سينماتك

 

مهرجان روتردام السينمائي الدولي في عروضه الاخيرة

التحولات الانسانية العميقة في "حيوات الآخرين" و"دارات" و"حدائق الخريف" عنف العلاقات في "عرس الذيب" والرحلة الروحية في "صرخة النمل"

روتردام ـ ريما المسمار

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

أوشك مهرجان روتردام السينمائي الدولي على نهايته مختتماً احتفالية سينمائية ضخمة ضمت أكثر من سبعمئة فيلم في فئاته الأساسية والجانبية. واذ ينأى المهرجان بنفسه عن المظاهر البراقة والنجوم والأضواء، يحتفل بالمخرجين وبالأفلام مفسحاً في المجال أمام الحضور لقاء المخرج ومناقشته بعد كل عرض. غالباً ما تساعد تلك النقاشات والأسئلة في تحديد مزاج الجمهور تجاه الفيلم وتمكن المتابع تالياً من قياس تجاوب المشاهدين مع الأفلام. وتلك ـ اي قياس جماهيرية الفيلم ـ ليست سمة غريبة في المهرجانات التي تتواصل مع محيطها ومجتمعها مقيمة جسورأً بين السينما العالمية وبين الجمهور المحلي والوافد الذي يرى في المهرجان نافذة على الانتاجات السينمائية العالمية. لا تخضع اختيارات المهرجان لذلك فقط بالطبع. فعلى صعيد غير جماهيري، يرافق جدل اختيارات الافلام أي مهرجان مهما عَظُمت طاقاته وكَبُرَت قدراته. فتلك الآلية القائمة على الاستعانة بمبرمجين ومستشارين يتابعون الافلام الجديدة ويقترحونها على ادارة المهرجان، تخضع لعوامل كثيرة منها ما هو منظور ومنها ما هو غير منظور. ثمة مكان للمزاج الشخصي وآخر لـ"السلطة" السينمائية التي يتمتع بها بعض السينمات المكرسة. تتجسد الأخيرة في برنامج الافلام الآسيوية حيث ثمة مبالغة في تقدير الافلام والتمسك بها على الرغم من تواضعها أحياناً. يقابل تلك المبالغة فتور في مواكبة سينمات أقل حضوراً في المشهد العالمي كالسينما العربية مثلاً الواقعة بين أزمتين: فهي من جهة تخطت مرحلة البدايات التي تفرض تعاطفاً وانجذاباً كما هي الحال مع الفيلم السيريلانكي Sankara الذي على الرغم من معالجته البسيطة والمباشرة لموضوعة الصراع بين الروح والجسد حاز احتضان المهرجان وتشجيعه. ومن جهة أخرى، لم تتمكن ـ اي السينما العربية ـ من تخطي البدايات تماماً الى انطلاقة واثقة تثبت حضورها. وفي أماكن أخرى تقود الاحكام المسبقة الاختيارات او تشارك فيها. تلك هي حال برنامج "صور من المنطق" الذي يحتوي على مجموعة من الافلام الوثائقية التي تصور الحياة داخل اسرائيل وفلسطين. على أن مسؤولة المبرمجة اعتبرت في حديثها الى النشرة اليومية للمهرجان ان الأفلام الفلسطينية التي شاهدتها أقل تميزاً من الافلام الاسرائيلية التي تشكل البرنامج برمته وعزت ذلك الى ظروف الحياة القاسية وانشغال الفلسطينيين بتفاصيل العيش اليومي. وليس في ذلك مشكلة لو ان الافلام المعروضة هي بالفعل ذات مستوى متميز ولكن حيث انها بمعظمها متواضعة فان البحث أعمق بين الافلام الفلسطينية كان ليثمر برنامجاً أكثر تنوعاً يقدم وجهتي النظر مع العلم ان الافلام الاسرائيلية المعروضة تمتاز بليبيرالية عالية وتعاطفاً مع الفلسطينيين. غير ان ذلك لا يصنع سينما جيدة.

خارج اطار البرنامج، يعرض المهرجان "السطح" الشريط الوثائقي للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري الذي يسجل يوميات بلدة فلسطينية بعد قيام جدار الفصل على خلفية ذكريات وأحداث تستدعيها عودة المخرج بعد غياب طويل. الفيلم شعري بامتياز، يختلف عن الافلام الوثائقية بإيقاعه تأملي هادىء يُبنى على مهل ومعه تتشكل صور الحاضر والماضي.

حيوات الاخرين

بطبيعته، لا يفرض مهرجان روتردام تنافساً بين الافلام الا في فئة المسابقة المخصصة للسينمائيين الشباب وأعمالهم الاولى والثانية فقط. أما الأفلام الأخرى فتتجاور وتتحاور مع احتفاظ كل منها بمكانته لجهة عدد العروض والنقاشات وسواها. على أن ذلك لا يمنع فيلماً من تحقيق اجماعاً ما حوله وتلك هي حال الشريط الالماني "حيوات الآخرين" The Lives of Others لفلوريان هنكل فون دونرسمارك أحد المرشحين لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. الفيلم هو الأول لمخرجه البالغ من العمر أربعة وثلاثين عاماً فقط ويتناول فيه موضوعاً ظل لوقت طويل حكراً علآ الادب او المحاولات السينمائية غير العميقة. ثمة أعمال كوميدية كثيرة تناولت التاريخ الأسود لجهاز مخابرات ألمانيا الشرقية او ما كان يُعرف بـ"ستازي" ولكنه لم يُطرق بالجدية والعمق اللذين يشكلان ابرز سمات الفيلم الحالي. فذلك الجهاز الذي قام على جهود قرابة تسعين الف موظف ونحو من مئتي الف مخبر يقدمه الفيلم من خلال شخصيات قليلة في مقدمها الضابط "غيرد وايزلر" المكلف التنصت على الكاتب المسرحي "درايمان" ليل نهار. ولكن ما يبدأ كمهمة مخابراتية بحتة يتحول افتتاناً انسانياً عميقاً سيؤدي بالضابط الى نهاية غير محسوبة. يشكل السيناريو نقطة الثقل الرئيسية في الفيلم بقدرته على الامساك بخيوطه السردية المتشعبة من دون ان يقع في تكرار او تطويل او سرد مجاني. دليله الى ذلك شخصيات محكمة البناء في مقدمها شخصية الضابط التي تبرز من بين الشخصيات السينمائية القادرة على ملازمة الذاكرة. فهذه الشخصية الكتومة ذات الانفعالات الداخلية والوجه المتحجر، المؤدلجة الى أبعد حدود لا تلبث ان تهتز من الداخل بفعل مشاركتها حياة الكاتب وزوجته بتفاصيلها الحميمة اليومية. انه الافتتان بالممثلة هو الذي يقود الضابط بدايةً الى التحمس لتولي الخطة. ثم تأتي لحظة التحول الرئيسية على أثر استماعه الى مقطوعة موسيقية لبيتهوفن يعزفها "درايمان" بعيد خبر انتحار صديقه الكاتب. في تلك اللحظة، يتكسر جليد الوجه الحديدي وتدمع العينان على خلفية قول للينين يأتي على لسان الكاتب "لا يمكن لمن يستمع الى مقطوعة بيتهوفن الا يكون انساناً". يهتز ايمان الضابط بمؤسسته كما يتضح من سلوكه المتعاطف مع الكاتب والممثلة محاولاً في غير موقف انقاذهما الى حد تأليف تقارير عنهما لا تحتوي سوى على كلام عادي لا يطاول الكاتب او سمعته. اللافت ان ذلك لا يتسبب بأزمة لدى الضابط اذ يحافظ السيناريو على تلك المسافة بينه وبين المشاهد فلا يزيده التحول سوى غموض وكأنه الوجه الآخر لفكره الايديولوجي الذي ان آمن بشيء كان ايمانه به مطلقاً. كذلك هي حاله مع الكاتب الذي يندفع الى انقاذه بنفس الاصرار والتفاني اللذين يقود بهما التحقيقات في بداية الفيلم ويشرف على تركيب أجهزة التنصت. الفيلم شديد التماسك في حبك حواراته وصوغ مناخاته الباردة التي تشيع في أروقة مقر جهاز المخابرات وغرف التنصت والتحقيق. اولريتش موهي في دور الضابط المخابراتي يصنع شخصية سينمائية ستسكن ذاكرة السينما طويلاً.

بين هذا الفيلم الاول لمخرج شاب و"صرخة النمل" للسينمائي الايراني المكرس محسن مخملباف مسافة تؤكد انحياز السينما الى الطزاجة والتلقائية وغير المباشرة. شريط مخملباف هذا الذي ينضم الى أفلامه الأخيرة المنجزة خارج ايران يقوم على جرعة كبيرة من الأسئلة الدينية والروحية والفلسفية والوجودية أيضاً ليتحول في مكان ما الى حامل لتلك الأسئلة أكثر منه معجون بها. بمعنى آخر، ينوء الفيلم تحت ثقل خطابه فتتحول كل جملة حوارية حكمة ما او تعبير عن فكرة فلسفية من دون ان تكون خلفية الاحداث وبناء الشخصيات مبرراً لها. انه في معنى ما فيلم طريق، يخلط، كعادة مخملباف، بين خط روائي متخيل وآخر واقعي. يمثل الاول الزوجان الشابان ايرانيا الاصل القادمان من الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا لقضاء شهر عسلهما في الهند. واذ يبحث الزوجان عن اجابات لأسئلتهما الكثيرة في أرض الميثولوجيا والروحية، تسير الحياة بأبسط من ذلك يكثير مع الأناس العاديين حيث تبدو سمة العيش قبول الحياة وفهمها بعمق من دون تعقيدات. والواقع ان هذا الميل الساخر بعض الشيء الى مقابلة الأسئلة الدينية والوجودية الكبرى للزوجين وآخرين من الاجانب بيوميات الحياة البسيطة يظهر منذ البداية من خلال حوار بين الزوجين وصحافي هندي يسخر من تهافت الناس على زيارة بلده بحثاً عن الحقيقة المطلقة فيما الحياة ببساطتها وقناعتها تجسد اجابة ليست أقل اثارة للدهشة.

عرس الذيب

من بين الافلام العربية القليلة التي قدمها المهرجان الشريط التونسي "عرس الذيب" لجيلاني السعدي في تجربته الروائية الثانية بعد "خورما ولد المقابر" في العام 2003. ولكن بخلاف الأخير، يبدو الشريط الحالي أكثر انغماساً في المجتمع التونسي باحثاً في ما يشبه حياته السفلية وبين شخوصه المهمشين. تدور أحداث الشريط في ليلة واحدة تبدأ مع فتاة شابة تشتري فستاناً جديداً لتدخل الكاميرا معها حياً شعبياً يحيا على الفتوة وبموجب قانون الاقوى. انه تجسيد اولى لثنائية الضحية والجلاد التي سيقدمها المخرج في تنويعات وتبادل للأدوار تشكل دينامية الفيلم ومحرك الشخصيات. اذ ينتصف الليل، يتجمع أربعة أصدقاء في ركن من الحي يدخنون ويشربون ولكنهم في الواقع يحاولون التسامي الى عوالمهم المتخيلة بعيدة المنال. من "ستوفا" الذي يحلم ببيت على البحر في "كاب فيردي" والاستماع الى موسيقى ما محببة لديه الى "الذهبي" المسحوق بسبب برصه ودمامة شكله وآخرين غير بعيدين بأحلامهما من التوق الى حياة خارج أسوار الكبت والفقر، تتشكل أرضية صلبة للمشهد المحوري. اذ تنقر "سلوى" بكعبها العالي رصيف الحي مشعلة بفستانها والصورة التي يعرفها الشبان عنها كبائعة هوى الى كلماتها المستفزة، مخيلاتهم ورغباتهم، سرعان ما تتحول وسيلة انتقام هؤلاء من نظام اجتماعي جائر وفي الوقت عينه وسيلة لتحقيق جزء من تخيلاتهم وان لبعض الوقت. في ما يشبه الطقس الروحاني حيث ثنائية الالم والمتعة تسود، يقوم الشبان ـ باستثناء "ستوفا" ـ باغتصابها. يمعن المخرج في نحت المشهد وليس فقط في بنائه كأنما يشدد على ما يمكن ان يتغاضى عنه كثيرون في وصفه جزءاً من اللعبة. بمعنى آخر، يتوقف عند ثنائية المومس ـ الاغتصاب كثنائية غير جاهزة. فها هما يتخذ الفعل بعداً آخر. انه ليس القتل في حد ذاته وانما ما يليه من التمثيل في جثة. "سلوى" أقرب الى جثة منها الى جسد حي وهي لذلك تتجمد في عينيها لحظة الاغتصاب نظرة انتقام وليس قهر ولا تشكو شيئاً بعد انتهائهم الا تمزق فستانها الجديد. تلك هي أدواتها الدفاعية اذا جاز القول لعزل نفسها عن مهنتها. تكمل الليلة مع انتقام الفتاة بواسطة أخيها من الشبان ولكنها لا تعثر الا على "ستوفا" الذي يُعاقب كأنما على عدم اغتصابها. واذ يأخذ هو مكانها بعد ذلك متحولاً الضحية التي تسعى الى الامساك بزمام الامور، يسعى الا الانتقام منها بخطفها ولكنه بدلاً من ذلك يشعر بانجذاب اليها وكذا تشعر هي. ليلة واحدة يقضيانها معاً في غرفة باردة تشكل "عرس" ستوفا او "عرس الذيب" بحسب العنوان. ولكن الحياة من التعقيد والقسوة بحيث لا تستقيم بالنهايات البسيطة. يتفرق شمل الاصدقاء بينما يعيش ستوفا حلمه لليلة واحدة وتعود سلوى الى عالمها بعدما بات من الصعب ان تشتعل الحياة مجدداً في جسدها المتيبس.

موسم الجفاف

في بيئة خاصة جداً، تتفتح حكاية الفيلم التشادي "دارات: موسم الجفاف" لمحمد صالح هارون حيث البشر في هذا الشريط الشعري يذوبون في رمال الصحراء الباهتة متحدين مع محيطهم على نحو مثير. تدور أحداث الفيلم في الزمن الحاضر وتحديداً بعيد اصدار الدولة عفواً عاماً عن جرائم الحرب التي ارتكبت منذ العام 1965. ولكن "أتيم" ابن الخمسة عشر عاماً مزمع بتشجيع من جده المسن على الثأر لوالده الذي قُتل ابان الحرب. هكذا يحمل مسدساً قديماً ويمضي الى حيث "ناصر" قاتل والده والذي يحذره جده من خطورته. الا ان الصورة التي يجده عليها مختلفة. رجل هادىء يعمل بكد في فرنه ويوزع الخبز على الاطفال. يتقرب "أتيم" منه بحجة حاجته الى العمل فيعلمه صنعته. التوتر بينهما هو أساس العلاقة، يعززه صمت مرده نوايا الولد وعدم قدرة "ناصر" على الكلام الا بواسطة جهاز يصدّر صوته كصوت الة كهربائية. تنشأ بينهما علاقة خاصة حيث لعبة السلطة الحاضرة/الغائبة تتحكم. فالرجل يمثل بالنسبة الى الولد نموذج الاب الذي لم يعرفه. ولكنه ايضاً سلطة لم يعتدها الولد وتنقصه في الوقت عينه. وهو في اتجاه ثالث عدوه. بين تلك الطبقات المتعددة للعلاقة بينهما، يخوض المراهق رحلة تحولاته الداخلية عابراً الى مرحلة جديدة بمساعدة "ناصر". الحكاية على بساطتها تتكشف ببطء وعمق وصمت يخفي في طياته توتراً عالياً ومشاعر مكبوتة لا تتحرر الا في مشهد انتقام زائف. فما مر به الشاب كان كفيلاً بتحويل قراره الأول وقبول قاتل والده بمشاعر متناقضة من الكره والتماهي والرغبة في التسامح. الا ان ذلك لا يمكن ان يقنع الجد الأعمى. هكذا يدعي الشاب قتل "ناصر" على مسمع من جده فيتحقق للأخير انتقامه بينما يفرغ الشاب مشاعر الحقد والانتقام أعيرة نارية في الهواء. يختفي الجد والشاب في الصحراء على وقع كلمات الاول "صرت راجل يا ولدي" التي تحتمل المعنى الأعمق المتمثل في تحول الشاب بفعل اختبار مشاعر حدية من الحقد والكره ومن ثم المرور الى القبول والتسامح.
يجمع بين "دارات" و"باماكو" اسم عبد الرحمن سيساكو منتجاً للاول ومخرجاً للثاني المكرم في هذه الدورة للمهرجان. والاخير حاز عروضاً عالمية كثيرة اولها في مهرجان كان الماضي وسط احتفاء غالباً ما يطاول أعمال المخرج الموريتاني التي ترصد الحياة اليومية للشعب الافريقي في مجتمعات نائية وغالباً تحت تأثير عنصر تحول يشكل ربطاً بحداثة لم تصل اليها. لا يختلف "باماكو" كثيراً من هذه الناحية. فها هنا ايضاَ يوميات بلدة في مالي لا جديد فيها سوى انعقاد محكمة بشكل يومي يطالب المواطنون فيها محاكمة مؤسسات عالمية كالبنك الدولي بتهمة اسهامها في افقار افريقيا وتقسيمها. تصحو البلدة كل يوم على ايقاع المحكمة المنعقدة في الباحة الخارجية لواحد من البيوت الذي تتقاسمه مجموعة عائلات من بينهم المغنية الشابة وزوجها اللذان يواجهان أزمة في زواجهما. يقوم الفيلم على مونولوغات مطولة ذات مضمون سياسي يتأرجح بين الخطاب السائد حول دينامية العلاقات بين العالم الاول والثالث وبين سرديات لمشكلات فردية خاصة. يمتاز الفيلم بنبرة ساخرة بدءاً بالفكرة (المحاكمة) وطريقة تنفيذها (الباحة الخارجية) ويرصد علاقة اهالي البلدة بها. فمنهم من يهتم بمتابعة المرافعات ومنهم من يعبر المكان كأنه يعبر ساحة القرية تماماً كما هو الواقع. بمعنى آخر، تتحول تلك المحاكمة نموذجاً مصغراً عن العالم الكبير وما علاقة الاهالي بها الا انعكاس لعلاقتهم بما يدور من حولهم. ولكنها ايضاً سخرية متجسدة في الهوة القائمة بين واقع اجتماعي وطموح بعيد من التحقق لا يعود بالفائدة المباشرة على المجتمع. فأن يفكر هؤلاء الناس بمحاكمة البتك الدولي مستميتين في تدبيج مرافعات وشهادات من العيار الثقيل بينما عجلة الحياة اليومية متوقفة هو في حد ذاته منبع السخرية والطموح. فذلك الاصرار على نقل يوميات المحاكمة وتفاصيلها يحولها حقيقة قائمة وربما يدفع بالمشاهد الى التفكير في امكانيات حدوث ذلك وقد ينتشي بتأثير ذلك "المخدر" الذي يقوده بعيداً الى تحقيق المستحيل بينما الممكن مستحيل.

