منذ أن انتقل الفنان مل غيبسون من التمثيل الى الإخراج انفتح أمامه باب السينما من عالمها الواسع الذي يجمع الصورة والحوار والفكرة والموضوع والموسيقى وغيرها من فنون. فالسينما في النهاية هي ذاك المسرح المتحرك الذي يفتح امام المخرج الكثير من الأبواب ليطرقها. واختار غيبسون التاريخ كمساحة زمنية تتحرك في نطاقها الكاميرا. إلا أن الجانب الذي اختاره غيبسون كان الأكثر إثارة لأنه بحث من خلاله عن مخزون العنف الذي يحمله الإنسان وما ينتج عنه من عذابات وآلام. ففي فيلمه الأول اختار شخصية «السيد المسيح» ليفرغ من داخله ذاك المخزون المخيف من العنف. وبسبب قسوة مشاهد الصلب اضطرت الكثير من الدول إلى منع عرض الشريط السينمائي الذي اثار الجدل السياسي والفني في وسط النقاد. وكانت البحرين من الدول التي منعت عرض «آلام السيد المسيح» احتراماً للمعتقدات وتحاشياً لمشاهدة تلك الصورة العنيفة والمؤلمة.

الفيلم الثاني كان عن حضارة «المايا» في اميركا عشية الاكتشافات الجغرافية. فالشريط يتحدث عن لحظة تاريخية، ولكنه أيضا يتضمن تلك المساحة الواسعة من العنف. والفارق بين الفيلمين أن غيبسون تحدث في الأول عن شخصية واحدة بينما تناول في الثاني قصة حضارة في طريق الزوال. والجامع بين الفيلمين كان لغة العنف والبطش والقوة والدم المراق، إضافة الى استخدام اللغة الأصلية في الحوار. وهذه تعتبر بدعة جديدة ونافعة في عالم السينما. فغيبسون استخدم اللغة الارامية/ السريانية في فيلمه عن السيد المسيح كذلك استخدام لغة المايا (المنقرضة تقريباً) في فيلمه عن حضارة المايا الهندية. واللجوء الى اللغة الأصل أعطى قوة واقعية للفيلمين حين جعل من الحوار نقطة وصل بين عالم غاب عنا وواقع لايزال يلاحقنا بالقوة والعنف والبطش في عصرنا الراهن.

فيلم «أبوكاليبتو» الذي يعرض الآن في «السيف» من الأعمال الفنية الرائعة في موضوعها وفكرتها وقوتها وأخيرا الرسالة المعاصرة التي يريد أن يوصلها إلى ذهن المشاهد. فهي مشاهد العنف الأخيرة من حضارة «المايا».

ينطلق الشريط من نظرة فلسفية للتاريخ. فهو يبدأ من فكرة أن الحضارة حين تصل إلى نهاياتها تبدأ بافتراس نفسها وهي ليست بحاجة إلى قوة خارجية للقضاء عليها. فالضعف الداخلي يتكفل بها فهو يجرجر الناس إلى الاقتتال والتقاتل والمطاردة والثأر والتلذذ بالدم والتفرج على عذابات الضحية.

من هذه الفكرة ينسج غيبسون رؤيته ويؤسس عليها ذاك الحوار المأسوي الذي يتناول اللحظات الأخيرة من حضارة عظيمة دخلت عالم الماضي وبدأت تموت تدريجياً في وقت كانت أوروبا تدخل العالم الجديد آتية إلى مناطق تلك الحضارة من وراء بالبحار.

مشاهد الفيلم عنيفة وقاسية. وغيبسون كما يبدو تقصد تصوير تلك اللقطات التي تظهر مدى شراسة الإنسان في تعامله مع الإنسان في لحظة تشهد الحضارة كلها مرحلة النزول إلى الحضيض ودخول عالم التوحش والافتراس. فالحضارات صعود وهبوط وحين تصل إلى مرحلة لا تستطيع تجاوزها تبدأ بالتفكك والانهيار والعودة إلى الماضي وتقديس الخرافة والهياج من مشاهد الدم وقطع الرؤوس.

حضارة المايا هي واحدة من حضارات امازونية وهندية عظيمة عاشت المئات وربما آلاف السنين فيما عرف لاحقاً بأميركا الجنوبية والوسطى والشمالية. فهذه المساحة الجغرافية كان يسكنها ملايين البشر وتحكمها حضارات توزعت على مختلف المناطق من السهول والجبال والوديان والغابات. وحين وصل الإنسان الأبيض من أوروبا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر كانت هذه الحضارات دخلت مرحلة النزاع وبدأت من داخلها تفترس نفسها وتتآكل حتى جاء الأوروبي بقوته الجديدة وسلاحه وخبراته وعلومه ومعارفه فقضى عليها عنوة.

غيبسون أراد أن يقول في قصته عن «المايا» إن هذه الحضارة كانت ستنتهي حتى لو لم يقضِ على صورتها الأخيرة ذاك الأبيض المبحر إليها من العالم المجهول. طبعاً هو لا يريد أن يعطي صك براءة للأعمال الوحشية والإجرامية التي ارتكبها المهاجر الأوروبي. إلا أنه حاول قدر الإمكان نقل صورة مجردة عن العنف والقتل. وتجريد صورة العنف تعني توزيعها بالتساوي على مختلف الحضارات والثقافات. فكل الحضارات عظيمة وعنيفة وكلها تدخل في درجات صعود تنبني خلالها أحجار المعابد وترتفع إلى السماء ثم تعاود الهبوط على الدرجات فتأخذ الرؤوس المقطوعة بالتدحرج.

هذه الفكرة تتحكم بالشريط السينمائي العنيف الذي أخرجه غيبسون. ومنها ينطلق ذاك السيناريو الدموي. يبدأ الفيلم بلقطة عن مجموعة شبان ينتمون إلى قبيلة تعيش على الصيد. فهذه المجموعة تتشكل من عناصر مقاتلة متفاوتة في درجات تراتبها الاجتماعي وكانت تشترك مجتمعة في مطاردة فريستها وتنجح في اصطيادها. وتبدأ اللقطات المقرفة حين يبدأ رئيس المجموعة بتوزيع أحشاء وأعضاء الحيوان المقتول على الأفراد. والفكرة واضحة في قوتها وعنفها. فالإنسان متوحش حتى حين يتعامل مع الوحش.

بعدها تنتقل المشاهد إلى لقطات تصور مجموعة أفراد من قبيلة مطاردة وخائفة. وتطلب المجموعة المرور أو اللجوء مقابل تبادل السمك باللحوم. ويدخل أفراد المجموعة المطرودة إلى قرية اللجوء.

في المساء تجتمع القبيلة إلى شيخها ويبدأ الأخير برواية الأساطير عن الإنسان والطبيعة والحيوانات وعلاقات القوة بأسلوب خرافي يدهش الأبناء والنساء والأطفال. والفكرة هنا واضحة فهي تتحدث عن معتقدات ولكنها تشكل قناعات إيمانية عند هذه المجموعة لأنها تتكلم عن مصادر القوة والعظمة وأيضاً تتكلم عن المحبة والتسامح وعدم الخوف. في الصباح تتعرض قرية القبيلة لهجوم وحشي من قبيلة مجهولة وغريبة وبعيدة اجتازت النهر ودخلت منطقة نفوذ مجاورة. ويبدأ المهاجمون بالحرق والقتل والسحل وتنتهي المعركة بمجزرة كبرى لا يبقى فيها سوى بعض الأسرى من الرجال والنساء يساقون إلى أرض أخرى وسط بكاء وصراخ الأطفال الذين يلاحقون أهلهم ويتوقفون عن السير حين تصل القافلة إلى النهر الفاصل بين المقاطعتين. وهنا أيضاً الفكرة واضحة. فالمشاهد التي يتمعن غيبسون في تصويرها تشبه تلك الوحشية التي ارتكبها هؤلاء الشبان حين وقع الصيد في شباكهم. وينتقل الأسرى إلى ساحات القبيلة الأخرى التي تعيش في مرتفعات جبلية شديدة التعرج والوعورة. وبسبب تعقيد الطبيعة تشكلت لدى القبيلة شخصية شديدة القساوة تضبطها علاقات اجتماعية مركزة تعتمد فكرة التأليه من خلال منظومة حاكمة تتألف من رئيس العشيرة والكاهن والعراف وقاطع الرؤوس. فالقبيلة هذه تنتمي إلى الحضارة نفسها ولكنها أكثر تطوراً وتقدماً في تقنيتها ووسائط عيشها. فهي تعتمد على الزراعة ومستقرة في منازل حجرية وتؤمن بخرافات تأسست عليها المعابد التي تشبه أهرامات مصر. وقساوة القبيلة فرضت عليها أن تمارس توحشها وعنفها الدموي على القبائل المسالمة التي تعيش على الطبيعة وصيد السمك أو مطاردة الحيوانات في الغابة. ولذلك كانت تلجأ إلى اقتحام قرى القبائل التي تعيش في الوديان والسواحل والغابات وتأسر ناسها لبيعهم في سوق النخاسة أو التضحية بهم في احتفالات طقسية تجري بمناسبات شتى منها خسوف القمر وكسوف الشمس.

إذاً هناك حضارة واحدة تتألف من ثقافات تتدرج من الغابة إلى الساحل إلى النهر إلى الوادي ثم ترتفع إلى الجبال العالية. وبقدر ما تتسلق الثقافة المرتفعات تزداد شراسة وقوة وتشتد عزيمتها وتتماسك تنظيمياً وتبدأ بالهبوط إلى الأدنى للانقضاض عليه.

قبيلة المرتفعات هذه هي الأقوى والأكثر تقدماً وقساوة فهي تملك المعبد (المؤسسة) وتخضع للسلطة المركزية وتمارس الزراعة (حقول الذرة) ولا تعتمد كثيراً على موارد الطبيعة (الصيد مثلاً). القبائل الأخرى بسيطة ومسالمة وتعيش على قوتها اليومي ولا تعرف التراكم والاتجار بالسلعة واقتصاد البيع والشراء في السوق. وبسبب موقعها المتدني في تراتبه الجغرافي والاجتماعي كانت عرضة لاجتياح الأقوى من جنسها ولونها وحضارتها. وهذه أيضاً فكرة يريد أن يرسلها غيبسون للمشاهد، فالأقوى يفترس الأضعف ويسيطر عليه ويمتلك مصادر رزقه ويستخدمه قرباناً للآلهة.

نحن الآن أصبحنا أمام مجموعة درجات من العنف. الأولى تبدأ من تلك المطاردة للحيوان ثم للأسماك. والثانية مطاردة الإنسان للإنسان. والثالثة انتقال العنف وانتشاره كوسيلة للحياة والبقاء. وهذا ما فعله الناجي الوحيد من مجموعة الأسرى، إذ يتحول من إنسان مسالم إلى وحش يقاتل لحماية حياته وصيانة أسرته الصغيرة التي لم تقضِ عليها المجزرة.

العنف إذاً هو قانون يحكم علاقات الإنسان بالطبيعة والحيوان ثم الإنسان. والقتل هو الوسيلة التي يلجأ إليها البشر حين يتملكهم الخوف والفزع من الآخر أو حين يسيطر عليهم الطمع والجشع وحب الامتلاك والسيطرة. والإنسان في هذه المسألة ليس مخيراً دائماً. فهو احياناً يتعرض للمطاردة كالحيوان ويضطر للجوء إلى القوة دفاعاً أو حماية وليس حباً في القتل. والإنسان أيضا يستطيع أن يختار بين حياة منفتحة تتحكم بها قوانين القوة والبطش، وحياة العزلة في الغابة بعيداً عن قساوة الدنيا. فالخيار يتركه غيبسون للمشاهد في اللحظات الأخيرة، بين الدعوة للاندماج مع القادم في السفن أو الهرب إلى الغابة بحثاً عن ملاذ آمن. فالعنف برأيه مجرى لتاريخ البشر والإنسان أحياناً لا يختار. وهذا هو حال القبيلة التي تعرضت للموت من داخل أهلها. وكذلك هي حال القبيلة القوية التي تقدس الشمس وتهلك الناس من اجل بقاء الهيكل، فهذه القبيلة أيضا دخلت عصر الهبوط والانحطاط وأخذت تفترس نفسها وتتآكل من أحشائها... وذلك عشية وصول الأبيض من وراء البحار ليكمل المهمة التاريخية ويفتك بها ويلغيها من الوجود تاركاً تلك الحجارة والمعابد تشهد على أن حضارة عظيمة مرت في زمن ما في هذا المكان.

الوسط البحرينية في 18 يناير 2007

 

«الأبيض» يخيّب ظنون مشاهدي «أبوكاليبتو»

الوسط - محمد المخلوق 

أتوقع جازماً أن أكثر من نصف الموجودين في سينما سار لمشاهدة فيلم «أبوكاليبتو» كان دافعهم الأساسي الرغبة في رؤية الجديد - بعبارة أصح - المميّز لدى ميل غيبسون، ولاسيما بعد الضجّة التي أحدثها فيلمه «آلام المسيح».

وقد صدّق غيبسون توقعات جمهوره البحريني، إذ جاء إخراج القصّة رائعاً وجذاباً، وإن لم يخلُ من بعض الملاحظات التي لابدّ منها.

الفيلم لم يكن ليعني لي شيئاً حينما قرأت تصنيفه «أكشن، مغامرة»، ولكن غيبسون أجبرني على مشاهدته مضافاً إلى الصورة التي بدا عليها البطل والخلفية التي رسمت وراءه، ما يوحي إلى اتصال كل ذلك بالتاريخ الذي أحب الأفلام التي تصنّف تحته. وبعد المشاهدة تأكدت أن حجم القتل والبشاعة فيه جعلت منه فيلم أكشن، فيما كان الطابع الأوضح هو الوثائقية.

الفيلم الذي تدور قصّته «روائياً» حول أحد مقاتلي قبيلة المايا التي تعيش حياة بدائية آمنة في قرية وسط غابة بالأدغال، تهاجَم من محاربي قبيلة أخرى مماثلة ليتم تقديمهم قرابين بشرية لرضا الآلهة، ويكون دور البطل جاغوار باو (رودي ينجبلود) تخليص نفسه من الرعب والأسر، وإنقاذ زوجته وابنه من التشرّد بعدما انهارت قبيلته أمام الغزو، ومع تحوّلات دراماتيكية وعنيفة ومتسارعة ينتهي الفيلم بإنقاذ أسرته، بشكل متزامن مع وصول بعثة استعمارية/ تبشيرية، ما يشير بشكل خاطف إلى الحقبة الزمنية التي يروي الفيلم تفاصيلها.

اكتنز الفيلم بدلالات مختلفة، تتصل بعدّة جوانب اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية. فعلى الصعيد الاجتماعي أعطى الفيلم صورة مقرّبة عن واقع المجتمعات البدائية آنذاك، فالترابط الأسري والتلاحم القبلي وتقدير الآباء والأجداد يصل حدّ التقديس، وسياسياً أبرز طبيعة النظام القبلي من جهة، ومن جهة أخرى أوضح التطوّر إلى نظام الملكية بمستلزماتها عمرانياً وتسلّطياً، واقتصادياً يشير صيد الخنازير والأسماك إلى أن الصيد (الحرفة البدائية) هو المعتمد، وعلى الجهة المقابلة رأينا صورة أخرى لنظام السُّخْرة الفرعوني، إذ يتمّ استعباد أفراد القبائل الأخرى لاستخدامهم لبناء ما يشبه الأهرامات، ودينياً برزت بشكل واضح طبقة الكهنوت التي تسيّج نفسها بطقوس وأعراف يصدّق بها الناس في مجتمعات منغلقة على نفسها في جزيرة نائية.

دخلتُ الفيلم بعدما قرأت أسطراً غير تامّة من قصّته، متوقعاً أن يحكي كالعادة عن تسبّب الإنسان الأبيض في إبادة حياة قبائل وأمم بسيطة، وجرْف كل ذلك «المجد» و «إرث الأجداد» أمام الآلة والأحلام التوسعية، إلا أن التوقعات كانت خلاف ذلك، فالصراع الدائر طوال الفيلم صورة عن واقع الصراع الداخلي، من غير أن يكمل الفيلم في نهايته دور «الأبيض» المرتقب في «تدمير» الحضارات والثقافات، فدخول «الأبيض» سيبدو أنه سيكون إعادة لإنتاج الفيلم على نسق البداية، وهو ما جرى تكراره في أفلام سابقة، ولذلك أوصلنا غيبسون إلى تلك النقطة التي ختم بها سطر الفيلم، من غير أي تعليق أو «مقبّلات».

جاغوار باو بطل الفيلم، إنسان ورث عن أبيه قوة الشخصية والحكمة، كما ورث خبرة بمسالك الغابة التي يعدّها غابته ومحضناً لغذاء أولاده كما كانت لآبائه وأجداده، ولكن يبدو أن إصرار المخرج على الارتكاز على البطل وحده حتى نهاية الفيلم أفقد الفيلم بعض سلاسة تتابع مواقفه، لتبدو النهاية كفيلم مصري قديم «سعيدة وموفقة». ألا تكفي الضربات التي نالها والجهد الذي بذله لتجعله مائتاً؟ ويمكن أن يعوّض عنه بتولّي ابنه إكمال المسيرة، ولكن لم تسر الأمور كذلك، على رغم وضوح أن الوضع كان مقلقاً لذلك لجأ البطل وأسرته إلى داخل الغابة «ليبدأ حياة جديدة» بعيداً عن الخوف الذي حذّره أبوه منه.

الوسط البحرينية في 18 يناير 2007

 

قراءة في تجربة السينما المغاربية

حميد تاكني 

مازالت السينما المغاربية ملتزمة بنهجها الجمالي والواقعي في إنتاج الأفلام، ومازالت تحصد في كل المهرجانات الدولية والعربية والقارية الكثير من الجوائز والتشجيع والإعجاب، مستغلة بذلك التواضع الكبير الذي أصاب السينما المصرية التي اتجهت إلى تلبية طلبات القنوات الفضائية التي أصبحت بدورها مطالبة بملء برامجها الترفيهية بالكثير من الضوضاء والمتواليات الفارغة من غير الالتفات إلى جودة المنتوج السينمائي.

وقصة الدول المغاربية، المغرب الجزائر وتونس مع السينما بدأت قديما. خصوصا وأن هذه البلدان قبل وبعد الاستعمار عرفت نشاطا سينمائيا يتمثل في إقدام السينمائيين الغربيين على تصوير الكثير من أفلامهم في هذه الدول نظرا للتباين الجغرافي الذي تتميز به، وكمثال على هذا اختيار الإخوان "لوميير" المغرب لتصوير فيلم "راعي الماعز المغربي" سنة 1897.ومنذ ذلك التاريخ إلى الآن تعرف المنطقة المغاربية خصوصا في المغرب وتونس قدوم العديد من المخرجين العالميين قصد تصوير أفلامهم في مدنها وجبالها وصحاريها، خصوصا مدينة "وارزازات" المغربية والمناطق المحيطة بها التي تبقى من الأقاليم الأكثر تميزا في هذا الإطار وجلبا للاهتمام السينمائي العالمي، كما لا ننسى الجنوب التونسي الذي عرف تصوير أفلاما عالمية حصلت على جوائز مهمة. وكمثال على قيمة المنطقة في نظر السينمائيين العالميين نذكر هنا بأن أفلام "لإسكندر الأكبر" "وغلادياتور" "وكليوباترا" و"لورانس العرب" و"الرسالة" و"المومياء" و"مملكة الجنة" وأخيرا "بابل" كلها صورت في المغرب في حين صورت أفلام "لصوص التابوت المفقود" و"المريض الإنجليزي" و"القراصنة" و"سيدة فراشة" في القطر التونسي. وهذا يبين الاهتمام الكبير الذي توليه شركات الإنتاج السينمائي لهذه الدول، وذلك لتوفرها على مناظر متميزة وطاقات سينمائية واعدة واستوديوهات مجهزة ومتكاملة. وقد عرفت السينما المغاربية تطورا كبيرا سواء على المستوى التقني والأدبي والأدائي، حيث صادفت في بدايتها الكثير من المشاكل خصوصا على مستوى الدعم المادي، إذ لم تكن تشكل الصناعة السينمائية أولوية لدى الحكومات المغاربية زيادة على أن جل الأفلام المنتجة كانت نخبوية تندرج في خانة النضال الفني، خصوصا في المغرب الذي عرف تضييقا كبيرا على السينمائيين لكون جل السينمائيين قد انخرطوا بشكل مباشر أو غير مباشر في العملية النضالية التي كانت تتزعمها الأحزاب وتباركها الجمعيات الثقافية والنوادي السينمائية وفرق المسرح الهاوي.

وبالرغم من هذه الظروف غير المشجعة لإنتاج أفلام سينمائية، وشيوع السينما المصرية في تجلياتها الرومانسية والعاطفية، إلا أن السينما المغاربية كانت سباقة في الحصول على التتويجات العالمية في شخص المخرج الجزائر "لخضر حامينا" الذي انتزع السعفة الذهبية برائعته "وقائع سنوات الجمر" في مهرجان "كان" سنة 1975، وبنظرة صغيرة إلى السنة الذي حصل فيها الفيلم الجزائري على الجائزة الكبرى أمكننا أن نقول أن هذا التاريخ عرف نضجا سينمائيا على المستوى العالمي، فيكفي أن نذكر أسماء مثل "كوبولا" و"فرانشيسكو روزي"، ومارتن سكورسوزي ممن أثروا المكتبة السينمائية العالمية بروائع سيظل يذكرها التاريخ إلى الأبد.

ولقد حاولت الأفلام المغاربية إيجاد سينما مغايرة للنموذج السينمائي المصري الذي نجح إلى الوصول إلى المتلقي المغاربي عبر أفلام بسيطة وساذجة وفقيرة على مستوى البناء الدرامي، إلا إذا استثنينا بعضا من الإنتاجات التي حاولت القفز على رتابة مواضيع السينما المصرية وتقديم أفلام أكثر انسجاما وواقعية. وكان لزاما على المخرجين المغاربيين أن يتحرروا من تلك الرمزية المبالغ فيها التي طبعت أعمالهم، وذلك بالتقرب إلى المتلقي عبر سينما أكثر تواصلا وبساطة من غير الإخلال بالعمق السينمائي الذي أصروا على الحفاظ عليه من أجل غاية السينما في معالجة مواضيع الساعة. وقد شكل فيلم المغربي عبد الرحمن التازي "البحث عن زوج امرأتي" بداية لرجوع المشاهد المغربي إلى القاعات السينمائية تبعتها تجارب رائعة مثل فيلم "علي زوا" لمخرجه نبيل عيوش و"خيول الحظ" لجيلالي فرحاتي و"فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق" لمحمد عسلي ومنذ ذلك التاريخ إلى الآن عرفت السينما المغربية تطورا على مستوى الشكل والمضمون وصارت أكثر قربا للمتلقي المغربي مما حدا بالدولة إلى التفكير في إعادة هيكلة المركز السينمائي المغربي، وزيادة الدعم المادي لهذا القطاع الذي أصبح يشكل مجالا حيويا خصوصا في التعريف بالتجربة الفنية المغربية في المحافل العربية والدولية والقارية.أما في القطر التونسي فقد عرفت التجربة السينمائية تطورا كبيرا خصوصا أن السينمائيين كانوا ولا زالوا يتمتعون بحس جمالي فلسفي سينمائي رفيع، وبنظرة واحدة لأفلام المخرج الرائع نوري بوزيد "صفايح الذهب" و "وبزناس" وغيرها يمكن ملاحظة الحرفية السينمائية العالية والعمق الدرامي والإخراج المبهر الذي يتميز به هذا المخرج، كما يجب أن لا ننسى الناقد السينمائي "فريد بوغدير" الذي قادته تجربته النقدية الطويلة إلى دخول مغامرة الإخراج السينمائي وطبعا جاءت النتائج أكثر من رائعة خصوصا في فيلم "حلفاوين1990" و"حلق الواد"، أما العنصر النسوي فتمثله المخرجة المتمكنة "مفيدة التلاتي" التي أخرجت أفلاما بحسية عالية منها على سبيل المثال "صمت القصور" و"وكسوة".

أما في الجزائر فقد نمت السينما فيها خلال مرحلة النضال من أجل الاستقلال في الخمسينات والستينات. فنتج عن ذلك إفراط في تناول مواضيع الحرب في الأفلام الجزائرية .ولكن برزت أنواع أخرى من الأفلام في السبعينات بعد أن مل الجمهور من التركيز شبه الحصري على الثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي فبدأت هذه الصناعة التي تتحكم فيها الدولة في معالجة مواضيع مثل مشاكل الهجرة إلى أوروبا وانعدام الكفاءة الناتج عن البيروقراطية وتغير الدور النسائي في الجزائر. أما اليوم فقد أنجبت السينما الجزائرية عدة مخرجين أثروا المشهد السينمائي المغاربي وحازوا على إعجاب المتتبعين في أنحاء العالم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر المخرج المبدع "رشيد بوشارب" وبلقاسم حجاج "وعبد الكريم بهلول" وغيرهم... لقد قطعت السينما المغاربية أشواطا كبيرة في التعريف بنفسها وإثبات ذاتها على المستوى العالمي خصوصا، وفعلا تمكنت من تغيير المشهد السينمائي العربي وقدمت نموذجا رائعا للسينما الجادة مما جعل المنظمين لأكبر المهرجانات العالمية يصرون على حضورها من أجل إضفاء صبغة استثنائية لمهرجاناتهم، إلى جانب هذا تبقى المهرجانات المنظمة في المنطقة مثل مراكش وقرطاج مهرجانات وازنة ويصر أكبر السينمائيين على حضورها والمشاركة في مسابقاتها الرسمية.

إن تميز السينما المغاربية يكمن في تلك الفرجة السينمائية العالية والاشتغال على الجوانب التقنية وتغليبها على باقي عناصر ألحكي، إلى جانب بناء القصة الفيلمية وفق علاقات سردية متنوعة إضافة إلى مرجعية الأفلام المستقاة من اليومي والواقعي وكل هذا يجعلها تتبوأ مرتبة متميزة في نظر نقاد السينما في جميع أنحاء العالم.

الرياض السعودية في 18 يناير 2007

أبوكاليبتو ميل غيبسون وانهيار حضارة المايا:

مغامرة في الغابة تعيد انتاج العالم الاكزوتيكي.. وطرواة الشحم ووصول الغزاة

ميل غيبسون الممثل المعروف، كان حديث الاعلام العام الماضي حول عبارات قالها وهو سكران عن اليهود لاحد رجال الشرطة، وجاءت الاتهامات بالعداء للسامية ثم الاعتذار، وغيبسون شخصية غير محببة لليهود علي خلفية فليمه الساعات الاخيرة للمسيح او آلام السيد المسيح، الذي يصور بطريقة طرية وطازجة بدون رتوش رحلة السيد المسيح للصلب.

غيبسون فنان/ مخرج معروف يحب التاريخ، تاريخ ما قبل الحداثة، في افلامه نزعة لتصوير العنف واثر الحرب، والحنين الي عالم بدائي انتهي، وفيها ايضا مسحة دينية واضحة كون غيبسون متدين وملتزم بالكاثوليكية وله سبعة اولاد. ومن هنا ففي احيائه للعالم القديم او اثر الحداثة المدمر علي العالم الذي تعيده للعصر الحجري لا يعمل علي احياء العالم الذي انتهي بالعمل علي مضمون الفيلم ولكن يعيد الصياغة بنفس وهج العالم هذا وضروراته، وافلامه من ماكس المجنون ((1979، اسلحة فتاكة ((1987، وفيلمه التاريخي عن البطل الاسكتلندي بريفهارت/ القلب الشجاع ((1995، وآلام المسيح ((2004 الذي استخدم فيه غيبسون اللغتين الارامية واللاتينية واخيرا فيلمه ابوكاليبتو ((2006 الذي بدأت عروضه في دور السينما البريطانية الاسبوع الماضي. والذي اعاد فيه لغة حضارة المايا يوكاتيك التي يتخاطب بها والمشاهد يتابع الحوار من خلال الترجمة علي الشاشة. اهتمام غيبسون باللغة الميتة لا علاقة له بالبحث عن الاصالة بل هو جزء من الحنين للعالم الذي باد بعد ان ساد. غيبسون الذي كتب نص الفيلم بالتعاون مع فرهاد سافينا، ربما كان واعيا ان ما يقدمه في فيلمه ليس كل الحقيقة التاريخية لما حدث لحضارة المايا، وبالتأكيد فالكثير من المؤرخين قد يجدون السرد البصري لعنف المايا غير حقيقي، وفيلمه في النهاية هو عن حياة الغابة، تكتيكاتها وعنف الحياة فيها وصراع البقاء وهو ايضا عن تحلل الحضارات وانتهائها بفعل الدمار الداخلي والذاتي.

قطعا لم يقرأ غيبسون تحليلات وقراءات المفكر الجزائري المعروف مالك بن نبي ونظريته عن القابلية للاستعمار لدي الشعوب الضعيفة ولكن العبارة التي يبدأ فيها الفيلم تشير الي هذا الوعي والتي يأخذها غيبسون من المؤرخ ويل ديورانت الذي يقول ان الحضارات العظيمة لا تنهار اذا انهارت بفعل العوامل الخارجية ولكن بعوامل داخلية، فالشيب والعجز والتدهور يبدأ في الحقيقة من الداخل. ولهذا فالمشاهد الذي يذهب لمشاهدة هذا الفيلم ويعتقد انه سيشاهد نسخة جديدة عن الفظائع التي ارتكبها الغزاة ضد حضارة الازتيك والمايا والهنود الحمر في امريكا اللاتينية، والدماء التي سفكها القائد الاسباني كورتيز، سيفاجأ عندما لا يعثر الا علي عنف الغابة والقرابين البشرية التي يقدمها شعب المايا لالهة الشمس التي لا تشبع الا من خلال الدم والقربان البشري. كثيرون خاصة المؤرخين قد لا يعجبون برواية غيبسون السينمائية وسيشيرون الي الكثير من الاخطاء التاريخية في هذه النسخة ولكن غيبسون غير معني بالتاريخ واصالته بقدر عنايته بتقديم العالم القديم بكل ما فيه من طراوة وكمادة خام لم تتعرض للتجميل او التعديل.

وهو في المشهد الاول يدخلنا الي عالم الغابة وقرية وسكان نشاهدهم كثيرا في الدراسات الانثروبولوجية وافلام ناشيونال جيوغرافي عن الامريكية التي تصور استمرارية الحياة القديمة في بعض المجتمعات التي لم تغزها او استعصت علي الحداثة، السيارة والتلفزيون والكهرباء/ هنا يلاحق ابناء المستوطنة خنزيرا بريا ويقتلونه بطريقة جماعية ثم تأتي عملية تقسيم الصيد، حيث يتم توزيع اجزاء الخنزير التي نشاهد عملية تشريحه بدون قطع علي افراد فريق الصيد بحسب الحظوة او المركز ويقوم بالتوزيع جاغوار بو رودي يانغ بلاد - الذي يشبه في سحنته وشعره لاعب الكرة البرازيلي رونالدينو ويقوم في هذه الاثناء بالسخرية من احد افراد الفريق، بلانتيد (جوناثان بريوار) الذي يبدو عاجزا عن انجاب اولاد ويعطيه خصي الخنزير ليأكلها وهي نية بدون طبخ، وامام ضحكات الاخرين نري علامات التقزز علي وجهه وهو يشكو من انه يحصل دائما علي خصي الطريدة ايا كانت. بعد مشادات ونصيحة من والد جاكوار بو فلينت سكاي (بيرديلوهيد)، يعود الصيادون للقرية وهنا تبدأ حماة الرجل الذي كان مثار ضحك اصدقائه بالالحاح عليه لكي يدخل الخيمة وينجب اطفالا من ابنتها، وعندها يجرب اوراقا قدمها له قائد الصيادين وزعيم فرسان القرية ووالد جاكوار بو والتي يطلب منه ان يمسح بها علي اعضائه قبل الجماع ويتبين انها اوراق من الفلفل الحار، حيث يخرج راكضا ويجلس في اقرب حوض للماء وسط ابتهاج وضحك ابناء القرية. ينتهي اليوم الاول من حياة السكان بحلسة حول النار يقوم في اثنائها حكيم القرية بتقديم النصائح عن الخوف، ولكن جاكوار بو ينام ولا تغادره صورة جماعة من الناس كانت تعبر محيط قريتهم بعد ان طلبت الامان ونصائح والده الذي يحذره من الخوف، حيث يقول له الرعب هو المرض وعندما يتخلل المرض داخل الجسد الانساني يقتله، لم يكن يعرف جاكوار وسكان قريته ان فريقا من فرسان المايا كانوا في طريقهم لحصار القرية، حرقها، اغتصاب نسائها وسبي رجالها لكي يقدموا قربانا لالهة المايا الغاضبة. قبل ان تشرق الشمس، تكون القرية قد حوصرت وقتل معظم سكانها ومن بينهم سكاي بو والد جاكوار الذي يؤكد علي اهمية عدم الخوف قبل ان يذبح وتحز رقبته، جاكوار بو في اثناء المعركة ينزل ابنه وزوجته الحامل في بئر ويطلب منهما الانتظار الذي يطول، حيث يؤخذون في رحلة طويلة وهم مقيدون كالحيوانات في اعواد من القصب ويصلون الي عاصمة الماياـ مدينة واخيرا مذبح الالهة الذي يبدو كهرم يحاول الوصول للشمس. في الساحة الكبيرة يقوم الكهنة برمي الرؤوس التي تتدحرج وسط منافسات الحضور من اجل الامساك بها. يقاد فريق جاكوار بو بعد دهن اجسادهم بطلاء ازرق للمذبح، حيث تتم عملية القتل بفتح البطن واستخراج القلب ثم يحز الرأس ويرمي وبعدها بقية الجسد، وعندما جاء دور جاكوار بو يوضع علي المذبح، والمشاهد يعرف انه لن يقتل فهو بطل الفيلم، وهو الشخص الذي يحمل تقاليد ومفتاح الغابة بعد ان جعلها والده حكرا عليه ووضع عليها حرزا له ولاولاده، وفي مشهد يحبس فيه المشاهد الانفاس وفي اللحظة التي سيطعن فيها الخنجر قلب جاكوار يحصل كسوف في الشمس، حيث تعتم الدنيا وبعدها تنجلي الشمس في مشهد يظهر ان الالهة شبعت اليوم من القربان الدموي. عندها يطلب الكاهن الاكبر من فرسان المايا ان يتخلصوا من طريدتهم البشرية، وفي مشهد يذكر بمشاهد المصارعة الرومانية، يخرج الطرائد البشرية الي ملعب ويطلب منهم الركض حتي حدود الغابة وان نجوا نجوا وان لم ينجوا من السهام والحجارة والمنجنيق الذي يقذف عليهم، ومن الفارس الذي ينتظرهم عند خط النهاية لذبحهم، عادوا الي غابتهم المحروقة، والا فسيموتون في الميدان. في المرحلة الاولي يقتل اثنان من الرهائن. وعندما يأتي دور جاكوار بو، يكون تعلم كيفية التحايل علي السهام بالركض في اكثر من مسار حتي يؤثر علي تركيز رماة السهام، وضاربي المنجنيق والحجارة. وينجح جاكوار بو الذي يجرح في قتل ابن رئيس فرسان المايا، ويهرب في الغابة. وعند هذه النقطة تبدأ رحلة مطاردة رهيبة في الغابات الاستوائية التي تأخذ بمجامع القلوب وتتخللها استعادة لاساليب الصيادين والفرسان، والطرق البدائية للتخلص من الاعداء. وفي ظلال الرحلة المشوقة يقدم غيبسون جماليات حميمة عن الغابة وعن العالم الايكولوجي المهدد بالانقراض وعن الزمان القديم، الاكزوتيكي، ومن خلال مجموعة من الحيل والالعاب يستطيع غيبسون الذي لم يعد مهتما الان بالسرد والحوار، بل بالخيط الروائي، الذي يعرف المشاهد نهايته بمقتل العصابة التي تلاحق جاكوار بو، ولكن غيبسون الذي يريد ابهار المشاهد والامساك بتلابيبه حتي النهاية يمارس لعبة الغموض، فهو ينقل الكاميرا بين مطاردات فرسان المايا لجاكوار بو وبين محاولات زوجة الاخير الخروج من البئر، ويصل المشهد تألقه وذروته الدرامية عندما تمطر الدنيا، بل تجود السماء بشلالات من المياه تغمر الام سيفن ( داليا هيرنانديز)، والطفل اللذين يتعلقان بحبل الحياة، وفي دوامة الخروج من مأزق البئر تلد الام ويخرج الطفل الجديد من رحمها ومن رحم المطر، يتعلقون وينتظرون بصبر قدوم الاب المطارد. في ملاحقات الفريق، وفي بداية الهروب، يتعثر جاكوار بو، باجساد ملقاة علي الارض بالالاف، مقطوعة الرؤوس والاطراف يحوم عليها الذباب، ربما ليرينا الثمن الذي يدفعه البشر في قرابين العنف والعبودية، للشمس وكهنتها في المعبد الذي يناطح السماء. نعرف ان انتصار جاكوار الجريح الذي لا يمكن تفسير ركضه المتواصل في الليل والنهار الا من خلال القوة السحرية التي امتلكها ووزعتها الغابة فيه، فهو ينزف ويركض، ويقاتل ويقوم باختراع الحيل واساليب لعرقلة مسيرة الفرسان الذين لا يقلون قوة وسطوة عنه، ولكن الفرسان ليس لديهم ما يملكه جاكوار، حيث تطاردهم الاوراح الشريرة، وعندما يمرون علي فتاة مشردة امها قتلت قربانا للالهة، تتنبأ بان الظلام يلاحقهم، ويحاول احد افراد الفريق ايقاف رحلة الملاحقة المحمومة علي اعتبار ان مصيرهم بات محتوما وقتلهم بات قريبا، فاللعنة تلاحقهم ، يصر القائد الذي قتل ابنه علي الملاحقة لكي ينتقم من جاكوار. الطبيعة في الغابة تبدو في صف جاكوار، فالاسد الذي يلاحقه، ينقض علي احد اعضاء فريق المطاردة وينهشه، واخر تلدغه افعي كوبرا قاتلة، حيث يقول رفاقه بلغة ساخرة ايتا اوبو اتومبو (عبارة بذيئة) فالرفاق لديهم وقت للسخرية والضحك. جاكوار بو، قادر علي تخطي كل الصعاب كما في المغامرات القديمة والوصول في اللحظة المناسبة لانقاذ عائلته، ولكن قبل الوصول عليه اجتياز البحار السبعة، والانهار العظيمة، والجبال العالية، وعليه هزيمة وحش البر والبحر، وفي مشهد عالي الجمالية، يقف جاكوار موزعا بين مواجهة فرسان شرسين والقفز في امواج شلال كثيف وخطر، ويقرر القفز، وتقرر العصابة المحمومة القفز وملاحقة جاكوار، حيث يقف في بحيرة من الوحل الاسود، ويخرج البطل ملوثا بالدهان الاسود لا نعرف الا عينيه، ولكنه يكون قادرا علي تجميع خلية نحل هذه المرة ويطلقها في اللحظة المناسبة علي المطاردين، واخيرا في مشهد مواجهة مع قائد الفرسان ومساعده ميدل اي (جيرادو تيراكينو) يستطيع التخلص منهما اولا من خلال اعواد حادة غمسها بدم الضفدع السام والثاني من خلال منجنيق يخترق احشاء القائد. بقتل الاخير كنا نعتقد ان المطاردة انتهت ولكنها تستمر، حيث كنا نتشوق لمعرفة مصير الام التي غمرها الماء الي رأسها، ولكن المطاردة تستمر، وفجأة تتوقف، وكنا نعتقد ان جاكوار سينهي اخر اثنين من اعضاء فريق المطاردة وفي جلسة مثل الصلاة علي الرمال الناعمة، يتغير وتر ونغم الفيلم من الايقاع السريع، والحيوي والمثير الي هدوء مفاجئ مثل سائق اضطر لدوس كابح سيارته فجأة، ولكن لم يحدث هنا تحطم بل تغير بالمزاج. يفتح ميل غيبسون عين المشاهد علي حقيقة جديدة تواجه الغابة، فهنا لم يعد الباحثون عن قرابين الالهة الغاضبة المصدر الوحيد للتهديد، بل طلائع الدين المنظم، والغزاة والمبشرون الذين جاؤوا ليغيروا وجه الارض هنا وينهوا حضارة القرابين بقربان كبير يذبح هذه المرة علي مذبح الحداثة القاسية. من هنا يبدأ زمن المحاربين الاسبان وزمن كورتيز. في تحديد لزمنية الفيلم يدير غيبسون كاميراه علي احداث القرن السادس عشر، وهو الزمن الذي بدأت فيه تتغير معالم الطبيعة والجغرافيا في هذه المنطقة، التي صارت تعرف بامريكا اللاتينية. ونجح المصور دين سيملر، الذي صور ايضا مشاهد الفيلم المعروف الرقص مع الذئاب ، بالتقاط عذرية وشفافية ونظافة الحياة في الغابة والامساك بجمالياتها العالية. تماما كما اعاد ويرنر هيرتزوغ حياة الغابة كمكان مسكون بالارواح الشريرة والخيرة في ملحمته عن آلدورادو اغويري: غضب الرب (1972).

في النهاية، هناك جرأة في الفيلم، ليس من ناحية الموضوع، ولكن من وجهة الجرأة علي التعامل مع الماضي وتقديمه وان برؤية مشوهة، وغيبسون معروف بمحاولاته اختراق حدود السرد المعروف والبحث عن سرد آخر، ولكن السؤال الذي يطرحه المشاهد، هو عن طبيعة الموضوع والقصة، فعندما بدأنا نشعر ان الفيلم بدأ يتحرك نحو اطار اخر، بعودة جاكوار الي الغابة وانقاذه عائلته، ينتهي الفيلم، وعندما تتساءل زوجة جاكوار بو ان كان من المناسب الذهاب للبحر واستقبال السفن التي تقترب شيئا فشيئا من الغابة، يختار جاكوار بو، غابته، وينتهي الفيلم. ميل غيبسون قال ان وحشية قادة المايا، يجب ان تذكرنا بوحشية بوش ورجاله في العراق . وهو عن فساد الحضارة والمدينة مقارنة مع عذرية الغابة وبساطتها، وانهيار الحضارات، القديمة والحديثة يبدأ بالمدينة والتضحية بالمدنيين، مثل تضحية بوش بالجنود الامريكيين علي مذبح العراق، وضمن هذا السياق، في الفيلم الكثير من الاحتفال بقيم الغابة، الرجولة والفروسية، والبساطة والتآلف مع الطبيعة والقناعة، وفوق كل هذا العلاقة بين الاب والابن وتوريث قيم الفروسية للابناء والعلاقات بين الرجل والمرأة. انها عن المتوحش النبيل مقارنة مع المدينة الشيطان. صورت معظم مشاهد الفيلم في ولاية فيراكروز المكسيكية، خاصة مدينتي كاتيماكو، وباسو دي اوفيجاس.

عنوان الفيلم يوحي بالنهاية والقيامة ولكنها قيامة مؤجلة علي اعتبار ما سيفعله القادمون علي السفن الجديدة، ولكن قيامة الغزاة لم تكن لتحدث لولا القيامة التي قام بها سدنة القرابين وعباد الشمس. كلمة ابوكاليبتو، يونانية تعني انا اكشف ، ويستلهم الفيلم عنوانه ومحتوياته من بوبول فو الذي يعرف احيانا باسم انجيل المايا ومن وصف المبشرين لقرابين الذبح عن هذه الحضارة.

ناقد من اسرة القدس العربي

القدس العربي في 8 يناير 2007

 

Apocalypto (2006)

138 Min ـ Directed by: Mel Gibson

wrien by: Farhad Safina & Mel Gibson


لينا أبو بكر

الحياة البكر التي لم يمسسها إنس ولا جان هي تلك التي تكمن في مرابع أشبه بفردوس مفقودعاجلا أو آجلا .. قد لا نحتاج إلى غابات ملائكية بطقوس مقدسة ولا إلى صحراوات غضة بأهازيج غامضة لتضيع جذورنا أدراج الرياح ... نحتاج فقط إلى نكون أضعف من الحياة مقدار دمعة وحسرة لا غير ... عمل ميل غيبسون هو لوحة فنية تستلهم ملحمة شعرية قادمة من عصور ما قبل التاريخ ، أو لوحة حداثية يسطو فيها القبح المحبك بروعة ومهارة وحبك تقني بحيث يغدو العمل بمجمله رؤية فنية تستوفي دقة العرض وجمالية اللقطات وتنوع الإيقاعات الصورية"المشهدية " مع ثراء التنويعات الموسيقية المرافقة لها بغض النظر عن حقيقة القصة بشكل تام او عن ما يمكن ان يمتزج بها من مخيالية هي ضرورة من ضرورات الفن ، والضرورات تبيح المحظورات .. ليس شرطا أن يمثل العمل السينمائي وثيقة ما أو تأريخا فنيا ، إنما يؤسس ميل غيبسون لفن سينمائي لا يقوم على الحقيقة البحتة والخالصة بل على الرؤية وتجاوزالواقعوأحيانا التلاعب بجرياته لصالح الفن وهو التلاعب البريء الذي يهدف إلى صناعةأبعاد تأملية في تناول التاريخ لاذاك التلاعب المشوه او السياسي أو المزيف ...شكرا لكل ما تغنينا به أستاذ


عمر-مشكور

مشكور على الوصف الدقيق اني حضرت الفيلم ( الاقراص موجودة عندي ) طبعا هاي على طريقة العرب في سرقة افلام الغرب الفيلم بكلفني اقل من جنيه استرليني مع عدد لا نهائي من المشاهدات هناك اشياء مش فاهمه بالفيلم مثل الطفل السمين المبتسم و زامور اخرى لا اريد الخوض بها مشكور على تحليلك


khaled
also you maybe want to mention that the mayan civilization ended 400 years before the arrival of the spanish.

 

سينماتك

 

مل غيبسون جعل من العنف مجرى لتاريخ البشر

«أبوكاليبتو»... مشاهد العنف الأخيرة من حضارة «المايا»

الوسط - نبيل عبدالكريم

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك