سينماتك

 

أسطورة «بابل» في فيلم معاصر

إنه عالم قريب منا وبعيد عنا

الوسط - نبيل عبدالكريم

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

اتخذ مخرج فيلم «بابل» من الأسطورة منطلقاً للحوار الدرامي الذي يشد أطراف القصة من قارات ثلاث. فالأسطورة البابلية تتحدث عن برج أراد الحاكم تشييده لمعانقة السماء. وكان البرج كلما ارتفعت درجاته عمودياً أصيب العمال والناس بالهلوسة والجنون. بدأ الناس من قاعدة موحدة في العادات والحياة واللغة إلا أن محاولة الارتقاء إلى ما فوق الأرض انعكست سلباً فبدأ العاملون يتحدثون لغاتٍ غير مفهومة وانقطعت الحياة وتراجع التواصل وأخذت العزلة تضغط وتشتد إلى أن وصل الجميع إلى درجة الجنون والهلوسة.

أسطورة برج بابل تحولت مع الأيام إلى نموذج يعطى لتأكيد عدم التفاهم. فكل طابق يتحدث لغته والناس تتكلم ولكن لا أحد يفهم الآخر.

مخرج فيلم «بابل» اعتمد الأسطورة من دون أن يشير إليها. فهو اكتفى بالاسم وروى قصة معاصرة نجح في ضبطها في إطار درامي محكم الصنع. فبابل الحديثة ليست ذاك البرج الذي يرتفع عمودياً إلى السماء وإنما هو ذاك الامتداد الأفقي المنتشر عالمياً حول القارات. وبابل في هذا المعنى تعطي لمحة عن تلك الأسطورة ولكن الاسم هو الأهم كدلالة على الغاية التي يريد تقديمها الشريط السينمائي إلى المشاهد.

الفيلم تم تصويره في المكسيك وسان دييغو والمغرب وطوكيو، وهو يستخدم أربع لغات في حواره ويتحدث عن حياة مختلفة في أربع مناطق تعيش عادات تتميز بخصوصية على رغم أن هذا العالم موحد في الزمن. الفكرة إذاً بابلية وهي استخدمت اللغات المكسيكية والإنجليزية والعربية واليابانية. ومن خلال تلك الأسطورة نجح المخرج في ربط القارات الثلاث بوحدة بسيطة كانت السبب الذي جمع هذا الشتات من البشر في مصيبة. وأساس تلك المصيبة كان بندقية «وشيستر».

كيف يمكن أن تجمع بندقية هذه الشعوب المتخالفة في لغاتها وعاداتها وفي حياتها وهمومها؟ من هنا تبدأ القصة الذكية التي عرف المخرج كيف يتعامل معها بقوة الصورة والجمع بين هذا الشتات الموزع لغوياً وبشرياً على قارات ثلاث.

رجل أعمال ياباني انتحرت زوجته بإطلاق الرصاص على نفسها. رحلت الأم وتركت ابنة وحيدة صماء بكماء في ريعان الشباب. أصيب الأب بصدمة ولم يعرف كيف يهرب من المأساة وكيف يعوض ابنته عن ذاك الفراغ. لا نعرف إذا كانت الأم استخدمت البندقية للانتحار. هذا ليس المهم في الحوار. المهم إننا نعرف لاحقاً أن الأب (رجل الأعمال) قرر قضاء عطلته في المغرب في جبال وعرة بعيداً عن ضجيج طوكيو. وهناك يقضي فترة في الصيد برفقة «حسن» الطيب الخلوق. ويقرر رجل الأعمال الياباني إهداء بندقيته بعد انتهاء إجازته. وهكذا يعود الأب إلى طوكيو ويأخذ «حسن» البندقية.

يقرر «حسن» بيع البندقية إلى صديق يعيش مع عائلته التي تتألف من زوجته وولديه أحمد ويوسف ويشرف على تربية الماعز والخرفان في مناطق جبلية وعرة في مرتفعات المغرب. ويشتري راعي العائلة البندقية لاستخدامها لتخويف أو قتل الذئاب التي تهاجم قطيع الخراف والماعز. ومن هذه اللحظة تبدأ المأساة. فأحمد الكبير ويوسف الصغير يساعدان والدهما على تربية القطيع ويأخذان معهما البندقية للحماية. ويبدأ الولدان تجربة فاعلية البندقية. ومصادفةً كانت تمر في تلك الجبال المنعزلة التي تعيش حياة بؤس اجتماعي وتخلف لا يمكن تصوره حافلة تنقل السياح الأجانب. ومصادفةً أيضاً تخترق رصاصة زجاج الحافلة وتصاب امرأة أميركية من مدينة سان دييغو بطلق في كتفها وصدرها وتقع على زوجها تتضرج بالدماء.

الزوج والزوجة قررا الذهاب في رحلة سياحية إلى المغرب هرباً من مأساة وقعت في العائلة حين اختنق طفلهما الرضيع (سامي) في حادث ضيق تنفس. المصيبة كادت تؤدي إلى انهيار الأسرة بسبب إحساس الأم بالمسئولية وذهول الأب من الحادث المروع. العائلة صغيرة تتألف من الأب والأم وابنة وابن وتقوم مربية مكسيكية برعاية الولدين منذ طفولتهما. وهرباً من تلك المصيبة يقرران القيام برحلة ترفه عن النفس في مناطق بعيدة ويتركان للمربية الاهتمام بهما. وهكذا تتحول الرحلة إلى مصيبة جديدة. فالأم أصيبت بطلق ناري من مصدر مجهول في منطقية نائية وفقيرة ولا يوجد فيها مستشفى أو إسعافات ولا هواتف يمكن استخدامها بسهولة للاتصال.

المكسيكية التي تعيش في سان دييغو، وهي مدينة مجاورة للحدود، منذ 16 سنة من دون كفالة أو ضمان، كانت تسللت وقررت الإقامة في الولايات المتحدة ولو بطريقة غير شرعية لإعالة أسرتها. والمصادفة أيضاً تلعب دورها. فهذه المربية التي ضحت لتربية أسرتها حان موعد زواج ابنها في المكسيك وهي تريد الذهاب لحضور العرس ولكن حادث إطلاق الرصاص على سيدة البيت أخر عودتها وعطل عليها احتمال حضور هذا اليوم الذي استعدت له. ولسبب ما تقرر المربية المكسيكية أن تذهب مع الطفلين الأميركيين لحضور حفل الزفاف برفقة شقيقها الذي جاء خصيصاً لنقلها. وهنا أيضاً تدخل رحلة العودة وبعد حضور الزفاف في مشكلات على نقاط الحدود الأميركية - المكسيكية؛ بسبب تهريب الناس والبضائع. وهكذا يتحول يوم الزفاف إلى مطاردة بين شقيقها السائق المخمور وشرطة الحدود.

ما الرابط بين كل التفصيلات؟ البندقية. فهذه الوسيلة الشريرة عصفت مصادفةً بكل العائلات التي تتوزع على قارات ثلاث وتعيش في مناطق متباعدة ولا علاقة لأي منها بالآخر. بندقية واحدة فعلت فعلها. فهي جاءت مع رجل أعمال ياباني باعها في المغرب وأطلق منها الرصاص كتجربة صبيانية على حافلة سياح فتصاب مصادفةً سيدة أميركية تركت ولديها في حصانة مربية مكسيكية.

هذه هي بابل الجديدة الممتدة أفقياً. وهي تشبه تلك الأسطورة في مأسويتها. شعوب لا تعرف بعضها وتتحدث لغاتٍ مختلفةً تصبح منخرطةً في مصيبة واحدة تطاردها اللعنة إلى جانب الشرطة القضائية والتحقيقات الفيدرالية.

تحت هذا الاسم نجح المخرج فعلاً في تشكيل صورة بانورامية قاتمة الألوان. فالأب الياباني تأتي الشرطة للتحقيق معه لتسأله عن علاقته بحسن ولماذا باعه البندقية؟ وهل هناك خلفية سياسية إرهابية وراء الموضوع؟ الأب هذا تعرض لامتحان جديد بعد تحقيقات سابقة أجريت معه حين انتحرت زوجته. فهو أدخل في عالم آخر لم يفكر فيه حين قرر إهداء البندقية للمغربي. وهو أيضاً كان يعيش في عالم الأعمال؛ ما أزم العلاقة مع ابنته الصماء البكماء. قصة الابنة محزنة أيضاً إذ ازدادت عزلةً بعد رحيل والدتها ولم تجد من والدها ذاك الحنان الذي يعوض الحرمان المريع الذي تعانيه بسبب إشكالية علاقتها مع محيطها. محيطها صاخب ومدينتها صاخبة ولكنها هي لا تشعر ولا تحس وكأنها تعيش في مكان بعيد يشبه تلك العزلة التي يمر بها رعاة الماعز في المغرب.

يوسف الطفل الذي أخطأ في تجربة إطلاق الرصاص وأصاب تلك السيدة الأميركية ورط عائلته في مشكلة مع الشرطة والإنتروبول حين تعاملت السفارة الأميركية مع الحادث بوصفه من الأعمال الإرهابية المقصودة. وهكذا يتحول الموضوع إلى مادة صحافية تتناقلها وكالات الأنباء والفضائيات عن وجود مؤامرة أصولية تستهدف السياح في المغرب. وينتهي مشهد المطاردة بكارثة حين يحاول الأب الهرب إلا أن الشرطة تصطدم بالأسرة الخائفة ويقتل أحمد ويضطر يوسف ووالده إلى تسليم نفسيهما والاعتراف بالحقيقة.

السيدة التي تصاب بطلق ناري تعاني الآلام والأوجاع لمجرد أنها كانت مصادفةً في المكان الخطأ والوقت الخطأ. وكادت المصادفة تقضي عليها وعلى ولديها حين تاهت المربية بهما في تلك الصحارى القاحلة التي تفصل الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.

اختيار المخرج اسم الفيلم جاء موفقاً؛ لأنه نجح في الجمع بين الشتات الثقافي واللغوي والحياتي والمأسوي في سياق واحد. وأساس كل تلك المصائب كان البندقية التي انتقلت من طوكيو إلى المغرب. وبسبب تلك الرصاصة الطائشة كادت تندلع أزمة دبلوماسية بين الحكومة المغربية والإدارة الأميركية. شرطة التحقيقات القضائية في واشنطن أخذت تبحث عن خيوط مؤامرة عالمية تبدأ من طوكيو إلى سان دييغو انطلاقاً من قناعة أن الحادث ليس عفوياً ولابد أن هناك منظمةً دبرت حادث إطلاق النار. وأيضاً شرطة الحدود المكسيكية ظنت أن المربية خطفت الطفلين وتريد ابتزاز العائلة الأميركية. وهكذا يكشف المخرج عن ذاك الجانب الإنساني في موضوع المهاجرين على الحدود والمطاردات التي تقع يومياً لملاحقة الهاربين أو المتسللين.

كل هذا العالم جمعه المخرج في دائرة واحدة خانقة وقاتلة ومأسوية. فالكل في أزمة، والعائلات كلها تعيش حالات عزلة وتشتت وضياع. والكل مطارد من الشرطة أو من تلك اللعنة التي جمعت مصادفةً المصائب من كل الجهات كما كانت حال ذاك البرج البابلي.

إنها العولمة أو لعنة العصر الحديث إذ الأمم تتشكل من طبقات تتدرج في تطورها وتتخالف في ألوانها وثقافتها ولغاتها ولكنها في النهاية تتعانق جميعاً على أرض المصائب والمأساة. أحمد الطفل يقتل، ويوسف يعتقل وتنهار الأسرة المغربية. المربية المكسيكية تطرد من الولايات المتحدة لمخالفتها القانون وتعثر الشرطة على الطفلين التائهين في الصحراء. والأم التي تصاب بطلق ناري تنقذ من الموت بعد نقلها بطوافة من القرية المنعزلة إلى كازابلانكا (الدار البيضاء). أما الأب الياباني فإنه يتجه نحو المصالحة مع ابنته التي تعاني أزمة نفسية عميقة نتيجة ذاك الجدار الذي يعزلها عن العالم والمحيط.

«بابل» من الأفلام المميزة. والمخرج نجح في ربط عناصر الفكرة من خلال المتابعة الدقيقة لتلك الأطياف من المآسي بالصورة والصوت واللغات المتعددة بما فيها حركة الإشارات التي تعتمدها الفتاة اليابانية مع عالم قريب منها وبعيد عنها في آن. هذا هو عالمنا المعاصر... إنه أسطورة بابلية.

الوسط البحرينية في 25 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك