سينماتك

 

رحلة المهالك بحثاً عن المصير في فيلم »البلد الجميل«

شهـــادة حيــة علــى أن الحـــروب التــي تبــدأ لا تنتهي أبـداً

رؤى -براهيم نصر الله:

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

رحل الأمريكيون عن فيتنام، مخلّفين إرثا ثقيلا لم تستطع الطائرات العمودية التي رحلت على عجل حمله على متنها، إرثا لا يتعلق بالعدد الكبير من الجثث الذي ملأ الشوارع، بل بالعدد الكبير من الأحياء الذين ألقي بهم وكانوا بمثابة المخلفات لهذه الحرب الرهيبة التي عصفت بالبشر والشجر والحجر.

لكن المهزوم الفرح بنجاته، حمل معه أيضا الكثير من مخلفات انتصاره الفادحة التي كان يظن أنه حققها، يوم كان يصول متحكما بالأرض ومن عليها.

كثيرة هي الأفلام التي تناولت حرب فيتنام، وقد شكل بعضها الهجاء الأكبر للسياسة الأمريكية وأمريكا نفسها، وكانت هذه الأفلام ولم تزل شهادات كبرى حققها بعض أهم المخرجين الأمريكيين: كوبريك، ستون، كوبولا. وقد شكلت هذه الأفلام علامات كبيرة في مسيرة الاحتجاج ومسيرة الفن السابع على السواء.

وبعد سنوات من انتهاء تلك الحرب البشعة، لم تزل ثمار القسوة تنمو، عبر آلاف الأبناء الذين ولدوا لآباء أمريكيين وتم تجاوزهم كما لو أنهم جزء من مشهد الحرب الذي لا يريد أحد أن يتذكّره.

يسلط فيلم (البلد الجميل - The Beautiful Country ) إنتاج أمريكي نرويجي، الضوء على واحد من ثمار تلك الحرب، الشاب (بينه) الذي ولد لأم فيتنامية من سايغون ولأب جندي في الجيش الأمريكي. ويتتبع الفيلم تفاصيل الجحيم الجديد الذي خلّفه الأمريكيون وراءهم، والعذابات الكبرى التي يرزح تحت وطأتها هذا الشاب، بدءا من رفض المجتمع له باعتباره عنوان مرحلة لا يريد أحد تذكرها، وانتهاء بمحاولته العثور على جحيمه الخاص كخلاص أخير، عبر بحثه عن أمه في الرحلة الصغرى، من القرية إلى سايغون، وبحثه عن أبيه في الرحلة الكبرى من سايغون إلى تكساس.

لا يصور لنا الفيلم طفولة (بينه)، لكن، ومنذ المشهد الأول الذي نراه، نكتشف فيه شابا منكسرا أمام كل شخص، ولذا ليس غريبا أن تقول له الفتاة (لينغ) التي أحبته في رحلة المهالك: أنظر إلي. فيرد: إنني أنظر إليك. ولكنه في الحقيقة كان ينظر إلى حذائها لا إلى وجهها، وهذا ما كان يفعله دائما مع كل من يصادفه.

للحظة يبدو لنا حجم انكساره كما لو أنه نوع من الإعاقة، لكننا نعود ونتذكر مهارته في اصطياد السمك، خفته، وقدرته على القيام بأشياء كثيرة بإتقان، كما سيتبين لنا مع تطور الأحداث.

في المسافة التي تفصل (بينه) صاحب النظرة الكسيرة ووالده ستيف صاحب القدم الكبيرة (يقوم بدور الأب نيك نولت) ثمة مساحة هائلة من الرعب، وليس من المصادفة أن يكون الأب الذي يعثر عليه الابن أخيراً أعمى، وإلا، فكيف يمكن لابن عاش كل ذلك الانكسار أن يحدق في النهاية في عينين مبصرتين؟!!! لقد وجد ذلك الانكسار معادله الموضوعي في عينين مصابتين بالعمى، ولذا كان من الطبيعي أن يحدق فيهما (بينه) مباشرة، أخيراً، دون خوف.

لا يصور المخرج النرويجي (هانز بيتر مولاند) الجانب المشرق لأي شيء، سوى تلك العلاقة الطيبة التي ربطت (بينه) بفتاة صينية وجد نفسه إلى جانبها في معسكر اعتقال ماليزي للمهاجرين عاثري الحظ الذين وقعوا في أيدي رجال خفر السواحل لهذا السبب أو ذاك. ويعتبر دور الفتاة واحدا من أهم الأدوار، حيث تحطمت أحلامها بالوصول إلى المسارح كفنانة، وحوّلها الاعتقال إلى فتاة تبيع جسدها من أجل الحصول على أبسط شروط العيش في ذلك المعسكر.

تنمو علاقة (بينه) بها في حيز مغلق، لا يتربص الحراس فيه بالمهاجرين فقط، بل يتربص فيه المهاجرون بأنفسهم، ويكون (بينه) نفسه معاديا في نظرته لها، بسبب ما تفعله، لكن علاقة الفتاة بأخيه الصغير الذي لا يتجاوز عمره السنوات الخمس، تفصح عن حميمية وأمومة ورحمة غير عادية تسكن قلب هذه الفتاة.

لقد اضطر (بينه) للهرب، خوفا من اتهامه بجريمة قتل سيدة أرستقراطية فيتنامية متسلطة وجد نفسه يعمل لديها ماسحا لأحذية ابنها، ومساعدا لأمه التي تعمل خادمة في ذلك البيت الثري، ولا يلبث أن يكتشف أن أمه عرضة لتحرشات لا تنتهي من ابن السيدة، وأمام عينيه، في حالات كثيرة، لكن حجم الهزيمة الرابض في داخله، لا يتيح له أن يحتج أو أن يرفع بصره إلى ما هو أعلى من حذاء السيد المدلل، وهذا ما سيتكرر فيما بعد حين يصل إلى أمريكا وتتحول فتاته إلى بائعة هوى رسمية، وفي كل مرة نجده غير قادر على رفع عينيه لمجرد حتى النظر.

الانكسار إذن هو محصلة وجوهر هذا التاريخ الثقيل والشخصية المطحونة بكل أنواع الإذلال، ولذا تتحول رحلة الحلم المتمثلة في العثور على الأب إلى رحلة للوصول إلى الجحيم، ولا شيء غير ذلك، فالأم بقيت وراءه مرشحة مثالية لاتهامها بجريمة لم ترتكبها بعد وقوع سيدة البيت وموتها على البلاط المبتل، والابن الأصغر لها شقيق (بينه) ذو الحضور الجميل والطاغي يموت على متن السفينة المتوجهة إلى أمريكا، هذا الابن الذي سيتبين لنا فيما بعد أن والده هو ابن تلك المرأة الأرستقراطية، كما لو أن الأمريكيين وأثرياء سايغون يقومون بالدور نفسه: إنجاب أولاد من فتيات عامة الشعب الفيتنامي وإلقائهم إلى المجهول فاقدي الهوية والمصير. كما أن وصوله بمعجزة إلى السواحل الأمريكية، يخفي جحيما آخر في انتظاره، فالعصابات المنظمة التي تعمل على تهريب المهاجرين، تعمل على استغلالهم في أرذل المهن كي يوفوا بديونهم المستحقة عليهم مقابل نقلهم لهذا (البلد الجميل).

إن العثور على الأب، يضحى هنا معادلا للعثور على الذات، لكن (بينه) الجاهل بكل شيء، لا يعرف أن القوانين الأمريكية تعتبره أمريكياً، وفي هذا العبث، يواصل العمل أجيرا في أسوأ الظروف، إلى أن يعرف ذلك مصادفة من عدد من الشباب المقامرين.

يرسم الشاب لأبيه صورة راعي البقر الجسور الذي يمتطي حصانه ويلوّح بحبل في يده ويلقيه بمهارة حول عنق بقرة هاربة، وتوقد تكساس في مخيلته صورا كثيرة في هذا المجال، لكنه حين يهتدي لأبيه، يجد أنه أمام شخص أكثر انكسارا، محطم بسبب فقدان البصر نتيجة انفجار صندوق متفجرات في وجهه، وأن صاحب المزرعة يتحين فرصة لطرده، ولم تكن هناك فرصة أفضل من وصول عامل جديد شاب، حتى لو كان فيتناميا، لكن الابن يرفض أن يطرد العامل الآخر ويقترح أن يتقاسم معه العيش في المقطورة، وهكذا يصل الابن لأبيه.

الأيام التالية لهما معا، محاولة للتعرف على ماضي الأب وأسباب عدم عودته لاصطحاب زوجته وابنه معه (كان قد تزوج الأم في الكنيسة) لكن هذه الأيام التي تتوالى رتيبة في ذلك البر الصحراوي الفسيح الموحش، لا تعد بشيء يجعل لتلك الرحلة المميتة طعما، فالشيء الوحيد الذي نحس به أن علاقة طيبة تنمو ببطء، تحكمها الضرورة من قبل الأب الذي وجد في النهاية شخصا ما، أي شخص، إلى جانبه، ويحكمها الاختيار الذي تحول إلى قدر، لأن ذلك الشاب لا يملك حرية العودة إلى الوراء، لأنه لا يملك أي شيء خلفه.

قدران بائسان على حواف الصحراء، يؤنس الواحد منهما وحدة الآخر، ولا شيء أمامها يعد ببلد جميل أو نهاية جميلة، كما لو أن كلاً منهما قد عثر على يأسه أخيرا، يأسه الذي لا يملك شيئا سواه، ولذا انزرع إلى جانبه متشبثا به مستميتا.

بقي الإشارة هنا إلى أن الشخصيات الرئيسة كلها غير أمريكية باستثناء الدورين القصيرين المؤثرين للممثل نك نولت (الأب)، والممثل تيم روث الذي قام بدور قبطان سفينة الهجرة.

فيلم »البلد الجميل« فيلم مؤثر حقا، وهو مرافعة عميقة ضد القسوة والعنف والتحلل من المسؤولية، وهو شهادة حية على أن الحروب لا تنتهي لمجرد وقف إطلاق النار، شهادة حية على أن الحروب التي تبدأ لا تنتهي أبداً.

www.ibrahimnasrallah.com

الأيام البحرينية في 27 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك