سينماتك

 

«أخوة» الدنماركي...

يغوص في النفس البشرية والوجود

أمل الجمل

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

عندما يُخيَّر الإنسان بين الحياة والموت. عندما يتوقف وجوده في العالم على اختيار واحد فقط، هل يتصرف بنُبل أم أنه سيُعيد اكتشاف إنسان آخر في داخله - وربما حيوان - لم يكن يعلم عنه شيئاً؟ هل التدريب على الإحساس بالألم، وعلى مواجهة الموت يحمي من الضعف والجبن والانتهازية، ومن ارتكاب الأفعال الدنيئة واللاإنسانية؟ هل الإنسان إما خيّر أو شرير، إما صح أو خطأ؟ هل يوجد في الحياة شيء واحد حقيقي يقيني؟ وإذا فقد الإنسان الثقة في نفسه كيف يثق في الآخرين وفي الأشياء من حوله؟ أسئلة ربما نعثر على إجابات لها عند مشاهدة الفيلم الدنماركي «إخوة» للمخرجة سوزان بيير التي قدمت للسينما العديد من الأعمال المتميزة من بينها «فرويد يترك المنزل» (1990)، «شؤون عائلية» (1993)، «كما لم تكن من قبل» (1995)، «عقيدة» (1997)، «الأول والوحيد» (1999)، «مرة في العمر» (2000)، «قلوب مفتوحة» (2002)، والآن «إخوة» 2004 الذي أكدت فيه المخرجة نجاحها كامرأة مبدعة قادرة على الإبحار تحت جلود البشر، وعلى كشف خباياهم العظيمة.

يحكي الفيلم عن اثنين من الأخوة يتبادلان الأدوار فيتغيّر كل منهما إلى الأبد. ميشيل الأخ الأكبر هو ضابط في الجيشِ الدنماركي. يعيش حياة سعيدة مع زوجته سارة وابنتيهما. كان في نظر عائلته - الصغيرة والكبيرة - نموذجاً للإنسان القوي الناجح المثابر الذي لا يستسلم ولا يضعف. جانيك هو الأخ الأصغر الذي لم ينجح في شيء، متهور، دائماً في حالة سكر، خرج مؤخراً من السّجنِ بعد سرقته أحد المصارف والاعتداء على إحدى العاملات فيه.

يرسل ميشيل وفِرَقته العسكرية - عقب انهيار مركز التجارة العالمي في نيويورك إِلى أفغانستان ضمن قوات حفظ السلام الدولية. مع هذا علينا ان نلاحظ ان الفيلم لا يدور حول الحربِ في أفغانستان بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، لكنه يتخذ من الواقعة مجرد ذريعة لكشف الإرهاب الحقيقي الكامن في نفوس البشر، والمختبئ في العالم الصغير للأسر العادية وربما السعيدة.

يقع التحول المأسوي في شخصية ميشيل، بعد ذهابه إلى أفغانستان. هناك تُفجّر طائرته فيُعلنون وفاته. لكن الحقيقة أنه لم يمت، لأنه هو وأحد أفراد فرقته وقعا أسيرين في أيدي المقاتلين الأفغان. تجمع فجيعة فقدان ميشيل بين الزوجة والأخ فيَنْمو العطف المتبادل بينهما. نكتشف أن جانيك كان يخبئ حباً دفيناً لأخيه، وإكراماً لذكراه يسعى لرعاية أسرته، وتحقيق كل أمنياته قبل فقدانه، لذلك يذهب إلى تلك المرأة التي اعتدى عليها أثناء سرقة المصرف ويعتذر لها، ويُطمئنها بأنه لن يُؤذيها ولن ينتقم منها لأنها تسببت في القبض عليه. يتحول جانيك إلى شخص آخر، شخص قادر على تحمل مسؤولية نفسه ورعاية عائلة أخيه· يُصبح مرحاً يقضي وقتاً طويلاً مع الطفلتين فيقترب أكثر من الزوجة سارة.

في حين يخضع ميشيل - المُدرب ذهنياً ونفسياً على الأعمال التخريبية وعلى وحشية الحرب - لمساومة الأفغان على حياته، فيُوافق على تدريبهم على استخدام السلاح الجديد الذي وقع في أيديهم، يُخيرونه بين أن يقتل هو زميله الذي رفض تدريبهم وبين أن يُقْتلا - هما الاثنان - على أيدي الأفغان. هل حقاً خيروه أم أنهم أرغموه؟! أمام خيار الحياة أو الموت هل يفعل ميشيل ما كَانَ سيفعله أي إنسان آخر في مثل تلك الظروف؟ وأيهما ينتصر النُبل أم غريزة البقاء وسلطان قانون الوجود؟

الغفران المستحيل

يعود ميشيل إلى دياره. لكنه لا يستطيع أن يغفر لنفسه، فالندم أصبح مُستحوذاً عليه. يشعر بأن لا شيء له قيمة. يُصبح غير قادر على الحكي. يَحْفظُ سره المؤلم في أعماقه. يعجز أن يُشرك أحداً فيه حتى زوجته. وسرعان ما ينتابه الشك في وجود علاقة بين سارة وجانيك خصوصاً بعد رؤية التحول الإيجابي في شخصية الأخير. يُصبح العائد من الموت صامتاً كئيباً مُراقباً لكل إشارة تصدر عن الآخرين خصوصاً الزوجة والأخ. يطاردهما ليعرف الحقيقة... هل كان ميشيل يفعل ذلك هرباً من الماضي القريب الذي يُنغص عليه حياته ويقوده إلى حافة الهاوية؟ ربما. لكن توتره المتزايد يُصبح مُنذراً بتدمير سعادة أسرته. يتصرف كالمجنونِ، يُعامل ابنتيه بقسوة. وطفلتاه لا تُدركان سبباً لذلك التحول في شخصيته فتكرهانه وتنبذانه، تُفضلان لو لم يعد من الحرب، لو أنه ظل ميتاً للأبد. ذلك ما تُعلنه الطفلة الكبرى له أمام جميع أفراد الأسرة، وتُفصح عن رغبتها في أن يُصبح جانيك هو والدها.

هل يعد ما سبق إرهاباً من وجهة نظر الأطباء النفسيين؟ وماذا يتوقعون إزاء إنسان كان عاشقاً ثم قَتل زميله ليُنقذ حياته، ففقد الثقة في نفسه. وعندما عاد إلى بيته شعر بأن عالمه الحميمي يلفظه، وبأن أسرته تُفضل عليه شخصاً آخر كان فاشلاً. هل يُصبح من المستبعد أن يتحول المُحب إلى مجرم قاتل لزوجته، وبناته؟

كل شيء محسوب

حصد الفيلم عدداً من الجوائز الأوروبية، لم يأت ذلك من فراغ. فلا شيء في الشريط السينمائي لـ «أخوة» يرجع إلى الصدفة. كل شيء محسوب بدقة، فالموسيقى أسهمت، بقوة، في التعبير عن سير البطل حثيثاً إلى حتفه وقدره المحتوم. والطفلتان نجحتا في تقديم أداء تلقائي وصادق، ومثلهما أصحاب الأدوار الرئيسية: كوني نيلسن في دور سارة، أورليش تومسن في دور ميشيل، نيكولاي لي كاس في دور جانيك. ويلفت قبل كل هذا السيناريو المتُقن في حبكته والذي كتبه أندريس توماس جينسن.

يرصد السيناريو التحول التدريجي للأخوين بشكل تلقائي، بدءاً من خروج الأخ الأصغر من السجن، وانتهاءً بدخول الأكبر إليه، مروراً بجانيك وتحوله من إنسان فاشل إلى آخر مسؤول، وصولاً إلى محنة ميشيل المروّعة في الصّحراءِ والتي جعلته يَخُونُ كل شيء كان يؤمن فيه. هناك أسباب قوية وراء الانقلاب في شخصية الأخوين. مع ذلك فإن شخصية جانيك لم يحدث لها تحول جوهري بقدر ما نالت فرصة كافية لإظهار الجانب الإنساني فيها. ربما يكون الفقدان، وربما يكون الحب، لعب دوراً رئيسياً في إضاءة ذلك الجانب المُظلم من شخصية جانيك. لا شيء يأتي من فراغ، فالأكيد أن الغياب المستمر للدعم النفسي من المحيطين به، وأن المقارنة المجحفة والمستمرة بينه وبين أخيه المتفوق، ساهمت إلى حد بعيد في انحراف سلوكه، ألم يكن ذلك نوعاً آخر من الإرهاب النفسي؟

يبدأ الفيلم وينتهي بلقطة مكبرة لعينين تنظران من خلف الجدران، ولقطات متنوعة لعدد من أغصان النبات وأوراقها تتمايل بفعل الرياح، ومن خارج الكادر نسمع كلمات - نفهم ضمناً أنها من ميشيل إلى زوجته - تقول: «سأظل أُحبك دائماً، إنها الحقيقة الوحيدة الباقية... الحياة ليست صح وليست خطأ... ليست خيراً وليست شراً... لكنني أحبك، هذا كل ما أعرفه».

على مدار 110 دقائق - هي مدة الفيلم - نتابع الأحداث كأننا نتلصص من خلف جدار، كأننا نسترق النظر إلى الأعماق الدفينة للأبطال، فنرى الإرهاب الكامن في أعماقهم جميعاً من دون استثناء. يعتمد الفيلم على أسلوب «الفلاش باك» (العودة للماضي) لكن في شكل غير واضح، من خلال استعادة البطل مسار أزمته، وقدرته في نهاية الفيلم على أن يبوح بسره إلى زوجته. كانت عيناه - منذ بداية الفيلم وحتى نهايته - كأنهما تخترق جدار الزمن الماضي، فنرى من خلالهما كل ما حدث له، وتُثيران فينا علامات الاستفهام: هل حقاً أصحاب المبادئ والقيم الحرة قادرون على التمسك بمزاعمهم على أرض الواقع؟ أم سيسقط ذلك القناع في ظل مواجهة أول اختبار، فيُعرّي زيف ادعاءاتهم، كاشفاً عن صورتهم الحقيقية، مُعلناً عن فشلهم في مواصلة دور أتقنوا أداءه في تلك المأساة؟ يُؤكد الفيلم بوضوح أن المحن والأزمات التي يمر بها الإنسان تقضي على البعض وتُدمر حياتهم، لكنها ربما تصنع حياة أناس آخرين ومجدهم. مع ذلك يبقى سؤال: هل كل انكسار يمر به الإنسان «القوي» يُمكن مداواته؟ أم أنه يظل هناك شرخ في الأعماق لا يمكن له أن يلتئم حتى في ظل جراحات التجميل المتطورة جداً؟!

الحياة اللندنية في 26 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك