يفرض شريط اليخاندرو غونزاليس ايناريتو Babel على مشاهده طقساً خاصاً اساسه المشاركة الذهنية الفاعلة لاسيما خلال نصف الساعة الاولى. فالفيلم إذ يبدأ بمشهدٍ لولدين يرعيان القطيع في صحراء مغربية كما يتضح من لهجتهما، لا يلبث ان يتفرع في اتجاهات عدة وبين شخصيات كثيرة. كل مشهد يمحو سابقه، ليس فعلياً، بل في ذهن المتفرج غير القادر على العثور على صلة مباشرة وفورية بين الشخصيات من جهة والمَشاهد من جهة ثانية. كغيره من المخرجين، يحاول ايناريتو ان يضع افكاره السينمائية موضع التنفيذ. فهو اذا كان يرفض السرد التقليدي لحكاية الفيلم، فإنه يترجم ذلك عبر بناء فيلمه. غير ان ما يبدو للوهلة الاولى "فذلكة" من جانبه، او عناداً يُراد به اثبات الذات وكلاهما من حق المخرج بالطبع هو في الواقع اعمق من السطح. فلا يصح مع Babel شقلبة المشاهد مثلاً والابقاء على المعنى وان بدا ذلك ممكناً ظاهرياً. في اسلوب ايناريتو ما يربط المشاهد والشخصيات ظاهراً وباطناً وتكمن الصعوبة في ان كليهما متغير. بمعنى آخر، لا يقوم بناء الفيلم على قطبة مخفية، يحاول المخرج تمويهها قدر المستطاع حتى اذا اكتُشِفت، عاد الفيلم الى سرد كلاسيكي. وتلك سمة اساسية ميزت ايضاً شريطه السابق Grams 21 حيث لم يسعَ المخرج الى مناورات للسيطرة على متفرجه (أفلام أخرى تفعل ذلك لبعض الوقت قبل ان يتضح سرها كفيلم كريستوفر نولنMemento مثلاً الذي استخدم الزمن بشكل غير تقليدي ولكنه في نهاية الامر خاضع لمعادلة زمنية هي ان تُروى الاحداث من لحظة الحاضر الى الماضي). بهذا المعنى، يكفي ان يكتشف المتفرج تلك "القطبة" ليرتب الفيلم زمنياً ويفهم القصة. بخلافه، لا يتوفر لمشاهد Babel ذلك، إذ ان الفيلم ينسجم مع رؤية خاصة للحياة الانسانية ولآلية العواطف. وقد ينتهي الفيلم وتبقى هناك تفاصيل معلقة لا تجد تفسيراً واضحاً. من هنا يسهل القول ان فيلم ايناريتو ليس تمريناً في "خداع" المتفرج ينتهي الي كشف سره وحل الغازه دفعة واحدة، انما هو بناء يُراد منه أن يشبه الحياة والبشر وتعقيداتهما المركبة. اربع حكايات بخلاف Grams 21 ، يوسع babel رقعة الأحداث والشخصيات والجغرافيا ايضاً. ثلاث قارات وأربعة بلدان وإحدى عشرة شخصية أساسية على الأقل وحدث مركزي وعدد من الأحداث الثانوية... تدور في فلك هذا الشريط الطموح الى أقصى حدود. ولكن بخلاف الحكاية المذكورة في الانجيل عن برج بابل ودلالاتها، لا يُعاقَب المخرج هنا على طموحه، بل انه يكافئ نفسه وجمهوره بفيلم غير عادي. خلف تلك الرحلة الانسانية للشخصيات لا تتراجع الدهشة، الدهشة من السرد المحكم والشخصيات المكتملة والاداء التمثيلي العالي (لاسيما من ادريانا بارازا وبراد بيت ورينكو كيكوتشي وغايل غارسيا برنال) والقدرة على استخراج العبر الانسانية من دون استعراض ولا تكلف.يفتتح الفيلم بمشهد في المغرب مع شخصيات تتحدث العربية حيث يشتري رجل بندقية صيد حديثة الطراز ويسلمها لولديه راعيي القطيع لحكايته من الثعالب، مثيراً منذ اللحظة الاولى التساؤلات حول مصير هذا السلاح بين يدي طفل. لا يطول الامر قبل ان تصيب رصاصة طائشة من البندقية سائحة أميركية في باص مع زوجها ومجموعة من السائحين. في كاليفورنيا، ترك الزوجان الاميركيان ولديهما في عهدة المربية المكسيكية التي تضطر الى اصطحابهما الى المكسيك لحضور زفاف ابنها بعدما تعذر وصول الاهل في الموعد المقرر بسبب الحادث. وفي ربط أقل عضوية، يتضح ان البندقية مصدرها رجل أعمال ياباني قدم الى المغرب في رحلة صيد وأهدى بندقيته الى دليله عربون شكر. يتنقل الفيلم بين القصص الأربع مع احتفاظ كل منها بقوتها الدرامية وخصوصيتها وتتشارك على أرضية الحياة والموت حيث تواجه كل من الشخصيات الموت كاحتمال قد يقع بأسخف الطرق وأكثرها عبثية. انه ليس الموت المحتوم او البديهي بل الموت الذي كات يمكنه الا يحدث لولا سلسلة أحداث غير متوقعة. بالنسبة الى مشاهدي فيلميه السابقين (amores perros) و(21 grams) العثور على وجه الشبه ليس صعباً. الشكل عنصر مشترك من دون ان يكون فهم ذلك خاضعاً لمنطق ما. كل ما هو متوفر معرفتنا بأن المخرج يبدأ من تفصيل ذي دلالة ومن ثم يذهب الى نسج عنكبوتي للاحداث الاخرى من حوله مشيداً زمن الفيلم الخاص القائم على إحساس بالزمن أكثر منه انسياق خلفه. بمعنى آخر، يستل المخرج من الحياة شخصيات وأحداثاً واقعية اي انها غير بعيدة من ان تحدث، ولكنه يختار ان يحركها في اتجاه قول شيء ما عن مصائر البشر المتشابكة والتجربة الانسانية الواحدة تقريباً. الشخصيات الغريبة عن بعضها عنصر مشترك آخر بين أفلامه، يجمعها بدايةً انه قرر تحريكها في مدار فيلمه فإذا بها تتلاقى أحياناً من دون ان تعرف ان هناك ما يجمعها او يؤثر في مصيرها. هي نفس الشخصيات المحكومة بعزلتها الداخلية والهشة تجاه مآسي العالم الخارجي والسائرة برجليها الى مصائرها المحتومة. تلك الصحراء الداخلية الشاسعة التي تتنزه فيها ارواح شخصياته الهائمة تعثر في Babel على ترجمة محسوسة عندما يترك للمكان ان يتحدث سواء أكان صحراء شاسعة كما في المغرب والمكسيك او شوارع مكتظة بالحياة كما في طوكيو او حياة تتسول الحياة على الرصيف كما في تيجوانا المكسيكية. بين مصيبتين كما في Grams 21 ايضاً، يفتتح ايناريتو فصول الفيلم بشخصيات خارجة لتوها من مصاب ومتجهة الى آخر. أي انه يمسك بها في الزمن الفاصل بين أزمتين مشدداً مرة أخرى على ان حياة البشر تعاقب من الانتصارات والخيبات في ترابط لا فكاك منه حيث الواحد يؤدي الى الآخر. الزوجان الاميركيان في "بابل" يحاولان تخطي أزمة موت طفلهما فيذهبان في عطلة الى المغرب مع فوج سياحي. الفتاة اليابانية البكماء واجهت لتوها انتحار والدتها ولعلها تعتبر نفسها مسؤولة جزئياً عن ذلك إما لأنها كانت حملاً ثقيلاً على والدتها وإما لأنها لم تتمكن بسبب عاهتها من سمع الطلق الرصاصي الذي أطلقته الام على رأسها. اللافت ان ايناريتو لا يحدد لشخصياته الباقية (المربية المكسيكية "أميليا"التي تعتني بولدي الزوجين الاميركيين خلال غيابهما والعائلة المغربية التي ينتمي الولدان اليها) مشكلة محددة محدثاً فصلاً أساسياً بين مجموعتين من الشخصيات، الاولى تنتمي الى العالم الاول (الزوجان والفتاة) والثانية (الولدان والمربية) الى العالم الثالث. ان تصنيفاً من هذا النوع لا يغرق الفيلم في دلالات مباشرة إذ ان المخرج نفسه لا يلبث ان يوظف ذلك لتطوير الشخصيات والأحداث. فحضور الزوجين الأميركيين في ذلك المحيط المغربي قادر وحده على إثارة التساؤلات وهو يتعدى فكرة الكليشيه او الحكم المسبق لكل طرف عن الآخر الى تنافر طبيعي كأنما قدري. انه تعليق على الظرف الانساني عموماً وعلى فكرة الانتماء والهوية التي اختبرها في فيلمه السابق. فتلك الحدود القائمة بين الزوجين والمكان وأهله هي التجسيد الاقوى لفكرة الحدود غير المنظورة التي يبنيها الانسان ليحصن نفسه من جهله بالآخر تماماً كما هي اختزال للحدود التي يصنعها اختلاف اللغة والعرق واللون (ذلك الحضور المشع للممثلين الشقراوين براد بيت وكايت بلانشيت ليس صدفة بل هو تعزيز للفكرة انما برسالة بصرية) . تماماً كما تعلق الفتاة الصغيرة لدى دخولها المكسيك ان امها قالت لها ان المكسيك مكان خطير جداً. على هذا المنوال، يقدم الفيلم الحياة البشرية ذرة غبار في صحراء الحياة الشاسعة. لا عجب اذاً ان تكون العزلة قدر الانسان وانعدام التواصل وسيلته الأسهل الى اقامة حوار مع العالم. ومن هنا تبرز الدلالات البصرية لمشهد "أميليا" تائهة وسط أرض صحراوية شاسعة، متيبسة الشفاه من العطش بما يذكر بمشهد مشابه لـ"جاك" (بينيسيو ديل تورو) في Grams 21. كلاهما يدفع ثمن ارتكابه غلطة كان يمكن ان تمر بسلام فلا تكون غلطة بل تكتفي بوصفها خياراً. ان فكرة ان اي خيار انساني مرشح لأن يكون غلطة تجر الويلات على صاحبها هي التي تحرك مصائر الشخصيات وتضعها في مواجهة مباشرة مع الموت او بين سندان الموت ومطرقة الحياة. هل الحياة بهذا المعنى لعبة "باكارا" روسية تتوالى فيها الخيارات المرشحة في كل لحظة للانفجار؟ بحسب ايناريتو يكفي خيار واحد لتنفتح نار جهنم على الانسان. لا يصنف الفيلم الخيارات الانسانية بين خطأ وصواب. واذا كان هناك من يعتبر تسليم بندقية الى طفل فإن اصطحاب الولدين بشكل قانوني الى المكسيك ليس فعلاً خاطئاً بالمطلق. هنا ايضاً يفصل الفيلم بين فكرة الخيار الانساني الذي قد ينقلب ضد صاحبه وبين آخر تتضافر عوامل خارجية لتحوله لعنة. شراء البندقية هو اذاً الحدث المحوري الذي يجر الويلات. ولكن اصطحاب الولدين الى المكسيك يتخذ ابعاداً غير منظورة ازاء النظرة المنمطة التي يكنها الشرطي الاميركي على الحدود الاميركيةالمكسيكية تجاه المكسيكيين مفترضاً ان اصطحاب الولدين ينطوي ربما على اختطافهما. كذلك الامر بالنسبة الى إصابة الزوجة الاميركية بطلق ناري التي تتحول في ظل الخطاب السائد حول الارهاب محاولة إرهابية تستهدف الولايات المتحدة. هنا تصل فكرة الانزواء داخل الحدود ذروتها عندما يُصور المكان خارج الحدود الضيقة غابة تعج بالوحوش. هكذا يتصور الشرطي المكسيك التي تقع على حدوده فيعتبرها تهديداً للطفلين وكذا تعتبر الحكومة الاميركية المغرب أرضاً خصبة لاستهدافها من خلال عمليات ارهابية تطال فوجاً سياحياً. في مكان آخر بعيد، تبحث المراهقة اليابانية البكماء عن سبل للتواصل مع محيطها. قد يبدو للوهلة الاولى ان عاهتها هي سبب عزلتها عن اصوات الشوارع وضجيج الحانات الليلية. ولكن ما تفتقده التواصل الانساني مع والدها. في غيابه، تبحث عن تواصل حسي. وفي غياب الحواس، لا يبقى سوى الجسد تعريه أمام غريب لتشعر بحرارة ما لا تتوفر لها لا بالسمع ولا بالكلام ولا بالعاطفة. الحقيقة البشرية ما الذي يجمع بين البشر اذاً؟ انها الهشاشة ازاء العالم الخارجي وقدرية ما سمتها ان لا هرب منها بينما تبدو في الوقت عينه خيوطها كامنة في خيارات الانسان لا يعرف بأية حركة سيجر على نفسه الجحيم. في كل ذلك، يبدو ايناريتو أكثر سوداوية مما كان عليه في Grams 21. في الأخير، اكتشف ان ما من خلاص نهائي كما يعد الدين حيث واجهت شخصياته الهلاك بعد ما تهيأ لها خلاصاً ابدياً. هنا لا وهم بالخلاص (ربما لذلك قد يبدو هذا الفيلم في بعض المواقع أقل عمقاً من سابقه لجهة طرح الأسئلة الانسانية الجوهرية). الانسان تائه لامحالة والعالم خلايا متراصة كزنزانات متلاصقة في سجن كبير. فعلى الرغم من اتساع عالم الفيلم وتنوعه وثرائه، لا يلبث كل شيء ان يستقر على شكله البدائي تماماً كما تنسحب الجرذان الى جحورها على أثر وقع قدم. كل يعود الى عالمه بما هو أحياناً عقاب (كما هي حال اميليا التي يشكل قرار ترحيلها الى وطنها الام عقاباً) وينزوي داخل حدوده الضيقة. جدران داخل جدران داخل جدران... مع اشارة الى ازدياد الاخيرة. فلا شك في ان الزوجة الاميركية ستزداد انزواءً داخل حدودها بعد ما تعرضت له في المغرب. كذلك سيزداد احساسها بخطر المكسيك بعد ما بدا من المربية وكأنه اخلال بالمسؤولية والقانون. لعل الفكرة الاشد الحاحاً في ذلك كله هو التحول الداخلي الذي يشهده الانسان فيضعه باستمرار على محك سؤال الهوية. ما من هوية للانسان. هكذا قال ايناريتو في Grams 21 عندما زرع الشك في شخصياته كافة حول من تكون. لعل الحقيقة الانسانية شبه الثابتة هي الولادة والموت. لذلك ربما يحضر الاطفال في افلام ايناريتو وأحاديث الحمل والولادة. ولذلك ايضاً هناك موتى باستمرار يؤكدون الوجه الآخر للحقيقة البشرية. بين هاتين الحقيقتين ما من ثوابت الا الهلاك المحتوم. أما خارجهما، فثمة حقيقة أخرى ثابتة هي أن اليخاندرو غونزاليس ايناريتو شيّد "بابله" الحصين في عمارة متكاملة من الصورة والدراما والأسئلة الانسانية المعقدة. المستقبل اللبنانية في 19 يناير 2007
فريق تصوير "بابل" يتحدث ست لغات
يستعير شريط اليخاندرو غونزاليس ايناريتو حكاية "بابل" الانجيلية التي تروي معاقبة الله لطموح البشر الى بناء برج عالٍ بجعل اللغة عائقاً يمنع تحقيق الحلم. الفيلم ايضاً يقدم صورة عن فكرة الحدود ببعديها الرمزي والملموس مازجاً بين تفاصيل الفيلم وحيوات منجزيه بعيداً من الكليشيه الذي بمكن ان يتأتى عن هذا التبسيط في شرح العلاقة بين صناع الفيلم والفيلم نفسه. "بابل هو نتاج وعيي لفكرة انني أعيش في منفى" يقول المخرج ايناريتو (42 عاماً) الذي ترك مسقط رأسه المكسيك قبل خمس سنوات وقدم للعيش في الولايات المتحدة الاميركية. انطلق مشروع الفيلم عندما دعا المخرج الكاتب غويليرمو ارياغا شريكه في فيلميه السابقين Grams 21h Amores Perros الى كتابة سيناريو حول فكرة الحدود الرمزية. انهى الكاتب نصه في العام 2004 ليعمل ايناريتو من هناك على اضافة افكاره ورؤيته اليه. قام برحلة شخصية استكشافية الى المغرب وتونس رافقه خلالها المنتجان ستيف غولن وجون كيليك. بعدها حصل المشروع على دعم استديوات باراماونت. يمنح المخرج ومدير تصويره رودريغو برييتو مظهراً بصرياً خاصاً لكل من اماكن الفيلم الثلاثة: المكسيك والمغرب واليابان. "شعرنا ان التشديد على خصوصية كل مكان من حيث قماشة الصورة والالوان وحدّة الخلفيات ستمنح الاحساس بالاختلاف الجغرافي وكذلك الحسي" يقول برييتو المعروف بشغله البصري المميز في شريط آنغ لي "جبل بروكباك" مكملاً "جمعنا عدسات مختلفة في تصوير الفيلم تماماً كما يجمع الاخير ثقافات ولغات متعددة". استغرق التصوير سنة كاملة، تنقل خلالها فريق العمل بين ثلاث قارات وأثبت خلالها الفيلم نظريته عن صعوبة التواصل حيث وصل عدد اللغات المحكية بين أعضاء فريق التصوير الى ست لغات مختلفة أحياناً. ولكن يوضح ايناريتو ان "اللغة لم تكن هي المشكلة بقدر ما كانت وجهة النظر". في الشق الحكائي في المغرب مثلاً، يدور حول أميركيين يحاولان التأقلم مع حياة العالم الثالثز انسحب ذلك على فريق التصوير حيث واجه القادمون من اوروبا وأميركا مشكلات في التأقلم هنا. ولكن حتى في اليابان وعاصمتها ذات التركيبة المعقدة لم تكن الامور بأفضل. "هناك لا يمكن الحصول على اذن للتصوير او تجيير المعدات فكنا عملياً نسرق اللقطات" يقول ايناريتو. الى ان وقعت المشكلة عندما أبطأ فريق التصوير حركة السير لمدة خمس دقائق على طريق اساسية فما كان من أحد السائقين الا ان أبلغ الشرطة التي هددت بسجن فريق العمل بأكمله! الجمع بين صحرائين ـ المغرب وتيجوانا بالمكسيك ـ وشوارع طوكيو الصاخبة قد يبدو تناقضاً بصرياً كبيراً ولكن بالنسبة الى المخرج لكل مكان خصوصيته. "اخترت أن اصور في المغرب لأنني أردت العودة الى ذلك المكان الذي طبع أثراً عميقاً فيّ" على أثر رحلة قام بها الى هناك عندما كان في التاسعة عشرة. وقتذاك تعرف بـ"عبدالله" الذي استعار اسمه لشخصية الراعي سوى ان عبدالله الحقيقي كان يعيش في منزل كبير وحديقة جميلة. "لقد تركت في تلك الزيارة أثراً كبيراً وعلى أكثر من صعيد أبرزها الجمالي". أما اليابان فزارها لعرض فيلمه 21 Grams وسُحر بجبل هاكون الذي أحس به خارجاً من فيلم لكوروساوا. هناك التقى صدفة صبياً في الخامسة عشرة معوقاً ذهنياً برفقة رجل أكبر سناً "يساعده بصبر كبير على صعود الجبل ويقف الى جانبه بعزة نفس كبرى". تلك الصورة أشعلت في ايناريتو الرغبة في كتابة حكاية عن رجل يهتم بشاب معوق. الا ان الشق الحكائي الذي يدور في اليابان لم يتوضح الا بعد ان حلم المخرج بفتاة يابانية ترتدي تنورة قصيرة وتقوم بإغواء طبيب اسنانه. من الطبيعي ان يبدو الشق المكسيكي نابعاً من علاقته بالمكان الذي يأتي منه. ولكنها علاقة لا تخلو من مرارة حيث يسمي البلدة "المزبلة الوطنية". يقول ان علاقته بها كانت تقوم على زيارتها كل خمسة أشهر حيث عليه ان يعبر الحدود ليجدد اقامته. "بالنسبة الى المكسيكيين بات عبور الحدود بمثابة رقصة مخزية تنطوي على الكثير من الاهانة." كذلك استوحى المخرج قصة المربية المكسيكية من الخادمة المكسيكية التي تعمل في بيت اهله في كاليفورنيا. حاول المخرج بداية العثور على ممثلين محترفين لأداء ادوار المغربيين ولكنه لم يعثر على ممثلين بملامح فلاحين فقرر الاستعانة بأشخاص عاديين من القرية. جر ذلك القرار مصاعب احياناً لاسيما في المشاهد التي جمعت ممثلين محترفين مثل النجمين براد بيت وكايت بلانشيت مع آخرين غير محترفين. من تلك مشهد السيدة المسنة المغربية التي تعتني ببلانشيت بعد تعرضها لطلق ناري. فبعد عدة لقطات استمرت الاخيرة بالتجول امام الكاميرا مما أشاع مناخ التوتر بعد بعض الوقت الذي كان في صالح الفيلم بحسب المخرج. اما دور الفتاة اليابانية فكان في البداية مقرراً لفتاة بكماء في الواقع الا ان ذلك بدا صعب التحقيق في ظل ما يتطلبه من وجود متخصصة بلغة الاشارات وأخرى بالترجمة الى الانكليزية. هكذا استقر الدور على ابنة الاربعة وعشرين ربيعاً رينكو كيكوتشي التي أخذت دروساً في لغة الاشارات تحضيراً للدور. اذا كانت تلك الحكايات الخلفية لفيلم "بابل" تقترح تناغماً ما بين مضمون الفيلم وآلية صنعه فالأمر بالنسبة الى ايناريتو يجسد شيئاً آخر: "اذا كانت الحدود شيئاً ليس محسوساً انما فقط في ذهن الانسان، فإنها مسؤوليتنا ان نتخطاها في حياتنا اليومية". المستقبل اللبنانية في 19 يناير 2007 |
رحلة ربيعة للمخرج السوري ميّار الرومي*: عندما تنسجُ الأفعال الصغيرة حدثا كبيرا باريس ـ من صلاح سرميني: في فيلمه القصير (رحلة ربيعة)، يتخيّر مخرجه السوريّ ـ المُقيم في باريس ـ ميّار الرومي قرية سورية قريبة من نهر الفرات، تُسمي (تلّ البنات)، ويبدأ بمونتاج متواز يُظهر للمتفرج فتاة شابة تحضّر نفسها للخروج، وفي بيت آخر ليس بعيداً عن المدرسة، معلمٌ شاب يرتدي ملابسه أيضاً، ويصعد إلي سطح البيت الطينيّ ليُجري مكالمةً هاتفيةً مع أمه، يخبرها بأنه سوف يأتي لزيارة عائلته بصحبة خطيبته. منذ الركوب في السيارة المُستأجرة، تنسجُ الأفعال الصغيرة، والخلافات البسيطة، والحوارات المُقتضبة، والرغبات الدفينة،.. حدثاً كبيراً يتجسّد في 22 دقيقة. ومنذ البداية، يعتمد ميّار الرومي ـ وهو المُصور أيضاً ـ لقطات ثابتة، متأنية، تتوافق مع الأجواء الصباحية الهادئة، والمُسترخية في القرية. وتتناوب أحجام لقطاته ما بين (العامّة) لكلّ ما يحدث خارج السيارة، و(المُتوسطة) لكلّ ما يجري في داخلها. تتهادي السيارة علي الطريق، المعلم الشاب مستعجلٌ للوصول، والسائق يتمهل أكثر فأكثر للاستمتاع بحلاوة خطيبته، والمتفرج يتابع بفضول تلقائيةً مدهشةً لأداء ممثلين غير محترفين. في السيارة، ينفتح سيناريو الفيلم علي تفاصيل بسيطة، يُجازف (ميار) بتسليط الأضواء عليها، وتكبيرها، وهو يعرف جيداً أنّ المتفرج الكسول قد تعوّد منذ زمن علي أحداث مشوّقة تجعله مشدوداً نحو الشاشة، مُستلباً إن صحّ التعبير، متقمصاً إحدي الشخصيات، متعاطفاً، أو نافراً من هذه، أو تلك، ليخرج أخيراً من صالة العرض متطهراً. ولكن، ما هو (مفاجئٌ) في هذا الفيلم، خلوّه من (المفاجآت) النمطية، واقترابه من واقع الناس العادييّن، ورصده لأفعالهم المُتداولة، وسلوكهم الإنساني الطبيعي، وإعادة صياغة تراجيديا حياتهم اليومية: ـ يستمع السائق إلي أغنية ما، والمعلم الشاب يطلب منه بأن يخفض الصوت. ـ الريح تلامس خدود الشابة الجميلة. ـ يحكي السائق طرفةً، لا يضحك منها لا المعلم، ولا خطيبته. ـ لا يخفي السائق إعجابه بالفتاة، ويختلس النظر إليها من وقت إلي آخر. ـ يرغب السائق في توصيل شخص ما في الطريق، فيرفض الشاب. ـ تداعب الفتاة خصلات شعرها بأنوثة. يتوقف السائق لحظات في محطة بنزين، وفي غياب الشاب قليلا،ً ينتهز الفرصة ليقدم نفسه للفتاة، اسمه (منذر)، وهي (ربيعة). خلال الرحلة، يتخلي (ميّار) عن أيّ موسيقي، ما عدا تلك التي يسمعها السائق من المذياع، وتشترك معها نشرة الأخبار بقطع الصمت المُسيطر داخل السيارة التي تصل مدينة (حلب)، و(ربيعة) مبتهجةً، لأنها تستمتع (ربما) برحلتها الأولي بعيداً عن دارها في (تلّ البنات). يفضل (ميّار) هنا بأن يستعرض بانورامياً أحد شوارع وسط المدينة (باب الفرج)، ومن ثمّ قلعتها الشهيرة، بدلاً من اللاذقية الأقرب إلي (كسب)، نهاية الرحلة. يمكن اعتبار أكثر التفاصيل أهميةً في الفيلم، تلك التي كان بإمكانها تحويل مساره إلي دراما غير متوقعة، أو كوميديا فاقعة، وهي تحرك عجلات السيارة بعد أن تركها السائق بدون شدّ الفرامل، وذهب ليتبوّل بعيداً عن الأنظار. وفي إحدي الاستراحات المُنتشرة علي طول طرق المدن السورية، كان بإمكان (ميّار) التمهل قليلاً كي تنتعش (ربيعة) بالطبيعة التي لا تعرفها في قريتها الصحراوية. لقد تعمّد بأن لا يصنع أيّ حدث هامّ نتوقف عنده، ونتجادل في تفاصيله، وأيضاً، بأن لا نعرف أيّ شيء عن الشخصيات الثلاثة، غير ما يمكن أن نتوقعه بأنفسنا، فنشارك في نسج أحداث في مخيلتنا. وتنتهي الرحلة بالوصول إلي منزل العائلة، وتلخصّ لقطة عامة اللقاء مع الأب، بينما يستلم السائق (منذر) أجرته، ويرحل مُتحسّراً. (رحلة ربيعة) فيلم طريق بامتياز، يتشارك في نسج تفاصيله الصغيرة ثلاث شخصيات هامشية، وسيارة أجرة، وطريقاً طويلاً. ولم تضعف قلّة الإمكانيات الإنتاجية، والتقنية قدرته علي التعبير، كاميرا واحدة موضوعة في الكرسي الخلفي للسيارة، تتناوب في تصوير المعلم الشاب والسائق، لنراهما الأول يميناً، والثاني شمالاً، والطريق في المُنتصف تبتلعه الصورة، ومرةً تصوّر (ربيعة) من الجانب، فيزيد ضوء النهار خدودها نعومةً، ووجهها صفاءً، وما بينهما لقطات بانورامية للطريق، وفي لحظات التوقف، تخرج الكاميرا من داخل السيارة (المكان المُغلق)، لتتنفس قليلاً، وتتابع الشخصيات من بعيد، بدون أن تلاحقهم. المُتتبع لمسيرة (ميّار الرومي) السينمائية، سوف يلاحظ بحثاً دؤوباً عن أسلوبية خاصة، وشغفاً دائماً بتحقيقها: ـ إيقاع بطيء، تأمليّ، يصل إلي حدود الشعر. ـ اهتمام كبير بحركة الكاميرا، وزواياها. ـ صياغةٌ إبداعيةٌ لشريط الصوت، وتوظيف مرهف لمُستوياته التعبيرية. ـ رصدٌ معمّق للتفاصيل الصغيرة، وتوظيفها درامياً. ـ الابتعاد كثيراً عن الصيغ الريبورتاجية، والاختيارات النمطية في تسجيل الواقع. ـ تأكيد كتابة سينمائية، شخصية، متفرّدة. وعلي الرغم من الصبغة الروائية لـ(رحلة ربيعة)، يسيطر علينا الاعتقاد بأن الفيلم تجسيدٌ إبداعيّ مركز لرحلة حقيقية، أو حدثٌ واقعي رصدته الكاميرا تسجيلياًً. كما نجزم بأن السينما الفرنسية، ومن ثمّ العربية (السورية) سوف تكسب (ميار الرومي) مخرجاً قادراً علي الترحال من التسجيلي إلي الروائي، وبالعكس، أو مزجهما معاً، وفي أعماله القادمة، سوف يفوح مذاقٌ مضمونيّ، وتشكيليّ خاصّ. رحلة ربيعة إخراج، تصوير، وصوت (ميار الرومي)، 22 دقيقة، إنتاج عام 2006 سورية/فرنسا. . تمثيل : جافرا يونس، معن جمعة، أسامة حلال. * وُلد (ميار الرومي) في دمشق عام 1973، درس التصوير في كلية الفنون الجميلة، ثم حصل علي شهادة الدراسات السينمائية، والسمعية/البصرية من جامعة باريس 8، ودبلوم من (المدرسة الوطنية العليا لمهن الصورة والصوت Femis) عام 2001 (قسم التصوير). عمل مدير تصوير، ومصوراً لأفلام روائية، وتسجيلية. أفلامه التسجيلية: سينما صامتة، بانتظار النهار، نادي المستقبل. القدس العربي في 22 يناير 2007
فى كارافان السينما العربية الأوروبية البنات دول مقهورات البدن.. والستات دول مقهورات الروح على عوض الله كرار بدعم من الاتحاد الأوروبى أقيم بالإسكندرية مهرجان الكارافان السينمائى فى مركز الإبداع والمركز الفرنسى، ديسمبر الماضى، وقد عرض فيه 25 فيلما قصيرا وتسجيليا منها هذان الفيلمان اللذان سأتحدث عنهما مندمجين فى بعضهما بصفتهما عن التشرد اجتماعيا كان أو سياسيا، وكذلك لأنهما فيلما الافتتاح والاختتام البنات دول للمخرجة المنشطرة حياتها بين مصر وكندا تهانى راشد، أنا التى تحمل الزهور إلى قبرها للمخرجة التى انقسم عمرها بين سوريا وفرنسا هالة العبدالله ويتعاون معها المخرج عمار البيك. يدور الفيلم التسجيلى الأول حول فتيات مشردات فى حى المهندسين الراقى بالقاهرة، يتعرضن لصنوف متعددة من الاضطهاد، مرة بسبب وضعهن الاجتماعى، ومرة لأنهن أناث، لكن ذلك لا يمنعهن من مواصلة الحياة والتكاتف معا فى الأزمات والحلم بحياة أفضل.. ويدور الفيلم التسجيلى الثانى حول سيدات سوريات شردتهن السياسة إلى مناف اختيارية آلمتهن نفسيا إذ عرضتهن لمحنة الغربة عن ديار الوطن. فى الفيلم الأول تتأمل تهانى فى طفولة وصبا رأت مثلهما فى أفلام السينما معانا ريال، معانا ريال، دا مبلغ عال، ومش بطال ربما تمنت تهانى لو كانت هى المتشردة الصغيرة فيروز المتنعمة بكامل حريتها وشقاوتها وحلاوة صوتها وملمس كفها فى كف الصعلوك أنور وجدى فى فيلم دهب.. للأفلام أحيانا وجه للتعاسة، ووجه للسعادة، الأول: تمثيل * تمثيل، ولأنه تمثيل فهو جميل، ولا يهم إن كانت البنت لقيطة مشردة، والثانى: حلم بشرى جميل، والسينما هى مصنع الأحلام وخامتها الأساسية هى التمثيل. وبعد سنوات طويلة من حالة البرجزة التى تعيشها تهانى التقت فى شوارع القاهرة بظاهرة مأساوية تعيش تحت الكبارى وخلف شوارع الأحياء الراقية، هى ظاهرة المتشردين، لفت نظرها بشدة وجود بنات بينهن، وسط حى مستريح ماديا، الأزمة الطبقية الحادة تعلن عن وجودها علانية هنا، فى المهندسين، وليس من مهندس سياسى واحد يفكر فى إعادة هندسة الوجدان الفردى الأنانى، وجعله وجدانا إنسانيا، أو على الأقل واعيا لخطورة وجود هذا الوضع الشاذ، إنهن أجولة فحم ملقاة فى الطرقات، ساعة الثورة سيشتعلن ذاتيا ويحرقن كل ما يقع تحت أعينهن، ولن يكون لهن من يرشدهن إلى الطريق الصحيح المشارك فى صنع الثورة الشعبية، ما من قانون إنسانى أو سياسى أو قضائى أنصفهن، وبالتالى لن يكون لحركتهن الثورية احترام لأى قانون، ولا حتى لقانون العمل الثورى، وبالتالى تتحول حركتهن إلى فوضى عارمة يستغلها الانتهازيون والوصوليون لشرخ الثورة وإضعافها ثم تمويتها مجازيا لصالح أقنعة ثورية، وما أكثرها. نتاج الصراع الطبقى العالمي قررت تهانى راشد أن تجعلهن لقطتها المكبرة لحالة امتدت حتى الإسكندرية برجاء مراجعة أخبار الحوادث وتعرض مأساتهن على الشاشة السينمائية العالمية، فما حدث هو نتاج صراع طويل أنفق فيه العالم الرأسمالى أمواله فى الأسلحة والحروب والمخدرات وإحداث الفتن وصنع الانقلابات والتجسس الدائم على الشعوب السائرة فوق ثروات لا حصر لها، ولا تملك منها شيئا يذكر، فلا رابح سوى صناع هذه المآسى الكبرى المولدة لمآس صغرى تكبر وتستفحل مع الزمن حتى تصبح أشد فتكا من قنبلة يدوية، وباحتكار صانعى الشر هؤلاء للثروات والأموال يستطيعون التجنيد المباشر لحلفاء لهم دراية وخبرة بالتنظير والتبرير وقلب الحقائق لمزيد من تضليل بسطاء العقول وفقراء البطون وفاقدى العمل الوظيفى، وتجنيد غير مباشر لمروّجى أفكار العدمية واللا أدرية التى تتحول إلى مقولات شعبية متداولة: وأنا مالى، مالكش صالح، دى حكمة ربنا، خليك فى نفسك وغيرها. وبشكل آخر اختصت اللقطات الكبيرة لهالة وعمار برءوس السيدات السوريات فى الغالب، وكأن المشكلة والحل يكمنان بتلك الرءوس المتعلمة المثقفة الفنانة المعارضة سياسيا لحكم سورى سابق. اغتراب ما الفرق بين أن يغترب الإنسان فى وطنه، وأن يغترب بعيدا عن وطنه؟ قد يتغير شكل الاغتراب، قد يكون ثقيل الوطأة كما عند الستات دول اللاتى يحملن الزهور إلى قبورهن وقد يكون خفيف الوطأة عند رجالهن حال الفنان التشكيلى يوسف عبدلكى زوج المخرجة هالة، وقد يكون أحيانا شديد الوطأة عند البنات دول متشردات حى المهندسين، وقد يكون خفيفا إذا عاملهن شخص ما بمودة حقيقية، مثل تلك السيدة المصرية التى حرمت من إنجاب الأطفال، فقررت أن تعوض هذا الحرمان برعاية المتشردات اللاتى لم يصدقن أن هناك من سيكون أحنّ عليهن من أهلهن، لكن مع الوقت وإصرار المتطوعة على التعامل الإنسانى معهن رغم ما قُوبلت به من إهانات قولية، بل وصل التطرف إلى حد البصق فى وجه المتطوعة التى ذكرت تلك الواقعة أثناء الندوة التى أعقبت عرض الفيلم الذى ظهرت فيه فترة الانقلاب فى علاقة المتشردات بالمتطوعة، إذا بهن يتعلقن بها بدون كاف التشبيه صديقة وأختا وأما وكل شىء فى حياتهن، خاصة بعد أن استضافتهن فى بيتها كاسرة تعليمات الجمعية الأهلية التى تعمل بها، وبذا تولدت المصداقية بينهما، فهل يعى السياسيون السلطويون هذا الدرس؟. كارت بوستال مقلوب أرى أن فيلم البنات دول للمخرجة تهانى أحادى النظرة، إذ انشدت أحاسيسها للحالة المأساوية للمشردات، ولم تستطع أن تنفصل قليلا عنها، وبالتالى ترى جوانبها وأبعادها، فمشكلة التشرد سياسية قبل أن تكون اجتماعية، وليس معنى هذا أن يكون الفيلم منصبا على السياسة المسببة، لكن يلمّح إليها على الأقل، وإلا ما هو الفارق بين صورة جميلة لبنات متوردات الخدود يلعبن فى حديقة مثلا، وخلفهن مبنى عال من علامات المدينة، وبين صورة تراجيدية لبنات بائسات يلعبن فى شارع خلفى من المدينة؟، الأولى تنفع لتكون كارت بوستال يستخدم فى التهنئة بالأعياد، والثانى هو أيضا كارت بوستال، لكن مضاد، ينفع بديلا عن برقيات التعزية!. وعلى العكس من هذا عند هالة وعمار فى أنا التى تحمل... فلم تكن معالجته الدرامية الفنية أحادية الجانب، بل كان هناك جدل مستمر بين الكاميرا والشخصيات، بين الشخصيات وبعضها، وبينهم وبين أمكنة وأحداث ماضية، وكذلك بين عناصر فنية متعددة: بين ما هو شعرى، وما هو فن تشكيلى وبين ما هو تراجيدى وسياسى وحميمى شديد الخصوصية. الكاميرا فى الفيلم الأول كانت وسيطا أمينا لنقل سطح ظاهرة التشرد، والكاميرا فى الفيلم الآخر كانت تحاول استنطاق أرواحهن من خلال ملامح الوجه ذات الطابع التراجيدى، والتى عمقها اختفاء الألوان.. فى الفيلم الأول كان خبريا إعلاميا أكثر، أما الثانى فقد كان حالة إنسانية مشحونة بالشجن لذا اعتمد على اللقطات الكبيرة للوجوه، فى حين أن الأول اعتمد أساسا على اللقطات المتوسطة، وإن احتفظ غالبا بالمكان العام الواحد الذى فيه يُصور المتشردات، كما يبدو أن المخرجة تهانى عملت فى البداية قبل التصوير على امتصاص جزء كبير من أحاسيس المتشردات بالمأساة، فبدت الصورة الحسية فاقدة لكثير من كثافة روائحها النفاذة، ربما ليستطيع السيطرة عليهن طيلة أيام التصوير، خاصة أن الفيلم شبه طويل (68 دقيقة)، أما هالة وعمار فقد حرصا على تصعيد المترسب فى نفوس السيدات المغتربات إلى أحاسيسهن العلوية قبل بدء التصوير، فبدت مأساة تلك البرجوازيات أفدح من مأساة البنات الشعبيات دول خاصة أن مأساتهن صورت بالألوان وملابس جديدة يبدو أن المخرجة اشترتها لهن درءا لشوفونية من يراقب التصوير! ووسط محبة المحيطين بهن من أصحاب المحلات والمقاهى المجاورة، ويبدو أنها محبة مؤقتة متعلقة بآلة التصوير السينمائى التى ستدخلهم كالعبقرى نجيب محفوظ إلى الشاشات العالمية، وبالتالى أتراجع قليلا عن نعتى لتهانى بالأمانة فى نقل سطح الظاهرة. وما يبقى من حديث حول الفيلمين هو أن التشرد الآمن كما فى فيلم هالة وعمار هو الوجه الآخر للتشرد غير الآمن كما فى فيلم تهانى، ومن ناحية ثانية: لا أمان من التشرد لأى طبقة اجتماعية فى زمننا المعاصر التى تعربد فيه أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما كما يشاءون، لا أمان إلا فى ظل أممية شعبية عالمية ضد أممية المستغلين العالميين. الأهالي المصرية في 17 يناير 2007
|
اليخاندرو غونزاليس ايناريتو يشيد "بابل" العالم زنزانات متلاصقة في سجن كبير والموت الحقيقة البشرية الوحيدة ريما المسمار |