سينماتك

 

اتخذت ألوان العلم الفرنسي أسماء لها .. وقيم الثورة الفرنسية موضوعاتها

قصة الثلاثية السينمائية التي توجت أعمال «كيلوسكي» السينمائية وختم بها حياته الفنية

مرفت عبد الناصر

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

> فيلمه «الأزرق» عن الحرية والحزن والحنين .. وفيلمه «الأبيض» عن المساواة .. وفيلمه الأحمر عن الإخاء وليس الدم والعنف

> كان كيلوسكي يكره لقب فنان ويفضل أن ينادي بالحرفي فقد أدرك أن قدرته تكمن في تسخير الصوت والصورة لنقل معاناته ومعاناة الآخرين

> رغم اعترافه بأنه لا يملك إجابات عن سؤال الحياة.. ما هي؟.. كيف ولماذا نعيشها؟.. استطاع أن ينقل جمهور أعماله إلي مستويات الفلسفة والتجريد التي تجعل الروح مرئية  

عنوان غريب وقصة فيلم أغرب منه !

هي قصة الثلاثية السينمائية التي اتخذت من الألوان الثلاثة الأزرق والأبيض والأحمر موضوعا لها ـ ألوان العلم الفرنسي ـ والقيم الثلاث

- الحرية والإخاء والمساواة - التي مات وما زال علي الاستعداد للموت من أجلها الآلاف بل الملايين من البشر.

تلك التركيبة الملونة لأغلي القيم الإنسانية هي من صنع المخرج البولندي "كريزكوف كيلوسكي " الذي يعد واحدا من أفضل صناع السينما العالمية والذي توفي فجأة بسكتة قلبية عام 1996 عن عمر لم يتجاوز الخامسة والخمسين، و في هذا العام قام المسرح القومي للسينما في لندن بعرض خاص لتلك الثلاثية احتفالا بها وبصانعها.

و لقد تعمدت في تقديمي لهذا المخرج غير العادي تكرار أستخدام "صنع" و صانع" حيث كان كيلوسكي يكره لقب "فنان" ويفضل أن ينادي دائما بالحرفي الذي يدرك أن قدراته تكمن في تسخير "الصوت والصورة" لنقل معاناته ومعاناة الآخرين ولكنه لا يملك إجابات عن سؤال الحياة.. لا يعرف ما هي وكيف أو لماذا نعيشها ؟ يحاول فقط من خلال نقله للعادي والمحسوس أن يرتفع بنا إلي مستويات الفلسفة والتجريد التي تجعل روح الإنسان مرئية.

سيمفونية أوروبية

كتب كيلوسكي وأخرج هذه الثلاثية وقام بتصويرها في ثلاث دول أوربية ما بين عامي 1992 و1993، وصور" الأزرق" في فرنسا و"الأبيض" في بولندا أما "الأحمر" في سويسرا- آخر ألوانه الذي أراد به أن يكون الحركة الأخيرة في سيمفونيته الأوربية - سيمفونية المبادئ الإنسانية التي تنحني لها أقدارنا وهي تسخر منا ...و أن تكون أيضا تتويجا لأعماله السينمائية السابقة وختاما لحياته الفنية - وقد كان له ما أراد !

أول حركة في سيمفونية الصور الملونة هي "الأزرق" الذي يمثل "الحرية" في الوقت الذي ينطوي فيه أيضا علي الحزن والحنين، ويحكي فيلم

"الأزرق" قصة أمراة فقدت زوجها الموسيقار وطفلتها في حادث سيارة مروع تحاول بعده أن تقطع نفسها عن كل ما يمت بصلة للماضي ولكن كلما خلقت مسافة بينها وبين الأمس كلما قربت المسافة بها إلي جوهر نفسها التي شكلها هذا الماضي بكل موسيقاه وأوجاعه - فما هو الأمس إلا الغد في لحظة تكوين وهل يملك أحد منا مهربا من سجن النفس أو الأمس؟ هذا المشترك الإنساني الأعظم الذي يتجاوز الدول والأعراق والسياسات.

أما "الأبيض" فهو لون "المساواة" التي اختار كيلوسكي أن يجسدها في علاقة زوجين يعيشان صراع مساواة النوع بين الرجل والمرأة والذي يتعقد أكثر بإدخال بعدي الثقافة والاثنية في المسألة، فالزوج "بولندي" الأصل بينما الزوجة "فرنسية " ولا ندري حتي النهاية من يريد مساواته بمن !

"كل واحد منا يريد قدرا من المساواة أكثر من الآخر" - هذا هو تعريف المساواة كما يقول كيلوسكي في أحد أحاديثه ساخرا وهذا يعني أن أي نوع من المساواة ضرب من المستحيل ولا شك أن هذا هو سبب فشل التجربة الشيوعية ، ومع ذلك فكلمة المساواة كلمة جميلة نعرف أن الوصول إليها غير ممكن ومع ذلك فهي تستحق السعي من أجلها ...

وتنتهي الثلاثية باللون "الأحمر" الذي يعتبر أيضا النهاية لفيلمي "الأزرق" و"الأبيض ".

يستخدم كيلوسكي اللون الأحمر بصفته هنا أكثر الألوان إنسانية فهو لون المشاعر ونبض الحياة ، لون التواصل المستتر بين أفراد البشرية وليس لون الدم والعنف كما هو معتاد.

وكما نعرف يملك الحب دائما الكلمة الأخيرة - فهو يعني بالبشر ككتل من الشعور ولا يهتم كثيرا بمثالية سلوكهم أو مدي الخطأ والصواب في حياتهم ، فالحب يعنيه فقط الإحساس بالغير وإمكانية وضع النفس في حذاء الآخر أي ببساطة " الإخاء" - القيمة الوحيدة الأكثر إنسانية في قيم الثورة الفرنسية الثلاث وهي القيمة التي كثيرا ما تتعارض مع قيمتي "الحرية" و"المساواة" ولكنها أيضا القيمة الوحيدة التي من الممكن أن تصالح بين مثاليات القيم والطبيعة البشرية.

وهذا بالفعل ما يتناوله فيلم "الأحمر" الذي يعتبر أهم وأجمل أفلام كيلوسكي وربما في السينما علي الإطلاق .

القاضي المتهم

الأفراد قليلون ولكن هناك شبكة من الأسلاك تلعب دورا رئيسيا في هذا الفيلم، أسلاك التليفون وخطوطه تمثل الروابط الإنسانية غير المرئية التي يتحكم فيها القدر وقوانين الصدفة.

البطلة الأولي في هذا الفيلم هي "فالتتين" التي تقوم بدورها "أيرين يعقوب" بكل عذوبة ورقة.
وفالتتين طالبة تعمل بعض الوقت "موديل" و يربط بينها وبين العالم الخارجي أفيشات الإعلان الذي يحمل صورتها بخلفيته الحمراء والذي يتكرر رؤيته خلال عرض الفيلم .

تعيش "فالتتين" قصة حب عبر التليفون مع شاب يعيش في انجلترا يفصل بينها وبينه بحر" المانش" ومشاعره الأكثر برودة، وبالقرب منها يسكن "أوجست" - هذا الجار الذي يدرس القانون والذي تتزامن تحركاته دائما مع تحركاتها ومع ذلك لا يلتقيان!

و"أوجست" في علاقة حب هو الآخر مع عاملة تليفون تخبر عن حالة الطقس وتغيراته عن طريق الهاتف بأسلوب يوحي بتقلبات الحياة نفسها.

وربما يكون "جوزيف" -القاضي المتقاعد- الذي يقوم بدوره في هذا الفيلم "جين لويس ترينجانت" البطل الحقيقي فهو يملك قدرة تنبؤ علي فهم طبيعة البشر وتوقع المستقبل ويجسد ببراعة شديدة دور " القاضي والمتهم " معا.

تقود الصدفة "فالتتين" إلي منزل "جوزيف" بعد ما اصطدمت سيارتها بكلبته "ريتا" فتأخذ الكلبة لتعيدها إليه بعد إسعافها وتجده يعيش في شرنقة نسجها خصيصا لكي تعزله تماما عن العالم الخارجي .
يتشكك "جوزيف"من صدق نوايا "فالتتين" الإنسانية و يسألها بتهكم عن السبب الحقيقي وراء إسعافها لكلبته - هل أنقذتها من أجلها أو من أجل نفسها؟... ويضيف " بالتأكيد كانت الكلبة تنزف ولا بد أنك خفت من رؤية جمجمتها المهشمة في أحلامك !"...

وبعد ذلك تكتشف "فالتتين" أن "جوزيف" يقضي يومه في التصنت علي اتصالات جيرانه الهاتفية ويسمعها مكالمة تجري بين جاره وآخر علي الخط تشير إلي العلاقة الغرامية الساخنة التي تربط بينهما وتشعر "فالتتين" بالصدمة ويتلون وجهها بلون الاحتقار وتترك بيته مسرعة في اتجاه بيت الجار لإخباره بما يحدث، و تفتح لها الباب زوجته التي كانت مشغولة بإعداد الطعام وتري ابنته الصغيرة في الداخل فتتردد وتعتذر قائلة إنها أخطأت في العنوان، وتعود مرة أخري إلي بيت جوزيف الذي يتهكم وهو يسألها إن كانت قد اعترفت للجار ويجيب علي نفسه بنفسه : "بالطبع لا- لقد شعرت بالشفقة والعطف علي زوجته وابنته وأدركت مدي الضرر الذي سيلحق بهما إن عرفوا حقيقة الرجل الذي يحبونه".

ثم يحكي لها عن حكم خاطئ بالبراءة توصل إليه يوما في قضية كبري وتأنيب ضميره له منذ ذلك الوقت..

وتسأله "فالتتين": وماذا فعل المتهم بعد ذلك ؟ فيجيب "جوزيف" كان شاكرا للجميل ومنحته البراءة عمرا جديدا عاش فيه مواطنا شريفا ورب أسرة من الطراز الأول .. فتنظر إليه "فالتتين" بتعجب وتقول..." تسمي هذا خطأ .. لقد حكمت عدلا" ...

في هذا الجزء القصير المفعم بالتركيبات الإنسانية المعقدة نتعرف علي هذا الحدس الأخلاقي الذي تملكه "فالتتين" والذي ينبع من إحساس انساني خالص يجعلنا نراجع أنفسنا في كل ما هو متعارف عليه ومألوف عن فكرة الخطأ والصواب ومعني الجرم والاتهام ونسبية العدل وارتباطه الشديد بالرحمة وضرورة الحد من استمرار الضرر .

وبتلقائية وبراءة هذه المشاعر تنجح "فالتتين" في أن تخرج هذا القاضي من عزلته التي فرضها علي نفسه وتوقظ إنسانيته التي سجنها في قمقم روحه بعد ما خدعته المرأة الوحيدة التي أحبها منذ أربعين عاما مثله مثل "أوجست" جارها طالب القانون الذي يكتشف أيضا خيانة صديقته عاملة التليفون.

وطول الوقت ونحن نشعر أن "جوزيف" يحرك بشكل خفي مجري حياة "أوجست" في اتجاه التلاقي مع "فالتتين" وكأن حياة "أوجست" وما سيكون بينه وبين "فالتتين" هي حياته التي لم يعشها والتي ستكون إذا التقيا..

تعبر "فالتتين" المانش إلي انجلترا بغرض زيارة صديقها الذي يعيش هناك وتوضيح معالم علاقتهما غير المفهومة وعلي نفس العبارة يسافر "أوجست" أيضا وتهب عاصفة شديدة تغرق معها العبارة ولا ينجو من أفرادها إلا خمسة هم - البولندي وزوجته الفرنسية أبطال فيلم "الأبيض" وأرملة الحرية بطلة فيلم "الأزرق" و"فالتتين" و "أوجست" بطلا فيلم "الأحمر" اللذان يلتقيان لأول مرة في آخر مشهد في هذا الفيلم لكي تستمر بتواصلهما الإنسانية في صراعها من أجل الإخاء والحرية والمساواة.

جريدة القاهرة في 13 فبراير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك