شعار الموقع (Our Logo)

 

 

لطالما رافقت أفلام الدماء عبارة يمنع عن أصحاب القلوب الضعيفة كجرعة إضافية للإثارة، ورغم أن السطور التالية تتحدث عن أحد هذه الأفلام فهي ليست ممنوعة على أحد.

»أقتل بيل« هو الفيلم، وكونتين ترنتينو هو المخرج، المخرج الذي تمرس خلال العقد الماضي وهو عمره المهني في إثارة الحفيظة والريبة والإعجاب. و بعد غيبة يعود في هذا الفيلم، ليس بعيدا عن الأدوات التي تخترق اللحم البشري، والقتل بنفس الأسباب التي يبرر بها باقي المخرجين هذا الاحتفاء الدموي بهشاشة الحياة، لكن وحده هذا المخرج يجعلنا نشهد انبعاث الجمال في الضربات وأراضي القتال. وكما كنا دوما نجتاز الحياة بعيدا عن المفاهيم المطلقة، أو الكلمات بوضعها المطلق، حيث تظل الكلمات القاطعة مثل (الموت، الحياة، العنف، الحب، الوجود) محتفظة بتدرجات لا نهائية. وحدها أشياء »كتصنيف يسعى للحد الأقصى من التجريد« مثل الدراما والأغاني، والأفلام خصوصا بأبعادها العديدة، وأدراجها الخفية تفرض ذلك الواقع البديل، تاركة للمشاهد خيارا يتيما هو الرضوخ لللون الجديد للكلمات والمعاني.

عند مشاهدة »اقتل بيل« سنبحث عن كلمة مطلقة تلقي بظلالها على الشاشة والمشاهد، سنجد أنه كما يتركب الفيلم من عشرات التناقضات، فأنه من ناحية الجو العام هناك على الأقل كلمتان يعبر بهما المخرج عن فيلمه، الأولى وهي افتراضية لم توجد بعد ولكن نسميها اصطلاحا حياة، عنف، موت الثانية هي انتقام.

تبدأ أحداث الفيلم عندما ترتمي المرأة الشقراء بين الدماء وشظايا الزجاج في ثوب الزفاف داخل شاشة تغيب عنها الألوان، ويعلو صوت التنفس بانتظام دقات الساعة إلى أن يقطعه صوت خطوات حذاء أسود يقترب:

»هل تجديني ساديا، لا لست ساديا، ليس معك« يمسح وجه المرأة بمنديل كتب عليه بيل.

»أنا ماسوشي«

تقول المرأة

»أنه طفلك«

»بينغ«

تظهر شاشة سوداء تحمل أسماء طاقم الفيلم، مهلا أنها لاتزال بداية الفيلم وليست نهايته، ومع الأسماء يعلو صوت المغنية:

كنت في الخامسة كان في السادسة

امتطينا أحصنة صنعت من العصي

لبست الأبيض ولبس الأسود

تقاتلنا، بينغ، بينغ

أطلق علي النار، بينغ بينغ

ارتطمت بالأرض، بينغ بينغ

هذا الصوت الفظيع، بينغ بينغ

أرداني حبيبي قتيلة، بينغ بينغ 

بعد ذلك، تظهر المرأة بعد أربع سنوات، تدق باب بيت صغير في كاليفورنيا وعندما تفتح فتاة سوداء الباب تستقبلها العروس بلكمة ويبدأ قتال بارع من الطرفين، تتكسر المناضد، تموت السوداء أمام ابنتها. في هذا المشهد يعود المخرج مذكرا المشاهد أين تركه في فيلمه السابق، حيث نشاهد قتال أقرب إلى أفلام العصابات الأمريكية والأسلحة النارية، لكن في المشهد التالي المعنون »بالعروس ذات الثوب الملطخ بالدماء« يقترب المخرج إلى الجو الذي اختاره. تجد الشرطة العروس بعد أن استقرت الرصاصة في رأسها٫توصف الحادثة بالمجزرة وكالعادة يصل الحوار المفرط الجدية بين شرطيين إلى كوميديا لاذعة٫يقترب أحد الشرطيين من المرأة الملقاة على الأرض ويحدق في وجهها، يسأل صديقه كيف يستطيع أحد إيذاء امرأة بهذا الجمال، عندما يقترب الشرطي يتلقى بصقة مصوبة بدقة من المرأة التي يبدو أن الرصاصة التي استقرت في رأسها لم تكن كافية لإيقاف قلبها ٫تنقل إلى المستشفى حيث تختفي الكدمات من وجهها بالتدريج. بعد حين يسمع صوت صفير متناغم تظهر على أثره امرأة شقراء تجر مظلة على أرضية المستشفى وتضع عصابة على إحدى عينيها، تبدل المرأة ملابسها بملابس ممرضة وتتجه إلى غرفة البطلة الغارقة في غيبوبة ويظهر الاسم الذي تحمله كعضو من عصابة على الشاشة »أفعى الجبل الكاليفورني« ٫حتى هذه النقطة نشعر بالمشهد وكأنه دخل مختلسا إلى الفيلم، يعيد إلى الذهن روح عصر مضى، والكثير من الحنين، صوت الموسيقى والمطر على نوافذ الغرفة. وبينما الأفعى على وشك غرس أبرة في معصم المرأة تتلقى اتصالا، أنه بيل. يلغي بيل المهمة ويحمل كلامه توضيحا للأحداث السابقة:العروس هي أحدى فتيات بيل السابقات، ما يعني أحد أعضاء عصابته الإجرامية، بعد زمن تصبح حاملا وبثوب زفاف في كنيسة أمام كاهن، تأتى عصابة بيل لقتل الجميع ومن ضمنهم العروس التي تتلقى أغلب الضربات، التي تنتهي برصاصة تستقر في رأسها، وهي في غيبوبة منذ ذلك الحين وتبصق بقوة إلى الأعلى كاسرة للجمود.

لكن إلى متى تستمر هذه الغيبوبة؟، هذا ما يتحدث عنه الفصل التالي، فبعد أربع سنوات تستقر بعوضة على غطاء العروس وتبدأ بامتصاص دمها، يؤدي ذلك إلى استيقاظها أخيرا ويبدأ جريان الزمن من بعد استقرار الرصاصة في رأسها. تسمع صوت يقترب فتدعي النوم، ويدخل ممرض ورجل آخر، يجري حديث بينهما لامكان له هنا، تفهم منه العروس أنه تم استخدامها كأداة جنس خلال مدة نومها عن طريق الممرض الذي يحذر الزبون من بصقتها ويخرج. تعود الدماء إلى الشاشة حين تتخلص العروس من الرجل ويعود الممرض ليلقى مصيرا مشابها، تأخذ العروس ملابس الممرض ومفاتيحه وتبدأ عملية شاقة هي إعادة الحياة إلى أطرافها الصلبة وخلال هذا الوقت تسرد لنا قصة فريستها القادمة، الفتاة الصينية- الأمريكية »أورين«، زعيمة عالم الإجرام في طوكيو اليابانية. وأخيرا يدخل الفيلم كليا في الجو الذي مهد له المخرج: غرام وسخرية من الأعماق برموز الفنون البصرية في اليابان التي يعرفها شباب العالم معرفة جيدة. تسرد العروس بصور كارتونية نقطة التحول في حياة أورين عندما كانت طفلة »مقتل أبويها« بالكثير من الدماء والقوى الخارقة للخيال٫و يبدو حضور المفاهيم المطلقة للعنف والقتل. يستمر استخدام الكرتون ليسرد خروج الطفلة من الحادثة وسعيها للانتقام وحصولها عليه، وتطورها بعد ذلك لتصبح قاتلة محترفة وصولا إلى مشاركتها في مجزرة الكنيسة.

تبدأ أطراف العروس بالتحرك، ونراها في الفصل التالي المعنون ب »رجل ايكانوا« عندما تدخل مقهى يابانيا تقليديا حين تقابل صاحب المقهى. لا يمكن وصف مقدار الاقتباس الناجح المكلل بالسخرية الذي يحمله الحوار في هذا المشهد، بالذات بين صاحب المقهى ومساعده. حين يسأل صاحب الحانة ماذا تريد شقراء أمريكية في جزيرة يابانية نائية عن الزمن والبال، تقول أنها جاءت لتقابل رجلا، حين يسأل عن هذا الرجل، تجيب أنها لا تعرف سوى اسمه »هاتوري هانزو« -سحر الحروف ينتشر في الصالة ويدخل أذن المشاهد-، يسقط الرجل الساطور الذي بيده ونسمع تكسر الصحون في الخلف، وتتكلم العروس باليابانية التي قالت أنها تجهلها أنها بحاجة إلى سيف ساموري، سيوف هاتوري هانزو هي أفضل هذه السيوف صنعا٫يأخذها صاحب الحانة الذي يظهر أنه صاحب الاسم المغوي إلى الأعلى حيث تعلقت السيوف التي لم يعد يصنعها منذ ثلاثين عاما على الجدران الخشبية. تطلب العروس سيفا، ويتساءل لماذا قد يرغب بمساعدتها، فتنطق العروس الكلمة السحرية »بيل«، يدرك هاتوري هانزو انه يجب عليه صنع سيف خاص للغرض، وينتهي الفصل بحصول العروس على السيف بعد شهر ومغادرتها إلى طوكيو حيث فريستها القادمة والثانية على لائحة الانتقام، الانتقام الذي يعرفه صوت معلم الساموري الذي يظهر »الصوت«في بداية الفيلم وهو ينطق بالياباني « بالطبق الذي يؤكل باردا«٫لكن الاسم الثاني يختلف عن الأول، فأورين ليست متخفية في منزل ضائع في الضواحي بل تقود بفخر عالم الإجرام في أكبر مدينة في العالم محاطة بالحاشية والأعوان حتى يكاد كيانها يتلاشى في الزخم. تصل العروس إلى المدينة الضخمة وتباغت فريستها وتوابعها في نادي ليلي. وهنا بالذات نشهد الانبعاث الأقصى لقوة الاقتباس الغارق في السخرية، حتى أن هذا المشهد »الطويل« هو الجزء الأكثر ثباتا في الذاكرة، مشهد المواجهة بين العروس والفريسة اليابانية. تقوم الأولى بتتبع إحدى التابعات الأساسيات التي تترك القطيع لوهلة وتقطع يدها مما يثير الفوضى. ويفرغ النادي الليلي أحشاءه بخروج رواده، وتبقى الغريمتان مع توابع الثانية. تقتل العروس الفريق المصغر مثبتة بذلك جودة السيف، ومن ثم تواجه الجيش الذي يعبر عنه اسمه (المجانون الثمانية والثمانون) يبدأ المشهد كأنه ضل طريقه من فيلم »ميتريكس« لكن غياب الألوان المباغت يحوله إلى صيغة مختلفة يظهر فيها جمال القتل بابتكارات جنونية، ويقفز المخرج بعدسته إلى أفلام الساموري اليابانية عند تسلق البطلة لأحد السلالم، وأخيرا يباد الجيش وتعود الألوان. تبحث العروس عن غريمتها، تدفع أحد الأبواب لتجد نفسها في حديقة يابانية مغطاة بالثلج ناصعة البياض، وقد يهمس المرء لنفسه »منتهى الواقعية« يحدث قتال على صدى موسيقى مصارعة الثيران، تنتهي المواجهة بطيران نصف رأس أورين، وتمكن النصف الآخر بما تبقى له أن يقول »أنه بالتأكيد أحد سيوف هاتوري هانزو«. ويخطو المخرج لنهاية الدرب عندما ترمي العروس التابعة التي بدأت بها المواجهة وقد خلصتها من كلتا ذراعيها حيث تعرف أن بيل سيجدها، لتعلن له عن نصرها وعزمها على استكمال لائحتها »لائحة الانتقام« وينهي بيل الفيلم بالتساؤل إذا كانت العروس على علم أن جنينها، طفلها لا يزال حيا!!

ينتهي الحلم »الفيلم« عند هذه اللحظة ويغادر المشاهدون المندهشون الصالة الضاجة بالصوت والدم، ويبرز المخرج الخارق في الذهن: كل هذه الاقتباسات الرائعة، هذا البنيان المتين الذي يبدو عصيا على الاختراق ومع ذلك يكشف عن مساحة شخصية يؤمنها للمشاهد٫قبل مدة شاهدت فيلما آخر، هو فيلم »فريدا« الذي أتاح بدوره مساحة خصوصية وحميمية واسعة للمشاهد وكان شيئا منطقيا نظرا للفراغات الدرامية التي يتضمنها، لكن الوضع مختلف في هذا الفيلم فهو مشغول على طول الخط. الغريب في أمر اقتباسات ترنتينو أنه ليس مبهورا بأصل الاقتباس، على الأقل يجيد إظهار ذلك، حيث يسخر من أصول الاقتباسات بنفس الجرأة التي يفتقدها المرء للسخرية من نفسه.

فخلال السنتين التي قضاها يعمل في محل فيديو مشاهدا مئات الأفلام قبل أن يطرد منه، تكونت لديه مناعة كافية وأسلوب رائع وجد طريقه إلى الشاشة مع أفلامه الأربعة. في فيلم »اقتل بيل« تتجاور الاقتباسات والرموز والإدراك الحقيقي لأصول الاقتباسات، نرى الرموز بغياب اسم البطلة وحضور اسم بيل دون حامله، ونشاهد موهبة ترنتينو في قدرته على إبقاء خط الأحداث مشوقا ومتصلا من خلال القوالب الكثيرة التي يعبر بها، وبشكل إدراكه لغريزة القتل المعقدة عند الحضارة اليابانية، عند استخدامه للونين الأبيض والأسود وزيادة تركيز اللونين حتى ينتزع اللون الرمادي فيصبح الدم، الماء، اللحم وكل الأشياء مجردة وواضحة مطابقا وعي الإنسان عندما يشرع في القتل، وتحضر الموسيقى بألوانها المختلفة مبرزة جماليات الصورة، والتي تم اقتباسها بدورها لتتألق في سماء الفيلم تألقا يجدر الإشادة به.

تظل موهبة ترنتينو عصية على الإدراك والتجسيد وقد يشكك بها من يجدها قدرة على النسخ، غير أنها بعيدة كل البعد عن التقليد، فترنتينو يخفي هويته داخل أثواب الاقتباس العديدة، التي لا يستقر فيها طويلا، يصنع من المشاهد مهزلة من المرايا والدخان، مخفيا تلك النظرة، تلك الموهبة الفجة القادرة على بعث الضحكات الشيطانية، الموهبة التي لا تغتفر.

الأيام البحرينية في  16 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"كونتين ترنتينو" في

"إقتل بل"

موهبة لا تغتفر

علي مدن