خريف العمر

"الحدائق في الخريف" هو عنوان آخر أفلام المخرج الجيورجي اوتار ايوسيلياني الذي يلي فيلمه الاخير المتميز Monday Morning في العام 2002. الفيلم الحالي احتفالي بالحياة وبالانسان وبالمتع الصغرى. وهو بخروجه من تحت يدي سينمائي ساخر جاوز السبعين، انما يكتسب نكهة خاصة فيا من التبسيط والمباشرة ما يوازي السخرية اللاذعة والاستعارات الذكية. الحكاية حكاية وزير يمتلك السلطة والمال والعشيقة وكل ما يبدو من مقومات الحياة المرفهة. الا ان حياته تتخذ منحآً آخر بعد اقالته بسبب غضب شعبي. هكذا يجد نفسه عارياً من كل شيء في حديقة عامة يلتقي فيها شخصيات عادية من ماضيه. يختبر الفيلم افكار كثيرة ابرزها التحول الانساني وامكانية البدء من جديد حتى في خريف العمر والبحث عن حياة أصدق خلف واجهات السلطة والمال. البدايات والنهايات تتشقلب في الفيلم فكل نهاية هي بداية وأحياناً العكس صحيح. ولكن المخرج لا يستسلم ابداً للمباشرة في نقل افكاره وان كانت المباشرة حاضرة كجزء من السخرية التي تسود الفيلم. فالكلام على تداور السلطة نلمسه باليد ليس كاكتشاف او اذانة وانما كوجه من وجوه الحياة واختياراتها. هكذا يختزل المخرج في مشهد كيف تستحيل منحوتة "فينوس" هيكلاً بلاستيكياً خالياً من اية قيمة. انها الحياة اذ تتجوف وتفرغ من معناها. بينما يختزل في آخر فكرة تقطير الحياة وتكثيفها في كأس شراب.

المستقبل اللبنانية في 2 فبراير 2007

 

انطلاقة الدورة الـ 36 لمهرجان روتردام السينمائي الدولي

منصة عالمية للسينما المستقلة والتجديدية مع حفظ المكان للأسماء المكرسة

ريما المسمار

يشكل مهرجان روتردام السينمائي الدولي حالة خاصة بين المهرجانات السينمائية العالمية. فهو مهرجان كبير باكتشافاته وثري باختياراته ولكنه لا يتماشى مع المظاهر الرنانة للمهرجانات الأخرى. لا يضيره ان يعرض أفلاماً سبق لها ان جالت على كان وبرلين والبندقية ولا يتحرق ليحوز عضوية "المنظمة الدولية للمنتجين السينمائيين" FIAPP. ولكنه برغم ذلك محط أنظار العديد من السينمائيين بسبب تحرره من القواعد والقوانين وانفتاحه على التجارب الجديدة واهتمامه بالسينمائيين الشباب وابتعاده من التنافسية والمفاضلة. ولعل وقوعه في صف ثانٍ بعد المهرجانات الاولى يحيده عن "سيف" الاضواء المسلطة والنقد السليط الذي يطاول الاولى بسبب موقعها الذي بات يتخطى مضمونها الى شيء من صوغ صورة عامة يجب الحفاظ عليها.

يركز مهرجان روتردام الذي انطلقت دورته السادسة والثلاثون أمس على تقديم المواهب الشابة بالدرجة الأولى واكتشافها. وهو مساحة حرة للسينما كفن وللأفكار والأفلام خارج الاطار التنافسي. هناك مسابقة للأفلام الاولى والثانية فقط. أما الافلام الباقية فتتجاور وتتحاور في فئات لا تقوم على المفاضلة بل على روحية الافلام. والواقع ان فكرة التصنيف في خانات هدفها توضيح الصورة لرواد المهرجان. تعكس فئات البرنامج الرسمي مواصفات المهرجان: سينما المستقبل في "ستورم أند درانغ"؛ سينما العالم في "تايم أند تايد" حيث الأفلام تعكس المجتمعات التي نحيا فيها وتقدم صوراً من ثقافات لا نعرفها وهي أفلام تستحيل مشاهدتها خارج المهرجانات لأن كما هو معروف نحو90% من العروض السينمائية في الصالات الاوروبية هي لأفلام أميركية من الخط السائد؛ والفئة الثالثة هي فئة "مايستروات السينما" أي أفلام المخرجين المؤلفين الكبار في السينما المعاصرة. اتبع المهرجان هذا التصنيف قبل دورتين اي في العام 2005. قبل ذلك، كانت هناك فئة البرنامج الرئيسي التي تتضمن قرابة 150 فيلماً. ويشدد المهرجان على العدد الكبير للأفلام الذي هو عنصر أساسي فيه، يمنحه البعد الاستكشافي. كأن المشاهد يدخل عالم المهرجان من دون ان يعرف مسبقاً ما الذي ينتظره. ولكن من جهة ثانية يخدم التصنيف او يشرح طريقة عمل القيمين على المهرجان ورؤيتهم للأفلام ويكرس مواصفات المهرجان. انه باختصار، كما تردد مديرته ساندرا دين هامر دائماً مهرجان المواهب الشابة وسينمات العالم والمخرجين المؤلفين.

بالمقارنة مع مهرجانات أخرى مثل كان وبرلين، روتردام هو الأكثر تركيزاً وعناية بالمواهب الشابة وسينما المؤلف بحسب دين هامر. ففي مسابقتي كان وبرلين، نعثر على عدد كبير من أفلام "الماينستريم" الى الحضور الطاغي للنجوم. اما روتردام، فيردد مقيموه دائماً ان نجومنا هم المخرجون الشباب. خلال اثني عشر يوماً هي مدة الدورة السادسة والثلاثون سيستقبل المهرجان أكثر من 300 مخرج فيما يُعتقد انهم نجوم المستقبل لأن هذا ما حدث بالفعل في الماضي. فالمخرج الصيني وانغ زاوشواي الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في دورة 2005 لمهرجان كان، قدمه مهرجان روتردام للمرة الاولى قبل ثماني سنوات. وكذلك الأمر بالنسبة الى كريستوفر نولان الذي قدم فيلمه الأول في روتردام ليدخل بعد سنوات قليلة هوليوود بفيلم "باتمان" وليعود الى روتردام مختتماً هذه الدورة بآخر افلامه The Prestige مع الممثل كريستيان بايل الذي اشتغل معه على "باتمان". واللافت ان بايل هو نجم فيلم الافتتاح ايضاً Rescue Dawn للمخرج الشهير والخاص فيرنر هيرتزوغ.

يفصل المهرجان في قاموسه بين السينما السائدة (mainstream) والأخرى الفنية في حين ان الحدود ليست واضحة تماماً. ولكن ذلك الفصل يركز على سمة الربح حيث ترتبط سينما "الماينستريم" بالأفلام التي تُصنع بهدف جني المال فتتحول مشروعاً تجارياً أكثر منه فنياً. اما السينما الفنية كما يفهمها المهرجان­وربما يتشارك معه كثر في تلك الرؤية­ فهي التي يصنعها المؤلف ويحملها وجهة نظره وأفكاره. يقوم الفصل بالدرجة الاولى على ميل الفيلم الى الترفيه او الفن. كما ان السينما السائدة تعتمد في بنائها على النوع والنمط المسبق. السينما التي يبحث المهرجان عنها كما هي حال المهرجانات الكبرى الاخرى هي السينما الذاتية التي تحمل رؤية وتبحث عن أساليب تعبيرية جديدة. هذه مواصفات خاصة بالافلام الفنية. في المقابل، لا ينأى المهرجان بنفسه تماماً عن الانتاجات ذات السمة الرائجة. فدورة العام الفائت قدمت افلاماً من انتاج هوليوودي مثل Good Night and Good Luck لجورج كلوني وTideland لتيري جيليام وBrokeback Mountain لآنغ لي.. تلك افلام طالعة من هوليوود ولكنها أفلام جيدة وتحمل المواصفات الفنية. بمعنى آخر، النمط الانتاجي ليس دائماً هو الذي يحدد نوعية الفيلم بدليل ان ثمة أفلاماً جيدة تطلع من هوليوود ولكنها تشذ عن النمط السائد.

"تايم اند تايد" او سينما العالم

تقدم هذه الفئة افلاماً من حول العالم تُظهر الى حد بعيد التزام مخرجيها الاجتماعي وحساسيتهم تجاه التحولات الكبرى وكيفية تأثيرها على الحكايات الشخصية واساليب العيش الفردية. ففي الشريط البولندي What Sun Has seen يأخذنا المخرج ميكال روزا الى بلدة "سيليسيا" حيث شخصيات الفيلم الثلاث الاساسية في حاجة ماسة الى جمع مبلغ من المال. يتابع الفيلم الاحداث والتطورات مبيناً تبعات التحولات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد على حيوات ناسها. وفي هونغ كونغ حكاية ربات البيوت اللواتي يأخذن دروساً في الرقص الشرقي في My Mother is a Belly Dancer بينما يتناول Operation Filmmaker حكاية تبني مخرج هوليوودي لمخرج عراقي شاب. وفي Hamburg Lectures تتركز الاحداث حول الجامع في هامبورغ الذي كان يقصده أربعة من الانتحاريين الذين نفذوا هجمات 11 ايلول.

كذلك تقدم الفئة مجموعة من الافلام الوثائقية تحت عنوان "صور من المنطقة" تدور حول الحياة داخل اسرائيل وفلسطين.

من بين الافلام البارزة ايضاً نذكر: الجزائري "بركات"Barakat لجميلة صحراوي، المغربي "يا لها من حياة رائعة" What A Wonderful Life لفوزي بن سعيدي، الفلسطيني "السطح" The Roof لكمال الجعفري، الايطالي the Golden Door، الكردي، الصيني Sun Palace للو يي، الوثائقي Sketches of Frank Gehry لسيدني بولاك، السيريلانكي Sankara لبراسان جياكودي، الالماني The Lives of Others لفلوريان هنكل فون دونرسمارك، الايراني Half Moon لبهمان غوبادي، الكردي Crossing the Dust لشوكت أمين كوركي، الفرنسي Ca Brule لكلير سيمون...

"ستورم أند درانغ" او سينما المستقبل

تتخصص هذه الفئة بالمخرجين الطالعين غير المعروفة اسماءهم غالباً الذين يحاولون فرض اساليبهم الفنية ودمغ اعمالهم ببصمة خاصة. لذلك تتميز أفلام هذه الفئة بالتجديد والتجريب فنعثر على افلام مثل Zidane: A 21st Century Portrit لدوغلاس غوردون وفيليب بارينو الذي عرض في الدورة الفائتة لمهرجان كان وHamaka Paraguaya لباز إنسينا وRed Road لأندريا أرنولد وكلاهما عُرضا في "كان" ايضاً. الى تلك ثمة عناوين كثيرة يمكن التوقف عندها: التونسي "عرس الديب" لجيلاني سعدي، البولندي Retrieval لسلافومير فابيكي، النرويجي Reprise ليواكيم تريير، الوثائقي البريطاني the Killing of Johm Lennon لأندرو بيدينغتن، الجزائري "بلاد رقم واحد" لرباح أموز زايميش، الكوري الجنوبي Driving with my Wife's Lover لكيم تاي سيك، المكسيكي Drama/Mex لجيرادو نارانجو غونزاليس، السويديContainer للوك موديسن...

"سينما المايسترو"

على الرغم من الفسحة الاكتشافية التي توفرها المهرجانات السينمائية في العالم، لا تزال الاسماء السينمائية المكرسة تشكل نقطة اجتذاب اساسية حتى لدى هواة السينما الاصيلين الساعين الى الاكتشاف. لكأن تلك الاسماء المعروفة تشكل الأرضية المتينة التي ينطلق منها اي مهرجان الى اكتشاف المواهب الجديدة. فبدون توجيه تحية الى مايستروات السينما يبدو اي مهرجان ناقصاً. يفيد مهرجان روتردام من عدم التزامه بشروط المنظمة الدولية للمنتجين السينمائيين بما يسمح له بدعوة افلام الكبار الى المهرجان بعيداً من شروط العرض الاول وأحياناً بعد ان تكون قد جالت على المهرجانات الكبرى المعروفة مثل "برلين" و"كان" و"البندقية". وثمة لاستضافة تلك الافلام وجه آخر هو التزام المهرجان تجاه جمهوره المحلي بما يفرض عليه مراعاة متطلبات ذلك الجمهور والحفاظ على دوره كنافذة يطل الاخير من خلالها على انتاجات السينما العالمية بكافة أطيافها. ولا تخلو أفلام هذا البرنامج من التجارب الخاصة جداً التي تتجسد في هذه الدورة بالفيلم الفيليبيني Heremias للاف دياز الذي يبلغ طوله تسع ساعات!

الافلام الأخرى تستعيد اسماء مثل بيدرو كوستا وجعفر باناهي وغوران باسكاليفيتش وابرزها: الفرنسي Coeurs لآلان رينيه، الياباني Hana لكور ايدا هيروكازو صاحب Distant الذي يقرر صنع فيلم عن السامواري بدون قتال وانتقام، التايواني I don't want to sleep Alone لتساي مينغ ليانغ، الفرنسي L'intouchable لبينوا جاكو، البرتغالي Collossal Youth لبيدرو كوستا، الايراني Offside لجعفر باناهي، الصربي The Optimists لغوران باسكاليفيتش، الياباني Retribution لكوروساوا كيوشي، الايراني Scream of the Ants لمحسن مخملباف...

المسابقة

خمسة عشر فلماً تتبارى في هذه الفئة على جوائز "النمر" الحاصة بالمهرجان وهي الافلام الاولى او الثانية لمخرجيها. تتألف لجنة التحكيم التي تختار الافلام الفائزة من: المخرجة البرتغالية تيريزا فيلافيرد، الممثلة الهولندية ماريا كراكمان، المخرج الصيني لو يي، مدير مهرجان تورونتو بييرز هاندلينغ والمخرج والفنان البصري البريطاني ايزاك جوليان.

تُفتتح عروض المسابقة بالفيلم الارجنتيني La Antena لاستيبان سابير وتكمل بالافلام التالية: البرازيلي Bog Of Beasts لكلاوديو أسيس، الجنوب افريقيBunny Chow لجون باركر، الاسبانيYO لرافا كورتيس، الصيني How Is Your Fish Today لزاولو غيو، الدانماركي AFR لمورتن هارتز، الياباني Fourteen لهيروسو هيرومازا، الايطاليLa Fine Del Mare لنورا هوب، الفنلندي Rock'n'Roll Never Dies ليوها كويرانن، الهولندي Does It Hurt? لأنيتا ليسنيكوفسكا، الرويThe Man Of No Return لشليوفيك، الالماني The Unpolished لبيا مارايس.

الى جانب الافلام الطويلةو يخص المهرجان الافلام القصيرة ببرنامج ضخم يضم نحو 425 فيلماً لا تزيد مدة الواحد منها على ستين دقيقة وتتنوع بين التجريبي والروائي والانواع كافة. من بين تلك، اختير خمسة وعشرون فيلماً للمسابقة القصيرة.

فئات جانبية

يعكف المهرجان في كل دورة على تكريم اسماء سينمائية وقد اختار للدورة الحالية الموريتاني عبد الرحمن سيساكو والصيني جوني تو. حقق الاول منذ انطلاقته في العام 1993 ستة افلام مميزة تبين عن هاجس السينمائي الاجتماعي والفني وعن اهتمامه بأفريقيا اليوم. من بين افلامه البارزة "الحياة على الارض" و"في انتظار السعادة" وأحدثها "باماكو" الذي عُرض في الدورة الاخيرة لمهرجان كان. كذلك يعرض البرنامج التكريمي لسيساكو، الى افلامه، فيلم التشادي محمد صالح هارون "موسم الجفاف" الذي انتجه سيساكو.

اما جوني تو فهو من السينمائيين الصينيين ذوي الاسلوب الخاص في تقديم افلام العصابات والمطاردات. بدأ السينمائي حياته المهنية في التلفزيون قبل ان ينتقل الى السينما ويحقق افلاماً من كل الانواع مع اشهر ممثلي هونغ كونغ. بعد ذلك، استقل بأسلوبه المبهر في افلام العصابات الذي تجلى في Election بجزءيه الاول والثاني.

يحفل مهرجان روتردام بالاحتفالات الموازية لبرامجه الاساسية فيستعيد في "السينما مستعادة" اسماء سينمائية مؤثرة انما مغمورة ويقدم في "ستيل 16" سينمائيين مازالوا متمسكين بوسيط الـ16ملم برغم توجهه الى الانقراض مع طغيان الديجيتال بينما يركز على الافلام التي تتخذ من الموسيقى موضوعها الاساسي في "موسيقى من فضلك"...

المستقبل اللبنانية في 26 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك