قبل أيام قليلة على انتهاء العام الجاري، بدأت العروض المحلية لواحد من أجمل الأفلام السينمائية حديثة الإنتاج: «بابل» للمخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، الذي يُعرض حالياً في صالات المجمّع السينمائي «أمبير» في «سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير أ ب ث» (الأشرفية) و«دون» (فردان) و«إسباس» (جونية) و«سوديكو سكواير» و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«لاس ساليناس» (أنفة). لا يعني هذا أن العام السينمائي اللبناني لم يشهد أفلاماً جميلة ومهمّة. يكفي التذكير بـ«ثلاث جنازات لملكياديس إيسترادا» لتومي لي جونز و«الطريق إلى غوانتانامو» لمايكل وينتربوتوم و«عمتم مساءً، وحظاً سعيداً» لجورج كلووني و«جبل بروكباك» لآنغ لي و«شرطة ميامي» لمايكل مان و«مختفي» لمايكل هانيكي و«المرحّلون» لمارتن سكورسيزي و«ماري أنطوانيت» لصوفيا كوبولا وفيلمي «ماتش بوينت» و«سكووب» لوودي آلن و«أبوكاليبتو» لمل غيبسون. هذه أمثلة لا تختزل حركة العروض التجارية في العام السينمائي اللبناني المنصرم كلّه، بل تكشف جانباً من تلك الحركة في الصالات المحلية، تميّز (هذا الجانب) بعناوين لافتة للنظر، جمالياً وفنياً ودرامياً وإنسانياً.

لحظات القهر والتطهّر

لا يختلف «بابل» عن تلك العناوين. إنه واحدٌ من أجمل وأفضل الأفلام المعروضة حالياً في لبنان. إنه مرآة تعكس مرارة البؤس الإنساني، وترسم حدّاً واهياً بين الخطأ والخطيئة. إنه لقاء حضارات مختلفة في لحظات مشوبة بالقهر، ومنذورة للانحدار القاسي للمرء في بؤرة الخراب الذاتي. إنه تفصيل حيّ عن معنى الحياة المُعلّقة في أوهام العيش والتباس العلاقات. ففي المسافات الشاسعة في الجغرافيا والثقافة وأساليب العيش اليومي والسلوك الأخلاقي، بدت الحكايات المستلّة من عمق الواقع وكأنها استكمالٌ حادٌ للانهيار البشري عند الحافة الأخيرة للحياة. وفي السياق الدرامي المصنوع بشغف حرفيّ يُتقن حياكة النسيج المتشعّب للنفوس والمشاعر والرؤى بلغة سينمائية جمعت براعة الكتابة والتشريح النفسي والروحي والمجتمعي للفرد والجماعة بتوليف باهر في سرد الحكايات المتشعّبة، وبإدارة جميلة للممثلين الذين أتقنوا تحويل الشخصيات إلى مرايا مفتوحة على الفضاءات الإنسانية كلّها، قدّم أليخاندرو غونزاليس إيناريتو خلاصة الفوضى العارمة التي تعتمل في الذات وروحها وخيباتها المتولّدة من فظاعة القهر وقوة الألم. وإذا بدا «بابل» رحلة في هاتين الجغرافيا والذات معاً، من دون الانزلاق في متاهة التزيين العبثي للمناطق الساخنة، أي للأمكنة التي تشهد انسحاق المرء في ألمه ومتاهته وسعيه الدؤوب إلى منفذ للخلاص، فإن التطهّر، بالمعنيين الروحي والمادي، يبقى إحدى السمات البارزة في السرد المفتوح على الأسئلة كلّها. ذلك أن الأمكنة الجغرافية تتحوّل، سريعاً، إلى ما يشبه المطهر، سواء لرجل يعمل على ترميم علاقة حب وزواج لامست الموت النهائي، أو بالنسبة إلى امرأة وجدت نفسها في لجّة الفوضى والقلق والانكسار لأنها خالفت إحدى القواعد الأخلاقية البسيطة، وإن لسبب أخلاقي وإنساني أيضاً. من دون تناسي الفتاة المسحوقة بألمها الناتج من انتحار أم وانكسار أب، أو الصبيين الشقيقين اللذين أشعلا هذا الفتيل الطويل من النار الحارقة، لأنهما أرادا، ببساطة، أن يختبرا قوة الرصاصة، ومداها الأقصى.

أربع حكايات متداخلة في نسق بديع. أربع حضارات متكاملة في سياق البحث عن معنى الحياة والموت، وعن التفاصيل المرافقة للعبث القدري في مقارعة جنون اللحظة وفلتان البراءة في أدغال النزاعات الدائمة. أربعة أمكنة تبدو، لوهلة أولى، أنها بعيدة عن بعضها البعض، قبل أن تنجلي الغيوم عن الوقائع المزرية للاختبارات اليومية التي يواجهها المرء في حياته كلّها، فإذا بالأمكنة منصهرة في بؤرة واحدة، وإذا بالمناخات الإنسانية الخاصّة بكل واحد منها مفتوحة على بعضها البعض. غير أن الحكايات الأربع والحضارات الأربع والأمكنة الجغرافية والإنسانية والاجتماعية الأربعة كلّها لن تبقى مجرّد ديكورات عابرة، لأنها تحوّلت سريعاً إلى شخصيات فاعلة في التطوّر الدرامي للنصّ السينمائي، ولفضاءاته. فإلى جانب الشخصيات الحقيقية لأناس متفرّقين هنا وهناك، ومتألمين ومنكسرين وخائبين، وساعين إلى فهم تلك الألغاز الخفية التي تصنعها الحياة ويروّجها القدر، بدت الأمكنة مرتعاً لتفسير الحكايات، وانكشفت الحكايات عن سحر الحضارات (من دون التمعّن في تحليلها الاجتماعي والثقافي والمكانيّ، بل باستخدام التصوير السينمائي القادر، ببراعة المُصوّر وحذاقة المخرج، على تقديم جوانب منها، عبر الحكاية نفسها وعلاقات ناسها وعيشهم اليوميّ)، وبريق التماعاتها الإنسانية في معاينة البؤس والموت والفوضى والتيهان والألم والفراغ الروحي والعاطفي.

فيلم سينمائي بامتياز

لا يعني هذا كلّه أن «بابل» نصٌّ سينمائيٌ مرتكز، في تفاصيله الدرامية، على التنقيب في الحضارة والمجتمع الإنساني. إنه فيلم سينمائي بامتياز، أولاً. إنه لوحة فنية تغرف من الواقع الإنساني شيئاً من حيويته في العيش داخل زنازين القلق والتمزّق. فهو، بذهابه إلى تلك البُؤر الجغرافية والإنسانية والمجتمعية والأخلاقية، يُقدّم لحظات مدهشة عن العنف الداخلي، الذي يجد متنفّساً له في سلوك أو علاقة أو تفصيل يحاصر المرء ويدفعه إلى إعادة النظر في سلوكه هذا، كما في واقعه وعيشه اليومي. وهو، بالتقاطه نبض أناس موزّعين في أقطار مختلفة من هذا العالم، يصوغ مشاهد حيّة تكاد تُختصر بسؤال واحد: هل هناك فرق بين الخطأ والخطيئة؟ أو بمعنى آخر: هل هناك خطأ وخطيئة، أم إنهما قابلان للتكامل في لحظة انسحاق المرء في دوّامة الانكسار؟ ذلك أن الشقيقين المغربيين، اللذين حصلا على بندقية اشتراها والدهما من صديق له، أرادا، بعفوية مطلقة، اختبار قدرتها النارية: أخطأ الأب بتسليمهما البندقية، وأخطآ هما برغبتهما الدفينة في الاختبار والتنافس فيما بينهما. لكن الخطيئة كامنة في «الفعل الأسود» الذي مارساه ووالدهما من دون قصد (شراء البندقية، تسليمها إلى ولدين قاصرين، اختبارها على أهداف حيّة من دون انتباه إلى تبعات هذا الاختبار الدموي)، والذي أوصل الجميع، بعد سلسلة فضائح عائلية، إلى مواجهة الموت. هناك السائحان الأميركيان، القادمان إلى المغرب في محاولة أخيرة لترميم العلاقة العاطفية والزوجية والإنسانية بينهما، اللذان يعيشان لحظات سابقة للانهيار، قبل أن يبلغا مرحلة التطهّر الذي يتجاوز، من خلال الدم والعيش على حافة الموت، علاقتهما المرتبكة، والذي، بولوجه الذات ومنطقها في مقارعة التحدّيات كلّها، يفتح أمامهما مدى واسعاً لفهم الذات والعلاقة والذاكرة والمُقبل من الأيام. فالخطأ حاضرٌ في انفصالهما عن ولديهما وفي تمكين الخلل من الاعتمال في قلب علاقتهما، لكن الخطيئة التي كادا يدفعان ثمناً باهظاً (هو الموت ربما) للتحرّر منها، لم تكن أقلّ قوة في دفعهما إلى الحدّ الأخير من محنتهما وتطهّرهما في آن واحد. والخادمة المكسيكية، المُنشغلة بعرس ابنها في بلدتها، ترتكب خطأ اصطحابها الولدين معها إلى ما بعد الحدود، فإذا بالخطيئة تنبع من عجزها عن حمايتهما وسط الصحراء المفتوحة على الضياع والألم، وإذا بالثمن، هنا أيضاً، باهظٌ: طردها من الولايات المتحدّة الأميركية. أما الابنة اليابانية (الصمّاء البكماء)، فواقعة في «خطأ» انتحار أمها، و«خطيئة» انهيار والدها وعجزه عن مواكبة عيشها في عمق الصدمة والألم. في حين أن الأب الياباني نفسه بدا مسحوقاً أمام هذين الانتحار والانهيار، باحثاً عن مطهره الخاص، لعلّه بهذا المطهر يُنقذ ابنته وذاته.

هذا تشريح متواضع لأنماط عيش وسلوك إنساني في بقاع مختلفة من هذا العالم، جمعها آليخاندرو غونزاليس إيناريتو في لوحة بصرية بديعة، لاعباً، من خلال التوليف، على أوتار القلب والعين والروح، وفاتحاً، بفضل السيناريو، عوالم الذات على حدودها القصوى.

السفير اللبنانية في 30 ديسمبر 2006

«ابوكاليبتو» لميل غيبسون..فيلم يرصد صعود حضارة شعب المايا وانهيارها

عمان - ناجح حسن 

فيلم أبوكاليبتو للمخرج ميل غيبسون واحد من بين الأفلام الاميركية الحديثة الإنتاج التي تعرضها صالات السينما بالعاصمة بمناسبة عيد الأضحى المبارك وبتزامن مع عرضه في الصالات الاميركية والأوروبية وعدد من بلدان الشرق الأوسط.

وكان صانع فيلم  ابوكاليبتو المخرج والنجم السينمائي الاميركي الشهير ميل غيبسون قد عمل بصمت ومن دون ضجة إعلامية على تصوير الفيلم في أدغال أكثر من بلد من بلدان أميركا اللاتينية من بينها المكسيك وبأسلوبية ملحمية تزخر بألوان البيئة والمجاميع البشرية من أبناء تلك القارة والديكورات والإكسسوارات الفخمة إضافة الى الغناء والموسيقى المستمدة من حضارة شعب المايا البائدة بفعل الهيمنة والتسلط الناتجة عن الغزوات المتعاقبة للرجل الأبيض منذ خمسمائة عام .

ولم يكن من باب المفاجأة أن تتنافس كبريات الصحافة والمجلات الدورية العالمية العريقة على الاستئثار بواحدة من صور الفيلم لاغلفتها سواء ما كان منها متخصص بالسينما أو بتلك المواضيع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخصوصا ذلك السجال في السباق المحموم بين مجلتي "النيوزويك و التايم على إبراز الكواليس التي دارت فيها كاميرات الفيلم.. وأيضا كان مثلها في دوريات السينما الراسخة كمجلة  بريمير  ومجلة فيلم ريفيو الواسعتين الانتشار .

في فيلم كاليبتو يعود غيبسون صاحب أفلام: آلام المسيح  ،  قلب شجاع  ،  الوطني  إلى التاريخ مجددا وتحديدا مع السنوات الأولى لاكتشاف القارة الاميركية التي يمر عليها الفيلم سريعا في مشهد بليغ الإشارات والدلالات عندما يصور في نهاية الفيلم نزول سفن الرجل الأبيض إلى سواحل أميركا اللاتينية وسط دهشة قبائل المايا المتنازعين فيما بينهم .

لم تكن غاية الفيلم تصوير تلك الحضارة بمعزل عن الأحداث الجسام التي كانت تعصف بين الناس الذين كانوا مؤسسين لحضارة راسخة تنهل من البيئة شتى صنوف الإبداع والثقافة المحلية التي تحاكي هناك في قلب القارة الاميركية علوم الفلك والطب والتاريخ والمعرفة قبل أن تسبقها إليها أي حضارة بشرية أخرى.

اختار غيبسون أن يصور الأيام الأخيرة من حضارة المايا في قالب من التوظيف الممتع للواقع الذي تعيشه الحضارة الإنسانية المعاصرة وما تتعرض له من تحديات وأحداث جسيمة تشي تماثلا بين التاريخ والمعاصرة ومنها انطلق يناقش بدراسة دقيقة موفقة للاماكن والشخصيات والأساليب التي تتبعها شعوب المايا التي قادتها العوامل والظروف التي أدت إلى أفولها وسقوطها على نحو تراجيدي.. والغاية اخذ العبر منه.

فالفيلم يستهل أحداثه بمقولة لمفكر ملخصها / إن عوامل انهيار الأمم تعود إلى الصراعات فيما بينها أن لم يكن هناك غزو خارجي / .. عندها تأخذ كاميرا غيبسون في استعراض لأوجه مناحي الحياة اليومية لإحدى قبائل المايا التي تعيش حياتها في بيئة صعبة بين الأدغال مسخرة أفكارها وعلومها البسيطة في تذليل مشكلاتها مع الأمراض المستعصية أو تشييد البيوت من عناصر الطبيعة المكونة من الأشجار وغلالها وهناك أيضا علاقاتهم مع الحيوانات الأليفة والشرسة ومثل ذلك في العثور على طعامهم وشرابهم بأساليب مبتكرة ونادرة وتأخذ أحداث الفيلم بالتدرج بالتركيز على احد شباب القرية الذي يجد نفسه أسيرا بصحبة باقي الرجال عقب غزوهم من قبل رجال أشداء والذين بدورهم يبيعونهم إلى قبيلة أخرى بغية تقديمهم قرابين للآلهة لحظة كسوف الشمس عندها تبدأ محاولات الشاب في إنقاذ نفسه وتصميمه على العودة إلى موطنه الأصلي لإنقاذ طفله وزوجته الحامل الذين غادرهما مقيدا بالأغلال لحظة سقوطهما داخل بئر.

ومن خلال هذه الرحلة الطويلة المثيرة التي تبدأ بهروب الشاب وقيام مجموعة من الرجال الغلاظ في مطاردة لاهثة للقبض عليه يقف المشاهد على كم وفير من مشاهد البطولة والصمود والإصرار على النصر بفطنته على التعامل مع البيئة القاسية وعناصرها المكونة من شلالات ورمال متحركة وحيوانات متوحشة وهذا كله يدفعه باتجاه استحضار مهاراته في اكتساب مقدرة من التحدي وتحقيق نصره الخاص قبل أن يكتشف الرايات الأولى لغزو الرجل الأبيض الآتي بسفنه الى قارته في نهاية مفتوحة اختارها ميل غيبسون لفيلمه لا تخفى دوافعها .

من الناحية البصرية يشتمل الفيلم على جماليات طافحة سواء من حيث التصوير الجريء الذي يتماهى بين التسجيلي والروائي في توظيف سائر مكونات البيئة في خطاب فيلمه الملحمي الذي يخوض في مسألة تاريخية تقترب الى حد بعيد إن لم تكن تتجاوز تلك القامات الرفيعة التي طالما جسدتها السينما العالمية على مر تاريخها الطويل الذي تجاوز القرن من الزمان أو على صعيد تلك الموسيقى العذبة المستمدة من بيئة الفيلم وإيقاع الحياة التي عاشت فيها قبائل المايا ويحسب للمخرج غيبسون تلك الإدارة المحكمة لمجاميعه في المشاهد التي كانت تتطلب حشودا بشرية كما في مشاهد تقديم القرابين والمتضمنة مشاهد مقززة بوحشيتها الراعبة وأيضا تبرز براعة المخرج في تقديم مشاهد الاقتتال الضاري والشراسة بين الشخوص المسلحين بالرماح والحراب والسهام لكنه لا يعدم في أكثر من محطة تلطيفها في دعابة ذكية تثير الضحك والابتسامات.

ينطوي فيلم  أبوكاليبتو لميل غيبسون على فرادة وبراعة نادرة من بين الأفلام الجديدة التي تنجزها السينما العالمية نظرا لموضوعه الجريء والمدعم بإمكانيات تليق بهذا الإنتاج الضخم والذي ينجح في استلهام التاريخ وتطويعه لمحاكاة واقع إنساني معاصر صعب بعيدا عن التيمات المعهودة التي دأبت على تقديمها أفلام شبيهة في ارتكازها على تقنيات كومبيوترية تخلو من عناصر الإبداع والابتكار التي أخذت مساحات واسعة من هذا العمل الذي سوف يعلق طويلا في ذاكرة عشاق الفن السابع.

الرأي الأردنية في 30 ديسمبر 2006

 

سينماتك

 

«بابل» للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتّو

النشيـد الإنساني بكل اللغات

نديم جرجورة

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك