سينماتك

 

فلسفة الصراع الطبقي في الأرض رؤية المبدع وعبقرية المخرج

بقلم : حازم مقدادي

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

حملت رواية الأرض التي ألفها الكاتب المعروف عبد الرحمن الشرقاوي رؤية جديدة، وأفقا عريضا ومفتوحا عما تعنيه الأرض بالنسبة لأصحابها أو للطامعين بها. فتميزت بحديثها عن معاناة الفلاحين، ونضالهم الطويل في الدفاع عن أرضهم، حتى خرجت عن المألوف في تناول أهمية الأرض، والأخطار التي تحيط بها وتتهددها.

في هذه الرواية تم التقديم لصورة الفلاح المصري من جهة، ولصورة الاقطاعي من جهة أخرى، بأسلوب مختلف عن بقية الروايات التي تناولت هذا الموضوع. إذ يمكن رؤية تمسّك الفلاح بأرضه على ضآلة مساحتها، كما إن عيونه تتحدث عن المفاهيم التي تشكلها الأرض بالنسبة له، ببساطة وبراءة أبعد ما تكون عن التصنع والابتذال. وذلك على نقيض بعض الأعمال التي قدمت الفلاح على أنه شخص متمسك بأرضه، لكنه في الوقت نفسه، ساذج ومهزوم من الداخل، بل ومستسلم لأطماع الأقوياء، فلا يبدي أية مقاومة في وجه من يريدون سلب أرضه، فيبدو كأنه مسلوب الكرامة. في الوقت الذي تؤكد فيه هذه الرواية كرامة الفلاح وتعززها، مبرزة اتساع المسافة الفاصلة بين سلب الكرامة من جهة، وسلب الإرادة من جهة أخرى.

واستطاعت هذه الرواية على امتداد مجريات أحداثها، أن تقدم الأرض بشكل محوري تتشعب منه مجمل الأحداث، فالتوافق بين الفلاحين يبدأ من الأرض، ومنها يستمد قوته واستمراريته، في حين أن الصراع يطل برأسه كلما تنامى شعور لدى أحدهم بوجود من يتربص بأرضه محاولا النيل منها. وذلك في محاولة ذكية لعكس العلاقة الروحانية بين الأرض ومن يرعاها، فكلاهما له باطن واحد، وعمق مشترك، حتى لكأن ما ينبت على وجهها لا تمتد جذوره في أعماق الأرض وحدها، بل وفي أعماق من يفلحها.

و مما لا شك فيه أن إطلاق اسم الأرض على هذه الرواية، أسهم في تعميمها، واختصار الكثير مما حملته في كلمة واحدة. فمفهوم الأرض بالنسبة للفلاح في تلك القرية البعيدة في عمق الصعيد، هو نفسه بالنسبة لأي فلاح في أي مكان آخر، والأطماع التي تشكل ذهنية الإقطاعي هنا، هي نفسها لإقطاعي آخر هناك، إذ إن هَمَّ الأرض وما تعنيه، وما يمكن لها أن تقدمه متماثل في كل مكان.

في هذه الرواية نرى أن الأرض مثل قلب لا يكفُّ عن النبض أبدا، نتحسس فيها ذكريات تمتد بلا نهاية، هي بداية الكائنات وفيها مصائرها، تدب عليها حتى إذا تعبت، فتحت الأرض أبوابها لتُدخل المنهكين إليها بسلام. الأرض هي الشرف والكرامة، ولقمة الخبز، هي الشهيق الأول، والأمل الذي لا يخور.

تُعدّ الأرض، رواية كلاسيكية بامتياز، فجميع المشاهد والصور والأماكن تم نقلها وتناولها والحديث عنها باستخدام عنصر الراوي العليم، كما إنها التزمت إلى حد كبير بالزمان والمكان، وامتدت الحكاية فيها بين نقطتي البداية والنهاية، إضافة إلى توازي الأحداث وتطورها مع نظام التدرج الزمني المتصاعد. ولكنها ورغم ذلك لم تخلُ من محاولات الخَطْوِ نحو الأمام، والانفلات من طوق الرتابة والنمطية الذي أحاط بمعظم الأعمال الروائية في تلك الآونة، إذ يتضح ذلك من خلال محاولات الكاتب التي أراد فيها أن يلامس الإحداثيات الداخلية لشخصيات روايته، فقدم بعض المشاهد بشكل مختلف، من خلال تركيزها على دلالات ورموز تزيد من مشاركة المتلقي. كما اشتملت على مساحات خاصة لبعض الشخصيات التي تشكل المشهد الروائي، متيحا بذلك حيزا واسعا للقاريء يمكّنه من الطرح والمناقشة مدخلا إياه في حالة تفاعلية مع النص السردي.

ومن الأمثلة على تلك المشاهد، نرى المشهد الذي تَشَكّل من شخصية عبد الهادي، وشخصية محمد أبو سويلم وهما معاً في الزنزانة، وبالذات بعد انتهاء عمليات التعذيب والامتهان التي استهدفت رجولتهما، فيتجه عبد الهادي نحو رفيقه ويبدأ بمحاولة إخراجه من الحالة النفسية التي يمر بها، والشعور بالهزيمة والإهانة، فتختلط ضحكات صمودهما في وجه القوة والبطش، بدموع اليأس والاحتقان. ويستمد هذا المشهد أهميته من عمق مضمونه الذي يتناول الجانب النفسي لمشاعر الشخصية.

كما يظهر هذا الأسلوب مرة أخرى في المشهد الذي يصف فيه الشرقاوي، عودة إحدى الشخصيات (وهي شخصية دياب) إلى القرية بعد فترة احتجازه في الزنزانة، فينطلق مسرعا وهو يخترق أصوات أهله وأصدقائه الذين يحاولون الاطمئنان عليه، وكأنه لا يسمع أو يرى شيئا وقد تراجع وعيه أمام لهفته لرؤية أرضه ومحصوله. وعندما يصل يغمس نفسه فيها، ليتخلص مما لحق به من أذىً وإهانة، وينسى ما صبر عليه في سبيل تمسكه بأرضه وهو يذود عنها، فهو معها لا يشعر بالغربة، وعندها يلتمس الدفء الحنان.

في المشهدين السابقين يقترب الشرقاوي كثيرا من المكونات الداخلية لعمق الشخصية، مستخدما أسلوب وصف الوجوه والأماكن والأصوات كدلالة تحفز المتلقي على التفكير والاستنتاج. فعندما يريد الحديث عن حالة الشخصية الرئيسية في المشهد الذي يتناوله، يبتعد عن صُلْبِها ويتناول المكونات التي يتركب منها المشهد بمجمله، فيصفها بدقة وحذر، في محاولة لعكس الأبعاد الداخلية في الشخصية نفسها. كما يمكنه التحكم بسخونة الأحداث أو برودتها من خلال تكثيف اللحظة الزمنية بدرجة تعتمد على محوريتها، وإلى أي مدىً يريد لتأثيرها أن يمتد، وهذا ينطبق بشكل كامل على المشهد الذي تناول فيه عودة دياب. في حين نراه يستخدم هذا الأسلوب بالإضافة إلى اعتماده على طبيعة الحوار للولوج في المعالم الداخلية لشخصية محمد أبو سويلم من خلال كلمات عبد الهادي دون أن ينبس الأول ببنت شفة.

والذي يميز هذه الرواية أيضا هو الهدوء والتوازن، أثناء تقديم النص الروائي للحدث وامتداداته، كما اعتمد مؤلفها على التدرج في العرض، والتمهيد للقضية المحورية التي يريد إثارتها، فبدأ بعرضٍ متأنٍّ لمعاناة الفلاحين أثناء نضالهم لانتزاع حقهم الشرعي في ري أراضيهم من الاقطاعيين، ومواجهتهم للمخاطر التي تتهدد المحصول وهو على وشك القطاف، ثم اتسعت المعاناة عندما أصبح الخطر أكبر من مصير المحصول، وتحول إلى مصير الأرض برمتها، حينما اقتربت الطريق الزراعية من قريتهم، لتمر عبر أراضيهم وتبددها إلى الأبد، بهدف خدمة أراضي الاقطاعيين. غير أن هذا التوسع لم يكن طارئاً، وذلك بسبب الاستخدام المحكم لأدوات ربط سلسة ومنسجمة مع انسياب الأحداث، فلم يترك مجالا للمتلقي كي يشعر بخروجٍ عن السياق، أو كسرٍ للنسق العام الذي يحكم سير الرواية بمجملها.

كما استخدم الشرقاوي تقنية المونتاج (الزمكاني)، مما زاد من حيز المرحلة الزمنية التي تتناولها رواية الأرض، ويمكن التمثيل لذلك بالمشهد الروائي الذي يسترجع فيه الشيخ حسونة ذكرياته مع محمد أبو سويلم أثناء مشاركتهما في المظاهرات والعمل النضالي إبان ثورة 1919 ضد الانجليز. وهذا الاسترجاع يزيد من شمولية الرواية.

وفي الوقت الذي قدمت فيه رواية الأرض جميع المشاهد والأحداث التي تتضمنها بشكل مُشْبَع، أتى فيلم الأرض الذي أخرجه يوسف شاهين في العام 1970 ليحرك الصور التي صاغتها الكلمات، ويُخَلّص شخوصها من السكون الثقيل، فكان الالتزام بترتيب الرواية للمشاهد، وبالمكونات التي تتجمع منها، والأحداث التي تتخللها واضحا، إذ خلا الفيلم وبشكل لافت من أي تعديل أو تدخل محوري يتضمن إضافة أو إزالة يمكن التنبه لها. وهذا على النقيض تماما مما عرفناه عن شاهين الذي تحول إلى مخرج وكاتب سيناريو للتعبير عما يدور في ذهنه وتقديم رؤيته بالشكل الذي يريده هو.

غير أن شاهين لم يغادر عادته، إذ أضاف بعض اللمسات بشكل منسجم مع السياق العام، واستحدث بعض الدلالات المستوحاة من رؤية الرواية نفسها لتعزيز العمق المشهدي. ومن الأمثلة على ذلك، المشهد الذي يجمع الشيخ حسونة مع محمود بك، والذي قام مخرج العمل بإضافة بعض الجزئيات له، لتوسيع الأفق، وتعميق الغاية للمشهد ككل. ويمكن رؤية التدخل أيضا في المشهد الختامي للفيلم عندما جرّت الخيول محمد أبو سويلم لإخراجه من أرضه، وهو يغرس أصابعه متمسكا بها، مستخدما _أي شاهين_ الموسيقى التصويرية التي تزيد من تفاعل المتلقي واندماجه، ليضع بتلك الخاتمة جدارا من الأسئلة التي لا تنتهي أبدا.

إذن، يمكن القول إن عبقرية شاهين، تداخلت مع رؤية الشرقاوي، مما أثمر مُنْجزاً إبداعيا ذا مضمون متماسك وقوي، ورؤية تقدمية حول ذلك الصراع الدائر دائما حول الأرض بين الفلاح والاقطاعي، وهو بذلك يشكل علامة بارزة ومتجددة على درب الابداع الفني.

* باحث فني أردني

Migdady_76@yahoo.com

الرأي الأردنية في 9 فبراير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك