سينماتك

 

"الـنـــــــــهــار" تـحــــــاور الـســـيــنــمــائــــي الـفـــرنـســــي كــــــلـــود لــولــــوش:

أنــا ســـارق الـمــشــــاعــر والـشــــاشـــة هي المـكــان الـوحـــيـد حـــيـث يـطــــيـب لـي أن أكــــون

هوفيك حبشيان

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

باريس...

في الخامسة من العمر، كان كلود لولوش يتأمل السماء ويسأل من أين يأتي المطر. كان يخشى أيضاً ان يقع القمر على رأسه. أفكار سوريالية توغلت مراراً في ذهن هذا الشغوف بالسينما والنساء والحياة. كان ذلك تدخلاً سافراً في شؤون الخالق وعدم ثقة به. لكن هذا الميل الى تعديل "المادة الحياتية"، بلوره لولوش الذي يبلغ السبعين قريباً، فيلماً بعد فيلم، عبر تصويره الحياة، لا كما هي بل كما يريدها ان تكون، أو كما ينبغي لها أن تكون، ضمن صناعة بصرية تعلّم أسرارها بمفرده وهو يخدم عسكريته أولاً، وعبر إنجازه اغنيات مصورة لآلة الـ"جوك بوكس"، ثانياً. مذ أستلّ الكاميرا، صوّر هذا الذي تنبذه الانتليجنسيا الباريسية منذ أكثر من أربعة عقود، الصدف وتأثيراتها في النفوس البشرية، على نحو يراوح بين الفضائحي والعادل. لم يترك شيئاً سينمائياً خارج المعاينة والاختبار: البولار، الميوزيكال، الفيلم التاريخي، الكوميديا، الدراما السوسيولوجية، الميلودراما، وخصوصاً تلك الخلطة العصية على التقليد والتي وجدت ملاذها في اسلوب بصري يجعل الكاميرا وهلوستها وسكرها المزمنين، بطلة بلا منافس. كاميرا محمولة على الكتف عرف كيف يستخدمها هذا التقني الماهر لالتقاط ما هو عفوي عند الممثلين. قاده حبّه للنجوم الى الاستعانة بكبار اسماء السينما الفرنسية (مونتان، دونوف، دوترون، ترانتينيان، بلموندو، فنتورا)، في أعمال أثارت الجدال وكشفت احياناً الهوة بين ذائقة النقاد وعنجهيتهم وما يرغبه المشاهدون الذين، وإن لم يكن كل ما قدمه لولوش من مشاريع صاخبة وفضفاضة مدار اهتمامهم، انتخبوه أكثر السينمائيين شهرة في فرنسا، متقدماً على غودار، في استطلاع للرأي يعود الى عام 1989، علماً ان ملحمته التاريخية، "البعض والبعض الآخر"، العابقة بـ"بوليرو" رافيل، أحرزت نصراً في شباك التذاكر في مطلع الثمانينات. مذ سطع نجمه في منتصف الستينات مع "رجل وامرأة" الذي نال "السعفة الذهب" في "مهرجان كان"، أجتاز لولوش التيارات كلها، بعيداً من نظام الاستوديوات، وأستطاع أن يواكب اجيالاً من دون أن يركب موجة، وخصوصاً تلك التي غيّرت مجرى السينما الفرنسية، ويصّر لولوش على اعتبارها وليدة ثورة مديري تصوير لا ثورة سينمائيين، جاعلاً من المجلة الناطقة باسمها، "دفاتر السينما"، عدوه اللدود. أوصله هذا التعنت الى ان يكون الابن غير الشرعي للسينما الفرنسية. على امتداد مساره الطويل، شغل لولوش منصب كاتب السيناريو والمنتج والكاميرامان والمونتير والممثل، وانتقل صعوداً وهبوطاً، بين ضفتين سينمائيتين، الاولى شعبية، ديماغوجية، متعجرفة، والثانية تجريبية، حميمية، مبتكرة، جادة. ولا شك في أن أكثر ما يميز هذا السينمائي هو الاستقلال في العمل الذي، اذا كان وظفه في سبيل أعمال طموحة، فقد دفع في المقابل ثمنه باهظاً. امتلاكه شركة انتاج خاصة، Les Films 13 (اسم مستوحى من عدد الاحرف اللاتينية المكونة لاسمه، ورقم جالب للحظ)، والحرية المادية واللوجستية والمعنوية التي حظي بها، جذبا اليه العيون الحاسدة، وخصوصاً ان كل ما ينجزه تتلقاه المؤسسات كنوع من استفزاز أو ضربة قدم في وكر دبابير. هذا المزعج الذي أفصح عن عشق لامتناه للسينما، أخلّ بالثوابت، عبر خوضه مغامرات فيها شيء من جنون. ورغم التجني الذي لقيه من الصحافة ("لولوش شتيمة للمهنة"،...الخ)، وايضاً رغم الانتكاسات التجارية في بعض أفلامه، يظل صاحب "مسار طفل فاسد" (1988) متمسكاً بخيارات شكلية وموضوعية شديدة التطرف، عاكساً ثقة متزايدة بالذات، ومراهناً على عنصر الزمن الذي سيجعل الحياة، ذات يوم، شبيهة بالسينما. أجرينا هذا الحوار المتشعب مع لولوش في امبراطوريته التي تضم نادياً وصالة سينما وأشياء اخرى كثيرة في باريس، حيث اكتشفنا خلف صورة "الناطور الفاخر" (هكذا يعرّف عن نفسه)، سينمائيا ذا شفافية عالية، صافي الذهن، وشخصية تتسع للكثير من الاحلام التي تنتظر ان تتحقق.

·     احتفلنا أخيراً بالذكرى الاربعين لـ"رجل وامرأة"، الفيلم الذي قاوم الزمن والتيارات. لذا، أريد ان اعاين فصولاً من مسارك، هبوطاً وصعوداً. بدءاً، نعلم انك تخليت عن الدراسة بغية السفر واجراء ريبورتاجات. هل كان ذلك بغية اكتشاف العالم أم لاختبار مهنة التصوير؟

- كلاهما معاً. لم تكن دراساتي موفقة. كانت المدرسة بالنسبة اليَّ كارثة حقيقية. وهذا ما جعل والديّ يفقدان الامل. كان مؤكداً منذ نعومة أظفاري، أن السينما وسيلة الترفيه المفضلة لديّ. في عهد الاحتلال، كانت والدتي تؤويني في صالات السينما هرباً من الغستابو، وكان المكان يشل حركتي، علماً بأني كنت صبياً شقياً. تلك المرحلة كانت الاكثر جمالاً في حياتي، وكنت امضي أياماً بأكملها في الصالات، أشاهد الفيلم نفسه ثلاث مرات أو أربعاً. بسرعة فهمت ان الناس الذين أراهم على الشاشة أكثر اثارة للفضول من ناس الحياة اليومية. كنت اجدهم أكثر جمالاً وذكاء وشجاعة. يتحلّون بالميزات التي يفتقر اليها عامة الناس. في قرارة نفسي كنت أقول ان العالم ينبغي ان يكون شبيهاً بما اراه في السينما. لذا، كانت الشاشة وسيلة لخوض غمار المغامرة من دون أن نجازف. لهذا السبب كنت قليل السعادة في كل مرة اعايش الواقع. وكنت تعساً حتى خلال العطل. عندي، العطلة الوحيدة كانت السينما. حتى الآن، السينما هي المكان الوحيد حيث يطيب لي أن أكون. أنا في حاجة الى أن ارى فيلماً كل يوم. هذا يشبه ادمان المخدرات. عشية امتحانات البكالوريا، وفيما كنت انصت الى مناقشة بين والديّ، سمعت والدي يقول: "اذا سقط في البكالوريا سأهدي اليه كاميرا". غني عن القول اني لم ابذل جهداً كي أنجح، فكان أن كوفئت بآلة تصوير 16 ملم. معها، جلت العالم. في البدء، لم يخطر في بالي اني سأتجه الى الاخراج. لم احسب نفسي قادراً على ذلك.

·         أكنت تريد التقاط المشاهد فحسب؟

- لا، بل كنت مغرماً بالكاميرا، واعتبرها شيئاً مذهلاً. أعربت لوالدي عن رغبتي في أن أكون مراسلاً. ببساطة، كان في وديّ ان اصبح كاميرامان لمادة اخبارية، فبدأت بمطاردة الحوادث في امكنة متفرقة، من بودابست الى الجزائر. كنت أعود بمشاهد ابيعها من محطات التلفزة. هكذا كسبت معيشتي في تلك المرحلة. لم أكن أجني الثروات، فقط ما يسمح لي بتغطية نفقات السفر وتسديد ثمن مواد الفيلم الخام. ذات يوم سمعت ان تلفزيوناً كندياً يقدم عشرة آلاف دولار لمن يأتيه بصور لستالين ولينين معاً، في الـ"موزوليه". اضطررت للانتساب الى الحزب الشيوعي، لأن الشيوعيين وحدهم كان في امكانهم الدخول الى الاتحاد السوفياتي السابق.

·         يصعب التصديق انك صرت عضواً في الحزب الشيوعي فقط بدافع التقاط المشهد التاريخي؟

- بلى. لم تكن الشيوعية من اقتناعاتي. انتقلت مع فريق من ثلاثين شيوعياً الى الاتحاد السوفياتي بعدما تمرنت في باريس على التصوير بواسطة كاميرا خفية. مكثت في موسكو لمدة 15 يوماً، كان ذلك في 1957، وتمكنت من جمع الرجلين معاً قبالة الكاميرا. وبما ان آلات التصوير حينذاك كانت كثيرة الضجيج، كنت لا اكف عن السعال أثناء عملية التصوير في الـ"موزولي، وطلبت الى الذين من حولي ان يفعلوا كذلك. المال الذي دُفع لي، وكان مبلغاً مهماً في ذلك الزمن، سمح لي بتأسيس شركتي هذه. هناك، في موسكو، حصل شيء غيّر مجرى حياتي: قادني أحدهم ذات ليلة الى استوديوات "موسفيلم". هناك تلقيت ما اعتبرته صدمة. شاهدت ميكاييل كالاتزوف يصوّر فيلمه "عندما تمرّ اللقالق"، فقلت لنفسي: "اذا كان هذا هو الاخراج، فإنه المهنة التي اريد ممارستها". في الليلة ذاتها، أراني كالاتزوف عشرين دقيقة من الشريط، فأجهشت في البكاء. ما رأيته جعلني أنهار. عند عودتي الى فرنسا، اتصلت بمدير مهرجان كان، وقلت له اني شاهدت فيلماً عبقرياً في موسكو. اختير الفيلم ليعرض في المسابقة، ونال "السعفة الذهب". اذاً، يعود الى هذا الفيلم الفضل في تحولي من مراسل الى مخرج.

·         عام 1960، عندما أسست شركتك، هل كنت على يقين من أنك كي تصنع الافلام التي تريدها يجب ان تشتري استقلاليتك؟

- ندرك على الدوام أقل مما نحتاج الى ان ندركه، لكن الحظ كان حليفي. اعتقد انه بعد تسريحي من الجيش، بحثت عن منتجين. كان لي مشروع فيلم، لذا، اجتمعت ونحو خمسة منتجين في باريس، ثم قلت في قرارة نفسي: اذا كان عليّ التعامل مع هؤلاء الاغبياء، فلن انجح في العمل السينمائي. لم أكن يوماً في أسر منتج أو موزع أو نظام مالي. انجزت الافلام التي اردتها على مدار أربعين عاماً، سواء أكانت سيئة أم جيدة.

·         "خاص الانسان"، أول فيلم أخرجته، ألغيته من ذاكرة السينما وأحرقت نسخته الاصلية. لماذا لم ترغب في ترك ايّ أثر منه؟

- لم يبقَ منه الا الاعلان الترويجي. تسألني لماذا؟ لأني كنت ابله: فهذا الفيلم علّمني كل شيء، وأنا ادين له بالكثير. كل نجاحاتي في الحياة انبعثت من اخفاقاتي. ليس من مدرسة أهم من الفشل. من دونه لا عذاب. ومن دون عذاب لا نتعلم.

·         تعذبت كثيراً في بداياتك، أليس كذلك؟

- آه، كثيراً. كان شيئاً قاسياً. لم يكن لديَّ المال. صنعت "خاص الانسان" من لا شيء. ساندني بعض الاصدقاء. لكن الفيلم تعرض لفشل جماهيري ونقدي لا مثيل له. تصوّر ان الفيلم لم يشاهده الا 26 شخصاً من ضمنهم المنتج بيار برونبرغر. لكنه في ما بعد، عندما شاهد فيلمي التالي "الحب بشروط"، قال لي: "أنا مستعد لأدفع مال الدنيا في مقابل هذا الفيلم". كلّفني الفيلم مئة ألف فرنك واشتراه مني بمئة وعشرين ألفا. ثم قال: "لن أوزعه في فرنسا لأن عملية نهوضك من فشله الجماهيري ستستغرق أربعين عاماً على الاقل. صنّفك النقاد مخرجاً رديئاً، لذا سأوزعه في أسوج". ونال الفيلم تقديراً كبيراً هناك، وخرج انغمار برغمان من الصالة قائلاً عن الفيلم: "انه تحفة!". اذاً، برغمان هو الذي أطلقني.

وهكذا بدأ برونبرغر يوزع الافلام التي كنت انتجها بنفسي. للمفارقة، فإن الفيلم الوحيد الذي رفض ان يوزعه هو "رجل وامرأة".

·         لكن من وجهة نظرك الخاصة، هل تعتبر "خاص الانسان" فاشلاً؟

- صرت أكرهه عندما راح الكل يكرهه، فلم أعد ارى فيه الا العيوب. ذات يوم كنت محبطاً، ووجدت نفسي امام خيارين: إما أن احرق الفيلم وإما أحرق نفسي. حدث ذلك في يوم كنت اردت لو كان في امكاني الانتحار. أعتقد أننا جميعاً نمر بأيام تقسو علينا فيها الحياة وتسد آفاق العيش.

·         لماذا كنت تمثل فيه؟

- كنا في بداية مرحلة "سينما الحقيقة"، وكان التمثيل يسمح لي بإدارة الجموع، وما كنت استطعت ذلك لو أني خلف الكاميرا.

·         تعاملت مع الجموع مراراً وتكراراً في أفلامك. هل انخراطك في الجيش يمثل وراء انجذابك الى هذا الجانب؟

- اطلاقاً. اعتقد ان ثمة ستة مليارات نسمة على وجه الارض، هذا يعني ان هناك ستة مليارات من السيناريوات المحتملة. سيد هذا الكون هو أعظم مخرج لأنه يمسرحهم كلهم، ويدع كل شخص يعتقد أنه هو البطل. كل قصصنا تدور في الجموع، لذا تراني منجذباً اليها. قصتي وقصتك وقصة الجميع تدور مع ستة مليارات كومبارس من حولنا.

·         في اي حال، تلك احدى تيماتك المفضلة: البطل في هذا الفيلم هو الكومبارس في ذلك الاخر.

- أنا دائم الاهتمام بما هو متناه في الكبر، وما هو متناه في الصغر. نحن كبشر نملك نوعين من الذكاء: الذكاء الموافق للعقل، والآخر المخالف له. الاول يعزز فينا حسّ المتاجرة والبزنس. كل حياتنا تتمحور على فكرة واحدة: "ماذا نستطيع ان نسلب الآخر؟". هذا هو العالم الذي نعيش فيه.

·     أعتقد أنه في مجمل أعمالك فضلت أن تسخر من الطبيعة البشرية على أن تعاين آليتها وتركيبتها المعقدة. هل محاكاة الواقع عندك نابعة من كونك تسلّم بالمصير الحتمي للانسان؟

- ربما، لكني لا أؤمن بالموت في مفهومه المتداول. أؤمن بأن الذاكرة لا تزول. انها مثل القرص المدمج. في كل لحظة يمكننا استعادة محتواه. اعتقد ان تاريخ الانسانية قائم على مبدأ استعادة الذاكرة. لا أؤمن بالتقمص في تعريفه الرائج، لكني شديد الثقة بالذاكرة التي يمكننا تركها في إنتاجات فنية. ثمة ألف طريقة لتوريث الذاكرة التي تصمد حتى بعد زوال الجسد. بالنسبة اليّ، ولدت الذاكرة الحقيقية عام 1895 مع ولادة السينما. قبل الصورة المتحركة كان العالم يفتقر الى الذاكرة، وكان في امكان الناس ان يحكوا ما يريدون. لا أقصد أننا بتنا نقول الحقيقة منذ ذلك التاريخ. بل ان الاكذوبة أصبحت أكثر صعوبة. إذا عرفتَ ما أقصده أقول لك مثلاً: ليتنا نستطيع أن نبحث في الارشيف الصوري لجان دارك أو معركة واترلو. في هذا السياق، أعتقد ان نسبة المغالطات التاريخية في شأن الحرب الاولى أو الثانية أقل من تلك التي تتعلق بالقرون الوسطى.

·         واجهت أيضاً الرقابة في مسارك عندما تعرض "المرأة - الاستعراض" للمنع عام 1964.

- عندما تقدمت بالفيلم الى هيئة الرقابة لنيل اجازة العرض، أقدمت على حذف 45 دقيقة منه، هذا ما ادى الى عدم عرضه في الصالات. في الواقع، لا اعتزّ بهذا الفيلم لأنه كان ميزوجينياً، وكان مخالفاً لطبعي المحب للنساء. كان فيلماً رخيصاً. انه الشريط الوحيد الذي اخرجته، وكان قائماً على طلبية. أمل المنتج بيار برونبرغر اثارة فضيحة عبر هذا الفيلم. في البداية خضعت للاغواء، ثم ادركت ان ما افعله كان مغلفاً بسوء النية، ونلت عقابي حين فعلت الرقابة ما رأته مفيداً.

·     عام 1966، صعدتَ فجأة الى قمة المجد مع "رجل وامرأة": "سعفة الذهب" في مهرجان كان، وأوسكاران في هوليوود ونحو 42 جائزة عالمية. وجدت نفسك بين ليلة وضحاها تحت الضوء بتصويرك قصة حب جميلة على شاطىء دوفيل. هل شكل الاستحسان الذي ناله هذا الفيلم الطليعي مفاجأة بالنسبة اليك، ولا سيما انه صوِّر بإمكانات فعلاً متواضعة؟

- نعم. لأني كنت خارجاً للتو من تجربة ستة أفلام لم ينل ايٌّ منها الاعجاب. تلقيت بعض الاشارات الايجابية أثناء التصوير، وحصلت بعض "المعجزات" على البلاتوه. وعندما شاهدناه قلنا لبعضنا انه لفيلم جميل لكننا لم نتوقع انه سيكون ذا تأثير بالغ.

·     تناهى الينا انك لم تكن تعلم كثيراً ماذا تفعل في موقع التصوير، ولم تكن تمنح الحوارات الى الممثلين الا في اللحظة الاخيرة. هل كان بين يديك سيناريو أو ما يشبهه على الاقل؟

- كان ثمة سيناريو ضئيل جداً، وخط درامي اتبعه. القصة قصة امرأة، وقد انطلقت من تساؤل: "هل في وسعنا ان نحب مرة ثانية؟". هذا السؤال نطرحه مراراً على أنفسنا. لي اقتناعي، واعتقد ان الحب مثل المخدر: نستطيع ان نحب مرات عدة، شرط ان يزيد ايماننا بهذا الحب في كل مرة. هذا يعني انك اذا باشرت الحب بتناول مخدر قوي جداً، لن تعرف الا قصة حب واحدة في حياتك. لكنك اذا اتبعت الاسلوب الهادىء وسرت تدريجاً فقد تغرم مرات ومرات. هذا ما طرحه "رجل وامرأة"، وهو لا يزال الى اليوم فكرة في غاية الاهمية.

·         كيف اخترت الثنائي ترانتينيان - ايميه؟

- سبق لترانتينيان أن أعرب لي عن رغبته في ان اديره ذات يوم، بعدما شاهد "فتاة وبنادق". لذا، كان هو أول من رشحته للدور، عندما بدأت كتابة قصة الفيلم. اتذكر اني عرضت يومذاك دور المرأة على رومي شنايدر التي رفضته. وفيما كنت اتحدث مع جان - لوي قلت له اني أتمنى لو تؤدي انوك ايميه دور المرأة، لكني على يقين بأن نيل موافقتها ليس سهلاً كونها تعيش في ايطاليا، وفوجئت بأنه على معرفة كبيرة بها وهمّ بالاتصال بها فوراً، ولم يتطلب الحصول على موافقتها أكثر من خمس دقائق.

أين تجد عناوين أفلامك، وهي في معظم الاحيان معبّرة وتُقرأ في اتجاهات عدة.
-
استقيها من اللغة اليومية. "المغامرة هي المغامرة"؛ "أن نذهب أن نعود"... لكن النقاد يجدون في هذه العناوين مادة للتهكم والازدراء. لم أكن يوماً من انصار "الموجة الجديدة"! قلت دوماً انه ينبغي لي ان أشكر "الموجة" لأنها دلتني الى ما كان ينبغي لي تفاديه. رواد "الموجة" جاؤوا الى السينما عبر الادب. كانت لهم مراجع. انا كانت لي خفتي، سذاجتي.

·     تصريحاتك نارية في هذا الشأن: من كل ما انجزته "الموجة" لا تعترف الا بغودار ومشهد من "الضربات الاربعمئة" لتروفو. طبعاً، انت تعزل آلان رينه عن "الموجة" وتعتبره أعظم مخرج في فرنسا في مرحلة ما بعد الحرب. هذا يبلغ عندك حدّ الاستفزاز. إنه لفضيحة.

- لهذا السبب علاقتي بالنقاد مبنية على اشكالية. فالزمن عندهم توقف في مرحلة "الموجة" التي جعلت السينما تتأخر 20 أو 30 سنة. كل الافلام التي ولدت من رحم هذا التيار اقل مستوى من الافلام التي انجزها الرواد الفرنسيون: دوفيفييه؛ كليمان؛ أوتان لارا؛ كلوزو. بالنسبة إليّ، الفنان هو الذي يبسّط الامور المعقدة. مشكلة هذا التيار انه عقّد الامور البسيطة.

·     في كل ما أنجزته من أفلام على مدار نصف قرن، حملت تحديات فيها شيء من جنون العظمة. هل الجرأة في السينما يُدفع ثمنها باهظاً؟

- تماماً. لكن هذا لا ينسحب على السينما فحسب. ما قيمة حياة بلا مجازفات؟ لاعبو كرة القدم جميعهم سيجزمون لك ان دقات قلبهم لا تتسارع الا عندما يجازفون. لا تهمني حياة بلا مجازفات. الحياة عبارة عن لعبة. أن يكون أولادي شاطرين في دروسهم أو لا، هذا لا يشغل بالي اطلاقاً. ما اريد ان يفهموه هو ان الحياة لعبة.

·         ما الفيلم الذي استمتعت الأكثر في تصويره؟

- استمتعت بتصوير أفلامي الاربعين. أربعون مرة اعتقدت اني انجز فيلم العمر. لا يمكن الاستمرار من دون هذا الوهم. لن يتحقق شيء اذا لم ننطلق من طموح بهذا الحجم.

·     "المغامرة هي المغامرة"، هو في رأيي احد أفضل أفلامك. فنتورا، بريل، دينير، وهذا الذي يصعب نسيانه ألدو ماتشيوني. يا له كاستينغ!

-(يبتسم). كان فريقاً رائعاً. عندما انجزته كان يتناسب ورؤيتي للعالم: عالم من المشاغبين والدجالين والكذابين. لكني كنت، ولا أزال، مقتنعاً بأن الحياة أجمل هكذا. تخيل لو كنا في عالم ليس فيه الا الرهبان والراهبات.

·         في اي حال، انت أيضاً Gangster في هذه المهنة: تحديت على طريقتك كل المؤسسات.

- نعم، يمكنك اعتباري سارق مشاعر. قمت بـ"هولد - اب" احاسيس، وسلبت عدداً من بنوك الانفعالات.

·         رأيناك تنهض مجدداً من الفشل الذي كان ذا ايقاع متكرر في الآونة الاخيرة. هل مررت بلحظات شك؟

- نعم، لكن جروحي تلتئم بسرعة. صحيح اني مررت بأيام كنت اريد فيها لنفسي الموت، من الصباح الى المساء. ثم، فجأة، عندما تشرق الشمس، كانت رغبة الحياة تقوى على المشاعر الأخرى. في كل مرة استطعت ان انتظر نهاية الليل، تمكنت من انقاذ نفسي. عشية كتابتي قصة "رجل وامرأة"، كنت ارغب في ان تنتهي حياتي. صعدت في سيارتي ورحت بعيداً. بعد ساعات من القيادة، وصلت الى دوفيل وركنت السيارة بالقرب من الشاطىء. اشعة الشمس جعلتني استيقظ. كانت الساعة تشير الى السادسة صباحاً. شاهدت امرأة تمشي على الرمال في رفقتها صبيّ صغير وكلب. قلت لنفسي: "ترى ماذا تفعل هذه المرأة هنا في مثل هذه الساعة المبكرة؟". لو شاهدتها ظهراً لما كنت طرحت هذا السؤال. سرت في اتجاهها وفي رأسي مئة سؤال. ثم هرعت الى أقرب مقهى وكتبت سيناريو "رجل وامرأة". تعرف تتمة القصة. اذاً، الحياة مثل نشرة الاحوال الجوية. عندما يكون الطقس رديئاً ينبغي انتظار عودة الطقس الجيد. وعندما يكون الطقس جميلاً، يجدر الاستفادة منه الى اقصى حدّ، لأن ذلك لن يطول.

·         ستانلي كوبريك أعرب في أكثر من مناسبة عن اعجابه الكبير بـ"السنة الحلوة".

- يسعدني ان يرد هذا الفيلم في لائحة افلامه المفضلة. علمت انه كان يجبر ممثليه على مشاهدته. كان كوبريك يتصل بي مرة كل ثلاثة أو اربعة أعوام، ليقول لي انه اعاد مشاهدة "السنة الحلوة" وانه كان ينال اعجابه أكثر فأكثر في كل مرة، وكان يعتبره احد أجمل أفلام تاريخ السينما. كانت علاقتي به جيدة، لأن لكل منا خلفية تقنية. لا شك في انه كان تقنياً من الصف الاول.

·         كانت التقنية نوعا من هوس عنده.

- نعم، وهذا ما جعلنا نتعارف. اتصل بي ذات يوم ليسأل عن طول صالتي، لأنه كان يرغب في تنظيم عرض لـ"باري ليندون" فيها. وكان يبدو مؤكداً من ان شروط العرض هنا كانت الافضل في باريس.

ألا تزال مقتنعاً بأنك ضحية محاكمة نيات غير عادلة وحملة مهولة يقودها النقاد ضدك؟

-(يبتسم). في بداياتي، كتب احد النقاد في "دفاتر السينما": "كلود لولوش: تذكروا هذا الاسم، لن تسمعوه مجدداً!". اعتقد ان هذا الشيء سيبقى حرقة في قلبي الى الابد. وآمل ان يتحول يوماً مصدر اعتزاز لي. من يعرف هل أكون هنا للاستفادة منه؟

·         هل صحيح انك تنام مع مسجل للصوت؟ وهل تحتوي هذه الآلة على الكثير من الافلام بعد؟

- هذا صحيح. لكني لا اجرؤ على تفريغ محتواها على الشاشة. لا أقوى على ذلك.

النهار اللبنانية في 27 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك