سينماتك

 

دي نيرو وسودربيرغ وإيستوود قدّموا رؤاهم في تبرير الشراسة الأميركية.. في مهرجان برلين السينمائي

أسرار الآخرين يجب ألا تنغلق على أصحاب القرار في البيت الأبيض

زياد الخزاعي

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

انشغلت برلين، في خلال الأيام الأربعة الأولى من مهرجانها السينمائي الذي تنتهي دورته السابعة والخمسون في الثامن عشر من شباط الجاري، بنجوم هوليوود وأفلامهم التي تقاطعت فيها السياسة والتاريخ والحرب و.. التلفيق. ثلاثة من الكبار قدموا مع رؤاهم حول مواضيع تبرّر، إلى حدّ ما، الشراسة الأميركية ومشروعها في فرض استثنائها الذي وهبته لها قدراتها العسكرية الماحقة، ودهاء ساستها وتبريرات محركي ماكينتها الحزبية والدينية. فـ«وكالة الاستخبارت المركزية» (سي. آي. أي.) محور اهتمام الممثل والمخرج روبرت دي نيرو في «الراعي الطيّب» (الثاني له بعد «حكاية من حي برونكس»، 1993)، والعمليات السرية لـ«بنتاغون» في برلين قبل الإطاحة بالنازية «حدّوتة» جديد المخرج ستيفن سودربيرغ «الألماني الطيّب»، والحقّ العسكري للبحرية الأميركية (مارينز) في معركة احتلال إحدى الجزر اليابانية في بداية الحرب ضد طوكيو، «بطل» فيلم الممثل والمخرج كلينت إيستوود «رسائل من إيو جيما».

لا خيار أمام مشاهد هذه الأفلام سوى ربطها في ما يشبه السلسلة الإيديولوجية الأميركية. ومثلما هي نصوص تجارية بحتة، إلاّ أن ثقل المغازي التي صنعتها لا تفلت من فطنة الذكي أو المتحسّب لخطواته النقدية في التمعّن بها. فدي نيرو، الذي اعتمد على نصّ محبوك لإيريك روث (كاتب «فوريست غامب» و«ميونيخ» و«علي»، من بين نصوص أخرى)، سار فيلمه بين خطّين دراميين التقيا في فاجعة شخصية: الخطّ الأول معنيّ بتأسيس اللبنة الأولى للخدمة السرية الأميركية التي ولدت من رحمها هذه الوكالة، وكانت ثمرتها حلقة نخبوية أقسمت يمين الولاء للدفاع عن «أرض الله»، وأظهرهم دي نيرو بمظهر البتوليين السياسيين الذين نُفخت في أفئدتهم وضمائرهم وطنية تعبر حدود الولايات المتحدّة الأميركية بحثاً عن مواقع ومؤامرات وانقلابات وصفقات لا حدّ لخستها الأخلاقية في خلال الأعوام الأولى للحرب الباردة. والخطّ الثاني يتعلّق بحكاية إدوارد ويلسن (أداء محكم لمات دايمون) أحد عملائها، الذي يثمن أهمية العمل المخابراتي للحفاظ على القيم الأميركية، ومنذ قسمه نراه في قلب كينونة تشكلها منذ أن كان طالباً في جامعة ييل في العام ,1939 وانضمامه إلى الجمعية السرية «الجمجمة والعظمان» التي كانت من مهماتها تكوين قادة مستقبليين لإدارة مؤسسات البلاد. كتمان ويلسون يقوده إلى مركز قيادي في دائرة الخدمات الاستراتيجية (oss)، في خلال الحرب العالمية الثانية، وهي الأساس الذي يبنى عليه «الوحش المخابراتي». بينما يزداد تورّطه الإداري، يكون عليه اتّخاذ قرارات صعبة، إحدى ضحاياها عائلته الصغيرة التي يتركها إلى أوروبا لتعلّم بعض قواعد العمل من البريطانيين وتطبيق فنونه الجديدة على فلول النازيين، ثم استخدام أسلحتها الذكية لكسر شوكة «ك جي بي» السوفياتية لاحقاً. بناء «وكالة الاستخبارات المركزية» أولوية شخصية لويلسن، بيد أن حساسيته الأمنية المفرطة تعزله عن زوجته مرغريت راسل (أنجلينا جولي)، والمراوغة على خططها في كسبه ثانية بدلاً من هوسه الأمني. وحده الابن الصغير يرى في «حديدية» والده نموذجاً عليه تطبيقه في المستقبل، حيث يتحوّل إلى عميل للوكالة قبل مقتله المفجع، وهو هنا بمثابة أضحية ويلسن للمؤسّسة التي بررت وجوده.

الأميركي الطيب

هاتان الحكايتان يسردهما دي نيرو بمونتاج متوازي التوقيت، وصيرورة ويلسن هي صيرورة الوكالة، ونموها ككيان يترافق وتعقيد شخصيته وانغماره في عزلته على الرغم من الشخصيات الكثيرة التي تحيط به. ويلسن ليس خادمها، بل هو أحد خالقيها، الذي يفشل في التحكّم بقدر صبيه الذي يغدر به أعوان وكالته. لذا، فإن إثمه مزدوج، عبوديته لها وغدره لكيانه العائلي وهو يبرر إعلان الفيلم «كل أسرارنا القذرة بدأت من هنا»، في بداية زواجه من «بنت الذوات»، كان تعهّده أن يستر فضيحة الوليد الذي بدأ يتكوّر في رحم الفتاة النزقة التي غررت به في لحظة هوس جنسي، فيما كان ويلسن يعيش علاقة حب لن يفي لها مع فتاة تعاني صمماً جزئياً، ستستخدم الوكالة صُور لقاءاتهما السرية للتشهير به، وإحكام العقدة حول عنقه إلى الأبد. فمن تصنعه الأســرار لا سـرّ له، ومن غرق فيها يعرف كيف يستلّ أسـرار الآخرين من دون أن يفقد جأشه أو بــرودة أعصـابه الأمنية. ويلسن هذا، بحسب بطل «الثور الهائج» و«العرّاب» و«سائق التاكـسي»، هو الأميركي الطيب الذي يرعى أمان مواطنيه، قبل أن يوسع دائرة عطاياه ليصل بها إلى قارات الأرض الأخرى، فأسرار الآخرين يجب ألاّ تجد مغاليقها على أصحاب القرار في البيت الأبيض والمؤسّسات التي شيّدت حوله.

هذه السرية نجدها أساس فيلم ستيفن سودربيرغ «الألماني الطيّب»، لكن مع قدر كبير من التلفيق. فهذا نصّ لا يستند على حقيقة ما، ولا يحاول أن يؤرّخ حقبة معينة، ولا يضع في حسابه فرادة شخصياته وحكاياتهم، كما بدا برقيّ درامي في فيلم دي نيرو. «الألماني الطيّب» استعارات سينمائية لأفلام كلاسيكية أثيرة جُمعت فصولها على كذبة حب نُسجت خيوطها على أنقاض المدينة المنكوبة وحطام أهلها وفساد محتلّيها. جاك غيسر (أداء فاشل لجورج كلووني) مراسل حربي أميركي يصل برلين في العام 1945 بعد أن قطعت أوصالها بين الحلفاء المنتصرين على هتلر ونازييه، مكلّفاً بتغطية مؤتمر هام في بوتسام، وسبب اختياره أنه عاش فيها طويلاً وعشق حياتها وعمرانها وناسها، لكنه يرى مدينة أخرى وهو يتجوّل في سيارة جيب مع سائقه ومعاونه الجندي تولي (أداء قوي لتوبي ماغوير بطل «الرجل العنكبوت») الذي يتضح أنه ماكر وفاسد النيات، شيّد «مؤسّسة شخصية» للثراء على حساب حاجات الآخرين، ويقامر بحياتهم من أجل أفضل سعر. إنه تاجر بلباس عسكري، يستفيد من قنواته وعلاقاته وسطوته كي يصل إلى مبتغاه (مالاً أو مضاجعة) بيسر من دون أن يثير انتباه رؤسائه أو حفيظة أعدائه، فالكل في هذه المدينة يملك خططه الشخصية إما للهروب وإما للثراء، أو على الأقلّ للبقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة.

مومس «طيبة»

مشكلة تولي ليست الكسب، بل صديقته الألمانية لينا براندت (كايت بلانشيت) التي هي حبيبة سابقة لجاك، لكنها اليوم مليئة بالنفاق والكذب، تسعى جاهدة إلى إقناع تولي بتهريبها إلى الولايات المتحدّة الأميركية في مقابل تعهّدها بأن تكون عبدة له إلى الأبد. وحين تُكتَشف جثة هذا الأخير مصاب رأسها برصاصة ومعها مئة ألف دولار أميركي في القطاع السوفياتي، لن يفهم جاك لماذا لا يسعى الحلفاء إلى فتح تحقيق حول تصفية عسكري أميركي في ظروف غامضة، وكأي مخبر يدس البطل أنفه في حكاية عفنة المكائد تقوده إلى لينا التي تحوّلت بحكم الحاجة إلى مومس لكنها «ألمانية طيّبة» سيفلح الراعي الأميركي في إيصالها إلى سلم الطائرة التي ستقلّها إلى مستقبل أكثر شرفاً وأزهى حياة.

تلفيق سودربيرغ في صناعته حكاية الإثارة الفارغة في فيلمه هذا، سقط على الشاشة بالأبيض والأسود، حيث نشاهد فصولاً سينمائية مستلّة من «كازابلانكا» و«الرجل الثالث» و«نوتوريوس». كلما مرّ مشهد معيّن، عُرف مصدره، وتعالت همهمات النقّاد. شيء واحد يبرّر هذا، يتمثّل في كبوة مخرج موهوب يبدو أنه استسهل ارتداء ثياب أربعة مخرجين أساتذة دفعة واحدة، ليقف أمام جمهوره عارياً من كفاءته المعهودة في «كافكا» و«إيرين بروكوفيتش» مثلاً.

وحده كلينت إيستوود صمد أمام موضوعه الحربي العصيّ على مزاحمة الدقائق الخمسة والعشرين في بداية فيلم زميله (ومنتج فيلمه هذا) ستيفن سبيلبيرغ «إنقاذ الجندي رايان»، إذ عمد في «رسائل من إيوا جيما» إلى صوغه بنظام كلاسيكي يعتمد التمهيد وتقديم الشخصيات وتعريفها قبل الشروع بعرض المجزرة التي قادها المارينز على أرض الجزيرة الأولى في الأرخبيل الياباني. وعلى الرغم من أن الفيلم مقطع ثان لسابقه «رايات آبائنا»، فضّل منتجاه إيستوود وسبيلبيرغ جعل الأول أميركياً حول الصورة الشهيرة لجنود أميركيين يرفعون راية النصر فوق سفح جبل الجزيرة المنكوبة، والثاني يابانياً بطاقمه ولغته وأبطاله، فيما تتجلّى قيمة اختلاف الثاني في معالجته الدرامية للشخصيات أكثر منه موضوع المعركة نفسها. إذ إن يغي أيريس ياماشيتا ينتصر لإنسانيتها ومعاناتها التي تولدها حالات الرعب ومواجهة الموت الجماعي. في المقابل وجد إيستوود ضالته في تقابلات أبطاله، الأخيار منهم الجنرال كورباياتشي (كين واتانابي) الذي عاش في الولايات المتحدة لفترة معتبرة كطالب، وزميله نيشي الشاب (تسيوتشي إيهارا) الذي فاز بميدالية ذهبية في اولمبيك لوس أنجلوس في العام ,1932 وأشرارهم الضابط آتو الذي يلقى حتفه في عناد وطني ضد قيادة كورباياتشي المتهم بـ«رقة» لا تتوافر في قيادة الجيش الإمبراطوري. مساحة الأميال الخمسة من الرمال البركانية هي الفصل بين قسمي فيلم إيستوود. فالبداية هي رصد يوميات الجنود الغافلين عن القوة القاهرة التي تقترب منهم، وما مجيء كورباياتشي سوى مفتاح إدراكهم لشهوة الانتصار لدى المحتل القادم. يحول هذا القيادي دفة التخطيط الدفاعي من الساحل نحو الجبل، ويحصّن جنوده. وكما خانت جموع القياديين امبراطورهم، يخوّن من يعمل تحت إدارته عزومه في شقّ أنفاق عملاقة داخل الحجر الأهم، فهو الوحيد القمين بمدّ أعمارهم قليلاً.

حين تحدث الفاجعـة الأميركيــة فــوق رؤوسهم، سيعرف من تبقــّى منهــم حكمة هذا الرجل الذي ظلّ وطنياً إلى اللحظــة الأخــيرة التي سينده على جنديه الشاب (راوي العمل الملحمي في 141 دقيقة)، يسأله: «هل بقيت بقعة يابانية غير مدنّسة؟ إدفنّي فيها». قبله، كان رفيقه ينشي يحافظ على روح جندي أميركي بحجّة التحقيق، ويداور معه في ذكرياته أيام تنافساته الأولمبية، وسيكافئه المارينز برصاصات كثيرة تخترق جسده الرياضي. في المقابل حين يهرب جندي ياباني أجّل الموت، سيرديه أميركي بدم بارد على الرغم من أنه أسير، فعملة الحرب لا تحتمل وجهين نقيين.

طواطم

جعل روبرت دي نيرو حكايته كتاباً كلاسيكياً نقرأه على الشاشة عبر صوت ويلسن، كذلك فعل ستيفن سودربيرغ عندما دفع جاك إلى تذكيرنا بحكايته الملفقة. أما كلينت إيستوود، فقد جعل صوت الجندي هو الرائي على مصير رفاقه، ويحافظ على ذكراهم بدفن رسائلهم التي نتعرّف عليها في بداية الفيلم.

جميل حقاً أن يدرس مشاهد هذه الأفلام قبل كل شيء خيارات التصوير التي بُثّت صورها على شاشات برلين. فدي نيرو استعار منهجاً كوبولياً (نسبة إلى زميله فرنسيس فورد كوبولا) صرفاً، حيث استخدم تساقط أضواء علوية أحالت أبطاله إلى طواطم تاريخية مخيفة (تصوير فذّ لروبرت ريتشاردسون)، وسودربيرغ ظلّ أميناً لـ«سرقاته» الكلاسيكية مع مدير تصويره بيتر أندروز، فيما استخدم إيستوود اللون الرمادي القاتم (تصوير توم شتيرن)، القريب من اشتغال ستيفن سبيلبيرغ في «إنقاذ الجندي رايان» ليفرض بصراً أرشيفياً سطع بحرفية وجمالية أخّاذتين.

(برلين)

السفير اللبنانية في 15 فبراير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك