يمكن اعتبار المخرج التونسى النورى أبو زيد مخرجا واقعيا باقتدار، فهو ينتمى الى تيار السينما الواقعية التى تتعامل مع المجتمع والسياسة والثقافة وقضايا الحياة الحيوية ومشكلاتها وفق الرؤية الإنسانية التى تضع فى اعتبارها الفضاء الاجتماعى السياسى قبل الباعث الذاتى والحافز الشخصى والتحليلات ذات الطابع النفسي.

إن محور أفلام النورى أبو زيد الفرد الإنسان، أو كيان الفرد الواحد الذى ترتكز عليه الاحداث، لأنه يعد بشكل أو بآخر البطل الاشكالى الذى وجد من أجل الصراع مع من حوله بعد أن صيّر ضحية عليها ان تدافع عن نفسها.

موضوعات وإشكالات بسبب التركيز على شخصية الفرد وتحولاته، اعتبر هذا المخرج من أعلام السينما الذاتية او هو أقرب الى سينما المؤلف، وفى ذلك الكثير من الحقيقة، لكنها حقيقة بديهية، حيث يكتب النورى أبو زيد سيناريوهات افلامه بنفسه، وينفذها بعد ذلك وفق نفس رؤية الكاتب، وهو امر ينطبق على الكثير من المخرجين، ومن الطبيعى ان يلجأ المخرج الى حياته الشخصية فى بعض الاحيان، ولا سيما فى الاشرطة الاولى، وهذا ما حدث بالنسبة لشريط "ريح السد"1986، وكذلك شريط "صفائح من ذهب"1989، لكن الجانب الشخصى يبقى فى الحدود الضيقة، لأن القضية الاجتماعية هى الأصل فى افلام النورى بوزيد، وهو ما اتضح فى باقى افلامه اللاحقة مثل "بزناس" 1992، ثم فيلم "بنت فاميليا" 1997، يلى ذلك شريطه ما قبل الأخير "عرائس من الطين2001

والذى عالج فيه موضوعا اشكاليا ايضا فى اطار اجتماعى وسياسى بحيث يشتبك مع مفهوم الصراع الاجتماعى بمعناه الحياتى والطبقى، مثل اكثر أفلام هذا المخرج.

من جانب آخر لا بد من الاشارة إلى أن افلام النورى أبو زيد تعمل على خلق الصدام مع الجمهور، بالتركيز على مواجهة الواقع بحدة، وهو ما حدث عند اختياره لموضوعات أو تيمات مثيرة للجدل، كما فى شريط "بزناس" عندما تم التركيز على السياحة وعلاقتها ببيع الجسد، ثم شريط "بنت فاميليا" عندما تم التركيز على موضوع المعاملة الجنسية للمرأة، وفى شريط "عرائس من طين" اختار المخرج موضوعة الخادمات والمتاجرة بهن، ولا ننسى أن شريطه الأول "ريح السد" قد اقترب من تابوهات التحرش الجنسى والاغتصاب.

إذن كان من المتوقع أن يختار المخرج موضوعا مثيراً فى شريطه الأخير والذى اسماه"افيلم الأخير" وكان الموضوع هو حديث الساعة فى واقعنا العربى والاسلامى، وايضا القضية الأهم على الصعيد العالمى.

قد اقترب المخرج فى فيلمه الأخير من بعض المفاهيم المتعلقة بمصطلح الإرهاب كما يطرح عبر وسائل الإعلام العربية والاسلامية والدولية، وايضا وبشكل خاص مناقشة بعض الآراء المتعلقة بعلاقة الدين بالدولة، وعلاقة الإسلام بالتحولات السياسية والاجتماعية، وكذلك الشكل السياسى والدينى للمجتمع، كما يعيشه المخرج فى واقعه الاجتماعى الذى يحيط به "ى داخل تونس" غم ان أحداث الشريط يمكن أن تقع فى أى مكان مشابه.

ثير الفيلم عددا من التساؤلات، ولقد عبر المخرج عن ذلك بوصفه كاتبا للنص والسيناريو من خلال مسارين: الأول أحداث الفيلم كما هى وكما تحدث داخل السياق، والمسار الثانى ما يمكن اعتباره خارج سياق الفيلم، رغم انه بالداخل، وتعنى بذلك المشاهد التى تدور وراء آلة التصوير وليس أمامها وهى الكواليس بما فيها من وقائع جانبية وهى التى تعرف باسم " making off" الكيفية التى أديرت بها المشاهد وكيفية تعامل المخرج مع الممثلين وأسلوبه فى ادارة الفيلم وزوايا أخرى لا يراها المتفرج، وهذه الكواليس مهمة بالنسبة لشريط "الفيلم الأخير"لأنها تلقى ضوءا، ليس على الكيفية التى تدار بها المشاهد، كما العادة، ولكن لأنها تشرح وتفسر وتعلل اطروحات الفيلم الرئيسية، ولهذا كان الاسم الثانى للشريط "ميكينغ أوف" أى كواليس الفيلم، وهو الأقرب فى الدلالة على الموضوع الرئيسي، حيث لا يشير العنوان الرئيسى الا لمشكلة المخاوف من عدم استمرارية المخرج فى عمله الإخراجى بعد إقدامه على موضوع إشكالى يقارب هذا الموضوع الذى يكثر فيه الجدل وحوله، وتتقاذفه التيارات المذهبية بين أصولية محافظة وراهنية متغيرة ومتجددة.

إذا عدنا لشريط "الفيلم الأخير" انتاج تونس 2006 وجدناه يقدم منذ البداية بطله الوحيد فى ظروف اجتماعية معينة، يغلب عليها الفقر والبطالة وسيطرة الاحلام المجهضة.

ولقد أطال الشريط فى مشاهد المقدمة التى تؤسس للبداية وتنطلق منها، وقد بدت الشخصية الرئيسية أقرب الى الشخصية الشعبية تدعى "بهتة"، وتعمل بالرقص الفردى والجماعى فى الشوارع والساحات، أى أن الشخصية تطورت على عكس طبيعتها واختياراتها، رقص فى الشارع.

ولقد ركز الشريط على فكرة معينة أساسها مطاردة الشرطة للراقصين فى الشوارع، باعتبار أن الرقص يتجاوز المسموح به، فهو فن حى له طابع جماعى مشاغب، وهو يحمل أوجها من العنف الذى يركز على طاقة الشباب والفتيان الكامنة والتى تبحث عن متنفس لها عبر الشوارع وسط البحر والاماكن الداخلية والخفية.

من أهم مشاهد الشريط ذلك المشهد الذى يرتدى فيه "بهتة" ملابس الشرطة الخاصة بصديقه ويجول بها فى الشوارع، ثم يدخل بها أحد المقاهى العامرة بالرواد ويطلب منهم أن يرقصوا، وأن يأخذ كل واحد منهم جواز سفره، وأن يهاجروا بكل سهولة، وجميع ما ذكره "بهتة" هو من الممنوعات بالنسبة إليه، فلاعتبارات معينة أمنية لم يستلم جواز سفره، وهو مطارد من مجموعته من قبل سيارات الشرطة، وهو ايضا، وهو الأهم، لم يتمكن من الهجرة الى اوروبا لتحقيق حلمه فى ايجاد العمل الذى يحقق له مكسبا ماليا يساعد به نفسه وعائلته، ويمكنه من الارتباط بخطيبته المترددة فى استمرار علاقتها به علاقات متداخلة.

إن محاولة أن يكون "بهتة" على توافق مع ما هو حوله تنتهى بالفشل، وهنا يستخدم النورى أبو زيد كل ما عنده للدلالة على ذلك ويختلف الأمر قليلا بالنسبة للتصوير الداخلي، فى البيوت الصغيرة، حيث الضيق والحركة السريعة للشخصيات، استجابة للحوار المتقطع السريع المنفعل مع الأم المغلوبة على أمرها والأب غير المتواجد بالبيت فى أغلب الاحيان، ثم الجد الذى يرغب فى الزواج من جديد، ويأتيه حفيده "بهتة" بفتاة تبدى خداعا استعدادها للزواج منه، كى يتمكن من سرقة المال الذى يخبئه الجد، بعد محاولة أولى فاشلة، كانت نتيجتها عدة ضربات بالسوط من الأب، فى بداية الشريط.

إن جوهر المشكلة الاجتماعى والعلاقة مع الشرطة بصفتها سلطة رسمية وعدم القدرة على الانسجام العاطفى والعائلى، كل تلك الدوافع شكلت حافزا للفرار من بيت العائلة، وبالطبع يختار النورى أبو زيد الأسقف والسطوح طريقا للهرب والنجاة والفرار، وهو أمر تكرر ايضا فى شريط "ريح السد."

وربما كان الجانب الجمالى محركا لمثل هذا المشاهد من حيث الاختيار، فهو يستخدم آلة التصوير من الأعلى فى بعض الاحيان لتصوير حركة الممثلين داخل الممرات الصغيرة وداخل أفنية البيوت، وفى مرات أخرى، يحاول أن يصعد ببطله الى أعلى، على السطوح، بعد أن فشل فى التعامل مع حركة المجتمع على الأرض.

إن سرقة المال من بيت الأسرة، معناها عدم القدرة على العودة إليه، وكذلك الأمر بالنسبة لارتداء بدلة الشرطة منتحلا شخصية "عون الأمن"، فهى تعنى أن إمكانية التصالح مع السلطة قد صارت مستحيلة، رغم وجود الرغبة فى ذلك.

منذ البداية كان التخطيط لتقديم فيلم متكامل من المناحى الواضحة التى سيطرت على حركية الأحداث، ولقد تجلى ذلك فى حركة آلة التصوير فى الشارع، وخلاف الرفاق على الطرقات وشاطئ البحر، ودبيب الأفراد جماعيا، مع التركيز على العلاقة العاطفية غير الصريحة بين "بهتة" وخطيبته، والتى تتركه باحثة عن مشروع آخر لها مفيد، رغم أنها متعلقة به عاطفيا.

ولقد انتهى الأمر بهذا البطل الى أن يبقى وحيدا ومعزولا، وهو ما يخطط له الفيلم منذ البداية، حتى إذا وصل الى هدفه، أمكن اصطياد هذا البطل والتقاطه من على قارعة الطريق كسيرا وحائرا وفاقدا للأمل.

إلى جانب كل ذلك هناك حالة من التشويه السياسى قد لحقت بشخصية البطل "بهتة" فهو إعلاميا يتأثر بما تفرضه قنوات البث المرئى الذى نراه بين الحين والآخر من خلال شاشات التلفزة فى المقاهى وغيرها، وقد يكون هذا ايجابيا احيانا، يتوافق مع الحماس العاطفى لبعض القضايا السياسية، مثل رفض غزو العراق 2003، زمن وقوع أحداث الشريط، ولكن التذبذب والانفعال السياسى قد استخدم باعتباره أرضية تمهد لما هو قادم من أحداث ذات صبغة سياسية تمس جوهر شخصية هذا البطل المندفع عاطفيا سياسيا، ولقد تم التعبير عن ذلك بمشاركته فى مظاهرة سياسية احتجاجية فيها الكثير من البراءة والبساطة.

التقاط بطل هامشى بالطبع علينا أن ندرك أن اختيار البطل الهامشي، يعبر عن موقف مبدئى بالنسبة لكاتب السيناريو والمخرج، فهذا البطل ليس مثاليا أو نموذجيا، لأنه مجرد فرد يحترف الرقص ــ الرقص طاقة كامنة وهو سارق ويتعاطى المخدرات ويعيش على الهامش اجتماعيا وسياسيا ــ وفوق ذلك يتصف بالحيوية والتى أبرزها المخرج بوضوح شديد من خلال الحركة السريعة داخل المشهد فعليا وبالمونتاج والتقطيع السريع وتبادل زوايا التصوير.

هذه الحيوية المفرطة هى التى التقطتها عين آخر مراقبة، وبذلك يبدأ القسم الثانى من الشريط.

يبدأ القسم الثانى من الفيلم وكأنه شريط آخر، مع الحفاظ على الشخصية المحورية "بهتة" الفاشل، الذى تبحث عنه الشرطة، وفوق ذلك كله هناك أفق مسدود أمامه.

هناك شخصية تدعى "عبد الله" ومعه مساعدون يعملون معه، هم أقرب الى التلاميذ ــ ثلاث شخصيات ــ يلتقطون "بهتة" فى محاولة منهم لاستمالته اليهم، منتميا الى مجموعة سرية تعمل فى الخفاء، ستارتها دينية اسلامية، وعملها يقوم على تبنى فكرة العنف ضد المجتمع بغرض إصلاحه، مع التركيز على فكرة الشهادة وتحقيق الحلم فى الوقوف على عتبات الجنة، بكل ما فيها من متع معنوية وحسية.

تبدأ عملية غسيل المخ بتقديم مساعدات مالية يحتاجها بهته، وخصوصا وأنه قد أرجع المال الذى سرقه من بيته، مع توفير عمل له ثابت، وكان المرجعية فى ذلك هو الشيخ عبد الله والذى يعمل فى كتابة الأسماء على القبور مستخدما الرخام، فكان عمله بالتالى أقرب للموت وليس الحياة، وكان عمله بالمقابر ترميزا إضافيا.

ورغم ان الفيلم يشير الى عبد الله باعتباره تقريبا ضحية هو الآخر، فقد ساقته الظروف لأن يتقاعد ويتجه هذا المنحى الدينى المتطرف مع أنه كان فى بداية حياته مطربا وبعيدا عن هذا الاختيار، إلا أن هذه الشخصية تمارس دورها فى تجنيد من تجد فيهم الكفاءة بعد متابعة ومراقبة وعملية رصد من بعيد وقريب.

هنا يدخل الفيلم فى مرحلته الشائكة، فهو يقترب أحيانا من أفلام سابقة، أشارت الى هذا الموضوع بشكل جزئى أو كلى، وهو يستخدم نفس الشكل تقريبا، ومع ان شخصية "بهتة" لديها شيء من المقاومة بفعل التردد، فإن الظروف الصعبة التى وجدت نفسها فيها، بلا مأوى أو غطاء اجتماعى أو مرجعية مساعدة قد ساعد كل ذلك فى الاستجابة لهذه الغواية والتى عن طريقها سيسترد مكانته الاجتماعية وصورته الضائعة ويحقق أحلامه فى الوصول الى الجنة والارتباط بحورية، ويعلى كلمة الجهاد كما رسخت فى ذهنه، مع استمرار تدفق المعلومات التى تمثل حالة من حالات الإجابة عن كل الأسئلة السياسية والاجتماعية والدينية ولو كانت من منظور محدود وضيق، بصرف النظر عن مقاربة هذا الشريط لأشرطة أخرى مثل" طيور الظلام ـ الارهابى ـ الآخر" الا أنه أكثر قربا من شريط "الجنة الآن" للمخرج الفلسطينى هانى أبو سعدة، ولا سيما والشريط يربط الموضوع بالدخول العملى فى التجربة الانتحارية أو حسب المصطلح الجارى سياسيا العملية الاستشهادية، بصرف النظر عن الاتفاق أو عدم الاتفاق حول هذا المفهوم.

كواليس تعبير عن موقف إن الجانب الإشكالى فى الشريط يتمثل فى ظهور المخرج اثناء كواليس التصوير فى ثلاثة مشاهد بدت ذات لون أصفر متميز، والمشاهد تحتوى على نقاشات بين المخرج وممثله الرئيسى الذى يرى نفسه متورطا فى شريط لم يتم الاتفاق على خطه الدرامى، حيث انزاح مسار الفيلم نحو غايات أخرى دينية وابتعد عن فكرة الرقص الرئيسية، بل صار الرقص حراما حسبما يشير إلى ذلك عبد الله عندما يطرح مفهوم الحرام ويجعله شبه قاعدة على كل ما يدور حول شخصية "بهتة"، ولا سيما ما يتعلق بالغناء والرقص والمرأة وغير ذلك من المسائل.

وإذا اعتبرنا أن المشاهد التى ظهر فيها المخرج نورى أبو زيد مع ممثله لطفى عبدلى قد كانت طويلة نسبيا، فلأنها تحتوى على نقاش نظرى حول العلاقة بين الإسلام والسياسة، مع ايضاح لوجهة نظر المخرج التى يفصل فيها كليا بين الاسلام باعتباره دينا يلزم علاقة خاصة قائمة بين الفرد وربه، ولا داعى لإدخال المفهوم السياسى لهذا الدين فى الحياة الاجتماعية المعاشة.

من جانب آخر يتوسع المخرج فى شرح آرائه وهو يحاول أن يعيد الممثل المحتج إلى موقع التصوير بعد رفضه الاستمرار فى العمل بسبب بعض التصورات الدينية المسبقة وأحيانا المخاوف من ردود الفعل.

نعم هناك أكثر من شريط عالمى ظهر فيه مخرجه وهو يقوم بعمله، كما حدث فى شريط "الليلة الأمريكية" لفرانسوا تروفو انتاج عام 1973 وشريط "إنى أتذكر" لفيدريكو فيللنى انتاج 1974، كما أن هناك أشرطة أخرى يتداخل فيها عمل المخرج مع الشخصيات كما فى شريط "اسكندرية كمان وكمان" للمخرج يوسف شاهين، إلا أن هذا الشريط يضيف حالة مختلفة، فقد تجاوز الخلاف بين الممثل والمخرج حدود الاختلاف فى وجهة نظر المخرج إلى أطراف أخرى خارج الفيلم يخشاها المخرج.

وبالاصح هناك محاولة من المخرج لتوضيح الرسالة التى يهدف إليها بدون أن يكون هناك تداخل أو تشويه أو سوء فهم يمكن أن يتسلل إلى الخطاب الذى أراد المخرج إرساله.

بشكل واضح توسع المخرج فى الشرح من حيث توضيح مراميه الفكرية التى تفترض نوعا من التسامح والقبول بالآخر كما هو بدون محاولة التعدى عليه بفرض بعض الاختيارات مهما كان نوعها وأهمية التبريرات الدينية الاسلامية المصاحبة لها، فهناك إلى جانب هذه الآراء محاولة لتأويل بعض التفسيرات التى لها علاقة بأسباب نزول الآيات وغيرها، وهو أمر كان من الممكن للمخرج أن يتداركه فى أضيق نطاق.

لقد صورت شخصية "بهتة" مترددة ولكنها مندفعة فى استيعابها للمنظور الدينى الذى سيطر عليها وخصوصا عند مطاردته لخطيبته السابقة وما صاحب ذلك من تحولات انعكست على علاقته بزوجة عبد الله من ناحية وأمه من ناحية أخرى، فقد صارت المرأة بالنسبة إليه أن تكون حورية من حوريات الجنة أو لا تكون.

أيضا لم يغفل المخرج جوهر مسألة التغيير ولذلك وضع "بهتة" بفعل الجماعة التى انضم إليها وصار منها فى مخزن كبير مهمل ومعزول ليخرج من ثوبه القديم ويلبس ثوبه الجديد ويتخطى التجربة الصعبة التى تقوده إلى القيام بعملية انتحارية بتفجير نفسه فى مكان معين تراه الجماعة مركزا مستهدفا.

أمكنة ونهايات مثل باقى مواقع التصوير الجيدة التى اختارها المخرج بدقة تنتقل الكاميرا من مكان إلى آخر، المقبرة التى يعمل فيها بهتة مع عبد الله مساعدا له، المخزن القديم الذى بدا أقرب إلى السجن، سجن الحياة القاسي، والذى يتحرر منه بهتة عندما يخرج مقررا القيام بعملية انتحارية مرتديا الحزام الناسف.

أما المكان الذى ينتهى به الشريط فهو ميناء رادس حيث ينطلق "بهتة" بحزامه الناسف فى الشارع مهددا ومتوعدا الشرطة من ناحية ومندفعا نحو تنفيذ عملية مجهولة الهدف والمكان من ناحية أخرى.

أما اللقطة ما قبل الأخيرة التى ينتهى بها الشريط فهى تمثل سقوط هذا البطل الورقى إلى أسفل وفى إحدى الحاويات الضخمة فى الميناء، إنه سقوط إلى أسفل وليس ارتفاعاً إلى أعلى كما أنه احتراق وهبوط إلى القاع، وسط انفجار موجة نحو الذات بإحراقها بعد ما تعبت من المطاردة والبحث عن مصير مجهول.

إنه مصير "بهتة" دلت عليه الحوارات التى نطق بها نورى أبو زيد مخرجا وكذلك أشار إليه سياق الفيلم فى إطار من النقاش النظرى والذى اقتنع به بطل الفيلم أيضا.

وفى مقارنة بين شريط "الفيلم الأخير" وشريط "الجنة الآن" سوف نرى فى الثانى نهاية مفتوحة لا نعلم من خلالها هل سيتم تنفيذ العملية أم لا وهذا الاختيار هو استجابة لفكرة القضية التى يحملها للمنطق أحيانا، مع الإشارة طبعا إلى أن أصحاب القضايا الحقيقية لا يتعاملون مع المنطق فى أكثر الاحيان.

رغم هذه النهاية الحقيقية، فإن المخرج يضيف نهاية أخرى اعتاد أن يقدمها فى معظم أفلامه واساسها مشهد لعربة يقودها شخص أو أكثر كدلالة على الاستمرارية والتجديد.

لاعتبارات كثيرة توج هذا الشريط كأفضل فيلم فى مهرجان أيام قرطاج السينمائية 2006 كما نال بطله لطفى العبدلى جائزة أفضل ممثل، وفازت الممثلة فاطمة بن سعيدان والتى قامت بدور الأم بجائزة أفضل ممثلة دور ثان.

والحقيقة أن الفيلم من الأشرطة الكبيرة التى تجاوز بها النورى البوزيدى إطار المحلية إلى مرحلة الاتقان والاحتراف، وخصوصا وأن الطاقم الفنى المصاحب كان على قدر كبير من الجودة خصوصا التصوير الذى نفذه ميشال بودرو كما أن الموسيقى التصويرية كانت متناسقة مع الأحداث ولا سيما تلك اللازمة الموسيقية المتكررة، مع وجود بعض النغمات الخارجة عن سياقها الفنى أحيانا والتى تعد بمثابة الجمل الاعتراضية مثل بعض الألحان الشرقية والهندية.

إن المخرج النورى أبو زيد يصر دائما على خلق الصدمة وبالتالى فهو مخرج متحرك يلقى حجرا تلو الآخر فى بركة مائية تبدو دائما ساكنة تحتاج إلى من يحركها.

العرب أنلاين في 1 ديسمبر 2006

 

السينما والحجاب

أشرف بيدس 

فى عام 1944 وتحديدا فى فيلم "ابن الحداد" جاء على لسان البطل يوسف وهبى جملة ضمن حوار الفيلم، قال فيها: "لقد وصل التزمت لحد المبالغة والسفور لحد الابتذال".

رغم ان الغالبية العظمى من النساء والبنات يرتدين الحجاب، فإن السينما تعاملت مع هذا الامر بتجاهل شديد أو -إن شئنا الدقة- بتجاهل متعمد، معتبرة ان تناوله منطقة شائكة قد تجلب بعضا من المشاكل لصناع الفيلم تصل فى كثيرا من الأحيان بالمطالبة بوقف عرضه وتوجيه تهمة الإساءة للدين، لا سيما لو شابت الشخصية التى ترتديه أى شائبة، كما حدث مع الفيلم الروائى القصير "الاسانسير" لهديل نظمى والذى حصل على جائزة المهرجان القومى للسينما للعمل الاول، قد اثار جدلا واسعا بعد ان اتهم صناعه بانه يسيئ للإسلام، وذلك من خلال مشهد لفتاة محجبة فى اتصال حميمى مع شاب مجهول واثناء حديثها تقوم بخلع الحجاب. والأزمة التى حدثت مع فيلم "ويجا" للمخرج خالد يوسف من خلال المشهد الذى ارتدت فيه بطلة الفيلم منة شلبى الحجاب وهى ذاهبة لممارسة الجنس مع صديقها.

لذلك يؤثر الكثيرون السلامة بعدم الخوض فى مسألة الحجاب، ويقحمون على اعمالهم مشاهد مسفة ومبتذلة ليس لها علاقة بالسياق الدرامى للعمل أو تطور الاحداث، وانما الغرض منها اثارة الجماهير ومعابثة غرائزهم، المهم الا ترتدى الممثلة التى تقوم بهذه الادوار الحجاب، وبعد ذلك فلها الحق أن تفعل ما تشاء من تصرفات سواء كانت متفقة مع الشخصية أو خارج السياق العام للفيلم.

باستثناء فيلمى (ويجا والاسانسير) -نزعم- انه لم تكن هناك حالات صارخة استدعت جدلا أو نقاشا حول الاعمال الفنية، فلم يكن (الحجاب) مستفزا للسينمائيين على أى شكل من الاشكال رغم انتشاره الواسع النطاق بين فئات الشعب بمختلف طبقاتها، وهذا بالضرورة يطرح علامات استفهام كثيرة، ابرزها أن هذا التجاهل يؤكد ان معظم الاعمال تغافلت بشكل متعمد عن تفصيلة اساسية، فمن ينزل الى الشارع يلحظ ان الحجاب لم يعد مجرد زى أو ظاهرة، فقد الوصل الامر واصبح - سواء اتفقنا او اختلفنا- شكلا من اشكال المجتمع. ويؤكد أيضا ان المطروح سينمائيا يعبر عن قلة قليلة من هذا المجتمع.

منذ بدايات السينما وحتى سنوات ليست ببعيدة لم يكن يسيرا ان نلحظ اى مشاهد لفتاة ترتدى الحجاب فى تلك الأعمال، ربما تكون هناك بعض المشاهد العابرة والمتفرقة هنا وهناك، وإن لم يكن بالشكل الذى صار عليه هذه الأيام، وكان اللجوء إليه فى بعض الأعمال يمثل حالات نادرة تضفى حالة درامية على الأحداث، كمتهمة فى قفص الاتهام، او امرأة تطلب التوبة، أو سجينات، أو امرأة طاعنة فى السن. وحتى بعد انتشاره ظلت حالة الجفاء بين السينما والحجاب مستمرة، إما تجنبا للمشاكل، أو لقلة الأعمال التى خاضت فيه. حتى أن السينما لم تتأثر بارتداء بعض الفنانات الحجاب، فمعظمهن خفتت الاضواء عنهن، والبعض الآخر لم يؤثر غيابه بأى شكل من الأشكال، اضافة لوجود كثيرات شغلن الفراغ أن كان هناك اصلا فراغ. ومع عودة البعض مرة أخرى للفن، استلزم الأمر كتابة أعمال ذات سمات معينة تتفق وحجابهن.

لم يكن هذا التجاهل سببه القائمون على السينما فحسب، بل هناك ضرورات إنتاجية سارت بالأمور فى هذا المنحى، فأى جهة إنتاجية عندما تقدم على عمل فنى، أول ما تحرص عليه هو نجاح الفيلم جماهيريا، وهذا النجاح يعنى الحفاظ على متطلبات السوق الجماهيرى وعدم الإخلال بأى عنصر من عناصر التشويق التى تجذب الجماهير، ولأن جمهور السينما الآن تقلص لمرحلة عمرية معينة تتراوح ما بين 10 سنوات وحتى 20 سنة، فكل ما يقدم يناسب هذه الشريحة حتى يضمن استرداد الأموال التى انفقتها. والدليل على ذلك أن عبلة كامل استطاعت أن تقدم فيلمى (سيد العاطفى وعودة الندلة) وهى تضع غطاء على رأسها دون أن يلحظ أحد ذلك، ولكن بعد الانصياع لمتطلبات الجماهير، ربما ساعدها على ذلك طبيعة الأدوار التى تقدمها.

لذلك يمكننا القول أن أهواء الجماهير تحكمت فى فرض قيود على تناول موضوعات تخص المرأة بالسينما، وليس الحجاب فقط، فلم تكن الاعمال التى تستسيغ بطولات المرأة محل اهتمام من قبل الجماهير على مدار تاريخ السينما، وكانت فى الاغلب الاعم أداة لرد الفعل، وفى فيلم «كامل الأوصاف» والذى يعرض الآن فى دور العرض وترتدى بطلته حلا شيحا الحجاب لم يحقق نجاحا ليس لأن بطلته ترتدى الحجاب فقط، وإنما لأنه خالف تلك الشروط المزعومة.

لقد بالغ السينمائيون فى تصوير وتجسيد بطولات الرجل بمواصفات فاقت حدود المنطق احيانا، ويلاحظ ان الاعمال التى تناولت سيرة النوابغ من النساء قديما أو حديثا أعمال معدودة - سينمائيا- على سبيل المثال فيلم "رابعة العدوية" قديما، أو فيلم "كوكب الشرق" حديثا، رغم أن الاخير لم يكن على المستوى المطلوب. واختزلت السينما صفات الورع والتقوى فى شخص الرجل الذى غالبا ما رأيناه فى أعمال كثيرة يهدى الساقطات إلى الطريق المستقيم.

ولو عرجنا الى الاعمال التى تناولت الحجاب -موضوعنا- سنلحظ انها اعمال قليلة جدا، وكانت، إما بغرض التنوع فى الشخوص أو الزمتها ضرورة درامية دون التعويل على مسعى ما. ربما يكون فيلم "حد السيف" بطولة محمود مرسى ونجوى فؤاد وماجدة زكى للمخرج عاطف سالم وتأليف وحيد حامد هو الوحيد الذى وجه نقدا مباشرا لفتاة ارتدت الحجاب ارضاء لاهل خطيبها دون رغبة صادقة فى ارتدائه، أما فى فيلم "ضربة معلم" للمخرج عاطف الطيب والمؤلف بشير الديك فلم يكن ارتداء الحجاب لخطيبة ضابط الشرطة والتى جسدتها ليلى علوى له ضرورة درامية، بينما كان يقصد عاطف الطيب رصد حالة للمجتمع، أما فى فيلم "سهر الليالي" فجاء ارتداء منى زكى للحجاب كنوع من التنوع خاصة ان الفيلم يحكى قصة أربع فتيات متزوجات، وكان فى صالح الفيلم بصفة عامة لان هذا الاختلاف أوجد فروقا حتى إن كانت شكلية بين البطلات، وفى فيلم "عمارة يعقوبيان" كانت الشخصية التى جسدتها سمية الخشاب تستلزم وجود حجاب، فمن المستحيل ان نرى أرملة شابة فى مجتمعاتنا لا ترتدى الحجاب، لكن الدور الذى مازال عالق بأذهان الجماهير هو ما جسدته هند صبرى فى فيلم هالة خليل "أحلى الاوقات" فقد كانت "يسرية" شبيهة بسيدات كثيرات فى مجتمعاتنا وهذا هو الاطار المسموح للسينما، أما فيما عدا ذلك فهناك دائما من سيعطى الامور اكثر من حجمها.     

الأهالي المصرية في 29 نوفمبر 2006

محنة رجل ابيض !

الجدل اللوني في الفيلم الأمريكي

أحمد ثامر جهاد  

عبر التاريخ الطويل للسينما الأمريكية واسعة الانتشار حاول الفيلم الهوليودي طرحَ العديد من المفاهيم العنصرية والتصورات العرقية في حشدٍ من الأشرطة والنجوم. وكلها تُفيد بتفوق الرجل (الأبيض)*، لكن المُسلح والمتأهب للقتل دونما كلل أو رأفة، على بالرجل (الأسود)، لكن الأعزل. ومن ذلك التعاضد الآيديولوجي بين التاريخ الواقعي والأعلام السينمائي، بدا الرجل (الأبيض) - صاحب رؤوس الأموال والسلطة - عنصراً مساهماً ومتفانياً في تشكيل وعي (القارة الجديدة) بكل ما تحتاجه الأرض البكر من رجال أشداء مخلصين للوطن والسيادة فيه، بغض النظر عما يلحقه ذلك الإخلاص المتعصب من خلل فتاك في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو ما يلعبه من دورٍ فعال في تكوين الأُطر الثقافية لجماعة بشرية لا تتوانى عن تشويه العنصر غير المرغوب فيها، مهما حاد مسعاه عن مشروعها أو مسارها المهيمن. ومع اختلاف الألوان والصور ستمتد هستيريا جماعية يقودها (الكوكلاس كلان) في حملة تطهيرية لا تختلف كثيراً عن جرائم القرون الوسطى في لاعقلانيتها، مُقصية (السود) خارج دائرة التأثير والامتياز التاريخي أياً كان نوعه.

في مقابل ذلك التاريخ الفعلي والفني لاحقاً، حاول نفرٌ من الكتاب والمخرجين الملتزمين المشاركة في صناعة أفلام سينمائية ذات مناخ تحرري مغاير، تزامن ظهورها مع تيار صاعد يعبر عن التقدمية والراديكالية في الفن وبتأثيـر من حركات اليسار الأوربي. انتهى المطاف ببعضهم إلى جحيم اللعنة (المكارثية) التي خَيمَ رعبها على أمريكا - عاصمة السينما في العالم. كشف البعض من تلك الأفلام مدى القهر الواقع على (السود)، فوجهت كامل إدانتها صوب المؤسسة القانونية والإعلامية الأمريكية صاحبة التاريخ الحافل بتمويه الحقائق، ناهيك عن الحقوق.

بين ذاك المد وهذا الجزر، تراوح جدل (الصورة السينمائية)، تارة يعلن عن لون غريب من التصادم والتآلف، وأخرى يقدم مزجاً مفتعلاً من النمطية الهوليودية ونادراً محاولة تجاوزها. فاعتدنا من جانبنا (كمشاهدين) أن نرى النموذجين معاً بتفاوت استجابتنا لمصداقية ما يطرح في السينما من وقائع وقصص، لكننا دائماً مشاهدون غير حياديين (للصورة) وهل يسعنا غير ذلك؟

وعبر تاريخه لفظَ الفيلم الأمريكي زمناً طويلاً من (الصورة والصورة المضادة) جعل من غير اللائق أو المقبول الحديث عن بعدٍ واحد فقط يصور اضطهاد الزنوج أو تفوق الرجل الأبيض (الكاوبوي). حيث يروّج إعلامياً -منذ زمن- لوطنية أمريكية يحالفها النجاح في مستويات عدة بفعل استيعابها الواقعي لمشكلاتها التاريخية. وباعتقادهم ليس ثمة أحد بعد اليوم يحق له الاعتراض أو التذمر من هذا (التحالف الجديد) بين فئات المجتمع ككل، مثلما من غير اللائق أن يوصف بالفئوي أو غير المتحضر.

وبتلخيص مقتضب لقصة الفيلم: نرى (جون ترافولتا) - الرجل (الأبيض) - عاملاً في مصنع يملكه مستثمر زنجي كبير (هاري بيلا فونتي) وهو الرجل (الأسود) الذي يتمتع بحياة عائلية رغيدة، ويظهر كشخص متزن يرعى الأعمال الخيرية ومساعدة الأطفال. وبعد جملة مَشاهد تصعّد الحكاية الفيلمية، يفقد (ترافولتا) مهنته لسبب تافه لا يتجاوز نظرة عابرة ألقاها على ابنة الرجل (الأسود) في منزله، حيث كان متوجهاً إليه كي يسلمه طرداً من إدارة المصنع، مع حفاظه على قدر من الدهشة لرؤيته تلك الحياة الباذخة!

ومع إن الرجل (الأسود) لم يره بعينيه بتاتاً، إلا أن أحداً من كبار موظفيه وشى بذلك العامل من غير سبب واضح.وما أن يُخبر الموظف مديره بذلك الجرم متمنياً لـ(ترافولتا) أن يطرد (لدافع سايكولوجي على الأكثر) يشير الرجل (الأسود) بلامبالاة إلى فصله، ويجد المبررات جاهزة أمامه تومئ إلى تطفل العامل ووقاحته. يجاهد العامل (الأبيض) في كتمان انهياره عند سماعه قرار طرده من العمل ويحاول على مضض استعادة وظيفته بوسائل شتى تُوصله إلى نتائج عكسية، اقلها إهانته وتعرضه للضرب من قبل البوليس. مما أضاف جرحاً غائراً آخر لما تعرضت له عائلته من طرد خارج المنزل عنوة وبقوة القانون الذي لا يجامل شخصاً ليس له ما يدفعه لصاحب البيت. فهو كصورة متحصلة لاجتماع هذه الظروف "رجل عاطل عن العمل مع زوجة (كيلي لينش) وأولاد يشعر في قرارة نفسه انه بريء مما لحق به من أذى، يرفض - بالطبع - شعوراً باليأس يليق بآخر ارتكب جرماً يُودي به ". ذلكم هو - على وجه التحديد - وضع الرجل (الأبيض) في مسار نمو الأحداث.

وخلال تطورات درامية شيقة يجد (الأبيض) نفسه في قلب المأساة ... أن تكون وحيداً، ضائعاً تماماً، فاقداً لأبسط حقوقك، بينما يستمتع الآخرون بحياتهم (لاسيما فئة من السود) والمجتمع من جهته (مجتمع البيض) لا يأبه لك بتاتاً ولصنيعك مهما كان، ما الذي عليك فعله ؟ إنها أجمالاً مفارقة المأساة ذاتها حين كان الرجل (الأسود) ضحيتها يوماً ما.. وهو الآن بطلها.

لقد أوصلنا ذلك الجدل اللوني الأمريكي إلى محنة فريدة من نوعها والى نتائج خطرة شكلت الرأي العام وتشكلت به، بطريقة تسمح لغالبية اجتماعية -على اختلافها - أن تستعيد ذاكرة الإحساس الجمعي بواقع تلك الإشكالية أو واقعيتها. فيمكننا أن نرى كيف كشفت سردية (محنة رجل ابيض) عن منحى آخر مفارق، يقلب المعادلة الفيلمية المعتادة والقريبة إلى أذهان المشاهدين، ليوقظ بصيرتهم قبل أن يخترق ذاكرتهم التي تعودت على أن (قلب الرجل الأبيض اسود، وقلب الرجل الأسود ابيض) هكذا دائماً حـرب وسلـم، كـراهية وحـب، حـوار وصِدام، شكل الحضارات والثقافات والأفراد.

ولكي نبقى قريبين من الخط الدرامي للفيلم، نشير إلى محاولة الرجل (الأسود) مساعدة الرجل (الأبيض) بعد أن اختطفه الأخير بلا تخطيط أو تدبير مسبق، ليسأله فقط عن السبب في إعدام حياته وطرده من وظيفته ! حينها يستمع (الأسود) إلى حديث (الأبيض) فيعتذر جاداً عما سببه له ولعائلته من متاعب لم يكن يقصدها أو عَلِمَ بها حتى ! لكن الرجل (الأبيض) هو من يفقد سيطرته على الموقف آنذاك، فيؤزمه مستسلماً لمأساة حادثة لا محالة تؤكد عدم استطاعته معالجة الأمر أو الخروج آمناً من خطورته.

على أية حال يبدو (ترافولتا) في الفيلم، رجلاً ذا كرامة، لا يقبل هبات رهينـة، مع إن الفيلم لا يجيب إن كان السبب من وراء ذلك لأنها رهينة (سوداء) أم أنها الضرورة التي يفرضها موقع المتحكم بالموقف ؟! بعد توالي عدة مَشاهد محبوكة، تصبح نتيجة الصراع ذروة درامية، حيث يُقتل الرجل (الأبيض) على أيدي الشرطة، في الوقت الذي يخرج الرجل (الأسود) متأثراً من تلك التجربة المثيرة وهي تُلقي بظلها المرير على حاضر حياته ونمط تفكيره. ليست هذه الواقعة نهاية للفيلم، إنما التفعيل المحسوب لمشهد لاحق يُلخص رسالة مضمونه، يتمثل في زيارة الرجل (الأسود) لزوجة القتيل بعد مرور وقت على الحادث، لأجل مواساتها وإيضاح التباس الموقف عليها، ولتأكيد براءته مما جرى لزوجها الذي بنفسه قاد مصيره الفاجع، حسب تصور الزائر. وكتعبير عن ثقته بنفسه ورغبته الحقة في مساعدة هذه المرأة، يعرض عليها مبلغاً كبيراً من المال،تعويضاً عما لحق بها من متاعب. إلا أن الزوجة - وبواقع حزنها - ترفض تلك العطايا بشدة، فيما ينسحب هو وحيداً، مكتئباً، حتى نهاية الشريط السينمائي.

لكثرة الدلالات المبثوثة في لقطاته، يستحق هذا الفيلم مناقشة جادة على نحو تفصيلي يتخطى توصيفاته، ليس لأنه بَدّل وجهة النظر المعتادة في هكذا نمط من الموضوعات السينمائية (اضطهاد السود في أمريكا) والتي وُظفت أيضاً لرواج الفيلم الهوليودي وتحقيق أرباحه، وإنما لأنه حاول مخلصاً طرح تصوراته عن الموضوع بصدق في المعالجة قلما نرى مثيلاتها. حتى انه بدا للوهلة الأولى كأنه سخرية من اعتقاداتنا الراسخة حول الزنوج وربما انتصار لصورة الرجل (الأبيض) التي سبق لها أن تحطمت في أفلام عدة: " درس البيانو " " ومسيسبي يحترق " مثلما في السينما السوداء التي ابرز دعاتها المخرج " سبايك لي ".

بعض النقاد في أمريكا وصفوا الفيلم كفنتازيا أو كوميديا سوداء أو حكاية سريالية، تُنسيك دراميتها التشديد على (لون) الشخصية. ويحق لنا أن نرى ابعد من ذلك في عنصر اللون الذي وُضع كمفارقة أولى للأحداث، تؤطر الحوار المتقدم كثيراً على الصورة في الفيلم.. فنتساءل: ما الذي يحدث لو أبدلنا مواقع الرجلين، واعدناهما إلى ما كانا عليه في الخطاب السينمائي المعتاد؟

من ذلك المنحى التأويلي، يظهر أن الشريط السينمائي (محنة رجل ابيض) لا يُصر على أن ينتصر لأي من طرفي الصراع (الأبيض، الأسود) بقدر ما يعتقد بواحدية تاريخهما المريع (انتصار البيض صورة دالة عن كفاح السود أو إبادة الهنود الحمر). وبمقاربة تحليلية لحكايته يمكن القول: أن الفيلم لا يعتقد بحل ممكن لتلك المحنة ! ففي المشهد الأخير يُترك الباب مفتوحاً أمام العديد من الأسئلة: حيث يغادر الرجل (الأسود) يائساً على نحو ظاهر من تنقية الأجواء بينه وبين زوجة القتيل.. تلك - لا ريب - لحظة صميمية، واقعية غير متفائلة بمعيار ديمقراطية الناخب الأمريكي!

فإذا كان الشريط يحاول أن يقول ما هو ابعد من نهايته "كصورة متحركة"، سيعني لنا ذلك أن المجتمع الأمريكي إذ يعلن أن لا مشكلة حقيقية بين البيض والسود، إنما يعبر فقط عن استحالة وجود حل ممكن لجذر صراعهما المديد، ويؤكد بوسائله الخاصة صعوبة اجتراح الطرفين لهوية واحدة تتجاوز واقع التناقضات العديدة، من دون أن تستعير شيئاً مما تشكّلَ عبر تاريخهما الفعلي الطويل من صور ودلالات.

لكننا أيضاً وقعنا في مأزق الإيهام السينمائي حين زاوج بين فنتازيا المضمون وواقعية الشكل الذي يساعدنا أثره المصاحب في النظر بجدية إلى محنة الرجل، أياً كان. ربما يشكل ذلك أبدية للصورة لا يمكن التعبير عنها في الجملة المكتوبة.

إن (السود) الذين يحملون على الدوام جذورهم الأفريقية في تكوينهم الثقافي والاجتماعي، يشغلون اليوم مواقعهم الحساسة في الأمة الأمريكية. وبطريقتهم الخاصة يتفاعلون مع المزحة ذاتها التي تسخر من غباء (النيكرو) كما يشعرون - كلما اشتدت الحرارة - أن بشرتهم غاية في الاختلاف عن الآخرين، بلا خصوصية تُلزمهم انضباطاً في الأخلاق أو ميزة في الممارسة، حيث يُصهر الجميع في مشروع الفرد الاستهلاكي الذي ينخرط اكثر في دوامة الأعلام السياسي الأمريكي، مع الإبقاء على فتيل (اللون) المؤهل للاشتعال دون الخيال بقليل.

مع كل ما قيل يبدو المشكل الجوهري بعيداً كل البعد عن ظاهر الأحداث والوقائع المعروضة على الشاشة، على الرغم مما امتازت به من أمانة ووثائقية. فالمشكل الأساس ليس في أن يكون هذا (ابيض) بينما الآخر(اسود) بقدر ما يتعلق بما هو كائن عليه واقعاً. وبمعنى أوسع: من يملك ومن لا يملك. لذا لن يكون مستبعداً أن الفيلم قصدَ ذلك المعطى الثيمي حينما حاول إبدال مواقع اللونين (الأبيض، الأسود) اللذين اعتدنا رؤيتهما في إطارهما التقليدي.

يبدو الجذر الاقتصادي بمثابة الأساس الفاعل في محيط تلك التناقضات، وهو مؤشر التفرقة والفئوية في مجتمعاتنا (ماضيها وحاضرها) مع التأكيد على ما يستتبعه من أسباب أخرى تسهم بدورها في تكريس واقع تلك المحنة.

هل يُمكننا باستعادة سريعة لأحداث الفيلم أن نتساءل: أيهما محنة " الآخر ": الرجل الأسود محنة الرجل الأبيض أم العكس ؟

 

هامش:

*صورة لخطاب سينمائي مغاير:

استعرنا عنوان قراءتنا هذه من اسم فيلم أمريكي متميز هو (WHITE MAN ’S BURDEN - عبء الإنسان الأبيض) للمخرج (ديزموند ناكونو - من اصل أمريكي ياباني) يناقش الفيلم على نحو غير مألوف موضوعة تقليدية تحظى باهتمامنا، كونها تعيد للسينما حيويتها مــرة أخرى عند قراءتها صورة (الأبيض / الأسود) من زاوية مختلفة تماماً. يطرح الفيلم تصوراته الخاصة عن المحتوى بصيغة تخرج - بنسبة معينة - عن مألوف ما اعتدناه في الخطاب الهوليودي.

القصة العراقية في 1 ديسمبر 2006

 

"بركات".. سينما تترحم على الاستعمار*

طالب أبو شبوب**  

فيلم "بركات" غير عادي.. هذا هو الوصف اللائق جدًّا بآخر إنتاجات السينما الفرنسية. غير عادي؛ لأنه يروي مقاربة فرنسية غريبة لسنوات الدماء في الجزائر، فبدلاً من تصوير الصراع الدموي بين السلطات والمسلحين الإسلاميين؛ فإن الفيلم يرى أن الذين مارسوا المذابح الجماعية هم مناضلو حرب التحرير الجزائرية.. وهم أنفسهم أباطرة المال واللصوصية وسدنة احتقار المرأة وظلمها.

"بركات" الذي شهدت قاعة "الموقار" بوسط العاصمة الجزائرية عرضه الشرفي، هو باكورة إنتاجات المخرجة "جميلة صحراوي" وهي من مواليد 1950، وقد تقاسمت بطولته كل من "رشيدة براكني" و"فطومة بوعماري"، فيما توزع السيناريو بين المخرجة "جميلة صحراوي" والسيناريست الفرنسي "سيسيل فير غافتي".

الإرهاب والمفاجأة

تبدأ الأحداث سنة 1990، باختطاف زوج البطلة أمال (رشيدة براكني) من طرف جماعة مسلحة؛ بسبب انتقاداته اللاذعة للعمليات الإرهابية التي شهدتها الجزائر في الفترة بين 1990 - 1999، فتقرر البطلة أن تبحث عنه، ولتفادي المشاكل واختصار الوقت فإنها تصطحب صديقتها الممرضة خديجة (فطومة بوعماري) في رحلة إلى معاقل الإرهابيين بأعالي الجبال.

وبالفعل تنجح وصاحبتها في استنقاذ الزوج المختطف، ولكن على وقع مفاجأتين رهيبتين، تتمثل الأولى بكون قائد المجموعة الإرهابية مستثمرًا كبيرًا ومناضلاً سابقًا في حرب التحرير الجزائرية، أما المفاجأة الثانية فلا تقل إيلامًا ودراماتيكية، ذلك أن الذي نفذ عملية الاختطاف هو والد أحد الأطفال الذين أنقذت البطلة أمال حياتهم بحكم اشتغالها طبيبة.

هذه هي قصة الدم في الجزائر كما ترويها عدسة جميلة صحراوي، مناضلون وطنيون يحررون بلدهم، ثم يتفرغون لقتل أبنائه وسرقته بدلاً من تعميره.

هذا عن الجيل الأول والأكبر في جزائر الاستقلال، أما الجيل الثاني فيمثله شباب يتخلى عن أسرته؛ ليقتل من يقوم بتطبيبها (أمال) وزيادة وعيها (زوجها الصحافي)؛ لتكون المحصلة فشلاً مستمرًّا لمجتمع فقد أي رغبة بالحياة,

نظرة الفيلم للمأساة الجزائرية غريبة جدًّا، ذلك أنها تجرِّم مناضلي جيش التحرير الذين طردوا فرنسا بعد استعمار دام 132 سنة، وتلقي عليهم تبعة فشل مشروع المجتمع الجديد، كما تجرِّم الجيل الجديد من الجزائريين وتصمهم بالعنف والدموية، فيما توحد الجيلين تحت بند اضطهاد المرأة ومحاربتها باسم تقاليد بالية. وغني عن القول إن هذه النظرة لا تثمر سوى تمجيد المستعمر الفرنسي الذي وفّر "السلم الاجتماعي" أيام "عدله" توزيع الظلم لكافة شرائح المجتمع الجزائري.

التناقض

بدا سيناريو الفيلم غير مقنع بالمرة، ذلك أنه يعاني من أزمة مشاهد؛ إذ لا يمكن لرؤية واحدة أن تقنع الضحية "المشاهد الجزائري" والجلاد "المشاهد الفرنسي" معًا.

وعطفًا على ذلك سارت الأحداث باستخدام "قفزة الضفدعة" في عدة اتجاهات مختلفة لا رابط بينها ولا منطق؛ إذ فيما تُصرّ "خديجة" في أحد المشاهد على ارتداء "الحايك" -وهو لباس محلي يغطِّي المرأة تمامًا- ورفض "الحجاب" في شكله القادم من المشرق العربي؛ بحجة الحفاظ على التقاليد الوطنية، فإنها في مشهد آخر تظهر إصرارًا أكبر على ارتداء زينتها كاملة قبل خروجها من بيتها وتدخين سيجارتها بلذَّة غريبة. مشهد لا علاقة له بصورة "الحفاظ على التقاليد" التي تحاول المخرجة إلباسها لـ"خديجة".

وهو تناقض يتناسخ بطول الفيلم مع البطلتين ويُضعف تركيبتهما التي سعت المخرجة؛ لجعلها واضحة وصريحة في مقابل شخصيات بقية أفراد المجتمع المتسمة بالتردد والحيرة.

أداء البطلتين كان متوسطًا مع أفضلية رشيدة براكني، وهي من مواليد 1977، والفائزة قبل ذلك بجائزة أفضل ممثلة عن "بينالي السينما العربية" الذي احتضنه معهد العالم العربي بباريس (دورة 2006)، وظهر تصوير كاتل ديجيان وصوتيات أوليف سكووب في مستوى جيد للغاية، في محاولة لتفادي عثرات النص وهشاشته، أما الموسيقى التصويرية التي أعدَّها عازف العود الجزائري المعروف بـ"علَّة" فقد اصطدمت مرارًا بسيناريو الفيلم للحد الذي يعتقد معه المشاهد أنها "أقحمت" إقحامًا فيه، ولم يجرِ الاتفاق بشأنها مسبقًا.

الفيلم الذي جاء كعمل مشترك فرنسي - جزائري، أوضح بجلاء أن الرؤية الحاكمة في أعمال كهذه هي رؤية الطرف المموّل، حتى إن كانت منقضة للواقع وللحقيقة أيضًا.

** صحفي جزائري.

*نشر هذا التقرير في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 24 نوفمبر 2006.

إسلام أنلاين في 28 نوفمبر 2006

 

سينماتك

 

النورى بو زيد فى آخر فيلم.. تحولات بطل من ورق

رمضان سليم

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك