من يشاهد توفيق صالح مثقلاً بسنواته الثمانين، راكضاً من صالة العرض، الى صالة النقاش، ومن حوار مع أصدقاء الى سجال مع هواة شاهدوا له للتو واحداً من أفلامه، يخيل اليه ان الرجل على عجلة من أمره كونه منهمكاً في كتابة سيناريو أو في تصوير مشهد من فيلم جديد له حان وقت تصويره. وهذه حال توفيق صالح منذ نحو ربع قرن من الزمن. تراه في المهرجانات القريبة والبعيدة، تراه في الممرات بين القاعات، تراه في اللقاءات. لا يتحدث إلا عن السينما، إلا حين يدور النقاش حول أوضاع فلسطين أو أوضاع لبنان. يدهشك باطلاعه على كل جديد في عالم الفن السابع. يحكي لك عن آخر ما قرأ، ويسهب في التفصيل حين يتناول حديثه رواية أو قصة جديدة قرأها... يسهب في التفاصيل الى درجة انك ستبدو واثقاً من انه يكتب سيناريو لتحويل ما قرأ الى فيلم. كل ما في يوميات توفيق صالح، وكل ما يدور على لسانه يؤكد انه دائماً في حال تحقيق فيلم. ومع هذا، لم يحقق توفيق صالح أي فيلم منذ ما يزيد عن ربع القرن. وأنت الذي تقابله في مهرجان ما ويخيل إليك انك، على لسانه، تتسقط آخر أخبار سينماه، ستفاجأ بأن الرجل لا يريد أن يعمل. هو هنا ليكرَّم لا أكثر. ليكرم عن مجمل أعماله. ليوضع في المتحف من جديد – بحسب تعبيره الخاص -. المتحف الذي توضع فيه الأشياء التي لم تعد صالحة للاستعمال. تصبح فقط صالحة للفرجة.

منذ ربع قرن، إذاً، وتوفيق صالح في المتحف... منذ ربع قرن، حتى وإن كان التصفيق الذي صاحب إعلان منحه جائزة تكريمية – جديدة – خلال الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش السينمائي، جاء أكبر وأعمق من أي تصفيق ناله أي مكرّم آخر في المهرجان نفسه. ومراكش لم تكن أول مدينة مغربية يكرم مهرجان فيها، صاحب «المخدوعون» و «درب المهابيل» و «يوميات نائب في الأرياف». وتوفيق صالح تساءل على أي حال: ما هو السر الذي يجعل المغاربة يكرمونني ويكرمون أفلامي، أكثر من أي شعب عربي آخر؟ حسناً، ربما يكون الجواب بسيطاً: المغاربة يحبون السينما وفي قلوبهم مكان واسع لكل الفنانين الكبار الذين أحبوا السينما وعلّموا الآخرين كيف يحبونها. لكل السينمائيين الذين جعلوا للسينما مكانة كبيرة تضاهي مكانة الفنون الأساسية. وتوفيق صالح واحد من هؤلاء.

كسل ما...

توفيق صالح هو واحد من سبعة أو ثمانية مخرجين مصريين رفعوا السينما المصرية الى مستويات ما كان لها أن تبلغها لولاهم. فمن كمال سليم الى صلاح أبو سيف ومن توفيق صالح الى بركات وصولاً الى يوسف شاهين وكمال الشيخ، وخصوصاً شادي عبدالسلام – ولكن في اتجاه آخر تماماً لهذا الأخير -، ثمة خط دفع الفن السابع المصري الى الأمام بقوة وتألق، مؤسساً لتلك التيارات التي ورثت كل هؤلاء منذ بداية الثمانينات، وبالتوازي مع مواصلة يوسف شاهين، دون الآخرين، مساره، وأعطت العالم أفلاماً مصرية – وغير مصرية – حقيقية يعتبر معظمها علامات في تاريخ السينما. ولعل اللافت في مسار توفيق صالح، انه كان الأكثر – من بين كل هؤلاء وكل ورثتهم – ارتباطاً بالقضايا العربية ككل، من ناحية، ومن ناحية ثانية – وفي اعتقادنا ان الوقت حان لقول هذا بكل وضوح – انه الأكثر كسلاً بينهم. فإذا كان الموت وضع حداً لنشاط عبدالسلام وأبو سيف وكمال الشيخ وغيرهم، وإذا كان يوسف شاهين يواصل مساره على رغم ثقل السنوات والأمراض التي تكاد تهلكه، يصر توفيق صالح على ألا يفعل شيئاً. يحكي لك عشرات المشاريع ثم لا يفعل شيئاً.

من هنا، وفي هذا الإطار، يبقى توفيق صالح لغزاً غريباً. وكيف لا يكون لغزاً هو الذي سمعنا منه عن مشروع عن «ابن رشد» قبل سنوات من ولادة مشروع يوسف شاهين عن فيلسوف قرطبة الكبير («المصير»). ومنه سمعنا عن مشروع تحويل روايات عدة لمحفوظ الى السينما، ولا سيما منها «حضرة المحترم» و «الحرافيش» قبل أن يفكر أي شخص بذلك... ثم لا شيء. ومنه سمعنا للمرة الأولى، قبل 12 سنة، عن رواية خيري شلبي الرائعة «وكالة عطية»، لمناسبة اخبارنا انه يحضر سيناريو عنها، ثم... لا شيء. هل نتابع؟ حسناً: قبل سنوات اتصلت الفنانة لوسي وزوجها المنتج سلطان الكاشف، بتوفيق صالح واتفقا معه على مشروع سينمائي، ودفعا له العربون. تحمس لأيام، ثم اتصل بهما وأرجع المبلغ من دون أي تفسير! وقبل سنوات أيضاً، في جلسة ودية، حدث أن روى توفيق صالح، حكاية تصويره فيلمه «صراع الأبطال» (1911) في الريف المصري. وبدت روايته للحكاية من الروعة بحيث يمكنها ان تشكل موضوع فيلم سينمائي من نوع سينما عن السينما. يومها، ما إن انتهى صالح من حكايته، حتى وقف كاتب هذه السطور وسأل الفنان الكبير: لماذا يا صديقي لا تحقق فيلماً انطلاقاً مما تروي. نظر توفيق صالح يومها بدهشة كأن أحداً يغدر به، فيما كان المنتج التونسي حسن دلدول يمد يده الى جيبه ليخرج دفتر شيكاته معلناً استعداده الفوري لتمويل المشروع ودفع الدفعة الأولى فوراً... والناقد المغربي – العامل في قنال بلوس الفرنسية في ذلك الحين – نور الدين صايل، يؤكد سهولة الحصول على بقية التمويل من «قنال بلوس». عندما وجد توفيق صالح نفسه «محاصراً» الى هذا الحد... ضحك وقال: «أنتم عاملين عليّ مؤامرة ولا إيه؟». رافضاً أي بحث في الأمر، قائلاً: «يا أصدقائي، عندي مشاريع أكثر جدية بكثير!».

طبعاً كنا جميعاً نعرف ان لدى توفيق صالح مشاريع كثيرة... لكننا كنا بدأنا نعرف أيضاً ان توفيق صالح لن يحقق أياً منها... ولا نعرف لماذا.

لم يفعل سوى هذا

المهم، منذ شهرين أنهى توفيق صالح عامه الثمانين. وهو انتظر الوصول الى هذه الشيخوخة حتى يبدي بعض علامات المرض والإعياء، حتى وإن كان هذا لا يمنعه من أن يمضي جلّ وقته في السينما ومن حول السينما. وهو الشيء الذي لم يفعل على أي حال سواه، منذ أكثر من ستين عاماً، باستثناء صحبته لنجيب محفوظ. إذ من المعروف أن توفيق صالح كان واحداً من «الحرافيش» الذين التموا منذ وقت باكر من حول صاحب «الثلاثية». من تكن مصادفة ان يكتب نجيب محفوظ لتوفيق صالح سيناريو فيلمه الأول «درب المهابيل» (1955). منذ «درب المهابيل» بدأ اسم توفيق صالح يلمع في فضاء السينما المصرية، أسوة بلمعان اسم مجايله وابن مدينته الاسكندرية، يوسف شاهين. وكان متوقعاً، نظراً الى ان نجيب محفوظ كان دخل ممارسة الكتابة للسينما بقوة منذ ذلك الحين، أن يتواصل التعاون بينه وبين توفيق صالح. لكن الذي حدث هو العكس: طوال العقود التالية غاب التعاون تماماً وبقيت الصداقة الحميمة. وحتى إذا كان كثر توقعوا، عند صدور أجزاء «الثلاثية» المحفوظية، أن يتولى توفيق صالح نقلها الى السينما، خاب هذا التوقع تماماً. ولاحقاً بعد سنوات طويلة حين طرح كاتب هذه السطور سؤالاً حول هذا الأمر على توفيق صالح، في حضور نجيب محفوظ، اكتفى صالح بابتسامته الغامضة وقال: «الحق على الأستاذ... لو كتب السيناريو بنفسه لفعلت». ومن المعروف ان نجيب محفوظ لم يرض أبداً بكتابة سيناريو لأي من أعماله... لكنه مع هذا كتب سيناريوات لروايات إحسان عبدالقدوس، ولأعمال أمين يوسف غراب ويوسف السباعي!!

مهما يكن من أمر، حقق توفيق صالح، طوال مسيرته التي تقترب من العقود الستة حتى الآن عدداً قليلاً جداً من الأفلام: 7 أفلام روائية طويلة، وأكثر منها قليلاً من الأفلام القصيرة والمتوسطة. ونعرف اليوم ان لكل فيلم من أفلامه الطويلة مكانة أساسية في تاريخ السينما – إذا استثنينا آخر أفلامه «الأيام الطويلة» عن حياة صدام حسين كما كتبها عبد الأمير معلا، وهو فيلمه الروائي الوحيد بالألوان، والذي يجب اسقاطه تماماً من فيلموغرافيا توفيق صالح! -. فتوفيق صالح بعد «درب المهابيل» حقق «صراع الأبطال» في العام 1962، و «المتمردون» في العام 1966، و«يوميات نائب في الأرياف» في العام 1968، و «زقاق السيد البلطي» (1969) ثم «المخدوعون» في سورية (1971) وأخيراً «الأيام الطويلة» الذي أشرنا اليه، في العراق، عام 1981. أما بالنسبة الى الأفلام القصيرة فمعظمها تسجيلي حول رحلة عبدالناصر الى الهند والتصنيع في مصر، وصناعة الدمى و «كورنيش النيل»... علماً أن هذا النوع الأخير من الأفلام لا يمثل نقاط قوة في تاريخ الرجل. فتوفيق صالح، الحكواتي بامتياز صاحب خيال عريض لا يتناسب مع التقاط الواقع كما هو وتصويره. وهو لديه من المثل العليا والتطلعات الإنسانية الثورية، ما جعل الناقد التونسي الطاهر شريعة يكتب دراسة حول «ماركسية» سينما توفيق صالح، وإن كان من الصعب علينا تقبل هذا التوصيف كقانون. فالحقيقة ان توفيق صالح وسينماه يحملان رفضاً لواقع البؤس والتخلف، من دون أن يحملا أي تصور أو مشروع للتخلص من هذا الواقع. فحتى حين يبدو أبطاله إصلاحيين ايجابيين، فإنهم لا ينتصرون في النهاية، على طريقة البطل الإيجابي، بل غالباً ما ينتهي بهم الآمر خاسرين. ولعل هذا ما يميز سينما توفيق صالح عن سينما بقية «الثوريين الماركسيين». فهو كان – ولا يزال – يرى أن على الفن أن يطرح الإشكاليات، لكن ليس عليه أن يوجد الحلول جاهزة. الفن ليس إجابة. هو سؤال.

وعي مبكر

والحقيقة ان فناناً مفكراً من طينة توفيق صالح عاش طفولته في الاسكندرية وبعض سنوات شبابه في باريس وأقام في القاهرة منذ العام 1953، داعماً لثورة جمال عبدالناصر ثم منتقداً لها من الداخل – «لأنها هي التي تغيرت وخيبت الآمال» كما أكد منذ البداية ويؤكد حتى اليوم -، وأن سينمائياً من نمط توفيق صالح الذي ارتبط باكراً بالسينما السوفياتية الكبيرة من ناحية الأشكال ولعبة التوليف والتجديدات الفنية، لا من ناحية البعد الايديولوجي، تاركاً للواقعية الجديدة الإيطالية ان تساعده على صوغ أفكاره، ما كان يمكنه ان يكون «تبسيطياً ماركسياً» كما أراده بعض النقاد الذين أفرطوا في حبه الى درجة أن ضمّوه عنوة الى أفكارهم وتطلعاتهم!

منذ البداية أحب كثر توفيق صالح. وكثر توقعوا منه أكثر مما كان يمكنه ان يقدم وفي قرارة نفسه عانى هذه الازدواجية طويلاً إذ وقفت حائلاً بين التفكير والتنفيذ لديه. والحقيقة اننا نقترح هذا هنا ونحن «نجازف» بأن توفيق صالح حين يقرأ هذه السطور – وهو سيقرأها بالتأكيد لأننا نعرف انه يقرأ «الحياة» يومياً -، سيشعر ببعض الارتياح إذ يشعر وكأننا نعطيه هنا مبرراً إضافياً لكسله التاريخي.

بكسل أو من دون كسل. بماركسية أو من دون ماركسية، يبقى ان توفيق صالح، على قلة الأفلام التي حققها طوال مساره المضيء، عرف دائماً كيف يحفظ للسينما كرامتها، هو الذي، وبحسب تعبير المخرج يسري نصرالله الذي سلمه خلال حفل تكريمه في مراكش، درع التكريم، صنع سينمائيين وجمهوراً ومكانة للسينما أكثر مما صنع أفلاماً بكثير. وهو الذي، إذ عرضت في مراكش أربعة من أفلامه الأساسية وأقبل الجمهور بكثافة لمشاهدتها، كشفت هذه الأفلام عن انه، وفي تلك الأوقات المبكرة، شاهد من الحقائق ما عجز عن مشاهدته معظم أبناء جيله، وجدد في فن السينما وفي علاقة الجمهور مع هذا الفن، أكثر مما فعل أي مخرج عربي آخر، باستثناءات قليلة جداً.

الحياة اللندنية في 22 ديسمبر 2006

 

فيلم «ديفيد تولهلدان»... وثيقة سينمائية عن نضال كردي في تركيا

دمشق - هوشنك أوسي 

انتهى المخرج الكردي مانو خليل من تصوير فيلمه الجديد «ديفيد تولهلدان»، وقام بعرضه في سويسرا، وسط اهتمام إعلامي كبير، لما لهذا الفيلم من أهمية وثائقية سياسية تعكس جانباً مهماً من التجربة التحررية الكردية، ومشاركة العنصر «الأجنبي» غير الكردي فيها. وربما لا يخفى على كثر، إن هذه التجربة النضالية، ضمت بين صفوفها، عرباً وأتراكاً وفرساً وأرمناً وآشوريين ويونانيين وروساً، ومن جنسيات أخرى، سقطوا شهداء في سبيل القضية الكردية. وأحد النقاط التي أراد مانو خليل إثارتها عبر فيلمه هذا: هو تسليط الضوء على هذه الظاهرة الإنسانية، عبر التطرُّق الى تجربة المقاتل السويسري ديفيد، في استعادة منه لظاهرة المناضل الأممي المستعد لبذل روحه في سبيل قضية عادلة.

فكرة الفيلم وأحداثه (الذي كتب السيناريو له المخرج نفسه) تدور حول حياة الشاب السويسري ديفيد رويلر، المنحدر من عائلة سويسرية معروفة، ذات مكانة في المجتمع السويسري ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. فوالده هو الرئيس السابق للمحكمة الفيديرالية السويسرية، وأحد القضاة السبعة في محكمة العمل الدولية. هذا الشاب، ترك عائلته وجنَّة سويسرا منذ ست سنوات ليتوجَّه إلى جبال كردستان، ويصبح مقاتلاً في صفوف «الغريلا - المقاتلون الكرد» حاملاً السلاح، واضعاً نفسه في خدمة حركة التحرر الكردستانية والقضية الكردية. «ديفيد السويسري»، أخذ اللقب الكردي «تولهلدان» والذي يعني: «الآخذ بالثأر»، اسماً حركياً له، وأصبح روحياً وفكرياً ثورياً كردياً، يجسد حالة الثوري العالمي، المستعد لبذل روحه في سبيل قضية الإنسان الأولى: هي الحرية والعدالة.

الفيلم يتحدث من خلال رسائل الفيديو المتبادلة بين ديفيد وأهله في سويسرا، عن حياة «الغريلا» الكرد، وكيف أن والدة ديفيد تقرر السفر إليه، لتلتقي به في جبال كردستان، على رغم خطورة وصعوبة الوصول إلى هناك، وتصبح الشاهد على حقيقة المقاتلين. الفيلم وثيقة واقعية عن المقاتلين الكرد، الذين تحاول تركيا، ومنذ أكثر من عشرين سنة، إلصاق تهمة «الإرهاب» بهم. إنه رأي محايد وواقعي عن النضال الكردي، من خلال حديث الشاب ديفيد وعائلته عن الكرد، ثم من خلال والدته، ومشاعرها، وهي في جبال كردستان، مع أناس غرباء عنها، ينادونها بـ «الأم» (لأن الغريلا الكرد يعتبرون أم أي مقاتل أو مقاتلة بينهم، أمَّاً لهم). كما يتطرَّق الفيلم إلى العلاقات الإنسانية بين المقاتلين المتعددي الأعراق والأديان، وإلى الروح الرفاقية التي تجمعهم حول قضية يؤمنون بها.

عنوان الفيلم، «ديفيد تولهلدان» مركبَّ من الاسم الحقيقي والاسم الحركي للمقاتل السويسري. وهو فيلم وثائقي، صوِّر لمصلحة التلفزيون السويسري، مدته، «52» دقيقة، والنسخة السينمائية له، هي 70 دقيقة. أما إنتاج هذه الفيلم، فقد كان مشتركاً، بين التلفزيون السويسري بقنواته الرئيسية الثلاث، ومديرية السينما في وزارة الثقافة السويسرية، ومؤسسة دعم السينما في مقاطعة «فاود»، ورئاسة مدينة «بيرن» ومؤسسة الثقافة في القسم الألماني السويسري، بالإضافة للمخرج. وتمَّ تصوير الفيلم على مرحلتين، في كردستان، وفي سويسرا. استغرقت المرحلة الأولى حوالي الشهر، والثانية 20 يوماً تقريباً.

وعن الصعوبات التي لاقاها مخرج الفيلم أثناء التصوير، ذكر مانو خليل: «أكثر الصعوبات، كانت تقنية من نقل المعدِّات إلى الجبل. حيث تمَّ استخدام كاميرات تلفزيونية متطوِّرة، وذات مستوى تقني عالٍ. ومعلوم أن حمل الكاميرا لوقت طويل، أثناء السير في الجبال الوعرة، يحتاج إلى جهد عضلي كبير، مع أن المقاتلين كانوا يساعدوننا في نقل المعدِّات. والشيء الآخر، كان الخوف من أن السيدة «أرسولا»، والدة المقاتل السويسري، لن تتحمَّل المشي طويلاً في الجبال، ولكنها فاجأتنا، وعلى رغم عمرها الذي قارب السبعين، بأنها كانت تعلمنا الطريقة الأفضل للسير. وخوفنا الأكبر كان من وقوع هجوم مسلح على قواعد الغريلا، ونحن لسنا مقاتلين، وواجب حماية طاقم العمل، كان يسبب للمقاتلين إرباكاً ومسؤولية إضافية. أحياناً، كنَّا قريبين جداً من الجيش التركي. مرةً، كان مجرد 12 كلم فقط يفصلنا عن 150 ألف عسكري تركي محتشدين على الحدود العراقية – التركية. والخوف من هجوم جوي كان دائماً. شيء آخر خلق لنا صعوبة لم نكن نتوقعها، وهي توقُّف مدير التصوير السويسري عن العمل، بعد يومين من بدء التصوير في سويسرا، بسبب خوفه من الذهاب إلى كردستان، بعد أن بدأ بمتابعة الأخبار في شكل يومي، وخصوصاً عندما سمع أخبار تحركات الجيش التركي وتجهيزاته للهجوم على قواعد المقاتلين. لذا، اضطررت لأقوم بالتصوير بنفسي، وهذا يتطلب جهداً آخر وقع على عاتقي كمخرج. لكنني الآن سعيد، لأنني قمت بإدارة التصوير، ونجحت في اختيار اللقطات المليئة بصدق وحب كرديين».

العرض الأول للفيلم كان في مدينة بيرن السويسرية، وسط حضور إعلامي لافت. وكتبت الصحافة السويسرية عنه مطوَّلاً، وعلى سبيل المثال لا الحصر، خصصت جريدة «بوند» المعروفة، ثلاث صفحات في ملحقها الثقافي للفيلم. كما تطرَّقت الصحافة التركية للفيلم، فكتبت جريدة «حريت» المعروفة، في عددها الصادر في 3/11/2006، مقالاً مطوَّلاً، هاجمت فيه الفيلم، في تعبير عن رعب المؤسسات الرسمية التركية من انتقال النضال التحرري الكردي، ليدخل قطاع السينما القادر على تحريك وتغيير الكثير من الأفكار والآراء الخاطئة التي نشرها النظام التركي عن النضال الكردي في أوروبا والعالم، وصولاً الى استقطاب رأي عام عالمي مناصر للقضية الكردية. وهذا ما يخشاه القوميون الأتراك. بخاصة، إن الفيلم قد أُرسِل للعديد من المهرجانات العالمية. وبالتأكيد أن قول والد ديفيد، القاضي ورئيس المحكمة الفيديرالية السويسرية السابق، في الفيلم: «إنني فخور بأبني المقاتل، ولو كنت محلَّه، لفعلت مثله»، سيكون له صداه وتأثيره.

مانو خليل، المخرج السينمائي الكردي، الذي راج اسمه بعد فيلمه «الأنفال» الذي سبق هذا الفيلم، ولد في عام 1964 في القامشلي. ولم يكمل دراسته للتاريخ والحقوق في جامعة دمشق، بسبب رغبته في دراسة السينما. سافر إلى تشيكوسلوفاكيا السابقة، لدراسة الإخراج السينمائي الروائي، حيث تخرَّج من احدى أهم الأكاديميات السينمائية في أوروبا، والتي تخرج منها سينمائيون عالميون كـ «ميلوش فورمان، ييرزي مينزل، يان سفيراك، امير كوستوريتسا...». عمل مخرجاً في التلفزيون التشيكوسلوفاكي، وبعدها في التلفزيون السلوفاكي. شارك في مهرجانات أوروبية وعالمية عدة. حصل فيلمه الوثائقي «هناك حيث يستريح الرب» في 1993 على الجائزة الأولى في مهرجان أوغسبرغ للسينما في المانيا. هذا الفيلم الذي صوَّره في شكل سرِّي في المنطقة الكردية في سورية في عام 1992. أخرج مانو خليل إلى اليوم 14 فيلماً، بين طويل وقصير عرضت في التلفزة الأوروبية. فيلمه القصير «انتصار الحديد»، حصل في عام 2000 على جائزة أفضل الأفلام القصيرة في مهرجان سولوثورن السويسري.

الحياة اللندنية في 22 ديسمبر 2006

حصد ملايين المتفرجين ودفع شيراك الى إعادة حقوق الفرنسيين المغاربة...

«الأهالي»: ترميم الذاكرة المشروخة على مستوى الذات ومستوى الآخر

الرباط – خالد الخضري 

هناك أفلام دخلت تاريخ السينما والأمم على حد سواء ثم لم تخرج منه ابداً. ليس فقط من جانبها الفني والإبداعي الذي بوأها مكانة راقية من الإعجاب الجماهيري كما النقدي مشفوعاً بعدد من الجوائز القيمة، ولا من جانبه المضمون الذي تناول قضية/ قضايا حيوية أو مصيرية تهم اشخاصاً، قبائل أو شعوباً، بل ايضاً من جانب تأثيرها القانوني والإجرائي الذي قد تتخذه الحكومة او المنظمة المعنية، نكتفي منها بذكر نموذج واحد على المستوى العربي يتعلق بفيلم (أريد حلاً) من بطولة فاتن حمامة الذي عالج معضلة حق المرأة في طلب الطلاق، فأجبر الحكومة المصرية على إعادة النظر في قانون أحوالها الشخصية مانحة المرأة مزيداً من السلطة والحرية في تناول هذا الحق.

نكران الجميل

في السينما العالمية هناك ايضاً عدد لا يستهان به من الأفلام التي ردت الاعتبار الى شخصيات أو أقليات ظُلمت سينمائياً وتاريخياً، أو لم تكن معروفة بما فيه الكفاية لعل من أبرزها فيلم «غاندي» للمخرج والممثل الإنكليزي ريشارد اثنبره الذي سلط الضوء على هذه الشخصية شبه الأسطورية التي حررت الهند من نير الاستعمار البريطاني من دون إراقة قطرة دم واحدة وإن كان مصيره الاغتيال على يد متطرف هندي. ومن السينما نكتفي بذكر نموذج واحد ايضاً فيلم «الرقص مع الذئاب» من بطولة وإخراج كيفن كوستنر الذي أنصف الهنود الحمر بعدما ظلمتهم السينما مصورة إياهم بالمتوحشين وقطاع الطرق وسفاكي دماء الأطفال والنساء والشيوخ، بينما هم المظلومون أصلاً والمغتصبة أراضيهم وحياتهم.

وأخيراً من شمال افريقيا، حل الفيلم المغاربي «الأهالي» (أو «الفرنسيون الأفارقة») للمخرج الجزائري رشيد بوشارب ليرد الاعتبار الى قدماء المحاربين المغاربيين والأفارقة ممن قاتلوا تحت لواء فرنسا في سبيل حريتها ضد النازية الألمانية وحلفائها خلال الحرب العالمية الثانية فاستشهد منهم الآلاف من دون اعتراف مادي أو معنوي يذكر من طرف الدولة التي سخرتهم لمنفعتها واستقلالها حين كانت ترصهم دروعاً بشرية في مقدمة الصفوف الحربية كرماة أو مشاة مبقية على حياة وسلامة محاربيها في الخلفي! أو على حد تعبير الزميل سعيد في جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية (14-15 تشرين الأول/ اكتوبر 2006)، « كانوا جميعهم من الرماة الذين يتقدمون الصفوف، البندقية في يد والشهادة في اليد الأخرى، والعين لا تملأها سوى الجثث ما ادخل الرعب على بسالة الألمان».

وحين يخرم الرصاص صدور الأوائل، ينط الذين كانوا في الوراء – أو حتى غائبين عن المشهد الحربي – الى الواجهة ملوحين براية النصر التي خضبها المحاربون المغاربة بدمائهم وليتراجع من تبقى حياً منهم – بعاهة جسدية أو من دونها – الى خلف الظل، لتكبر وتشيخ معه عاهة نفسية أشد فتكاً من الموت الحقيقي بشعوره الفظيع بلا جدوى تضحياته وبفقده حياته كما أصدقائه في سبيل من لم يعترف به وأدار له ظهره.

الموت حياً

هذه الحال المخزية التي عبّر عنها الفيلم في مشاهده الختامية، حين دافع الجنود المغاربيون الأربعة ببسالة خرافية عن القرية الفرنسية المعزولة في منطقة الألزاس وتمكنوا من صد الألمان الكثيري العدد والعدة الى ان استشهد منهم ثلاثة ليبقى عبدالقادر شاهداً على المجزرة والنصر المريرين وكأنه يتساءل: لماذا حاربت؟ لماذا مات أصدقائي؟ وفي سبيل ماذا ومن؟ وحين يحل الفيلق الفرنسي مدعوماً ببعض الأميركيين لا يُمنح عبدالقادر أي اهتمام، بل الأدهى من ذلك يتجاهله الكولونيل الفرنسي وهو يلج القرية ولوج الغازي المنتصر! فيتقدم منه المقاتل المغربي معلناً عن هويته وتذكيره بأنه هو الذي بعثه للقتال هناك، لكن شرجان القائد بجفاء أن يحمل متاعه ويتبع الفيلق.

في تلك القرية يشرع الفرنسيون والأميركيون في التقاط صور التأريخ لذلك (النصر) العظيم! مع ان واحداً منهم لم يشارك في المعركة، بينما ظل عبدالقادر مصعوقاً متخشباً على مرأى من جثث أصدقائه المتفحمة يتذكر ما قاله لهم حين ترددوا في مرافقته الى تلك الجبهة: «علينا أن نكون أول من يصل هناك حتى نكتب تاريخاً غير مسبوق في بلاد الجنرال ديغول»... وفعلاً ذاك ما حدث: وصلوا جميعاً، لكن كيف وبأي ثمن؟ فجلهم مات منفذاً تعليمات الكولونيل الفرنسي حين كان يصرخ فيهم: «علينا (أو بالأحرى عليكم) الوصول الى هناك ولو موتى» مكرراً عبارة «ولو موتى» مرتين.

وقف عبدالقادر يتأمل هذا الخزي الانساني الذي مني به الفرنسيون الذين لم يكلف واحد منهم نفسه دعوته الى التقاط صورة تذكارية. تجاهله الجميع باستثناء سكان تلك القرية الذين وقفوا يصفقون له، وكان الموت هو الشيء الوحيد الذي ساوى بينهم وبين زملائهم من المقاتلين الفرنسيين في مشهد المقبرة الجماعية الفسيحة التي ضمت في تناسق بديع قبور الجنود المسيحيين بمحاذاة أجداث زملائهم المسلمين وعلى شواهد بعضها نقشت أسماء الجنود الثلاثة الذين استشهدوا في تلك المعركة، وليس بعيداً أنها قبور فعلية لأشخاص حقيقيين تلك كانت اسماؤهم: سعيد وياسر ومسعود الذين جثم عبدالقادر مرة أخرى – بعد ستين عاماً – يقرأ الفاتحة عند رؤوسهم قبل أن ينهي بوشارب الفيلم بمشهد أثير يلخص بذكاء سينمائي بليغ خطابه العام، من خلال تصويره عبدالقادر وقد شاخ، وهنت قواه وغدا بالكاد يتحرك – بعدما كان نموذجاً حركياً للقوة والشباب – وهو يدلف الى بيت صغير الى الكوخ أقرب، في ضواحي احدى المدن الفرنسية قبل أن يقتعد حافة سرير ليموت (حياً).. ظلام/فلقطة عامة للمقبرة المذكورة تكتب عليها عبارة مشروع القانون الذي يساوي بين الجنود الفرنسيين والأفارقة من حيث التعويضات منذ 1959 الى 2002 وظلت الحكومة الفرنسية المتتالية تعارضه، يرتفع بعدها جنريك الفيلم على نغمات وايقاع أغنية مؤثرة من لحن وأداء الشاب خالد.

ذاكرة مشروخة

هذا في الوقت الذي يتمتع الجنود الفرنسيون برواتب محترمة وسكن لائق بإنسان محارب.. في تلك التفرقة التي عبر عنها الفيلم في مشهد توزيع الطعام على المقاتلين المهجرين من افريقيا على متن سفينة فرنسية الى أوروبا، فما كان من عبدالقادر إلا أن ثار رامياً صندوق الطماطم الى الأرض رافساً إياه وصارخاً: «إما أن نأكل كلنا الطماطم أو لا أحد». فلم يكن بد من استجابة المسؤول الفرنسي مطلبه وحلت المساواة في التغذية بين جميع المقاتلين. بعكس ما وقع في مخيم تيراوي في السنغال في المرحلة نفسها عام 1944 حين طالب عدد من الجنود الأفارقة برواتبهم وعلاواتهم، فكان جواب الفرنسيين إعدام ثلاثين متظاهراً منهم علنياً!! فصور المخرج السنغالي عصمان صمبين هذه الحادثة في فيلم يحمل العنوان ذاته: «معسكر تيراوي» (1988) حائزاً به جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان البندقية في العام نفسه.

فصندوق الطماطم في فيلم «الأهالي» هو الذي أجبر الحكومة الفرنسية وبأمر من الرئيس جاك شيراك فور مشاهدته له، على التعجيل بإصدار قرار يقضي بمعادلة ما يتقاضاه الجندي المغربي مع راتب نظيره الفرنسي أينما كان الاثنان بعدما كان الأول يقتات من فتات الثاني.

هؤلاء الجنود المغاربة لم يكونوا قط مرتزقة، ولا متسولي جنسيات او عمالاً مياومين تلفظهم فرنسا حين التقاعد... بل هم أناس بسطاء شرفاء دافعوا – غصباً عنهم – عن قضية لم تكن قضيتهم ولا قضية وطنهم الأم... وجاء هذا الفيلم ليرمم الذاكرة المشروخة ويعيد الاعتبار اليهم على مستويين: أولهما شخصي معنوي بكشف النقاب عن انسانيتهم... وعن بسالتهم وشهامتهم في تلك الحرب المفروضة عليهم... فهذا سعيد المقاتل المغربي المعاق (جمال الدبوز) على رغم ان رئيسه مارتينيز أهانه وطوح به ارضاً، وكان بامكانه ان يتخلى عنه انتقاماً حين اصيب بلغم او قتله حتى، لم يتخل عنه وظل ينقله ويحميه وإن في اخطر المواقف حين مداهمة الألمان تلك القرية الى ان صرعتهما قذيفة جهنمية جنباً الى جنب. ومسعود على رغم لقائه بتلك الفرنسية مرة واحدة ظل مخلصاً لها ولم يتخل عن حبها حتى وإن يئس من وصول رسائله إليها والعكس صحيح لتدخل الرقابة الفرنسية حتى في اسمى عاطفة بشرية خاصة بهؤلاء «الاهالي» الا وهي الحب. وهذا ياسر ينهى أخاه العربي عن سرقة كنيسة وهو من كان لا يتورع عن سرقة جثث اعدائه وغيرهم من الفرنسيين قتلى الحرب فامتثل...

طبيعة مغربية

موضوع ساخن وجريء أراده رشيد بوشارب بمعية الممثل المغربي جماد الدبوز الذي كان جده واحداً من هؤلاء المحاربين، فتحمس وساهم في انتاج الفيلم بماله الخاص، كما تحمس له بقية الممثلين الرئيسيين فمثلوا بحب وإقناع مستفيضين فالفيلم قضيتهم حائزين جائزة التمثيل جماعياً عن ادائهم فيه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي الدولي: عبدالقادر (سامي بوعجلة) ياسر (سامي ناصري) مسعود (رشيد زام) بطل فيلم (تينجا) للمخرج المغربي حسن الجزولي ثم سعيد (جمال الدبوز) الذي ابلى البلاء الحسن في هذه المعركة السينمائية وكان فيها مقنعاً وهو يؤدي دوراً تراجيدياً مخالفاً تمام الاختلاف لنمطه الكوميدي من دون تفريط في بعض القفشات التي كانت تفجر القاعة ضحكاً من حين الى أخر، من بينها لقطة مطاردته للبغلة التي تحمل الذخيرة وهو يناديها بلكنة مغربية مقعرة: «آجي الحبيبة ديالي، الله يرحم اباك» ثم لقطة دسه بعض المنشورات التي كان الألمان يرمونها بالطائرة لإغراء المقاتلين الأفارقة بالانضمام الى جيش هيتلر، في ثقب حذائه لمساعدته على تحمل صقيع ثلوج الألب، وهي لقطة شابلينية محضة سبق لملك الكوميديا شارلي شابلن ان نفذها في فيلم (الهجمة على الذهب)... فحملت حركة الدبوز هذه دلالة صارخة ما دامت الورقة التي دسها تحت رجليه وكل يطأ عليها ملغومة بخطاب نازي ناسف.

كما لم تكن الثلوج الحقيقية سوى ثلوج جبال الأطلس حيث صور جزء كبير من الفيلم في ديكور طبيعي مغربي وبإمكانات مغربية هائلة بمساعدة عدد من عناصر القوات المسلحة الملكية وامكاناتهم اللوجستية مما يبشر بقيام صرح صناعة سينمائية محلية تنحو نحو العالمية من اهم لبناتها انضمام القرار السياسي الى العزيمة الوطنية لرد الاعتبار الى هذا البلد الذي قاتل فيه كثير من «الأهالي» السينمائيين ايضاً في عهد الاستعمار وبداية الاستقلال قتالاً مستميتاً من اجل صناعة سينما وطنية... حرة ومشرفة.

الحياة اللندنية في 22 ديسمبر 2006

 

سينماتك

 

في عامه الثمانين توفيق صالح يكرّم من جديد وتكشف سينماه حداثتها...

أفلام قليلة في زمن طويل ونظر ثاقب يوم ضاعت الرؤية

إبراهيم العريس

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك