في تجربته السينمائية الثالثة والعشرين "المُرحَّل" The Departed يقدم المخرج الاميركي، الايطالي الاصل، مارتن سكورسيزي، حكاية شرطيين من اصل ايرلندي نشآ في بوسطن حيث يبسط رجل المافيا الايرلندي الأصل ايضاً "كوستيللو" سيطرته على المنطقة. في لحظة يتشابك فيها القدر مع التحولات الذاتية لكل منهما، يختار كل منهما طريقه. يتحول احدهما عميلاً لكوستيللو داخل وحدة التحقيق الخاصة في شرطة بوسطن. بينما توكل الى الآخر مهمة اختراق رجال "كوستيللو" ليكون جاسوساً للشرطة. على هذا المنوال ايضاً، يحول سكورسيزي فيلمه هذا مهمة متخفية يذهب فيها الى انتحال شخصيات واساليب ليقول ما يريد قوله.

***

مع كل عودة لسكورسيزي لا بد من توقع النقاش عينه بين النقاد وبعض الهواة والذي يدور في جوهره حول "تحديد" هوية المخرج وأفلامه، بل الأحرى يتركز على الحكم على الأخيرة بانتمائها او عدمه الى ما يعتقد كثيرون انه "هوية" المخرج. على هذا النحو، اعتُبر الفيلم الأخير عودة الى مرحلة سينمائية سابقة في مسيرة سكورسيزي بعد ان نُسبت افلامه الاربعة الاخيرة (Kundun (1997) وBringing Out the Dead (1999) وGangs of New York (2002) وThe Aviator 2004) الى مرحلة انفصل المخرج فيها عن كلاسيكياته الأولى: Goodfellas، Casino، The Age of Innocence، Raging Bull، Mean Streets،Taxi Driver ...

اذاً حقق The Departed فكرة "العودة" المرجوة الى الماضي وافلام الماضي، الى تلك الكلاسيكيات المذكورة التي تحولت كذلك مع مرور الزمن. ولعل فكرة العودة هذه تنطوي على رغبة في تحديد ملامح الرجل السينمائية، او رسم صورة له تجمع اعماله كافة. ولكن سكورسيزي ينتمي الى نموذج فريد كسينمائي داخل هوليوود وخارجها في آن؛ معادلة ربما يعجز هو نفسه عن تفسيرها او تعريفها. وربما كان ذلك العجز عن تفسير الامور هو الذي حافظ على طزاجته وجنبه الانغلاق داخل نموذج موحد. بهذا المعنى، يتجاوز الكلام على افلام سكورسيزي واقعها. فكل فيلم جديد يحمل بالنسبة الى المراقبين نواة لـ "سائق تاكسي" او "الرفقة الطيبة" او "شوارع قذرة" ثانٍ. ولكنه سرعان ما ينضم بعد وقت قصير الى ارشيفه وينسل اليه بانسجام بعيداً من التعليقات الاولية حول شبهه بها او اختلافه عنها. فإن احداً لا يستطيع ان يتعاطى بجزم مع فيلم لسكورسيزي لأن افلامه المكرسة هي الاخرى استغرقت زمناً لتصبح كذلك. وبعد انقضاء وقت، يلاحظ الجميع العناصر المشتركة بين افلامه بما هي ليست مهمة شاقة على الاطلاق. فالمعروف عن هذا السينمائي شغفه الاول والاخير بالشخصيات الممزقة القائمة على التناقضات العنيفة التي يعشقها ويكرسها في شخصيات افلامه والتي تتنازعها رغبات متناقضة والمتطرفة الى حد بعيد في افكارها وسلوكها وحتى في حبها وكرهها والباحثة دوماً عن الخلاص بالمعنى الروحي العميق من دون ان تجده في الغالب.

اراد الجميع من سكورسيزي ان "يلتزم" بجذوره الايطالية بأن يتابع رصد سلالات المافيوات، ولكنهم في اللاوعي ارادوه ان يلتزم بمعادلة هوليوود "التهربية"(ESCAPISM)، حيث الفيلم ينسج عالماً موازياً للواقع، يسكنه المتفرج طوال مدة الفيلم، متماهياً مع شخصياته، متفلتاً من همومه الحياتية باكتساب مواصفات البطل لزمن قصير. بهذه الافكار، اقبل الجمهور­رواداً ونقاداً­ على الفيلم الجديد أو الأحرى "الفخ" الذي نصبه سكورسيزي بوعي وتصميم.

السخرية

لم يقم سكورسيزي بمفاجأة معجبيه كما فعل في "عصابات نيويورك" مثلاً متلاعباً على موضوعاته بشكل جديد وانما بمضمون قريب جداً من موضوعاته المفضلة. هنا يفعل العكس. يقدم فيلماً يحمل كل مواصفات افلامه السابقة في الشكل وظاهر المضمون ولكنه في العمق مختلف. معظم الجمهور والنقاد نبذ الاول كعمل هجين عن سكورسيزي واستقبل الأخير كتلميذ مطيع في مدرسة سكورسيزي. ولكن قطب الفيلم المخفية تحملنا على فهم العكس.

فبقدر ما يحمل The Departedملامح سينماه القديمة بقدر ما يوحي بشيءٍ من الثقل في تعاطيه مع موضوعاتها. ثمة ما يوحي بالتكلف والسخرية ويحملنا على الاعتقاد بأنه، اي الفيلم، لا يوفر تلميحاً ساخراً الى سينما سكورسيزي الكلاسيكية. فهل قام سكورسيزي، كبطليه في الفيلم، بالتخفي لصنع هذا الفيلم؟ هل ارتدى جلداً آخر ظاهره غير باطنه تماماً كما فعل "ساليفان" (مات دايمن) و"كوستيغان" (ليوناردو ديكابريو) في الحكاية؟

لنتذكر بداية ان هذا شريط اعادة اي انه يعيد تقديم فيلم حقق شهرة واسعة في العام 2002 هو Infernal Affairs من انتاج هونغ كونغ ومن اخراج مشترك لآلان ماك واندرو لاو واي كيونغ. يحافظ الفيلم الحالي على الحبكة الأساسية مع تغيير طبيعة الصراع ومكانه على يد كاتب السيناريو ويليام موناهان (صاحب Kingdom of Heaven). ولكن الموضوع برمته يدعو الى التساؤل: لماذا هذا الاختيار؟لماذا اللجوء الى وصفة جاهزة لاقت شهرتها وجمهورها؟ هل لتخفيض التوقعات؟ ام للعب في ميدان "الجنس" (Genes)السينمائي؟ أم انها مجرد فرصة للاطلالة من جديد على جمهوره القديم؟ ثمة في ما يوحي في هذا الاختيار باقتناص سكورسيزي فرصة لتمرير رؤية مختلفة او ربما للقول ان سكورسيزي القديم كما أفلامه لا يصلحون لهذا الزمن. لهذا ربما قد نلمس في اداء جاك نيكلسن لشخصية "كوستيللو" سخرية لا تفارق جوانب شخصيته. وتلك ليست هجينة عن شخصيات رجال العصابات في افلام سكورسيزي خلا انها هنا تغلب على ما عداها. بمعنى آخر، عندما تطغى تلك السخرية على الشر والعنف عندها تتجه الشخصية الى تخوم مختلفة حيث تصبح أقرب الى كاريكاتور لشخصية رئيس العصابة. واذ نبحث عن تفاصيل تؤكد ذلك الاتجاه نعثر على العديد منها وأكثر ما يعلق في الذهن هو مشهد "كوستيللو" يقوم بضرب "كوستيغان" بحذاء الأخير الرياضي على يده المكسورة. خلف العنف الذي يمثله "كوستيللو" والألم الذي يظهره "كوستيغان" ثمة ما هو ناقص في مشهد تعذيب يُفترض أن يجسد دموية رجل عصابة واساليب اقناعه الخاصة. اين ذهبت السكاكين والخناجر وأدوات التعذيب التي لا يفقه المشاهد بها؟ حتى في المشاهد التي تجمع "كوستيللو" برجاله، يميل سكورسيزي الى تصويرهم في هيئات لصوص صغار بعيداً من بهرجة عوالم المافيات. كذلك في تقديم علاقة الرجال برئيسهم، يمرر الفيلم اشارات الى سقوط هالة التراتبية التي ألفناها في طبيعة العلاقات المافيوية. أحد أفراد المافيا يخاطب "كوستيللو" بينما هو جالس على كرسيه يضحك إزاء عصبية رئيسه بما هو كفيل في فيلم عصابات كلاسيكي بأن يتسبب بلكمة على الاقل على الفم الضاحك يوجهها "كوستيللو" او ذراعه اليمنى "فرينش". ولكنه بدلاً من ذلك ينهره بلطف. ناهيك بالاشارات غير المباشرة الى مثلية "كوستيللو" الجنسية.

المعاني المقلوبة

ليس ذلك وحده ما يعزز اتجاه الفيلم الى تبني لهجة ساخرة بل ان هناك سيلاً من التفاصيل التي "تتنافى" مع موضوعات سكورسيزي التي أمعن في العودة اليها في افلامه "الممجدة". هنا ايضاً نعثر على صدى لعناوين والدين والمهاجرين والعائلة والخيانة وعلاقة الاب والابن... ولكن قبل كل ذلك، لا يكتفي السينمائي بأن يخطو خارج مدينته "نيويورك"، بل انه يتخذ منحىً لا يترك فيه للمدينة هامشاً واسعاً لتحضر الى جانب شخصيات الفيلم. أبرز مشاهد الفيلم وأكثرها تأثيراً هي التي تدور في اماكن مغلقة او عبر الهاتف. بعض المشاهد الخارجي لشوارع بوسطن او العامة لها تخرق الفيلم لا لتثبت وجود مدينة وانما لتمعن في تهميشها. التربية الكاثوليكية التي تلقاها سكورسيزي والتي تظهر بأشكال مختلفة في افلامه، نعثر عليها هنا في اطار مختلف. صحيح ان الفيلم لا يوفر فرصة لتوجيه النقد الى المؤسسة الدينية، ولكنه في مشهد معبر، يقدم "ساليفان" الولد فتى للمذبح. لاحقاً وبعد معرفة مصير "ساليفان"، لا يمكن المشاهد الا ان يتساءل: أما كان أفضل له ان يكمل في عمله الاول على ان ينتهي مضرجاً بدمائه؟ وإذ يطرح فكرة المهاجرين، يقفز مجدداً "عصابات نيويورك" مثالاً يُحتذى حيث عالج هموم المهاجرين الايرلنديين التي تلتقي مع تجربته الذاتية كفرد في عائلة ايطالية مهاجرة واجهت ككل المهاجرين اسئلة حفظ الهوية والانخراط في مجتمع جديد، يُراد منه ان يصبح وطناً ثانياً. مهاجرو سكورسيزي في The Departed غير منشغلين بتلك الأسئلة الا من خلال انشغال كوستيغان باسترداد اوراقه الثبوتية. اما الهوية بالمعنى الثقافي والاجتماعي والارث الحضاري فلا تشغل أحداً هنا.
أخيراً وليس آخراً، يجهز سكورسيزي على ما يمكن ان يكون آخر زفرة حياة في فيلم يُراد له ان يعيد الزمن الى الوراء من خلال علاقة الاب­الابن المفترضة بين كوستيللو وساليفان. هذه العلاقة التي شغلت أفلامه السابقة وكان له دور هام في حياته الشخصية، تنحدر هنا الى علاقة قائمة على الشهوة­بخلاف ما كانت عليه في "عصابات نيويورك" ممثلة في العلاقة بين "بيلي" و"ويليام ذا كاتر"­ مع الاشارات المتكررة الى مثلية "كوستيللو" وعشقه الخفي لساليفان.

مادا يبقى؟

اذاً، انقلب سكورسيزي بعزم وتصميم على ذاته. قدم فيلماً "وفياً" في الظاهر لمسيرته الاولى التي يجلها جمهوره فيما هو في جوهره "خائن" او على الاقل لا ينتمي الى العالم الذي حُشر فيه تماماً كوضع "ساليفان" في وحدة التحقيق الخاصة في الشرطة ووضع "كوستيغان" في المافيا. فيلم سكورسيزي يتخفى في رداء ليس رداءه تماماً كما يفعل بطلاه. ولكن ذلك هو في حد ذاته إنجاز الفيلم. فأن يكون امتداداً حرفياً لـ"شوارع قذرة" او "الصحبة الطيبة" لن يضيف الى رصيد سكورسيزي سوى إرضاء حفنة من المعجبين. ولكن ان يتمرد على ذلك المنوال متسلحاً بفيلم جريمة من الطراز الأول فذلك هو الانجاز. وبالفعل فإن ما يتبقى من هذه التجربة ليس فيلماً يسعى الى العظمة. وربما هنا فقط يبدو محبو السينمائي محقين في نعت The Departed فيلماً لا يسعى الى الاوسكار. بل ما يتبقى فيلم جريمة بامتياز، بارد وخطير وعبثي وعالي التوتر وقائم على لعبة داخلية لا يني يشد حبائلها حتى آخر لحظة. "كوستيغان" و"ساليفان" وجهان لعملة واحدة او هكذا يبدو. الاول خاضع لتقلبات اللعبة بينما الثاني ثابت لا يلين. لا عجب اذاً في ان يمسك الفيلم بتلابيب المشاهدين بحبكته الذكية والصلبة والمتناسلة حيث لا تكاد تحدث نقطة تحول حتى تتبعها أخرى كأنها حجارة دومينو مرصوفة يؤدي سقوط أحدها الى حركة تدافع لا تنتهي الا بسقوط آخر حجر. يضاف اليها مونتاج مكثف يمسك بخيطي عالمي بطليه بشكل متواز الى ما بعد انتصافه، كأنما واحدهما ظل للآخر. وتلك العناصر غير بعيدة من عوالم سكورسيزي الاولى التي يستعيدها ايضاً في الشريط الموسيقي حيث يعمد للمرة الثالثة الى استخدام "غريم شيلتر" من "ذا رولينغ ستونز". الى السيناريو الممسوك والمونتاج التكثيفي والموسيقى، يستعيد سكورسيزي نفسه ايضاً في قيادة فريق تمثيلي من الطراز الاول في طليعته الشابان دايمن وديكابريو في افضل اداء لكل منهما وأهم من ذلك في مكانيهما الصحيحين جيث يصعب تخيل أحدهما في مكان الآخر. كذلك يستدرج سكورسيزي من ممثليه الآخرين (نيكلسن وأليك بالدوين ومارك والبيرغ ومارتن شين) أفضل ما لديهم في مساحة الشخصية لا سيما والبيرغ الذي يسرق الكاميرا كلما أطل.

مع تجدد الحديث على الاوسكار الذي لن يأتي، سيكون من الممتع الوقوف والتفرج على اداء الاكاديمية ازاء هذا الشريط "المخادع" الذي يشهد على تخفي مخرجه في زيه القديم واللعب على طرفي الحبل.

المستقبل اللبنانية في 12 يناير 2007

 

"مؤسسة سينما لبنان" بعد أربع سنوات على تأسيسها.. تجود بالموجود

ريما المسمار 

تحاول "مؤسسة سينما لبنان" منذ تأسيسها في العام 2002 ان تجد لنفسها أرضية في المشهد السينمائي اللبناني. وهي في ذلك تعاني من انها ليست مهرجاناً يمكن ان يثبت وجوده وأن يحدد أهدافه كما انها ليست جهة منتجة قادرة على القيام بالانتاج السينمائي المتعسر. ربما لهذا لا نسمع كثيراً بنشاطات خاصة بالمؤسسة بقدر ما يقفز الينا اسمها في خلفية حدث ما مشاركة او متابعة او داعمة لمهرجان او لعرض في اطار مهرجان.

تجد رئيسة المؤسسة ايميه بولس كلمات أبسط لوصف هذه الحالة بقولها ان "تصوراتنا تبدلت اليوم عما كانت عليه عند إطلاق المؤسسة". أي ان طموحات المؤسسة تقلصت من دون ان يعني ذلك توقف نشاطها. "لا أقول ان طموحاتنا تحجمت لأن عوامل التبدل كثيرة وفي مقدمها اوضاع البلد. ولكن نحن ايضاً اكتسبنا خلال السنوات الفائتة رؤية أكثر عملية للقطاع السينمائي وأكثر تماشياً مع عقلية السوق."

تروي بولس الآتية من تجربة ادارة معهد الدراسات السمعية البصرية في الجامعة اليسوعية كيف اصطدمت الرؤية الاولية للمؤسسة بواقع مغاير. "أسسنا هذه المؤسسة لخدمة السينمائيين وتحديداً مادياً ولكننا وجدنا صعوبة كبرى في اقناع البنوك ورؤوس الاموال الاستثمار في القطاع السينمائي. كنت أظن في البداية ان جمع بضعة مليارات للسينما امر ليس صعباً وان هناك اناساً مندفعين لخدمة السينما ومهتمين بتنشيطها. اكتشفت ان هؤلاء غير موجودين وان وُجدوا يحكمهم منطق السوق." تشير بولس الى نقطة مهمة هي الثقة بالسينما "الدولة غير معنية بالسينما ولكن لا أحد غيرها يمكنه منح الثقة للسينما اللبنانية بدون ضمانات. نحن غير قادرين على تقديم ضمانات للبنوك. السؤال الاول الذي نصطدم به هو: أعطنا مثالاً عن فيلم لبناني رد كلفته؟ هذا سؤال يبقى بدون إجابة." لهذا تعتقد ان الفيلم اللبناني يحتاج الى دعم مؤسسات غير تجارية في إطار محدد يحولها قطاعاً خاضعاً لآلية عمل واضحة. وغياب الأخيرة، اي وجودة آلية للعمل، هو الحائط الذي تصطدم به جهود كثيرة رامية الى دعم السينما في لبنان. وآخر تلك الدورة التدريبية التي أقامتها المؤسسة للبنوك اللبنانية مع "سوتيكا" التي تضم بنوك فرنسية متخصصة في دعم السينما. "الكل هنا تجاوب مع دعوتنا ولكن تطبيق ذلك النموذج يحتاج الى آلية لا تصطدم بالقوانين الموجودة."

التحول

كيف تحولت تصورات المؤسسة إذاً؟ وعلامَ استقرت؟

اعتمدت المؤسسة منذ بعض الوقت طريق الدعم المعنوي الذي تنتهجه جهات عدة داخلياً وهو المتعلق بدعم الفيلم اللبناني بعد ولادته. اما ذلك المخاض الطويل الاولي الذي يخوضه صاحب المشروع وحيداً في معظم الأحيان فيحتاج، بحسب بولس، الى خطة. "الترويج" هي الكلمة التي قفزت منذ بعض الوقت الى الواجهة كلما جرى حديث على دعم الافلام اللبنانية. الجمعيات والنوادي والمؤسسات وحتى البنوك والمهرجانات تسعى الى الترويج للفيلم اللبناني ان من خلال عرضه او إصداره على "دي.في.دي" او الدوران به في مهرجانات وعروض خارجية او خصه بجائزة... دخلت مؤسسة سينما لبنان ثقافة الترويج ايضاً "ما دمنا غير قادرين على الحصول على دعم مادي، قررنا مساعدة السينمائيين من خلال الترويج لأفلامهم في الداخل والخارج."

داخلياً، تحاول المؤسسة اقامة صلة وصل بين السينمائيين واشعارهم بأن ثمة جسماً حاضناً لهم ولأعمالهم. كذلك بدأت المؤسسة مؤخراً برعاية عروض افتتاحية لأفلام لبنانية على غرار ما فعلت مع "يوم آخر" لخليل جريج وجوانا حاجي توما. "أهمية هذا العرض قبل الافتتاح هو اننا نجتذب اليه جمهوراً ليس من جمهور السينما عادة."

في الخارج، بدأت المؤسسة قبل عامين وعلى نطاق محدود بسبب من ضيق الموازنة التواجد في المهرجانات السينمائية. ففي العام 2005 شاركت في "بافيليون" مهرجان كان وفي الدورة الماضية من المهرجان شاركت في السوق حيث اقيم "ستاند" للسينما اللبنانية تضمن توزيع ملصقات لأحدث الانتاجات اللبنانية ومقاطع منها أملاً في العثور على موزع لها.

قبيل نهاية العام، شاركت المؤسسة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي عقد دورته الثلاثين اواخر تشرين الثاني/نوفمبر حيث اقيمت بانوراما للأفلام الللبنانية تضمنت عرض مجموعة افلام لغسان سلهب وفيليب عرقتنجي وبهيج حجيج وآخرين فضلاً عن مشاركتها في السوق الذي اقيم للمرة الاولى بعرض مجموعة من افلام الفيديو التي أُنجزت خلال حرب تموز الاخيرة.

اما في مهرجان دبي السينمائي الشهر الفائت، فقامت المؤسسة بخطوة جديدة حيث عقدت لقاءً بين مجموعة من السينمائيين اللبنانيين ومنتجين أجانب قام فيها المخرجون بطرح مشاريعهم امام المنتجين في ما يُسمى "بيتشينغ" Pitching. خمسة مشاريع لشادي زين الدين ("ابراهيم") وبهيج حجيج ("شتي يا دني") وديما الحر ("كل يوم عيد") وهاغوب ديرغوغاسيان ("المسكن") واولغا نقاش ("أم") طُرحت امام مجموعة من المنتجين العالميين لبوا دعوة اللقاء مع الاشارة الى ان أياً من شركات الانتاج العربية لم تهتم بالمشاركة. لم يتمخض ذلك عن اتفاقية نهائية وانما وعود بالمتابعة.

المشروع نفسه تكرر خلال مهرجان السينما الاوروبية الشهر الفائت حيث ناقش السينمائيون المذكورون الى اثنين آخرين هما اسد فولادكار ("حلال") ولارا سابا ("فتاة بالشانتييه") مشاريعهم مع ثلاثة منتجين هما فينسنزو بونو (المانيا) وسامويل شوفان (فرنسا) وجورج سلاوزر (هولندا).

على الرغم من ان كل تلك الجهود لم تثمر عن نتيجة ملموسة بعد الا ان ايمان بولس بالعمل من أجل خدمة السينمائيين وان بالنوايا الطيبة أحياناً فقط لا حدود له. فهي بتواضع ترد على تساؤل حول ما اذا كان بعض افراد المؤسسة قصَّر في تحقيق طموحها الاولي او استسلم سريعاً لصعوبات المهمة بقولها: "من الممكن ان ذنبي انني لا أعرف كيف أطلب او أخاف من طلب التمويل من الكبار لئلا ندخل في متاهة لعبة السلطة على العمل الفني. ولكن أنا أكيدة ان المؤسسة قربت السينمائيين اللبنانيين وستقربهم أكثر مثلما انا أكيدة من المستقبل الكبير الذي ينتظر السينما اللبنانية."

المستقبل اللبنانية في 12 يناير 2007

أفلامُ عطلةِ الأعياد، المفضّلة

دلور ميقري  

1

مضى الأسبوع الأخير من العام 2006، المتصرّم بدوره، وكان محمّلاً بباقة من أوراد الأعياد، السماوية والأرضية، على السواء. بهجة العيد الكبير، بالنسبة للكثيرين منا، مؤتلفة في الذاكرة دوماً بالصالة السينمائية ؛ هذا المحجّ الأثير للطفولة، والمتوافق مع حجّ بيت الله الحرام، المنذور لمن هم أكبر سناً. في أعوامي الغضة إذاً، المنتمية لأواخر ستينات القرن الآفل، كان الأخوة يفترقون، إناثاً عن الذكور، في طريقهم لمركز المدينة : الشقيقات يتنكبنَ صحبة ً صديقة، في توجههن نحو هذه الصالة أو تلك، ممن تعرض أفلاماً رومانسية المواضيع ؛ وخصوصاً إذا كانت سمواتها مكللة بأسماء نجوم مصر ـ كسعاد حسني وفاتن حمامة ونادية لطفي ورشدي أباظة وعمر الشريف..

وغيرهم من المشاهير. فيما كنت، من جهتي، مرتبطاً آنذاك بصلة ذوق ٍ، حميمة، مع المزاج العتيّ لشقيقي الأكبر، المتولع بأفلام الكاوبوي والمغامرة والحروب والكوارث والحرائق.. ! بيْدَ أنني لم أُعدمَ مزاجي الخاص، المستقل نوعاً ؛ المزاج الذي كان آنئذٍ ينفر من أدوار سينمائية عنيفة، مملة، من قبيل " سانتو " و " زورو ". وبالمقابل، فإنني إعتدتُ الإحتفاء بأفلام الوسترن، وبالأخص تلك المناطة بالنجم الإيطاليّ جوليانو جيما ـ كما في سلسلة " رينغو "، الشهيرة. نكبرُ إذاً، والتوله بالفن السابع ما فتيء في قلوبنا طفلاً رقيقاً، في عامه السابع بعدُ، حريصاً على الأعياد وبهجتها. وها أنذا في صقيع المنفى، الشماليّ القصيّ، أنصت لشكوى طفليّ، المحقة في عتبها عليّ لقلة طريقنا السالك إلى السينما ؛ الشكوى، التي كانت أكثر علواً ومرارة في عطلة الميلاد هذه، المنقضية للتو. مشاويرُ الأعياد، الحميمة، بتواشجها بالشاشة الكبيرة، كانت بمثابة طقسنا الأقدس في الوطن. فيما بعد، إستعضنا عنها هنا، في غربتنا ذات الطقس البارد، الكئيب، بعادة المكوث أمام الشاشة الصغيرة ؛ الغربة، المضيفة لخلقنا هنا، تلك العادة المكتسبة من تقاليد أهل البلد، وخصوصاً في عطلة الميلاد ورأس السنة. ففي بلاد ـ كالسويد، أينَ أقيم ـ محكومة بالعزلة والوحدة، علاوة على الليالي المتطاولة دهراً في عزّ فترات شتائها ؛ في هكذا بلاد، لا أنيسَ تسعدُ بصحبته من الأنام (مع إعتذارنا من " الكتاب " !) أكثر من جهاز التلفزيون : قنوات متعددة، متنافسة فيما بينها على أهواء مشاهديها ورغباتهم، حافلة سهراتها بالفيلم تلوَ الفيلم، كلاسيكياً كان أم معاصراً. النوع الأول، يسودُ عادة ً في هذه الفترة، المُعيّدة، من العام، وهوَ النوعُ نفسه، لحسن الحظ، المتطابق مع هوايَ السينمائيّ. وكان من مبلغ تناهي الهوى ذاكَ، أن إشتركتُ بقناة " تي سي إم "، الخاصة، والمتخصصة بعرض الأفلام الكلاسيكية. ثمة ثلاثة من تحف السينما هذه، إفتتنتُ بها حدّ إعادة مشاهدتها مراراً وتكراراً، ودأبتْ من جهتها قنواتُ التلفزيون السويدية، المختلفة، على بثها ـ كهدايا عيد الميلاد.

2

أول الأفلام تلك، المنذورة عادة ً لعطلة الميلاد ورأس السنة، هوَ " ذهبَ مع الريح "، ويعدّ أقدمها بإنتاجه العائد للعام 1934. كنتُ قبلاً، كما الكثير غيري ربما، أعتقد أنّ هذا الفيلم مشغول أصلاً بالأبيض والأسود، وأنهم إرتأوا تلوينه في زمن ما، أحدث. على أنني قرأتُ فيما بعد، في كتاب شامل عن تاريخ الفن السابع، عن كون " ذهب مع الريح "، للمخرج الرائد فيكتور فليمينغ، بمثابة الفاتح للتقليد الجديد (ألوان سكوب)، الطاريء، والزاحف منذئذٍ رويداً على أفلام هوليوود، حتى غلبته فيها ومن ثمّ في كل مكان من العالم. تقليدٌ آخر، مستجدّ أيضاً، أدخله هذا الفيلم إلى السينما ؛ وهوَ إعتمادُ النصّ الروائي للسيناريو : فقصته مأخوذة عن رواية بالإسم نفسه، شهيرة في زمنها، للكاتبة مرغريت ميتشيل (1900 ـ 1949). إنها حكاية حبّ، ضائع في مهبّ الريح (كما يوحي عنوانها للفور) ؛ ريح الحرب الأهلية، التي إندلعت بين الجنوب الأمريكيّ وشماله، على خلفية تحرير العبيد، الأفارقة. هؤلاء الأخيرون، كما ظهروا في فيلمنا الرومانسيّ، كانوا سعداء بعبوديتهم وممتنين جداً لمالكي رقابهم، الأسياد الطيبين الحالمين ـ كذا. على كل حال، فإننا أمام مأثرة الفنّ السابع هذه، لا بدّ أن نتجاوز أطروحاتها تلك، السياسية والفكرية، كيما نحلق في المشاهد الفذة، المؤثرة حقاً، لحربٍ ضروس أرختْ ظلالاً قاتمة على حبّ جارفٍ، ما كان سوى وليد المصادفة : إنّ " سكارليت " (النجمة فيفيان لي)، تودّع رجلها الضابط، الذاهب للجبهة لمقارعة الشماليين، ولا تلبث هيَ أن تجدَ نفسها في غمرة الفوضى العارمة، الشاملة مدينتها بسبب تلك الحرب.

في موقف متأزم، مصيريّ، يتهيأ لبطلتنا منقذاً شهماً، وهوَ المدعو " ريت " (النجم كلارك غيبل)، الذي كان في المقابل شخصاً مستهتراً، أفاقاً، فما أسرع أن تطورت أواصر الصداقة بينهما إلى وَلهٍ عنيف، ضافرَ من قوته تلك التحديات الحياتية، سالفة التوصيف. إلى ذلك، كان مقدّراً لهذا الحبّ أن يُضحي، في كل مرة، ضحية ً لسوء الفهم بين قطبَيْه، المذكوريْن، والناتج عن مشاعر الغيرة أساساً. وفضلاً عن إبراز الفيلم لصور الحرب الأهلية، المهولة، فإنّ ما لا يمكن أن يسلوه المُشاهدُ قط، هوَ مَشهد النهاية الدراماتيكية ؛ المتعاقبة فيها المصادفاتُ، بنحسها وسعدها، على السواء.

3

"دكتور جيفاغو "، المُنتج عام 1965، يبدو في بعض مشاهده وكأنما هوَ مقترنٌ بمناسبة عطلة السنة الجديدة ؛ وخاصة ً واقعة ليلة الميلاد، الموسكوفية، الشاهدة على ولادة الحبّ الخالد بين بطليْ الفيلم. لأنسَ إذاً كلّ ما حفظته حقيبة ذاكرتي ـ المثقوبة على أيّ حال ! ـ من روائع الفن السابع، وليتبقّ لي منها ذلك المشهد حسب، الفذ، الفائق الرومانسية : ذلك المساء الروسيّ، المرقطة سماؤه وأشجاره وشوارعه وعماراته بندف الثلج، الناصعة ـ كبشرة " لارا "، (النجمة جوليا كريستي)، الشقراء الفاتنة. كانت هذه الفتاة متجهة ليلتئذٍ نحوَ منزل النبلاء المنيف، المُعيّد، بحثاً عن زوج أمها، " كوماروفسكي " (النجم المخضرم رود ستيغر). وكان الطبيب الشاب " جيفاغو "، بدوره، قد حلّ ضيفاً في ذلك المنزل، رفقة بعض أقاربه، للإحتفال بليلة الميلاد، فلفت نظره تلك الغادة، الشقراء، الماضيَة بتصميم مُمضّ، غيرَ خافٍ، نحوَ صدر الصالة المخصصة للعب الورق. ما أن عاد طبيبنا إلى مشاغله، حتى دوّى صوتُ إطلاقة نارية، أصمّ، فما عتم أن هرع مع الآخرين، المتيقظين من الصدمة، إلى ذلك المكان المرهون للمقامرة : كانت هيَ ثمة ؛ الفتاة ذاتها التي سبق أن إلتقاها خلال ليلة كالحة، لما تمّ إستدعاؤه ومعلمه لعيادة إمرأة كانت قد حاولت الإنتحار ؛ هيَ " لارا " هناك إذاً وبيدها مسدس صغير، مرتعدة، واجفة، إنما رابطة الجأش، فوق كل شيء : لقد أحبّ " جيفاغو " الفتاة هذه، منذ ليلة الإنتحار المشؤومة تلك، وها هوذا هنا بمقابلها ثانية، وقد شعر بأنه نذرَ روحه ومصيره كلياً لها دون غيرها.

وبالرغم من حقيقة إرتباط طبيبنا هذا بخطيبته " تونيا " (الممثلة جيرالدين شابلن) والتي كانت في الآن نفسه إبنة خاله، الذي ربّاه وأنشأه في بيته. ولكننا ندَع بقية أحداث الفيلم، المُشوقة، لفضول قرائنا الأكارم أو ذاكرتهم، بما أنه علينا التعرّف أيضاً على مخرجه. كان دافيد لين قد حقق شهرة واسعة في عالم السينما منذ خمسينات القرن الماضي، وتحديداً مع فوزه بأوسكارَيْن لأفضل إخراج وأفضل فيلم، عن عمله " جسر على نهر كواي ". ثمّ إتجه مخرجنا هذا نحوَ الأفلام ذات الطابع الملحمي، فكان أن قدّم على التوالي مأثرَتيْه " لورنس العرب " (1960) و " دكتور جيفاغو " بعده بخمس سنين : وكان ممثله، المفضل، لكلا الفيلمين نجمنا العربي العالمي، عمر الشريف ؛ الذي لعب الدور الثاني في العمل الأول، ودوراً أولَ، رئيساً، في العمل الثاني. كل من أسهم في هذه التحفة الفنية، الرائعة، " دكتور جيفاغو "، قدّر لإسمه أن يظل محفوراً في رخامة تاريخ السينما : ففضلاً عن تلك الشخصيات، الموسومة، لا بدّ من ذكر صاحب قصة الفيلم، الشاعر الروسي باريس باسترناك (1896 ـ 1960) ؛ من أصدر روايته الحاملة العنوان نفسه، في عام 1957، فجلبتْ له جائزة نوبل، الأدبية، وفي آن لعنة سلطات موطنه، السوفياتية، والتي إتهمته بالمروق والردّة، ثمّ منعت سفره إلى ستوكهولم لإستلام تلك الجائزة ! الموسيقى التصويرية لـ " دكتور جيفاغو "، والتي وضعها موريس جار، كانت معجزة فنية، بحدّ ذاتها. كان نغم آلة الهارمونيكا، الروسية، يطغى على الكثير من مشاهد الفيلم : كمثل المُفتتح، الآسر، الذي نرافق فيه البطل وهوَ في العقد الأول من عمره (أدى الدور طارق عمر الشريف)، إلى المقبرة تشييعاً لأمه ؛ أو مشهد بطلنا نفسه، في مرحلة أفتى، حينما يفلت من الأسر ويؤوب إلى المدينة، حيث حبيبته المقيمة مع إبنتها، فيخفق قلبه لمرأى مفتاح المنزل في موضعه المعلوم. فلا غروَ إذاً أن تصبح موسيقى الفيلم ـ والتي حملت إسم بطلته " لارا " ـ من الأعمال المُصنفة في إسطوانة خاصة، تلقى الرواج بين محبي النغم. هذه الحقيقة، تحيلنا إلى فيلم آخر، لا يقل فتنة في موسيقاه والتي تحولت، بدورها، إلى عمل مصنف..

4

نها ملحمة " العرّاب " للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، والمجزأة على ثلاثة أفلام تتالى شغلها وعرضها على مراحل زمنية، متفاوتة ؛ إبتداءً من الأول عام 1971، إلى الثاني عام 1974 وحتى آخرها عام 1991. قصة الفيلم، هنا أيضاً، مستمدة من رواية بالعنوان نفسه للكاتب ماريو بوزو (1920 ـ 2005). إنها قصة المجتمع الإيطالي، الغريب، في مدينة كبرى كنيويورك، رويتْ بوقائعها وعِبَرها عَبْر أحد المهاجرين الصقليين، وإسمه " فيتو كارليوني " : من أسحَقَ، وحيداً، إلى ذلك " العالم الجديد "، من قريته " كارليوني " وكان لا يتجاوز العقد الأول من عمره، يتيماً عاثر الحظ هارباً من إنتقام ثأريّ. إلا أنّ الجزء الأول من الفيلم، والمتأثر طبعاً بالرواية الأصل، يقصّ علينا حكاية البطل هذا، وقد أضحى " عراباً " للمافيا الإيطالية في نيويورك، عتياً مُهاباً ومحسوداً (النجم مارلون براندو). فيما عاد الفيلم بجزءه الثاني، ومن خلال لقطات فلاش باك، إلى مراحل طفولة " فيتو "، ثمّ فتوته التي تعهّدها النجم روبرت دي نيرو. هذا الأخير، تقمّص دورَ زعيم المستقبل للمافيا، حينما كان ما فتيء شاباً ساذجاً، متعطلاً، ومتسكعاً غالباً في أزقة منطقته، الفقيرة، التي كانت أشبه بقرية في ريف " صقلية " أكثر منها حياً نيويوركياً. وكما نال دي نيرو أوسكاراً، للبطل الثانوي، عن دوره ذاك المطوّب إياه نجماً عالمياً، كذلك الأمر بالنسبة لآل باتشينو، في دور " مايكل "، إبنُ عرّاب المافيا نفسه وخليفته لاحقاً، والمؤدى بإسلوب غاية في القوة والإقناع والأصالة ؛ حدّ أننا بتنا نتعرّفه على الدوام في شخصيته تلك. من جهتي، أعتقدُ أنه لم يسبق لفيلم كـ " العراب " في تاريخ الفن السابع، الطويل نسبيا، أنْ حشدَ كل ذلك " الجيش " الجرار من الممثلين، المبدعين، سواءً بسواء أكانت أدوارهم فيه أساسية أم ثانوية. وتكمن عبقرية المخرج كوبولا، التي لا يرقى إليها شكٌ، في تمحيصه حقيقة مجتمع المهاجرين، عموماً ؛ وهوَ أصلاً إبنه، الأصيل، الذي تمكن من تقديم صورة شاملة عنه، بانورامية وملحمية. وقد ضافرَ من حِرفية مخرجنا، الخلاقة، ما كان من تبنيه لأساليب حديثة في تصوير المَشاهد.. إلى موسيقى شجنة، غامضة، بالغة الأثر على المُشاهد ؛ حدّ أنها تجعله في مقدمة " العراب " مشدوداً إلى مواصلته حتى لو كان قد سبق له حضوره إياه للمرة العاشرة.

5

قلنا أنّ عطلة الميلاد ورأس السنة، لحسن الحظ، قد صادفت عيد الأضحى، المبارك ؛ أو العيد الكبير، بحسب تعبير الطفولة. ولكن ما طغى على هذه المناسبة وتلك، كان مشهد إعدام الطاغية صدّام حسين، الذي عُدّ " عيدية " للعراقيين وغيرهم من شعوب الدول المتظلمة من بغيه وعدوانه. لكأنما تصوير دقائق الإعدام كان فيلماً آخر، رابعاً، للعطلة تلك، الموسومة ! وكيما يصير الأمر كما لو أنه ما كان إتفاقاً، نجدُ هذا " الفيلم " الصدّامي وقد توافرت فيه صلات قربى عديدة مع تلك الأفلام، التي عرضنا لها فيما سلف : فمشهد الحرب الأهلية في " ذهب مع الريح " و " دكتور جيفاغو "، لا بدّ أن يُحيل المرءَ إلى الحرب الأهلية، الهمجية، المندلعة اليوم في موطن الرافدين. كذلك فشخصية " باشا "، الطالب الثوري في الفيلم الأخير، والمتحوّل من بعد إلى طاغية جزار، ليذكرنا بالتكريتيّ، المقبور، وتحولات حياته، الشريرة. ومن غريب المصادفات، أنّ صدّام حسين كان متولهاً بفيلم " العرّاب " ذاكَ، حيث أجمعت مختلف المصادر على إيعازه بإعادة عرض أجزاءه في صالته، الخاصة، بين مناسبة واخرى : ربما جاز لطاغيتنا أن يرى نفسه في ذاك الفيلم، وهوَ اليتيمُ المغادر إلى المدينة الكبيرة طلباً لحياة أفضل ؛ ليسقط هكذا في براثن اللصوصية والبلطجة والإجرام.

أو أنّ مشهدَ " مايكل " وهوَ يغتالُ زعيماً للمافياً، منافساً، وهربه من ثم إلى صقلية ؛ ربما أعاد لذاكرة صدّامنا إشتراكه في محاولة إغتيال الزعيم قاسم (مع عدم جواز المقارنة بين الشخصيْن)، ثمّ هربه إلى مصر عبْرَ سورية. قتل " مايكل " لصهره ومن ثمّ شقيقه، ربما كان ـ على فرضينا ذاتها ـ في ذهن طاغية العراق، البائد، عندما كان يُعيد مشاهدَ الفيلم ؛ هوَ من أمر بتصفية أصهاره وأولاد عمومته وكاد أن يُلحق بهم إخوته غير الأشقاء، لولا تحشيد الجيوش الغربية، المتوالي، والمودي إلى النهاية بحكمه الدمويّ. وكم كان خليقاً بتأمل طاغيتنا هذا، ما كان من دفع " مايكل " لثمن باهظ، لما تعيّن على المافيا المنافسة أن تغتاله هوَ، لتقع إبنته الوحيدة، الأثيرة، قتيلة برصاصاتهم بدلاً عنه.

Dilor7@hotmail.com

موقع "إيلاف" في 12 يناير 2007

 

سينماتك

 

مارتن سكورسيزي ينقلب على سينماه ومواضيعه بسخرية مبطنة

"المرحَّل" شريط يتخفّى في جلده القديم ليقول ما يريد قوله

ريما المسمار

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك