"كيف الحال".. بعد أن هدأ الضجيج؟ أسامة جاد |
صفحات خاصة
|
يطرح الفيلم السعودي "كيف الحال" لمخرجه (الكندي من أصل فلسطيني) "إيزيدور مسلم" العديد من الأسئلة الإشكالية تتعدى ما أثير حوله بما يتعلق بهوية الفيلم وجنسيته، فمن ضمن الأسئلة التي يطرحها الجدل: هل يجوز أن نفرض فنًا على مجتمع يرفض هذا الفن؟ وكيف يكون هناك دور اجتماعي لفن من الفنون في الوقت الذي لا توجد فيه حاجة مجتمعية لهذا الفن في هذه الدولة أو تلك؟. صدمة الفن دلالة ذلك ظهرت رغم ما رافق الفيلم من أجواء احتفالية كبيرة باعتباره أول إنتاج سينمائي سعودي، في حين لم يجد دار عرض سينمائية واحدة لتقديمه في المملكة العربية السعودية. خاصة أن السينما كفن وكعادة مشاهدة لا تزال منظورًا لها كأحد المحرمات. السؤال يجيب عنه المخرج اللبناني "أسد فولادكار" بأنه لا بد للفن من أن يُحدث نوعًا من الصدمة في المجتمع الذي ينطلق منه ويمثله؛ سعيا لتحقيق الهدف الأصيل للفن، وهو إحداث تغيير مجتمعي نحو الأفضل، وهو ما يطلق عليه "التنوير". ولكن السؤال يبقى قائما: هل فن وارد على المجتمع من خارجه يصلح لتغيير المجتمع من الداخل؟ وهل يصلح من يرى المجتمع وفق رؤى قد لا تكون صادقة تماما، وإنما هي افتراضية، وشائهة في أحايين كثيرة، للتعبير عن هموم هذا المجتمع وحاجاته؟ أي هل يصلح من لم يكتو بنار الظروف الاجتماعية المعيشة للبكاء من جراء الألم المعيش؟. سؤال معلق ولا إجابة شافية تماما...!. أحد مؤشرات أهمية هذه الأسئلة هو الفيلم ذاته، جوهره ومضمونه الذي بدا باهتا وفاقدا لخصوصية مجتمع يفترض أنه يعرضه ويتناول تفاصيله، وهذا ما سنعرض له لاحقا. إشكالية الريادة أما السؤال الأخطر فهو إذا كان مقبولا استيراد السينما إلى المملكة فبأي حق يتم غض النظر عن الفيلم السعودي الأول بالفعل إنتاجا وإخراجا: وهو فيلم "ظلال الصمت" لمخرجه السعودي عبد الله المحيسن، والذي عرض في القاهرة منذ زمن، وكان أكثر سعودية بالنظر للتمويل والإخراج ومشاركة بعض الممثلين وإن كان موضوعه غير مرتبط بمكان بعينه، وإنما يصح أن ننسبه لأي دولة في عالمنا العربي بامتداده؟. فمناخ الفيلم أرضًا وفضاءً وشخصيات هو مناخ عربي "شامي" أكثر منه سعودي حتى بوجود الشخصيتين المعروفتين عبد المحسن النمر ونايف خلف. وعلى الرغم من أن تيمة الفيلم تتمحور حول العلاقة بين الفرد والسلطة فإن طبيعة هذه العلاقة الاستبدادية تكاد تنعكس على المواطن العربي في العراق والشام ومصر وبلدان المغرب العربي أكثر من انعكاسها على المواطن في دول الخليج العربي الذي يعاني من وطأة السلطة بدرجة أقل من شقيقه في البلدان العربية الأخرى، وهذا لا ينفي وجود الظلم والاستبداد في دول الخليج العربي. وقد قارن بعض النقاد أجواء "ظلال الصمت" مع فيلم "وطار فوق عش الوقواق" للمخرج التشيكي ميلوش فورمان، ورأى بعض آخر أوجها للتشابه مع ملامح رواية "1984" للروائي البريطاني "جورج أورويل" الذي أبدى تشاؤمه الكبير من طبيعة العلاقة الإشكالية القائمة بين الفرد والمؤسسة، حيث تفرض المؤسسات هيمنتها المطلقة على الفرد في أغلب دول العالم. السؤال الأخير ترجع أهميته لإشكالية الريادة، كما يشير الناقد والكاتب السعودي "ناصر الخطيب"، باعتبار أننا نتحدث عن أول فيلم سعودي بعد مرور 119 عاما على اكتشاف الفن السابع في العالم؛ الأمر الذي ستكون معه المحاولات الرائدة بمثابة مساحات ضوء تتجذر في تاريخ الفن في المملكة. وقد نتفق تجاوزًا لمزيد من الجدل في أن "ظلال الصمت" للمحيسن أول إنتاج سعودي على الإطلاق، و"كيف الحال" أول فيلم سعودي يعرض على مستوى جماهيري. ثلاثة أجيال في كوميديا خفيفة بعيدًا عن الأسئلة يلقي "كيف الحال" الضوء على مجموعة من الموضوعات التي تمس جانبا من حياة الشباب السعودي بكل طموحاته وتطلعاته، وذلك في قالب كوميدي اجتماعي خفيف، راويا قصة خفيفة تدور في معظمها في أجواء مرحة، حول أسرة سعودية تجمع بين أجيال ثلاثة. هناك الجد وهو رجل متقدم في السن إلا أنه أبعد ما يكون عن التزمت، بل ينافس أحفاده في ألعابهم، يهوى ممارسة الرياضة على طريقته الخاصة، ويشجع حفيده على تصوير فيلم، ويتمتع بخفة ظل وروح مرح واضحة. وهو بذلك حاضر بقوة في حياة الأسرة، يدعم ويشجع ويبارك الاتجاه للفن، ويهوى الغناء ويمتلك موهبة النكتة. أما الأب فهو ليبرالي متفتح يؤمن بتعليم ابنته وامتهانها عملا، ويتيح لها قدرًا كبيرًا من الحرية، ويناقش زوجته في هدوء، ويبدو متدينا من دون تزمت أو تطرف. غير أن للأسرة ابنا ثانيا متزمتا يميل إلى العزلة والانطواء، يرغب في تزويج أخته من صديق له من أصحاب الأفكار المتشددة. أما ابن العم "سلطان" فهو شاب متحمس يريد أن يقدم مسرحية تجريبية مهما كان الثمن ويحب ابنة عمه التي يرغب شقيقها في تزويجها لصديقه المتزمت، كما يريد أن ينتج فيلما ويمتهن الإخراج، وهو أمام صعوبات الواقع السعودي يعاني ليكون مصيره التسكع مع أصدقائه في الشوارع والأسواق التجارية. وأمام هذه الثنائية تحدث المشاحنات التي تتطور إلى أحداث عنف بين أبناء العمومة بأن يترك "سلطان" منزلهم، فيما يحاول الثاني فرض وصايته على شقيقته بالقوة، وليبدأ مع صديقه المتشدد في مراقبة سلطان الذي يحاول تأسيس فرقة مسرحية ليدبرا له مكيدة لتوريطه في قضية مخالفة قوانين المملكة، وعلى أثرها يعتدي المتزمت على سلطان ليكون مصيره السجن. قبل ذلك تلتحق الفتاة بالعمل في صحيفة يومية، سرا، وتبدأ بإعداد تحقيق صحفي عن مجموعة الشباب السعودي الساعي لتأسيس فرقة مسرحية وهي ذاتها فرقة ابن عمها (سلطان). الفتاة التي تتخذ اسما مستعارا لها تنشر تقريرا صحفيا تدافع فيه عن حق الشباب في تكوين الفرقة، وتدعو إلى تعديلات في التشريعات بحيث تسمح بقدر من العصرنة لمكافحة البطالة والتسكع واللجوء إلى التطرف فما يكون من شقيقها إلا محاولة مهاجمة الصحفية ليكتشف أنها شقيقته بل ليراها مع سلطان الذي ذهب ليشكرها على المقال دون أن يعرف أنها ابنة عمه والتي يحبها. يصل الفيلم إلى الذروة وتتوتر الأجواء كثيرا قبل أن تنفرج بعقد مصالحة بين الشابين في السجن باستعادة ذكريات الطفولة ليصبح المتطرف أكثر ميلا للاعتدال وتقبل أفكار سلطان ورغباته الفنية!. مصالحة شكلية لموضوع معقد تجربة "كيف الحال" تطرق على استحياء شديد وببساطة تصل لحد السذاجة موضوعا من أكثر المواضيع تعقيدا في سياق الظروف الخاصة داخل السعودية. وهو بذلك لا يصل لدرجة إثارة وطرح التساؤلات فكيف سيكون قد أجاب على بعضها أصلا. سوف يتساءل البعض: إذا كانت أغلبية الأفراد داخل الأسرة الواحدة على كل هذا النحو من التفتح والتسامح والانفتاح على الدنيا (الجد والأب والأم وأحد الولدين والفتاة)، فما هي المشكلة إذن؟. يظل التشدد محصورا في الفيلم في شخص واحد فقط هو الشقيق الذي يحل مشكلته بشكل أقرب إلى السحر بعد أن تتعقد الأمور وتصل إلى درجة من العنف. وهنا يعقد مصالحة زائفة، وغير مقنعة دراميا في تحول الابن المتشدد إلى شخص متقبل للأفكار الجديدة وحتى بأداء تمثيلي ركيك يستخف بعقل المشاهد. كما يعرض الفيلم كيف يصاب الأب بأزمة صحية طارئة بعد أن يعرف بما ارتكبه ابنه المتشدد من اعتداء على صديق الأسرة وعلى شقيقته، لكن هنا يفشل حتى في خلق تعاطف مع هذا الليبرالي الذي يبدو مزيفا عندما نرى أنه لم يهتم بحادثة الاعتداء على ابنته وسلطان بمقدار ما اهتم بعمل ابنته دون علمه وإذنه. وفي مشهد ذي دلالة خاصة، تسرع الابنة إلى نقل والدها إلى المستشفى بالسيارة دون أن يسعفها الوقت لارتداء غطاء الرأس الذي نراها تخلعه بمجرد أن تخرج من الحدود المكانية للمملكة لترتدي أزياء حديثة بقبول والدها وأسرتها وبامتعاض شقيقها المتشدد. وعلى الفور يطاردها رجال الشرطة لنرى تصالحا بين الشرطة وقيادة المرأة للسيارة ولو على مضض. فروق الرغبة.. والواقع ومهما حاول كاتب القصة الناقد السينمائي "محمد رضا" التأكيد على أنه رغب من قصته في مساعدة المشاهدين، في كل مكان، على إدراك أن الأسرة السعودية تعيش المتغيرات بعمق، وأنها لا تؤيد الإرهاب والعنف، سيظهر بوضوح الفرق بين تلك الرغبة في تشكيل صورة يريدها منتجو الفيلم لتعبر عن دلالات ورسائل سياسية والواقع الذي يتراكم خوف كبير في كشفه قبل معالجته. هذا الفارق الكبير بين الواقع والرغبة الفوقية من الجهات التي تقف خلف الفيلم والبعد عن التناول العميق والجاد لقضية معقدة بدا واضحا في الفيلم ذاته ليظهر موضوعه الأساس تائها وسط مشاهد عديدة تمتلئ بالرقص والموسيقى والغناء والضحك. حتى كلام منتج الفيلم "أيمن الحلواني" الذي أشار إلى أن الفيلم يهدف للتعبير عن المجتمع السعودي وما يحدث من تغيير في أسسه بتقديم نوعين من الناس يحاولان العيش بشكل متواز في وقت واحد. سيبدو هذا الكلام فاقدًا الكثير من قيمته لمشاهد متفحص يرى أن الانحياز لنمط معين جاء على حساب الواقع وتفصيلات الحياة وبنى المجتمع الاجتماعية والدينية. ربما أضحك الفيلم الناس، لكن المؤكد هو أنه لم يؤثر فيهم، حتى في موضوع التعاطف مع الفن ذاته، وهو إذ يستحضر صعوبات تواجه شابا يريد أن يقيم مسرحا في بلد هو في حقيقته يشهد تناميا في حركته المسرحية منذ 15 عاما. يفشل في خلق تعاطف ما مع "سلطان" ومشروعه الذي قدم منزوعا من أفكار وقضايا جادة يريد أن يعالجها، اللهم إلا أنه يريد أن يعمل مسرحا تجريبيا والسلام. فتكتسب تلك الإشكالية أهمية إذا ما حاولنا فهم طبيعة المجتمع السعودي أولا، وهدف الفيلم ثانيا. والاستقبال السعودي للفيلم الذي لم يكن بالقدر ذاته من الاحتفائية المبالغ بها التي استقبل بها عربيا ودوليا. **ناقد فني مصري. إسلام أنلاين في 22 يناير 2007 |