سينماتك

 

"الإظهار" فيلم كريستوفر نولان الثالث في هوليوود يدخل عالم السحر

بين من يبحث عن السر ومن يدرك معناه مساحة نصف حياة أو نرجسية قاتلة

ريما المسمار

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

كل خدعة كبيرة في السحر تتألف من ثلاثة فصول. هذا ما يفيدنا به "كاتر" مصمم ومصنّع الخدع المسرحية في مستهل شريط كريستوفر نولان الجديد The Prestige. يتحدث "كاتر" (مايكل كاين) بينما يقوم بالخدعة الشهيرة­ إخفاء اليمامة­ أمام طفلة مشدوهة. يقول شارحاً: "الفصل الاول يُدعى الارتهان حيث يعرض الساحر أمام الجمهور شيئاً عادياً ولكنه بالطبع قد لا يكون كذلك. الفصل الثاني يُدعى التحول حيث يجعل الساحر ذلك الشيء العادي يقوم بأمر غير عادي كأن يخفيه. ولكن الجمهور لن يصفق هنا لأن إخفاء الشيء لا يكفي بل يجب اعادة إظهاره. لذلك ثمة فصل ثالث يُدعى الاظهار. هذا هو الجزء الذي يحتوي على القلبات والتحولات وحيث تصبح الحيوات معلقة وترين ما هو صادم ولم يسبق لك رؤيته."

ألا تتألف الافلام بحسب التقليد السائد والكلاسيكي من ثلاثة فصول ايضاً؟ بقدر ما كان كريستوفر نولان بعيداً من تلك الاعتبارات السردية والقصصية في فيلميه الاول والثاني Following) وmemento) بقدر ما يبدو هنا مسكوناً بهاجس السرد ليس مجاراة لتقليد او جمهور او منتج وانما مجاراةً لموضوعه شكلاً ومضموناً. فالمخرج لا يكتفي باقتباس رواية كريستوفر بريست وانما يُهندس فيلمه كما لو كان عرضاً مسرحياً لساحر ماهر يقوم على مراحل الخدعة نفسها اي الارتهان والتحول والاظهار موظفاً ما شاء من عناصر السحر والغموض والمفاجأة وصولاً الى الاكتشاف.

الحكاية

يحيد نولان في اقتباسه للرواية عن زمنها مقتطعاً الحكاية من محيطها ورامياً بها في لندن مع بدايات القرن العشرين. المشهد الافتتاحي سوريالي وفانتازي في آن، يمهد لمناخ الفيلم قبل ان يكتسب معناه العميق لاحقاً مع تكشّف الأحداث. مشهد لقمة جبلية في كولورادو مزروعة بعشرات القبعات التي هي رديفة أزياء السحرة. ماذا تعني؟ لا شيء في البداية الا ان العودة الى المشهد سيصبح محتماً مع تكرّس فكرة النّسخ التي تتحكم بالفيلم في الخفاء. تتخذ الحكاية من القرن التاسع عشر اسلوب السرد القائم على المذكرات المتداخلة وشذرات اليوميات معتمدة لعبة المرايا في تقديم الشخصيات وعلاقاتها حتى ليبدو أحياناً منطق memento المقلوب أقرب الى الفهم والتحليل. انها حكاية الصراع الطويل بين ساحرين انتميا الى زمن واحد ، "روبرت آنجيير" (هيو جاكمن) و"الفرد بوردون" (كريستيان بايل)، يقع كل منهما على يوميات الآخر فيبدأ بتقليبها بحثاً عن سر "الخدعة الكبرى" ولكنه في الطريق يكشف الكثير عن نفسه وعن الآخر من وجهة نظر الآخر. تتكون الحكاية بمعظمها من مجموعة مشاهد "فلاش­باك" مختلفة الأزمنة والزوايا وتجتمع مع حاضر الشخصيات. اذا صحّ القول، يخدم الاخير أرضية ثابتة للأحداث بعيدة من وجهتي النظر. انه الحاضر يقدمه الفيلم من وجهة نظر راويه الاول اي كاتبه ومخرجه. هكذا تبدأ الحكاية من لحظة موت "آنجيير" (او هذا ما يبدو) في خزان ماء كبير على مرأى من عيني "بوردن"، فيُلقى القبض على الأخير بتهمة التدبير لقتل الاول وتبدأ محاكمته. بانتظار صدور حكم الإعدام، يأتي مدير أعمال رجل ثري ليعرض على "بوردن" شراء أسرار خدعه وتربية ابنته ويقدم له كعربون حسن نية مذكرات "آنجيير". في سجنه، يقلب "بوردن" اليوميات لنكتشف ان جزءاً كبيراً من يوميات "آنجيير" انما كُتب بينما كان الأخير يقرأ يوميات "بوردن". من هناك تتفرع الحكايات اولاً الى علاقة الصداقة الاولى التي ربطت بين "آنجيير" و"بوردن" كمساعدين للساحر "كاتر" يزرعهما بين الجمهور ليتطوعا في واحدة من فقرات العرض لتوثيق يدي ورجلي شابة (هي زوجة آنجيير) ومن ثم رميها في خزان مقفل (هو نفسه الذي نشاهد آنجيير يغرق فيه في بداية الفيلم) لتقوم هي بعد ذلك بفك الوثاق والخروج سالمة. منذ البداية، يقودنا الفيلم الى ملامح ثابتة في شخصيتي كل من الشابين. "بوردن" السكوت مراقب فذ، يعشق المغامرة والمخاطرة ولا يرضيه شيء وعينه على أسرار المهنة. اما "آنجيير" المنطلق في حب زوجته فيحلم بالأضواء والشهرة. عندما يلتقي تحدي "بوردن" مع شجاعة زوجة "آنجيير" فتشجعه على توثيق يديها بعقدة صعبة، تكون النتيجة مأسوية. تموت الشابة بعد ان تفشل في فك يديها ويتفرق شمل الصذيقين وط حيرة "بوردن" وحقد "آنجيير" ومرارته. يصر الأول انه لا يتذكر أية عقدة استخدم ولاحقاً عندما يضع "آنجيير" يده على يومياته، يبحث أول ما يبحث عن تلك الحادثة ليُفاجأ مرة ثانية بقوله انه لا يتذكر كيف عقد الحبل.

وفقاً للرسم الاولي لملامح كل شخصية، يشتهر "آنجيير"، يصبح ساحراً من الدرجة الاولى بمساعدة "كاتر" (مايكل كاين) وبفضل مواهبه في تقديم عرض مسرحي تتفوق فيه الاناقة والمؤثرات على مهارة الخدع نفسها. اما "بوردن" فهو الباحث القلق الذي لا يهدأ ولا يستكين. حياته هي سحره ربما لذلك لا يحقق شهرة "آنجيير" إذ يبقى مهموماً بآليات المهنة واكتشافاتها. هكذا عندما يقدم عرضه المتقشف على مسرح من الدرجة العاشرة لا يلقى الكثير من الشهرة ولكن خدعته "الرجل المنقول" تثير جنون "آنجيير" فيصمم على معرفة سرها. والخدعة تتكون من اختفائه داخل حجرة خشبية مثبتة على المسرح وخروجه في لحظة من حجرة ثانية موضوعة في طرف المسرح الآخر. لا يصدق "آنجيير" ما يحاول أن يؤكده له "كاتر" ولاحقاً مساعدته "اوليفيا" من ان الخدعة تقوم على استخدام رجل آخر يشبه "بوردن". انه مصر على ان ثمة سراً كبيراً وان "بوردن" هو نفسه الذي يختفي ليعود ويظهر من جديد. بانتظار اكتشاف ذلك، يسرق "آنجيير" الخدعة ويقدمها في عرض أنيق ومبهر مستخدماً بديلاً يشبهه تماماً. الا ان الصراع بين الاثنين الذي بدأ مع "آنجيير" سيمتد الى ما لا نهاية دافعاً بكل منهما الى استغلال أية فرصة للايقاع بالآخر. هكذا يوقع "بوردن" ببديل "آنجيير" فيوحي له بإمكانية ابتزاز الأخير وبعدها يؤخره عن العرض فتنكشف الخدعة. عندها لا يجد "آنجيير" سبيلاً الى اسرار "بوردن" سوى مساعدته "آوليفيا" التي يرسل بها اليه لتتجسس عليه وتأتيه بسر الخدعة الكبرى.

الخدعة

يلعب نولان على فكرة الخدعة على طول الخط آخذاً المشاهد في رحلة من الغموض يكتشف في نهايتها انه خُدِع. ولكنه ليس الخداع المصمم بهدف الايقاع به او ممارسة سلطة عليه او اثبات قدرات تفوق قدراته. انه ببساطة الخداع الذي يتواطأ عليه المشاهد والساحر إزاء توافقهما على ان كل سحر هو خدعة طرفها اثنان: براعة الساحر وتواطؤ المشاهد. بهذا المعنى، لا يحيد الفيلم بطليه عن الخدعة. فكل منهما هو ساحر ومشاهد في آن. بمعنى آخر، يتحول "آنجيير" الساحر مشاهداً لخدعة "بوردن" بينما ينساق الأخير خلف يوميات "آنجيير" ليكتشف في نهاية المطاف ان وقوعها بين يديه كان مخططاً له. كل منهما يلعب على الآخر وينساق وراء خدعته ويرتكب من الجرائم والخسارات والمعاناة ما يرتكب في سبيل الحفاظ على أسراره. وهما في ذلك يتبعان مثال الساحر الصيني الكبير "تشينغ لينغ سو" الذي ألهم بريست لوضع روايته موضوع الفيلم. لقد أدهش سو العالم بخدعه التي قامت على إخفاء ومن ثم إعادة إظهار أشياء مثل حوض أسماك. بعد مشاهدة العرض وتحيرهما أمام سره، يرى "بوردن" و"آنجيير" الساحر يُقاد الى عربته بمساعدة اثنين يتكئ عليهما. يصرخ بوردن "هذه هي الخدعة"! ما عناه "بوردن" هو ان الساحر كان يعيش الخدعة في حياته اليومية فيتظاهر بالوهن ليصرف النظر عن فرضية حمله وعاء السمك بين ركبتيه أثناء عملية الإخفاء، فرضية يعززها ارتداؤه الدائم لعباءة فضفاضة وبالطبع منطق يحارب اللامعقول.

لعل هذا المشهد الذي يأتي مبكراً في سياق الأحداث هو أحد الخيوط الأساسية التى تقود الى فهم فحوى الحكاية ونفوس شخصياتها. يتكامل معها حديث "بوردن" الدائم عن التضحية بالمعنى العميق للكلمة يقابله فهم مسطح لها عند "انجيير" الذي يرى في موت زوجته ومن ثم في تكبده عناء البحث عن سر خدعة بوردن تضحيات لا مثيل لها. ولكنه في لحظة يكشف ­او ربما يكتشف اذ يمكن ان يكون هو نفسه غير عالم بذلك­ القناع عندما يقول لأوليفيا "لا تهمني زوجتي" معلناً صراعه مع "بوردن" صراعاً على تبوؤ الصدارة في المهنة وتحدياً على الابتكار. اما "بوردن" فيفهم المعنى العميق للتضحية في تلك المهنة. انه مثل الساحر العظيم "سو" يحوّل حياته غطاءً لمهنته. يعيش الخدعة يومياً ومنها يغذي مهنته.

ولئن بدا ذلك التحليل مدروساً ومترابطاً على الورق، فإنه على الشاشة نقيض ذلك تماماً، يتكون من شذرات ومقاطع مشتتة، مزروعة داخل الأحداث، بعضها بلا معنى في البداية وبعضها الآخر بديهي قبل ان تتوضح مع نهاية الفيلم. الفيلم بهذا المعنى يتخذ من فصول السحر قالباً سردياً. فيقدم بداية الحكاية والشخصيات في شكل عادي لينتقل بعدها الى مرحلة التحول التي يقودها الغموض وعدم الفهم لما يجري ومعها يتبخر الفيلم كما لو انه تلك اليمامة التي تختفي. انه اختفاء رمزي بالطبع ولكنه يتحقق بفضل حكايات متداخلة وخيوط متشابكة تجعل الفيلم يفلت لبعض الوقت، يتبخر في الهواء في انتظار ان يعود ويظهر نفسه في الجزء الأخير تماماً كما تعود اليمامة الى الظهور. الجزء الأخير هو الذي يكشف عن أشياء كثيرة من دون ان يعرض الفيلم لضعف النهايات المفبركة والسريعة التي تبدد كل ما سبقها. فنحن، كمشاهدي السحر، ندرك ان للأمور منطقها وأسرارها او بلغة السحر "خدعتها". الخدعة موجودة كما يقول "كاتر" ولكننا لا ننظر جيداً او لا نريد ان ننظر جيداً لأننا بحسب "بوردن" نتطلع الى ما يدهشنا في هذا العالم الممل. اذاً الكشف عن اسرار الفيلم ليس مخيباً فالمهم كما يقول "انجيير" ان العرض نفسه كان مجزياً وهذا ما يصح تماماً مع فيلم نولان الذي يقدم لمشاهده متعاً لا تُضاهى. بل ان الكشف مجزٍ في نواحٍ كثيرة. فهو من جهة يتبع مسار الشخصيات ومصيرها بأن يجعل المشاهد في خندق واحد مع "آنجيير" و"بوردن" لجهة اكتشافهما "سخافة" الخدعة. من هنا يأتي اكتشافنا ان لبوردن أخاً توأماً في سياق منسجم مع الفيلم نفسه ليجلي كل الغموض. ولكن الأجزى من ذلك ان النهاية تتركنا بفهم جديد لكل من الشخصيتين. إم "آنجيير" هو الذي قام بالمستحيل للوصول الى أسرار المهنة بينما "بوردن" هو الذي فهم سرها الكبير: التضحية او ان تعيش الخدعة لتتمكن من ابهار الناس بها مع كل ما يتبع ذلك من ضياع أحياناً لهوية الانسان وانسياق وراء الهوس. يعيد ذلك الى الأذهان شخصيات نولان السينمائية الأخرى التي جسدت، بشكل متفاوت، ذلك التشرذم النفسي والانساني (البطل في memento وباتمان). ان ذلك هو في جزء منه مفهوم ينطبق على حيوات الفنانين والعظماء ممن أثبتوا استحالة الفصل بين الحياة والابداع اذا كان الاخير هو الهدف المنشود.

نرجسية أو نصف حياة

ولكن ذلك الانخطاف الى عوالمهما الخاصة ما كان ليتحقق لـ"آنجيير" و"بوردن" لولا معادلة تقوم دائماً على فكرة النسخ او البدائل. يعود المشهد الاول مجدداً. القبعات المتناسخة هي التعبير المحسوس عن ذلك وعن غيره. ففي نهاية المطاف تتحول نرجسية "آنجيير" المحرك الأساسي لتصرفاته وحياته بينما يلفظها "بوردن" كجزء من فهمه للسر. النرجسية تقود "آنجيير" الى الهلاك. توقه الدائم الى الاستئثار بالاضواء يقوده الى صراع شرس مع نرجسيته التي تتجسد في فكرة قتل بديله. اما "بوردن" الذي يعيش المعنى الحقيقي لفكرة البديل بسبب أخيه التوأم فلا تختلف نهايته عن السياق الذي قاد فيه حياته، اي التضحية. إلا أن فهم نولان لشخصية "بوردن" يتخطى الافكار الجاهزة التي قد تلتصق بفكرة التضحية مثل الركون الى استنتاج من نوع: مات لأجل مهنته او في سبيل عشقه. التضحية الكبيرة التي قام بها "بوردن" ارتضاؤه العيش نصف حياة وهو بموته انما يتيح لتوأمه حياة كاملة لم يعشها اي منهما من قبل. على هذا النحو يبتدع كريستوفر نولان في فيلمه الأخير واحدة من أعقد الشخصيات السينمائية وأعمقها وأكثرها غموضاً وجاذبية يتوجها أداء كريستيان بايل المتحفظ والمتقشف.

المستقبل اللبنانية في 16 فبراير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك