سينماتك

 

تواصلات ما قبل اللغة

"برج بابل" يكسر حواجز التاريخ والثقافة والمسافات

نرجس الغاوي

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

يروى أن أسطورة "برج بابل" ذكرت لأول مرة من قبل السومريين، ثم ذكرت فى الإنجيل-العهد القديم. ومضمونها هى أن سلالة نوح، التى كانت تمثل كل سكان الأرض، وتتكلم لغة واحدة، أرادت يوما تشييد برج عال للوصول إلى السماء، فسخط عليهم الإله وخلق لغات عديدة، فيما بينهم، ليتعسر عليهم فهم بعضهم البعض، فلم يتمكنوا قط من تشييد برجهم.

هذا ما أراد المخرج المكسيكى ألخاندرو كونزالس إيناريتو، التعبير عنه فى فيلم "بابل" الذى بدأ عرضه فى القاعات البريطانية فى التاسع عشر من يناير-كانون الثانى الجاري، وحظى بجائزة الإخراج فى مهرجان "كان" 2006، كما حاز على جائزة أحسن فيلم فى الجولدن جلوب ليلة 15 يناير-كانون الثاني. ومن المعروف ان جائزة "الجولدن جلوب" تأتى فى الدرجة الثانية من حيث الأهمية بعد جوائز الأوسكار.

وتدور أحداث الفيلم فى ثلاث قارات مختلفة، وبأربع لغات مختلفة، وهى العامية المغربية والإسبانية والإنجليزية واليابانية وبضع كلمات فرنسية متناثرة. ويقوم بأدوار البطولة كل من النجم الهوليودى براد بيت والنجمة كيت بلانشيت اللذان قاما بدور الزوجين الأمريكيين فى رحلة فى صحراء المغرب.

والفيلم عبارة عن أربع قصص متوازية، انتقلت بينها الكاميرا لتتناوب المشاهد بين البلدان والشخصيات المختلفة دون ضياع أى خيط من خيوط القصص التى كانت غامضة فى بدايتها ليتم حل شفرات الغموض تدريجيا كلما رجعنا إلى قصة من القصص، فلم يؤثر ذلك على عناصر التشويق والإثارة. واعتمد المخرج فى كتابة السيناريو على صديقه، جييوم أرياجا، الذى رافقه منذ بداياته وفى فيلميه السابقين "أمور بيروس" سنة 2000 و"21 غراما" سنة 2003 اللذين دفعا بالمخرج إلى الساحة العالمية.

أخذتنا الكاميرا فى بداية الأمر الى صحراء المغرب وسط عائلة تسكن فى قرية نائية، عبرت من قربها حافلة مليئة بسياح غربيين من بينهم زوجان أمريكيان بطلا إحدى القصص. ومن ثم اتجهت بنا إلى الولايات المتحدة لتعبر الحدود وندخل معها إلى المكسيك فنرى تقاليد سكانها عبر عيون طفلين أمريكيين أخذتهما مربيتهما المكسيكية لحضور حفل زواج ابنها.

ومن المكسيك، سافرنا إلى القارة الآسيوية، وبالذات إلى بلد من أشد البلدان اكتظاظا فى العالم وهو اليابان. لنجد مجموعة فتيات يابانيات صاخبات يلعبن كرة اليد ونكتشف بعد لحظات أنهن صم وبكم. ومن بينهن تم التركيز على صبية مراهقة لنعيش معها فى عالم الصم البكم ونشعر معها بما يدور حولها فى عالمها الصامت.

ما يسترعى الإنتباه فى هذا الفيلم هو أن الكاميرا دخلت، فى كل القصص، فى قلب الشخصيات لترينا العالم الذى تعيشه بأعينها ونظراتها، فلم تحاول ان تخلع عليها نظرة خارجية وعن ثقافتها أو بيئتها.

ويقول المخرج، فى هذا الصدد، إنه اختار أن يروى القصص الأربع من خلال عيون شخصيات ولدت وتربت فى بيئتها لتنقلها الكاميرا كما هي. فاستبعد كل نظرة خارجية فى الفيلم. ولهذا السبب بالذات اختار المخرج أن يشارك فى الفيلم أشخاص لم يمثلوا قط فى حياتهم ولم يروا أبدا الكاميرا أمامهم.

فإلى جانب الممثلين القديرين مثل براد بيت وكيت بلانشيت والنجم جاييل غارسيا، كان الممثلون المغربيون غريبين تماما عن عالم التصوير والتمثيل. فالمخرج جلبهم من مناطق نائية فى المغرب. وقال إيناريتو إنه لانتقاء الممثلين هناك نودى إلى الكاستينغ عبر أبواق الجوامع والسيارات الحاملة للأبواق، وكانت هذه التجربة مغامرة كبيرة بالنسبة لمخرج "مبتدئ" ما زال عليه أن يبذل جهودا كبيرة ليكسب مكانه فى هوليود، ولقد اعترف بذلك قائلا: "إعطاء أدوار بطولة لأشخاص غير ممثلين يصعب التواصل معهم لعدم معرفتى بلغتهم البتة، كان من أقصى التجارب غباء وتهورا وصعوبة وهى فى نفس الوقت من أكبر التجارب التى أكسبتنى رضا تاما عن عملي، لضرورة وجود هؤلاء الأشخاص غير المحترفين، فهم أضافوا إلى الفـيلم وجهة نظرهم لثقافتهم الخاصة بهم".

ويركز الفيلم كثيرا على مفهوم الشعور بالوحدة وعدم فهم الناس لبعضهم البعض، سواء كان ذلك فى علاقة الزوج مع زوجته، أو فى علاقة الشعوب بين بعضها، أو بين أب وابنته، وفى العلاقات السياسية بين البلدان أيضا. ففى قلب الصحراء المغربية ندرك أن العلاقة بين الزوجين مهددة بالفشل بسبب مشاكل جعلت الحديث بينهما مستحيلا، مما أوقع الاثنين فى شعور عميق بالعجز عن التعبير والوحدة القاتلة. ثم تصاب الزوجة سوزان بطلقة نارية طائشة، لتكون هذه المأساة الداعى الذى سيقرب بين الزوجين بدرجة كبيرة. فندرك حينئذ، وفى قلب صحراء شبه خالية بأن المكان لا دخل له للتواصل بين الناس، فالمشكلة أساسا هى أن الإنسان لا يقوم بجهد كبير لفهم الآخر، كما أنه عاجز عن التعبير عن نفسه.

ومن الصحراء المغربية انتقلنا إلى الولايات المتحدة حيث بقى طفلا الأمريكيين عند حاضنتهما المكسيكية والتى عبرت بهما الحدود الأمريكية المكسيكية لحضور زواج ابنها فى مكسيكو. فنكتشف عبر عيون الطفلين الأمريكيين البريئين أجواء الاحتفالات المكسيكية الشعبية. كان اكتشافهما المسلى خاليا من أية أحكام مسبقة يتعرض إليها المكسيكيون من قبل الأمريكيين دائما.

ولقد اختيرت المكسيك عن غيرها من البلدان الأخرى لانتماء المخرج لهذا البلد الذى اضطر إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة متعرضا إلى مرارة العنصرية والأحكام المسبقة وقال المخرج فى ذلك: "بالنسبة لمهاجر مكسيكى مثلي، كان ضم بلدى إلى الفيلم قرارا معنويا وأخلاقيا قبل أن يكون خيارا...". ولقد أتقن الممثل جاييل غارسيا برنال دوره على أتم وجه ليوصل لنا مدى المرارة التى يشعر بها المكسيكيون تجاه جيرانهم الأمريكيين، وهى مرارة مكبوتة معظم الوقت، تطفو على السطح عندما يبالغ المكسيكى فى شرب الخمر... أما الممثلة أدريانا بارازا، فلقد كانت فى قمتها فى أداء دور الحاضنة الأم المحبة التى تخاطر بحياتها من أجل الطفلين الأمريكيين.

ومن المكسيك انتقلنا إلى اليابان، فكانت قصة المراهقة اليابانية الصماء البكماء من أشدها تأثيرا على المشاهد وأعمقها، لمرارة العزلة التى تعيشها وسط مدينتها الصاخبة والعجز عن التعبير عن نفسها وانعدام التواصل مع أبيها منذ وفاة أمها. وربما ما جعل المشاهد يتأثر كثيرا بهذه الفتاة هو أن المخرج تمكن من وضعه فى مكان الفتاة، حيث يعيش معها، ولو لدقائق معدودة، عالم الصمت وسط أكثر الأمكنة صخبا، ألا وهى الملهى الليلي.

ولقد زادت عاهتها فى عزلتها، فلجأت فى محاولة يائسة للفت النظر إليها إلى الإغراء بجسمها، داعية كل شاب حلا لها إلى الاستمتاع، فكان جسمها بمثابة تعويض عما عجزت عنه باللسان. وكم كان المشهد مؤلما عندما يحس المشاهد بوحدتها القاتلة فى أكثر البلدان اكتظاظا فى العالم. أدت هذا الدور الممثلة اليابانية رينكو كيكوشى "24 سنة" التى لم تتردد عن تعلم لغة الإشارات لمدة تسعة أشهر قبل أن يوجه الدور إليها، فبرعت فى أول فيلم هوليودى لها لأقصى درجة. وقام بدور والدها الممثل اليابانى القدير كوجى ياكوشو، الحاصل على عشرات الجوائز لأدائه الحاذق أمام الكاميرا. واختار المخرج ياكوشو بالذات بالرغم من قلة ظهوره فى الفيلم لحضوره الهائل مما يضفى أكبر عمق للقصة اليابانية.

وفى صحراء المغرب التقينا بأخوين مراهقين راعيا الغنم، اشترى لهما والدهما بندقية لإبعاد الذئاب، فلعبا بها مما تسبب فى كارثة الزوجين السائحين اللذين مرا من هناك. أدت إصابة الأمريكية إلى كارثة سياسية وإعلامية. فلقد انقطعت العلاقات السياسية بين البلدين "المغرب وأمريكا"، بعد أن استنتج الإعلام الأمريكى المتسرع مباشرة أن إصابة الأمريكية هى من فعل عملية إرهابية من طرف مسلمين متطرفين بلا شك. وحاول المخرج بهذه المشاهد ان يعطى لمحة عن أفعال الإعلام الأمريكى والسياسة الأمريكية بصفة عامة.

وخلال هذه المحنة، يكتشف الزوجان فى بلد مسلم كان يمثل عالم الغموض بالنسبة لهما، كيف يساعد الإنسان غيره فى محنته، على الرغم من اختلاف ثقافته ولغته وأفكاره. لكن المثير للانتباه هنا، هو كيفية تمثيل المخرج للعائلة المغربية أو بالأحرى المسلمة، حيث كان بعض أفرادها على نسبة من الفساد الأخلاقي. وقال المخرج فى ذلك أنه أراد إبراز إمكانية التناقض وسط عائلة تربى أطفالها على الأخلاق العالية. فلا أحد محصنا من وجود خلل ما فى عائلته مهما اجتهد. ولقد كان الخلل موجودا فى كل قصة من القصص، مثل العائلة اليابانية الغنية التى وفر لها رب البيت كل ما يلزم لضمان حياة ميسورة، لكن ذلك لم يمنع من انتحار زوجته و ابتعاد ابنته عنه.

ولقد كان للأسلوب البصرى تأثيره أيضا على المشاهد، فلقد تعمد مدير التصوير رودريغو بريتو أن يكون الانتقال من قصة لأخرى أو بلد لآخر عبر استعمال شرائط أفلام تصويرية مختلفة النوعية والمقاسات لتكون نوعية الصورة خاصة بكل قصة وبالأجواء التى تنقلها، معتمدا أيضا على اختلاف الألوان ونسبة وضوح الخلفيات حسب اختلاف المنطقة الجغرافية والبعد العاطفي.

طغى عنصر التناقض كثيرا على الفيلم، مبرزا لنا ما يعيشه إنسان القرن الواحد والعشرين من تناقض. ففى عالم تكاثرت فيه وسائل الإتصالات والمواصلات للتقريب بين الناس، ظل التفاهم بينهم متعسرا بل مستحيلا أحيانا. وقال المخرج فى هذا الصدد: "الحواجز والحدود ليست دائما ملموسة أو مرئية. فالحواجز موجودة خاصة فى داخلنا نحن بالذات، والأحكام المسبقة موجودة فى إطار ثقافتنا، وهذا يعنى أنه بوسعنا نحن أن نمحوها".

العرب أنلاين في 23 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك