سينماتك

 

الوعد الدموي في «موسم جاف» للتشادي محمد صالح هارون

نداء الدم في مواجهة نداء الحياة والثأر الرمزي يتحوّل إلى خيانة

زياد الخزاعي

 

 

 

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

 

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

 

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

 

أرشيف

إبحث في سينماتك

 

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

 

سينماتك

 

إنه موسم الثارات. زمن المُعاقِبين الذين لن تقف أمام عزائمهم في إصابتها وإدراكها روادع أو وُزَّاع. هؤلاء عليهم السير حتى اكتمال القدر الذي يبغي الدم مقابل الدم. لا فرق لديهم إن تحقق الثأر بنصل أو رصاصة أو حبل مشنقة، فالمهم أن الجزاء وكسوته الانتقامية هما المأمولان في رد الغيّ الذاتي وتهدئة خواطره.

لكن، أين يقع الضمير في هذا الخَطب الذي يأخذ أشكالاً تبدأ بالفردي ويتعمّم حتى يصل الى هوس جماعي؟ في بداهته، يكون مضمراً بين الواجب وأوامره التي يجب ألاّ تُعصى أو تُغفَل، والقناعات التي ما زالت تنوس بين التردّد أو مخافة القانون وعقوباته. البطل الفتى في «موسم جاف» للتشادي محمد صالح هارون هو نموذج يحمل كفنه الدرامي من الخانة الأولى، ليحيله في الأخرى الى بُرْدة أخلاقية شخصية تمنعه من التحوّل الى قاتل بالتكليف. وهو، بذلك، يوائم كينونته مع المتغيّر السياسي الذي نسمع نداءه عبر المذياع. فمع إعلان المدعي العام قانون العفو الشامل عن مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في خلال الحرب الأهلية في البلد، تكون الأمة التي يحاصرها الجفاف والفاقة ورصاص أمراء الحروب والعشائر قد سعت نحو الأمان. بيد أن الجدّ العجوز (خير عمر ضيف الله) الذي يُفتَتح الفيلم بجلسته البطريركية وسط الرمل، عزم على تطبيق قانونه وسَنه على حفيده حاتم (أداء عفوي لعلي باشا براكي). فعماه الفيزيولوجي (كضرير) يمتدّ الى عمى إرادته (كمنتقم)، ويُرغم الفتى على استكمال الدم المغدور لوالده الذي صُفّي على يدي جلاد قبل ولادة البطل.

تكمن المفارقة في أن حاتم لا يعرف عن ضحيته سوى الاسم. يقوده حدس قدري إلى موقعها. يسير الفتى مسافات صحرائه الطويلة، قبل أن يجد نفسه أمام نظرات جندي ذي سحنة وحشية داخل حافلة (تقع مناكفة قصيرة بينهما). إذاً، كل شبيه بهذا هو قاتل والده. يأخذ الظّن بحاتم وهو يراقب سطوة العسكري وخنوع السائق، أي الثنائية الشهيرة في العالم الثالث وشوارعه. براءته تُمتحن سريعاً عبر لقائه بشاب حيوي الإيقاع، نكتشف لاحقاً أنه أفّاق صغير، يعلّمه فنون السرقة الوضيعة. هذه الشخصية ضرورية للوقوف عند شكيمة الفتى في تحقيق الوعد الدموي: الأوراق المالية التي يهزّها السارق الهامشي أمام عينيه لن تُغريه في الإمعان بارتكاب آثام دونية، فهو المُعاقِب الذي يحمل وزر إدراك الثأر الكامل.

تلك الأمنية ـ الأمر العائلي هي خط هدايته نحو دارة نصارّا (يوسف جورو) الذي يُبقيه المخرج هارون لُغزاً حتى تحقيق اللقاء الأول بحاتم. فمن نتابعه، هو رجل يؤمّ الصلاة في أوقاتها بدأب المؤمن. يجود بكِسَر الخبز على محتاجين يقفون أمام بوابته الحديدية، التي كُتبت فوقها كلمة «مخبزة». هو إذاً خليط بين المفتدي للقمته والمجتهد في تأمين خلوته التي يجب ألاّ يتمكن أحد من اختراق أسوارها العالية. الخبّاز كبير الجثة مهموم بثلاث: فرن خبزه الذي يتطلّب يداً مساعدة وعوناً، وحنجرته التي حاول مُعاقِب سابق أن يحزّها من دون نجاح، فأدّى الى فقدانه القدرة على الكلام إلاّ عبر جهاز تردّد خاص (ما يفسّر قلّة أحاديثه)، والزوجة الشابة عائشة (عزيزة حسيني) التي تنتظر في عزلتها مولودهما الأول (ما يفسر تفانيه في عمله). كتمان نصارّا هو مغاليق أسرار تاريخه الدموي وتورّطه في تصفية ذوي الجرأة من مناوئي السلطة الرجيمة. وحجم بدنه مؤشر على غيّه السابق. إنه صناعة النظم المستبّدة التي دفعه رحيلها الى الانكفاء والتخفي. فهل يفلح القاتل في طمس دماء ضحاياه؟ يحقّق المخرج هارون مشاهد كثيرة لنصارّا (تصوير حاذق من إبراهيم هايل بيرو) وهو يسير بين الجموع من دون أن يحرّضهم شكله الوحشي على مساءلة هويته وماضيه. فالقاتل الصغير أكثر فطنة في التحوّل والاندماج من قادته الذين سيكون حبل الثأر أسرع في الالتفاف حول أعناقهم، من دون أن يعني هذا إفلاته من العقاب وإن طال. عندما نلتقي السفاح نصارّا، نرى حياته وقد جفّت: ملابسه رثَّة، ويبدو أقرب الى العبودية. لا شيء يشي بقسوته السابقة إلاّ نظراته الصقرية التي يواجهها حاتم بشكيمة متجددة، كما فعلها مع جندي الحافلة.

الثأر

يخترق ابن السادسة عشرة حصن نصارّا، ويقبل اقتراحه عليه أن يعمل معه في مخبزه، آملاً في أن تقرّبه يوميات الشراكة من فك السؤال العصيّ حول سفك دم والده، وفي أن تُختصر مسافة رصاصته نحو قلب القاتل. من هنا، ينقل مخرج «أبونا» (2002) و«باي باي أفريقا» (1999) بصيرته من الترتيبات الشخصية لحاتم الى جماعية العائلة الصغيرة. نصارّا، الذي يعلّم الفتى أسرار الخِبَازة وعجنها وتحميصها، من باب أنها مهنة تؤمن اللقمة لصانعها ومشتريها ومستجديها، يرى أن الخبزة نعمة دفعت به نحو الإيمان وسعياً الى الثواب وهو في انتظار العقاب الذي لا يعرف مَنْ سيحمل سكينه الى عنقه مرة أخرى. غفلته كمهتدٍ متأخّر لن تجعله يشكّ بحاتم (الذي ينسى ذات مرّة مسدس ثأره أمام مرأى الزوجة عائشة)، وكونه صاحب «الثأر المُنِيم»، يقترح في أن «يتبنّاه»! إذ ليس من حاجة لديه سوى إلى ابن قوي البنية، يحمل عنه تبعات الشيخوخة والعاهة المفروضة.

لاحقاً، تُزدوج محنة حاتم عبر الوّد الأخوي الذي تبثه عائشة نحوه، والتي تجد فيه أخاً وسنيداً ومالئ وحشتها. لا مكان في هذه العلاقة للظّن المحرّم. هما إرادتان قرويتان اجتمعتا على الغربة. هذا التقارب ضرورة درامية أخرى (كما هي في السارق الصغير)، تحيلنا الى النقص العاطفي الذي يعانيه حاتم: فحياته وذاكرته لا تخرجان عن إطار بطريركية جدّه الضرير وقوته الرجولية الضاغطة. وكلما زادت بطن عائشة في الانتفاخ (تعبيراً عن مضي وقت الانتقام)، أمعن الفتى في تليين حقده الذي جُبل عليه. فالمخرج هارون لا يمتحن إرادته وحسب، بل يستقوي بالحياة وقدراتها على تغيير كينونة بطله المنكفئ على أمر جدّه. وما إن نقترب من ولادة الكائن الجديد، حتى نُقابل في حاتم صورة أخرى: البطل البالغ في حكمته، والمتورّط في انتمائه الأُسري، والمتحرّر من ربقة تعهّده الأعمى، والمؤمن بأن حياته وفورتها لم تبدآ بعد. ما إن يرفع حاتم فوهة مسدسه في وجه معيله وأبيه بالتبنّي، حتى يكون عليه الاختيار بين أن يتحوّل الى مجرم جديد باسم انتقامه المتأخّر، أو أن يسمو بإنسانيته، التي لم يخدشها الدم، الى مرتبة الغفران. نسمع صوت إطلاقه النار، ونرى الجد الضرير وهو يحث خطى انتصار ثأره، متنصّتاً للصدى الأصم في أرض رملية جافة، فنتساءل عمَن هو الفائز: الحفيد أم جدّه؟ الدم أم ذِمّته؟ في المشهد الختامي، أظهر محمد صالح هارون نباهته السينمائية ليقيس الفاصل الواهي بين احتمال خطل قرار الفتى حاتم أو نصاعة فعله المقبل، وبينهما تلك الرصاصة التي لم تجد سبيلها الى فؤاد نصارّا، بل الى الهواء فوق هامته ورعبه من مصير الثأر الكامل على يدي من تبناه وأمّنه على ماله وعرضه.

العقاب والخيانة

قرار حاتم ليس صفحاً («موسم جاف» مستوحى من نص النمساوي فولفانغ موتسارت بعنوان «رحمة تيتو»، وأنتجه المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو صاحب «باماكو» و«البحث عن السعادة»، بتكليف أوروبي بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاده)، بل عقاب أشد مَضَضاً للثلاثي: «المُعَاقِب» بتحوّله الى «خائن» في العرف الثأري، و«الجاني»، كون عذابه في ذنوبه سيستمر، و«الآمر»، لأن ضَرَارَته حوّلته الى مخدوع أبدي.

يحمل الفتى حاتم، ضمن تأويلاته المتعددة (بدوي معصرن يعود الى قيم أثيرة، أولاها الطاعة. سياسي أفريقي يكتب فصلاً حاسماً في ملف الحروب والفساد. نبيل زنجي يذود عن أمه الجديدة (عائشة) ضد الطاغية نصارّا حين يتجاوز حدود رجولته)، ملامح أوديب صحراوي (في «أبونا»، يسعى البطل إلى البحث عن والده الضائع في المدينة الكبيرة) عانى غياب الأنثى في حياته (في مشهد الافتتاح نراه يعدو ملبياً نداء الجد). بيد أننا نلاحظ سمة رجولة مخصيّة (كعرف جنسي). فهذا الأوديب الأفريقي لا يواقع نساء (في مشهد الحانة، يبدو الفتى مقصياً في المحيط، والأمر الوحيد الذي يدفعه الى المقدرة الرجولية وتحفّزها ظهور جندي الحافلة وهو ثمل)، وبدا بعد إطلاق رصاصته كأنه ينتظر الترسيم الرسمي لرجولة مغيّبة، حينما يعلق الجد الضرير «لتكن رجلاً!». في حين حضرت شخصية نصارّا القوية كموجّه عائلي يملك المرأة، فيما يبقى لحاتم فيها صورة الوالدة الحامل به كتورية أمومية.

(لندن)

السفير اللبنانية في 18 يناير 2007

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك