سينماتك

 

«رئيس الكل» جديد الدنماركي لارس فون ترير

تقنيات العبودية

زياد الخزاعي

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

المساطر التي وضعها المخرج الدنماركي الطليعي لارس فون ترير لعصبة «دوغما 95» لم تعد عشر قواعد حسب «عهد البساطة (الطهارة)» الذي أصدروه ككتيب أحمر اللون يوم الثاني والعشرين (آذار) ,1995 ورماه ترير فوق رؤوس مشاهير الحاضرين (بدلاً من إلقاء مداخلته التي لم يكتبها أصلاً) في حفل باريسي بمناسبة مرور مئة عام على أم الفنون الحداثية، بل ازدادت واحدة في جديده «رئيس الكل» (او «أب كل الرؤساء»).

فحين يقرر الثلاثي نوعية المشهد الذي سيُنجز، يتم «استشارة» الكمبيوتر في شأن أفضل الحلول (المساقط، فتحة العدسة وإطارها، نوعية اللقطة وحركة الكاميرا، البعد البؤري (على صعيد الصورة) والمرشحات، المنسوب (بالنسبة للصوت) وتداولها بين الثلاثي وصولاً إلى القرار النهائي حيث يوعز بتصوير المشهد الذي يُعتمد كنسخة نهائية لا يسمح بإدخال اي تعديلات فنية على اللون، مزج الصوت او معالجة الصورة، الى ذلك رفض ترير استخدام إضاءات إضافية (إحدى قواعد العهد المذكور أعلاه) وأبقى على الضياء الطبيعي او ما توافر منه في اللقطات الداخلية.

غياب المفاجآت

هل هي خشية أم تلاعب في الوجهة؟ للوهلة الأولى يبدو جلياً شذوذ هذا العمل ضمن قائمة افلامه، فهو كوميديا مسيسة، مباشرة الخطاب، سهلة البناء. وبسبب التقنية الجديدة ظهر الفيلم وكأن شيئاً ما يفتقد في عمقه. ليس دراماه فهي متراكبة بذكائه المعهود، وإنما في إقصائه للمفاجأة كعنصر تغييري في سرديته. وهذه إحدى أهم مبتكراته السينمائية. فمن ينسى الخطب المأساوية التي تحل ببطل «أوروبا» (جائزة لجنة تحكيم كان 1991)، ومثله موظف المستشفى الوطني الدنماركي في «المملكة» بجزئيه، او وقوع الشابة بيس بطلة «تكسير الأمواج» (الجائزة الكبرى كان 1996) في تعهد إنقاذ زوجها الذي سيقودها إلى فرش الزنا وموائد الخطيئة. وماذا عن الصدمة التي يحققها اولئك الشباب في «الهُبل» 1998 (الإنتاج الرسمي الثاني في قائمة «الدوغما» بعد «الحفلة» لتوماس فنتنبيرغ) الذين سيتبارون في تلبس الإعاقات أمام المارة ليتدارسوا ردود أفعالهم، قبل أن يدخلونا معهم في الجلسات الجنسية الجماعية كمفهوم للمداواة النفسية لكائنات العولمة الجدد! ومَن سيغفل الصدمة في كيانه حين يُبصر مشهد إعدام البطلة الضريرة في «الراقصة في الظلام» وهي تنال عقاباً غادراً يُبعد التهمة عن الشرطي الآثم، ومقارباً لها مشهد اغتصاب غريس بطلة «دوغفيل» 2003 وهي في رقدتها الألوهية قبل أن تسام العذاب على يد اعوان عصابة قتلة، رغم تفانيها في خدمة القرية التي آوتها، وهو العذاب ذاته الذي سيوصلها في الحلقة الثانية «مندرلاي» 2005 الى عزلات متراكبة بين العبودية والعنصرية والسرقات الدموية.

كل هذه الوجهات التي لا يريدها ترير ان تجتمع كمداورات فيلمية، كونه الساعي في الذهاب وحيداً وبعيداً عن زمرته وطلبته ومجايليه في اشتغالاته (فهو وضع المساطر وقفز في يم آخر) معتبراً أن كل شريط هو استفراد فني يجب أن يقوم التواصل معه باعتباره من دون صنو سينمائي.

عليه ستُفهم أسبقية الخشية من سوء تقدير المقاربة النقدية للتهكم ودلالاته في «رئيس الكل»، فالتعليقات المصاحبة. وبصوت ترير، جعلت من الشريط وكأن به شهادته الشخصية في شأن العمل وأداءاته وتراتباته المهنية وما يتبعها من منابذات ونميمة وحسد وتكالب على المناصب وخسة تآمر الموظف وتكاذبه فيما يتعلق بحرفيته او براعته في الإدارة والتعامل العام. ترير يحاول أن يلامس حدود الحيلة التي نمارسها ضمن يوميات نشاطنا الأهم في الحياة: الشغل واستغلالاته. وسؤاله هنا هو: متى يسقط انطلاؤها علينا وينتهي مفعوله؟ هل هو رهن بذكاء مكتشفها وفطنته وحذقه، ام الصدفة التي تعري زلة مرتكبها؟ بطل «رئيس الكل» لا يرتكب حماقة الحيلة وحسب بل هو يورط المحيطين به كي يعززوها في غفلة عنهم، وهو عاجز عن مواجهة اتخاذ القرار، فماذا إن كان خاطئاً؟ هل سيغفر موظفوه تذاكيه الكاذب؟ اللعبة واضحة من البداية، حينما يقدم عميلان آيسلنديان عرضاً بشراء شركته المتخصصة بتقنية الكمبيوتر والمعلوماتية، يتحوّل المبلغ إلى إغراء فاسد سيقود إلى مساومات في تسمينه (بمعنى زيادة سرقتهما واستغفالهما) وهو تلاعب لن يتحقق بوجود رئيس حقيقي (هو شخصياً). فكلما وضع الزبونان في خانة الشك بالقرار المرتقب والقائم على تردّد الرئيس المزعوم، تكون الأرقام في تصاعد مرضٍ. بيد أن الرئيس الذي خدع من حوله باعتباره مساعد الرئيس ومعاونه يتناسى ورطة موظفيه وجزعهم من فقدهم لقمة خبز عائلاتهم، ومع تصاعد تذمرهم (سنشاهده منذ الفصول الأولى للفيلم) سيتفتق نصبه على حل سيقلب الأمور داخل صالات الاجتماعات وغرف الشغيلة. إذ يكلف ممثلاً فاشلاً وعاطلاً عن العمل في تلبس رداء «أب كل الرؤساء» والدخول في المساومات تحت إشرافه. هذه الآفاق سيجد نفسه مالكاً لسلطات لم يحلم بها، يداور في اقتراحات المتنفذين في الشركة، ويستخدم صلاحيات التهديد بالطرد او الاقالة (في مشهد مناقشة شروط الإعفاء من العمل سيلكمه احدهم انتقاماً)، والأدهى نجاحه في إغواء الموظفة الحسناء الرافضة لتحرشات زملائها، والتي لا تفهم جهالته المهنية، ومع ذلك تبيح جسدها له كإثبات على تهافت فضيلة المدير المطلق الصلاحيات.

الاحتيال

نزعات الاحتيال ستُبقي الرأس الاداري وذيله يلعبان تخفيهما حتى اللحظة، التي لم تعد هناك أردية كذب يمكن ان تسترهما، فيقرر الأول الكشف عن حقيقة منصبه وزلته امام الجميع. وكما هو متوقع في مثل هذه الاعترافات سيخون الرئيس الممثل ولاءه مكذبا اياه بمنصب لا يملكه، قبل ان يقرر طرده من وظيفة المساعد! تعقد الدهشة لسان البطل وتفك الصرخات انضباطه. فهو الآن بلا سلطة ولا قرار ما لم يجد ـ كالعادة ـ ورطة أكبر للإيقاع بهذا الممثل الذي كشف عن أنياب جشعه اما الثلاثة ملايين يورو ثمن الصفقة.

سهام ترير تذهب بعيداً في تسديداتها (حسب عهد الدوغما: «إن السينما ليست وهماً»)، فالشـركة ليست حيل عمل وحسب، بل هــي مكان اجتمــاعي تتــداخل فيه جميع أحوال خطــلنا البـشري ودناءاتنا التي ستبتلع مرؤاتنا وسجايانا وطبائع ما هو بريء ونقي وشريف فينا. فالحاجة إلى المورد الذي يؤمنه الشغل وشركاته ومكاتبه، هي التي ستقودنا جميعاً إلى الامتحانات العصية لأخلاقنا وذممنا. تحامل ترير على المؤسسة التي تدير أحوالنا ومستقبلنا وتشكل بنى عائلاتنا، يقترب ـ من دون أن يكون امتداد له ـ من شبيهه الذي صادفناه في «تكسير الأمواج» حيث الكنيسة ورعاتها هي «الشركة» التي ستخون الشابة بيس وتغفل عن إنقاذها من زلتها الكبرى، على رغم احتمائها الدائم بخشب مذبحها، كما أن خيانة الممثل الجشع لتعهده تتوازى، الى حد ما، مع خيانة قرية «دوغفيل» للشابة غريس التي لن تجد بداً من الهروب نحو أمكنة وتواريخ أخرى (حسب الثلاثية الأميركية التي سينهيها قريباً بـ«فرانكلين»). وعبودية الموظفين في «رئيس الكل» تتضح معالمها المشتركة مع عبودية أهل «مندرلاي» الذين يظلون في انتظار الاعتراف المنقذ والمتشخص بكيان غريس النظيف من عنصريتها.

في «رئيس الكل» قدر معتبر من الواقعية في محيط الحدث وشخوصه، وتصل تشكيلة مشاهده الى حدود المكان داخل مكان، فكاميرا «اوتومافيشن» (لا اسم لمدير تصوير) تصور المدينة المهجورة قبل أن تتوجّه إلى البناء الزجاجي الأنيق لتقتحمه وتعسكر فيه على مدى مئة وعشر دقائق قبل أن تغادره بلقطات «بان» ارتجاعية طويلة حيث نرى المدينة ثانية كامتداد لغرف الآثام (في عمله «الراقصة في الظلام» يقسم محيط بطلته الى ثلاثة: بيتها الكابي والمعمل الحيادي وغرفة الإعدام الكالحة المعالم، وحين تحدث فورات فرحها تخرج كاميرا ترير الى الحقول وتتحوّل الغرف الى مسارح رقص). وفي هذه الأسلوبية ينأى ترير عن طليعيته التشكيلية التي صور بها الجزءين الأولين من ثلاثيته الأميركية من دون ديكور، ما عدا اكسسوارات متقشفة والكثير من خطوط الطبشور على أرضية الاستوديو الفارغ.

من دون شك فإن «رئيس الكل» يُبقى لارس فون ترير (ولد عام 1956 لأبوين يهوديين شيوعيين، قبل ان تكشف له أمه عن والده الحقيقي الذي رفض التعاطي معه، فقرر الهجرة الى الكاثوليكية. بدأ اهتمامه في السينما وهو في الحادية عشرة، وأنجز أول أعماله الأكاديمية عام 1979) على منزلة المغامر الأكبر في السينما الأوروبية المعاصرة، وهو أحد بقايا القياديين الذين وضعوا نصب ارادة موهبتهم تغيير السينما انطلاقاً من شعار عهد «الدوغما» القائل إن لها «هدفاً واضحاً في مقاومة نزعات محددة في سينما اليوم».

السفير اللبنانية في 1 فبراير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك