جاسم المطير |
صفحات خاصة
|
من المؤسف أن السينما العربية، الروائية والتسجيلية لا تريد أن تنهض وفق ما يقتضيه دورها الإنساني في هذه المرحلة من التطور التي يشهدها العالم. القليل جدا من السينمائيين العرب يفلحون أحيانا في الإفلات من قبضة الهشاشة والسطحية بتقديم بعض الإنتاج الحاذق متحدية التصورات أو الآراء المسبقة. أحاول أن ألامس، هنا، قضية احد الأفلام الذي كنت قد قرأت عنه لكنني شاهدته أخيرا. الفيلم عنوانه 'دنيا' أخرجته امرأة فرنسية لبنانية الأصل، هي جوسلين صعب. هذه المحاولة وفق المعنى العام، من وجهة نظري، من المحاولات التي تؤكد نوعية مريحة لدى المشاهدين بدخول المرأة إلى الحدود السينمائية التي ظلت حكرا على الذكور لزمن طويل. من اللافت في هذا الفيلم انه يهتم بحقوق المرأة العربية أو المسلمة بحيث يتوافق مع الحدود البيولوجية للأنثى ومع إنسانية المرأة ذات القدرة في تحقيق المساواة مع الرجل. بمعنى أوضح ومباشر أشير إلى أن الفيلم تناول قضية 'ختان البنات'. وهو موضوع اعتبرته بعض الأوساط في مصر خروجا على المنطقة المحرمة..! أي من الحرمات الاجتماعية. فيما رأى البعض الآخر في إظهار الفيلم للمناطق العشوائية في مصر نوعا قصد به الإساءة إلى جمهورية مصر، بينما علق فريق ثالث على كون بطلة الفيلم راقصة وهو أمر اعتبره الكثيرون إساءة متعمدة للشعب المصري. لم يبق الجدل المثار حول الفيلم مقتصرا على مصر بل هو أثار الجدل في كل مكان عرض فيه سواء في المهرجانات أو خارجها في باريس ومصر والولايات المتحدة الامريكية وكندا، وفي مهرجان قرطاج والقاهرة. الجدل الأساسي أثير ويثار حول النقطة المركزية في السيناريو الذي كتبته جوسلين صعب نفسها، وأعني موضوعة 'الجسد' ونظرة الإنسان العربي إليه وعلاقته به، وموضوع الجسد كان ومازال من اكثر الموضوعات استبعادا للمحاججة العلنية كما أن العديد من الأفلام والمسرحيات وحتى كتابات الأدب القصصي العربي ظلت قاصرة عن هذا الموضوع او انه يستخدم بأطروحات ملتوية. لم تقبل جوسلين صعب بهذا الواقع السينمائي العربي فأقدمت على الحياة الطبيعية في العلاقات الإنسانية التي تحاول الثقافة المتخلفة إخفاءها وإبقاءها من دون مناقشة فكرتها وتداعياتها العامة والخاصة أو الابتعاد عن محاولة إدراك عناوينها الأخلاقية المختلفة. تناولت في فيلم 'دنيا'، وهو ينتمي إلى نوع أفلام الدراما الكوميدية الغنائية، اسلوبا خاصا اعتمد على جر انتباه المشاهدين والاحتكام إلى نتائج علاقة ثلاثة نماذج لثلاث نساء برجالهن وتأثير الختان المنتشر في مصر على العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وما يلحق بالمرأة من أضرار بيولوجية وإنسانية وسيكولوجية نتيجة هذه العملية. وقد قدمت المخرجة شكلا من أشكال رؤيتها في معالجة مجموعة قضايا شائكة، منها الختان وعلاقة المرأة العربية بجسدها ورغباتها الجنسية وما تتعرض له من كبت وتطويع من قبل المجتمع طيلة حياتها. كما تضمن الفيلم دفاعا عن الحرية الشخصية، وبين الآثار النفسية والجسدية التي تنتج عن الختان. موضوع الفيلم يمس شريحة كبيرة من النساء في مصر خصوصا اذا علمنا انه وبحسب دراسة لمنظمة العفو الدولية وال UNDP تبين ان 97% من النساء المصريات تعرضن للختان في طفولتهن و 71% من النساء يعتقدن أن هذا التقليد يجب أن يستمر. ركز الفيلم على طالبة اسمها دنيا تحب الرقص وتتزوج من رجل يحبها لكنها لا تجد المتعة إلا مع أستاذها محمد منير. وقد أوجدت جوسلين بهذا التمييز في علاقة المرأة برجلين نوعا حيا من العلاقات الاجتماعية المتداخلة في المجتمع العربي والموجودة بخفاء تام غير قادر على تمييز وتحديد الأسباب الحقيقية بين قدرات الاستمتاع الجنسي وبين الإشباع وبين الممارسة ذات الألم والمعاناة وهي النوع الأكثر تعقيدا. الفيلم من تمويل فرنسي وصور في القاهرة والأقصر. لعب ادوار البطولة فيه فنانون مصريون بينهم حنان ترك فى آخر أدوارها قبل ارتدائها الحجاب والمطرب محمد منير وفتحي عبدالوهاب وعايدة رياض وسوسن بدر ويوسف إسماعيل وخالد الضاوي. من المؤكد ان انضمام هذه المجموعة من الممثلين المصريين منح الفيلم قوة فنية إضافية الى جانب جرأته في تناول القيمة الذاتية للإنسان التي تأتي من ضمنها جرأة جوسلين صعب في البحث عن الكرامة الذاتية للمرأة بلغة سينمائية شفافة ومباشرة تعرف الوصول الى قلب وعقل المتفرج من خلال المواقف الصعبة التي قدمتها المخرجة بعقلانية. استخدمت المخرجة المشهد الأساسي في الفيلم 'الختان' كنقطة محورية رمزية تعبر عن وجود ختان فكري وعقلي في المجتمع.. وقد اعتمدت على ذكاء المشاهد في المقام الأول.. والفيلم لا يدعو إلى الانحلال كما يرى البعض الذين يريدون أن نستكمل مسيرة دفن رؤوس الفنانين السينمائيين في الرمال عما يحدث في الواقع المرئي وفي الواقع المخفي على حد سواء. يبدو أن المخرجة تعمدت التركيز على دور 'حركة الجسد' عن طريق المشاهد الراقصة كوسيلة من وسائل التعبير والتوصيل، أو كما عبرت جوسلين صعب نفسها ذات يوم في تصريح صحفي بالقول: 'أنا اخترت الرقص لأنه لغة سينمائية جيدة.. وأنا أعشق الرقص بل كنت أتمنى أن أصبح راقصة أو أن أتعلمه، خاصة أن الرقص يحمل في طياته نوعا من الفلسفة، كما أنني لم أبرز الرقص بالشكل الذي يستحق الهجوم علي فقد قدمت على الجانب الآخر محمد منير وهو مثقف مهتم بالفلسفة وقدمت وليد عوني لإثبات أن الجسد يمكنه أن يبدع لغته الراقية من خلال الرقص، وقدمت أيضا الرأي الرافض للرقص من خلال الفنان فتحي عبد الوهاب.. وهذه موضوعية تنفي عني هذه الاتهامات'. ان فيلم 'دنيا' يمكن تصنيفه ضمن الأفلام القادرة على استجلاء المستويات الفكرية المختلفة وكشف المشاعر لتنمية الوعي الذاتي للمشاهد العربي للإحساس بمختلف المشاكل التي تواجهها المرأة العربية التي لا يمكنها تفادي التعقيدات الكثيرة في حياتها. القصة العراقية في 21 يناير 2007 |