقنية وأكثرها قوة وتعبيراً؟

إذاً, نحن هنا امام سؤال مشروع... لكن المشكلة معه تبدأ حين يقول أحدهم, مثلاً: ولماذا لا نتصل بميل غيبسون نفسه ليحقق هذا الفيلم - والمسكوت عنه في مثل هذا التساؤل هو الاستطراد الذي تفضحه العيون: "طالما اننا وإياه في معركة واحدة ضد اليهود"! - ؟ والحقيقة ان السؤال طرح جدياً, وعلى كاتب هذه السطور, أكثر من مرة وفي عدة لقاءات إعلامية... بل كان ثمة من بين الطارحين من أكد, علناً وأمام ملايين متفرجي التلفزة, ان معلوماته تقول بأن ميل غيبسون "يدرس, حقاً, مشروعاً من هذا النوع". طبعاً, هذا التأكيد لا يستند الى الحقيقة, ولا يتعدى كونه من قبيل الأماني. وفي كل مرة أكد كاتب هذه السطور عدم امكان أو جدية مثل هذا الخبر, كان يضطر الى تمالك نفسه لكيلا يضحك... حتى وإن لم يخل الأمر أحياناً من دوافع للإغراق في الضحك - خبرها مثلاً كل أولئك الذين قرأوا برقية بعث بها نقيب فنانين عرب الى ميل غيبسون نفسه!

ما يهمنا هنا العودة الى السؤال الأساس. لماذا, حقاً, ليست لدينا - اليوم - سينما عن الإسلام تظهره على حقيقته, تظهر عقلانيته, إنسانيته, تسامحه الحق وانتماءه الى كل الأديان التوحيدية التي سبقته وكان هو خاتمتها؟

اليوم, ومنذ زمن طويل, لم يعد هذا النوع من الأفلام موجوداً. ويقيناً اننا إذا شئنا له أن يوجد, لما كنا أبداً في حاجة الى ميل غيبسون لكي يحققه لنا. وذلك, في كل بساطة, لأن لدينا في طول عالمنا العربي, مواهب سينمائية, اذا كانت تقل عن غيبسون قدرة على التعاطي مع لغة الصورة الحديثة, فإنها تزيده اضعاف المرات, حساسية وانتماء حقيقياً الى موضوعها.

والمثال الأسطع هنا, ليس علينا أن نستقيه مما هو ممكن أو محتمل, بل مما هو موجود بالفعل... ومنذ أكثر من ربع القرن. ونعني بهذا فيلم "الرسالة" للمخرج العربي مصطفى العقاد. فالحقيقة ان هذا الفيلم, العاقل فكرياً- والمميز فنياً, جاء في زمنه المبكر ليختتم سلسلة طويلة وعريضة من أفلام عن الإسلام, كانت حققت - في غالبيتها - في مصر, وأحياناً عن طريق مخرجين كبار من طينة صلاح أبو سيف. ولئن كانت قد وجدت أفلام دينية عديدة قبل "الرسالة" لمصطفى العقاد, فإنه كان, هو, الفيلم الأخير حتى اليوم. والحقيقة انه, في موضوعه وابتكاراته الفنية, والنجاح الخارق الذي حققه, كان من الطبيعي له أن يحول دون دنو كثر من بعده, من ذلك الموضوع نفسه. فمصطفى العقاد يومها, بلغ في فيلمه من الأداء الفني ما جعل من غير الممكن لمن لا يستطيع تجاوز مستواه أن يتبعه.

هذا من الناحية الفنية, ومن ناحية اشتغال العقاد على موضوعه, منفقاً عليه ما يتلاءم مع جلال الموضوع, من الناحيتين المادية والمعنوية. أما من الناحية الفكرية فإن الفيلم أتى صورة عقلانية لدين الإسلام ساهمت كثيراً في تعديل صورة الإسلام السائدة, وليس فقط في أذهان المتفرجين الغربيين الذين وصلت سمعة الفيلم الى أسماعهم وأقبلوا عليه يشاهدونه ويكتشفون حقائق عن الإسلام, كان الإعلام السائد من ناحية, وبعض الممارسات "الإسلامية" من ناحية أخرى, يعملون على طمسها... بل كذلك لدى المسلمين أنفسهم الذين اكتشفوا, عبر صورة الفيلم المشرقة عن الإسلام, تاريخاً آخر لهذا الدين الحنيف, بعيداً عما تراكم من صور سلبية أو صور تقسم العالم الى الأبيض والأسود وتروج لثقافات الكراهية والموت, التي جاء الفيلم, في خضم الظروف التي انطلق فيها, ليؤكد انها لا يمكن أن تكون الصور الحقيقية للإسلام.

المشكلة هنا ان هذا الفيلم الذي كان يجب أن يكون بداية... سرعان ما كان نهاية. في معنى ان الرسالة التي حملها الفيلم في عنوانه كما في مضمونه, كان يجدر بها ان تكون فاتحة لتراكم فني يتتالى, يعيد النظر في بعض "مسلمات" التاريخ المكتوب, لأننا نعرف ان الفنون وضروب الإعلام لا يمكن لها أن تشتغل أو ان تفعل إلا على أساس مبدأ التراكم. فالفيلم يحتاج الى أفلام أخرى ترفده وتعزز من خطابه, والصورة تحتاج الى صور أخرى. أما المشكلة التي نشير اليها فقد كمنت تحديداً في أن "الرسالة" كان الأخير. صحيح أن مصطفى العقاد خاض من بعده تجربة أخرى, لها الضخامة نفسها, والرسالة نفسها عبر فيلم "عمر المختار" غير انه لم يوفق في فيلمه الثاني بقدر ما وفق في فيلمه الأول. وربما كان من أسباب ذلك, ارتباط "عمر المختار" بالطرف الليبي المنتج ما أضفى على الفيلم طابعاً دعائياً رمى الى الصف الخلفي ميزاته الفنية وهو نفس ما حصل في الوقت نفسه تقريباً لفيلم "تاريخي" عربي آخر هو "القادسية" لصلاح أبو سيف, الذي انتجه نظام صدام حسين في العراق, ليس كإنتاج فني تاريخي, بل كسلاح دعائي ساذج في الحرب التي كان ذلك النظام يخوضها ضد الايرانيين. ونحن نعرف طبعاً أن مصطفى العقاد لا يزال ينتظر منذ ذلك الحين فرصاً مواتية تمكنه من متابعة نجاح "الرسالة" وهدفه... حتى وإن مارس بين الحين والآخر خلطاً واضحاً ومعتاداً في الثقافة العربية, بين ما هو تاريخي وما هو ديني. وفي هذا الاطار قد يكون من المفيد أن نذكر ان هذا الخلط, الذي نلاحظه متفاقماً, حتى أيامنا هذه, من على شاشات التلفزة التي يمكن أن نحسب ان بعضها انما هو امتداد - غير موفق في غالبية الأحيان - لـ"الرسالة" أو لما سبقه من افلام اسلامية, كان غالباً ما يسيء الى المواضيع الدينية, حيث يهيمن التاريخي بماديته وبحاجته الدائمة الى محاججات تبريرية تنطلق من فكرة "التاريخ المقدس" والذي لا يمس, على الديني الذي غالباً ما يكون عليه ان يرتدي مسوحاً روحية وعقلية لا يضاهيه فيها التاريخ بتفاصيله وأحداثه. وفي عودة هنا الى "الرسالة" تحديداً, كما حققه مصطفى العقاد أواخر السبعينات, لا بد من الاعتراف بأن التوازن في هذا الفيلم بين ما هو تاريخي وما هو ديني كان موفقاً, لمرة نادرة في تاريخ السينما.

ومن هنا لا يعود أمامنا إلا أن نتساءل (لمناسبة الضجة المثارة من حول "آلام المسيح" والواصلة, عربياً الى التساؤل المشروع القائل: أين السينما الإسلامية إذاً؟) استطراداً: أين مصطفى العقاد إذاً. ونحن, هنا, ننطلق في سؤالنا تحديداً من كوننا, في اعجابنا بـ"الرسالة" وفي الانتقادات الحادة التي جابهنا بها في حينه "عمر المختار", انما كنا مدركين لواقع ان استكمال الحديث عن الإسلام سينمائياً, كان قد عثر على مبدعه في شخص مصطفى العقاد, وعلى ابداعه في "الرسالة"... وكان يتعين على العقاد أن يواصل مسيرته في "الرسالة" ولو فعل لكان قدم للإسلام وتاريخه وصورته, خدمة كبرى.

فهل يفعل الآن والسؤال عاد مطروحاً من جديد؟

جريدة الحياة في  16 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

أين سينما الإسلام؟

بل أين العقاد؟

إبراهيم العريس