"عبور التراب".. الأكراد يعيدون "صدام" الضائع سعيد أبو معلا |
صفحات خاصة
|
قليلة هي الأفلام الكردية، فهي لم تتجاوز العشرة لغاية الآن، إلا أنها تجد استقبالا كبيرا في المهرجانات الدولية، وتثير جدلا ونقاشا في رحلة مشاركتها وأثناء عرضها على الجماهير، ونادرا ما حدث العكس، ومع ذلك وبعيدا عن المضمون الذي قد نوافق عليه أو نرفضه، فإنها تكتسب قيمة كبيرة بما تقدمه من رؤية سينمائية مختلفة وتجارب جديدة تعرض الماضي الكردي برفقة واقعه ومن وجهة نظر أصحابه. وفي ضوء ذلك لا يعد فيلم "عبور التراب" للمخرج الكردي "شوكت أمين كوركي" مجرد عمل سينمائي يطرح معالجة إنسانية لحادثة ضياع طفل عراقي يسمى "صدام" يجده مقاتلان من القوات الكردية، فلا بد من محاولة غوص أو استنطاق للفيلم، وما يطرحه من مواقف وتحيزات. ومن ثم لا يكتسب الفيلم أهمية من تشابه اسم الطفل الضائع "صدام" مع اسم الزعيم المخلوع والمشنوق "صدام" بل من ذلك التداعي وتلك الحالة الإسقاطية والرمزية التي تضطلع السينما بدورها في ذلك بجدارة، إضافة إلى تلك المواقف التي رغب المخرج بتقديمها وتلك الصور التي رسمها عن غير طرف: أمريكيين، وعرب سنة، وأكراد أولا وأخيرا. صدام وزاد ورشيد ينطلق الفيلم من صباح أحد معسكرات القوات الكردية "البشمركة"، لنشاهد مقاتلين يتابعون عبر شاشة التلفاز عملية هدم تمثال صدام كدلالة على سقوط بغداد، فيما تتعالى صيحات الغناء احتفالا بسقوط "الطاغية"، فيما يكون على "زاد" و"رشيد" وسط أصوات القذائف إرسال وجبات الطعام للجنود الأكراد الذين يقاتلون إلى جانب قوات الاحتلال. وأثناء رحلة سيرهما الخطرة يجدان طفلا صغيرا ضائعا يتورط "زاد" لاحقا به بعد أن يحاول جاهدا البحث عن أسرته؛ فالطفل يبكي، وهو جائع، والبلاد تشهد حربا، وهذا يدفعه لاصطحابه رغم رفض رفيقه "رشيد" الذي نرى عبر تتابع أحداث الفيلم أنه يكرهه ويحقد عليه لأسباب لها علاقة بمذبحة الأنفال التي قتل فيها أفراد قريته وخرج من الحادثة بعاهة في ساقه. في الطريق يكتشفان أن اسم الطفل "صدام" وهو أمر يصيب "زاد" بحالة من الضحك الشديد فيما "رشيد" يتضاعف كرهه وغضبه الذي نراه في تلك المعاملة الخشنة والنظرات الحاقدة التي يرمقه بها. يحاولان نقله إلى مقر القوات الأمريكية التي ترفض استقباله، فيأخذانه إلى إمام أحد المساجد ولكنه يرفض تسلمه أيضا. وعلى صعيد مواز يقوم والدا الطفل بالبحث عنه في كل مكان دون جدوى، فيشعر الأب بالندم لأنه أطلق اسم "صدام" على ابنه الذي يُأخذ بلعنه، وصدام لائما زوجته على هذا الاسم متعهدا بتغييره إذا ما وجده حيا. وفي أثناء عملية البحث التي يقوم بها الجنديان الكرديان تسرق شاحنتهما العسكرية، وما يلبثان أن يقعا في كمين نصبه لهما "فدائيو صدام" فيقتل "زاد" أثناء ذهابه لتوصيل الطفل الذي يختطفه فدائيو صدام الذين ما يلبثون ويتركونه في أحد الشوارع الخطرة. وفي تلك الأثناء يهرب رشيد عائدا إلى معسكره برفقته جثة صديقه باكيا عليها ليجد الطفل أمامه، وبعد تردد قليل يقرر التوقف وأخذه معه. سينما الواقع بتلك المشاهد ينتهي الفيلم الذي يعد نموذجا من أفلام الطريق وأفلام سينما الواقع معا، فالفيلم وفي زمانه الواقعي مدته نهار كامل، تبدأ أحداثه مع الصباح وتنتهي في المساء مصورا أحداثه أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. والعمل عبارة عن فيلم طريق، فهو رحلة مجندين من معسكرهم إلى حيث يوجد المقاتلين من كتيبتهم، وهو من أفلام سينما الواقع التي تتناول قضايا واقعية بالاستناد إلى معطيات حقيقية من أحداث وأماكن تصوير وإمكانيات فنية وما يجري على أرض المعركة فعليا. لكنه ومع ذلك جاء محملا بالكثير من الصور والمواقف السياسية التي حاول المخرج مزجها عبر قصة إنسانية عميقة بشكل نمت فيه القصة الإنسانية وسط مناخ سياسي آني يتمثل في حالة الحرب التي ما زالت تجد لها تداعيات خطيرة، ومناخ سيئ هو جزء من الماضي عبر مشاهد "الفلاش باك" التي استحضرها "رشيد" الناجي من مذبحة الأنفال التي تعرضت لها قرى كردية عام 1987. إدانة صدام الفيلم يقدم إدانة لصدام الذي يظهر فيه مسئولا عن "مذبحة الأنفال"، ولا يتوقف الأمر هنا بل تمتد جرائمه لتترك أثرها السلبي على الطفل "صدام" الذي يتعرض لمعاملة سيئة من قبل رشيد لتشابه الاسم، ولكونه عربيا أيضا. كما يقدم العمل صورة سيئة تماما لـ"فدائيو صدام" فيبدون مجرمين أكثر من كونهم مقاتلين ومدافعين عن بلدهم، يتخفون بملابس نسائية من أجل قتل أعداء النظام من الأكراد، ولا يترددون عن ترك الطفل الضائع بلا رحمة أو شفقة في مكان خطر في سبيل تنفيذ أوامر القيادة، وهي رحمة وشفقة يتحلى بها "رشيد" حتى بعد أن يقتل "فدائيو صدام" رفيق سلاحه "زاد"، فيأخذ الطفل "صدام" بغرض حمايته من الخطر والبحث عن أهله. ولا يحاول الفيلم أن يقدم أي إدانة للاحتلال، فالجندي الأمريكي، كما ظهر، هو جندي متأهب للرد على النار التي تطلق عليه، فيما هو مسالم لا معتد، يحمي نفسه، وتواجده في المنطقة آني مرتبط بحفظ الأمن والنظام وقتل "فدائيو صدام". وسيبدو الفيلم محملا بشحنات كبيرة من الالتباس، فبالمقارنة مع الواقع نلحظ التناقض، فصدام في الفيلم هو معادل لشعب العراق، وهو ضحية بمقدار ما هو مذنب، ويستحق تلك المعاملة السيئة من "رشيد" لتشابه الاسم، ومع ذلك يحدث التحول في مشاعر الكره والحقد، وتذوب أمام هذه القصة الإنسانية لتتوحد تماما، وهذا ما لا نرى له أثرا على أرض الواقع، فكردستان بمثابة دولة انفصلت تماما عن العراق أو كادت تاركة إياه في بحر الفتنة والطائفية. كما يقع الفيلم في أخطاء على صعيد بعض الأحداث التي يسوقها لتعزيز الموقف المدين لصدام ومغازلة المشاعر الكردية فهو يعرض مجموعة كبيرة من الأكراد يحفرون بحثا عن مقابر جماعية لأقاربهم في وقت ما زالت الحرب على أشدها. اللغة الجديدة ويحسب للفيلم إتقانه اللعب على التناقضات الإنسانية وتحولها بفعل تطور الأحداث، فرغم أن الجنديين يشتركان في كرههما لصدام نجد أن "زاد" الذي قتل أخوه من قبل يتعاطف سريعا مع الطفل رغم كونه لا يتكلم العربية مطلقا، بعكس رشيد الذي يتقن العربية ولكنه يرفض الحديث بها إلا عند الضرورة. فاللغة- وبما تحمله من علائقية مع المجتمع وأفراده في حالة "رشيد"- نلحظ أنها لم تكن محركا في التقارب الإنساني وربما كانت عاملا سلبيا بناء على الخبرات السابقة التي تشكلت في عهد صدام "المجرم" لتأتي الأحداث الأخيرة وبما تحمله من ألم جديد بمثابة تحول في هذه العلاقة وفي نمطها بسقوط نظام البعث. ومن هنا قد يبدو الفيلم محاولة مصالحة كردية عراقية جديدة بناء على ما هو موجود على أرض الواقع من تقسيم للعراق. قفلة رومانسية ينتهي الفيلم بعد أن يصعد الطفل الشاحنة العسكرية التي يقودها "رشيد" عائدا إلى معسكره بجثة زميله "زاد" وسط سقوط مطر شديد لا يكسره إلا موسيقى حزينة وشفافة تخترقها نظرات الطفل صدام إلى "زاد" متمددا في دمه وعلى وجهه ابتسامة رضا. وهنا يتخيل الطفل أن "زاد" الذي أحبه وأنقذه ومات في سبيله ما زال حيا؛ فيظهر "زاد" عازفا بنايه في دلالة رمزية بمسحة رومانسية على أن اللحن الكردي مستمر كناية عن المستقبل الجميل الذي سيأتي رغم تضحيات الأكراد الكثيرة فيما أخذت تتشكل ابتسامة رضا على شفتي الطفل. لكن الفيلم فيما يبدو وأمام هذه النهاية ينسى واقع حال العراق اليوم الذي يغص في الجثث والموت وأخبار القتل الطائفي، والسبب في ذلك احتلال انتزع من بلد سلامها، ومع ذلك لم تطله سهام الإدانة والتجريم. ويبقى سؤال مهم: هل يموت الكردي من أجل العراق كله؟ ربما، ورغم أنه سؤال يؤكده الفيلم لكن الواقع السياسي لا يمت له بصلة، وإن تفتقت الخطط الأمريكية الجديدة عن مشاركة 20 ألف جندي كردي في حماية بغداد وتطهيرها من "الإرهابيين". ومن الجدير بالذكر أن المخرج "شوكت كوركي" من مواليد عام 1973 في مدينة زاخو بكردستان بالعراق، وقد اضطرت عائلته للهرب إلى إيران عام 1975 بعد اضطهاد تعرضت له، وظلت هناك حتى عام 1999. ويعتبر فيلم "عبور التراب" أول أعماله السينمائية الروائية الطويلة، وهو من إنتاج شركة نارين للإنتاج الفني، وبالتعاون مع وزارة الثقافة الكردستانية والفضائية الكردستانية. وقد سبقه أعمال سينمائية قصيرة منها "البالونات تطير" عام 1997، و"المصيدة" الذي حصل من خلاله على جائزة أفضل فيلم إيراني في هذا العام. ويذكر أن أول فيلم كردي أنتج بعد سقوط العراق في عام 2003 كان للمخرج "هونر سليم" وعنوانه "كيلومتر صفر" وكان قد أثار جدلا واسعا بفعل الموضوع الذي تناوله أيضا. **ناقد فني، ومحرر في نطاق "ثقافة وفن" في شبكة إسلام أون لاين.نت. إسلام أنلاين في 10 يناير 2007 |