ليست إشكالية العلاقة بين السينما والأدب هي الإشكالية الوحيدة التي لم يتم حسمها حتى الآن، لا نظريا ولا عمليا، بل ثمة إشكالية أخرى ما تزال تطرح نفسها بقوة على عالم الإبداع السينمائي، وهي إشكالية نص السيناريو السينمائي نفسه في علاقته بالفيلم. ومثلما يتذمر كتاب الرواية الأدبية من أن السينما تخون رواياتهم، يتذمر كتاب السيناريو من الوضع نفسه. وفي حين يعد كتاب السيناريو أن نصهم هو أساس الفيلم، فإن المخرجين يعدون أن السيناريو الأدبي هو مجرد وسيلة يعبرون من خلالها عن إبداعهم الخاص كمخرجين. وتبرز هذه الإشكالية نفسها على أكثر من مستوى: عمليا ونظريا.

من الناحية النظرية، ثمة وجهات نظر مختلفة مرتبطة بالعلاقة بين نص السيناريو والشكل النهائي للفيلم، وتبدو وجهات النظر هذه في كثير من الأحيان متضاربة ومتناقضة إلى حد كبير. وجهة النظر الأقدم زمنيا والمترافقة مع فترة تكون فن السينما وتطور وسائله التعبيرية تقول إن السيناريو هو الفيلم. وفي تلك الفترة من بدايات السينما كان مفهوم السيناريو الأدبي نفسه غير متداول، إذ إن السيناريو كان يصاغ كنص تنفيذي إخراجي يتم فيه تحديد التفاصيل الإجرائية بكل دقة، بل وكان من التقاليد الشائعة والمستمرة حتى اليوم أن يقوم المخرج أو رسام برسم تخطيطات أولية للقطات الفيلم. وتحضرني هنا المقولة الشهيرة للمخرج الفرنسي الكبير رينيه كلير الذي عمل في الربع الثاني من النصف الأول من القرن العشرين عندما صرح لصحفي سأله حول فيلمه القادم قائلا: إن الفيلم صار جاهزا، ولم يتبق إلا القيام بتصويره. لكن النصف الثاني من القرن العشرين والذي تزايدت فيه النزعات التجريبية والحداثية في السينما شهد آراء تتجاهل السيناريو، وشهد محاولات من مخرجين كبار لتصوير أفلام روائية طويلة دون اللجوء إلى نص السيناريو، بل بالاعتماد على مجرد مخطط أولي أو فكرة أولية أو على الارتجال. ويؤكد المخرج الروسي الشهير اندري تاركوفسكي في محاضراته التي كان يلقيها على طلاب معهد السينما في موسكو أن السيناريو يمكن أن يتكون من صفحة واحدة فقط، بل إنه يصل إلى أقصى درجات التطرف حين ينفي الحدود بين السيناريو والفيلم المنجز، وينفي بالتالي ضرورة وجود كاتب السيناريو المستقل لأن كاتب السيناريو الحقيقي، حسب رأيه، هو المخرج. وهو، تبعا لذلك، كان يدعو إلى أن يكون كاتب السيناريو والمخرج شخصا واحدا. ونجد مثل هذه الممارسة عند الكثيرين من المخرجين الكبار ممن يتميزون بأسلوب خاص. وفي مذكراته المنشورة يؤكد المخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني على هذا الوضع، إذ يقول: أنا في الحقيقة لم أحبذ اعتماد مخطوطات كتبها آخرون، مع أني أقر بأني خسرت بعض القصص الجيدة التي عرضت علي فيما بعد بسبب هذا الموقف المتحيز. كانت أفكاري الخاصة أكثر من قدرتي على التنفيذ. وأعتقد أن ذلك كان أنانية من جانبي، لا لأن أفكاري كانت تبدو أكثر جاذبية فقط، مثلما تبدو أفكارنا جميعا لنا، بل لاعتقادي بأنني قادر على تنفيذها بعاطفة أقوى. كنت أستطيع أن أعايشها، وأضفي عليها الوحدة، لأنها انبثقت مني. وكان يمكنني أن أحقق أعلى درجة من التفاهم والتآلف مع شخصياتي التي كنت أعايشها بكل معنى الكلمة طوال خطوات العمل حتى تنجز ما قدر لها في مواجهتها للجمهور.

وفي مجال السينما العربية نجد مثل هذه الممارسة التي يتوحد في شخص واحد فيها كاتب السيناريو مع المخرج في تجربة العديد من السينمائيين العرب مثل المخرج يوسف شاهين والمخرج داود عبد السيد في مصر والمخرج التونسي نوري بو زيد والمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي والمخرج السوري محمد ملص.

في الجانب المقابل، أي جانب كتاب السيناريو المحترفين والذين يعدون أنفسهم كتابا مبدعين وليسوا مجرد حرفيين مهرة، يتزايد التذمر من أنهم لا يجدون نفسهم في الأفلام المصنوعة عن سيناريوهاتهم رغم أن بعض هذه الأفلام حقق نجاحا كبيرا على المستوى الإبداعي، وهم لهذا يسعون جاهدين لإخراج أفلامهم بأنفسهم. هكذا تحول رأفت الميهي الذي كان يعد من أفضل كتاب السيناريو المحترفين في السينما المصرية في السبعينيات إلى مخرج يتولى أمور نصوصه بنفسه. ويجاهد كاتب السيناريو المبدع فايز غالي للحصول على فرصته كمخرج لنصوصه لتجاوز حالة الإحباط التي أصابته من جراء النصوص التي أخرجها آخرون، هذا بالرغم من أن بعض نصوصه تحولت إلى أفلام تعد من أفضل الأفلام العربية في السنوات الأخيرة ومنها السيناريو الذي كتبه لفيلم يوم مر يوم حلو الذي أخرجه خيري بشارة.

تختلف إشكالية العلاقة بين نص السيناريو وبين الفيلم المنجز عن النص، عن إشكالية العلاقة بين العمل الأدبي القصة، الرواية، المسرحية وبين السيناريو المقتبس ومن ثم الفيلم المنجز، فإذا كانت إشكالية الأدب والسينما ترتبط بقضية أمانة الفيلم للنص الأدبي هذا في حالة الإقرار بخصوصية كل نوع وتميزه عن النوع الآخر، فإن إشكالية العلاقة بين نص السيناريو والفيلم المنجز ترتبط بقضية الإبداع ذاته وقضية سينما المؤلف التي يتوحد فيها القلم مع الكاميرا .

لكن تحقيق هذه المعادلة ليس أمرا سهلا من الناحية العملية ويحتاج إلى قدر كبير من الموهبة ناهيك عن الخبرة في كلا المجالين، هذا إذا افترضنا توفر الإمكانيات الإنتاجية والفنية والتقنية الملائمة في العديد من الحالات، ومن أجل محاولة الحصول على الضمانات الإبداعية المناسبة، لا يكتفي من يريد أن يكون مؤلفا/ مخرجا بتوفر هذه الفرصة له، بل يتحول إضافة لذلك إلى منتج لأفلامه . يوسف شاهين ورأفت الميهي مثلا. وتؤكد التجربة العملية للعديد من السينمائيين العرب من دعاة سينما المؤلف صعوبة تحقيق هذه المعادلة بنجاح تام. ويتبين أن النصوص التي يكتبها مخرجون بكل حرية ذاتية تعاني من فقر في البناء الدرامي أو ضعف في تركيب الشخصيات أو غموض في المعنى بسبب افتقارهم إلى الخبرة الأدبية، وأحيانا بسبب إصرارهم على قول كل شيء دفعة واحدة هذه مثلا، واحدة من الانتقادات الكبرى التي توجه لأفلام يوسف شاهين. وبالمقابل، قد يتفاجأ كتاب السيناريو عند ممارستهم للإخراج بشروط تقنية وحلول فنية يقترحها أفراد من فريق العمل تؤدي بهم إلى نتيجة عكسية. ونقرأ للمخرج الهندي الشهير ساتياجيت راي تصريحا حول تجربته في هذا المجال عندما أقدم على إخراج أول فيلم له عن نص كتبه. فقد كان يريد أن يصور لقطة متوسطة تظهر فيها فتاة متخفية وراء السنابل في أحد الحقول. وعندما حدد إطار اللقطة اقترح عليه المصور لقطة بديلة مقربة لوجه الفتاة على خلفية السنابل. وبدت اللقطة المقترحة للمخرج جميلة جدا فاعتمدها. لكنه فوجئ فيما بعد وأثناء عملية المونتاج أن تلك اللقطة الجميلة لا تنسجم مع ما قبلها وما بعدها. وهذا مجرد مثال مبسط جدا على أن الرغبة وحدها لا تكفي، وأن ثمة حاجة كبيرة لاكتساب الخبرة الكافية قبل إمكانية تحقيق الرغبة في إخراج الفيلم. لكن اكتساب الخبرة العملية أمر لا تتيحه بسهولة وللجميع شروط صناعة السينما، خصوصا في الدول الفقيرة إنتاجيا والتي لا توجد فيها صناعة سينمائية راسخة.

لا تقتصر هذه الإشكالية في السينما على العلاقة بين كاتب السيناريو ومخرج الفيلم، ففي كثير من الأحيان يشكو حتى الممثلون من أن الفيلم الذي أخرجه واحد غيرهم لم يحقق طموحهم الفني، وأنهم لم يعودوا يجدون ذاتهم في التمثيل وحده، ولهذا يرغبون بأن يصبحوا مخرجين. يشترك في هذا الطموح أيضا مدراء التصوير ومؤلفو الأفلام وكذلك منتجوها وحتى مساعدو الإخراج.

مشكلة النص والفيلم هي تعبير جزئي عن مشكلة الإبداع السينمائي بحد ذاته. فهو، كما هو معروف، إبداع جماعي ليس كاتب النص والمخرج إلا طرفين من أطرافه المتعددة والمتنوعة الاختصاصات. وينطبق على كل من الأفراد الرئيسيين المشاركين في العملية الإبداعية للفيلم الواحد ما قاله الشاعر العربي: كل يدعي وصلا بليلى....

* ناقد سينمائي أردني.

الرأي الأردنية في 1 ديسمبر 2006

 

السفارة في العمارة والمربع الأول

بقلم : حازم مقدادي 

استطاع فيلم السفارة في العمارة ومنذ اللحظات الأولى التي تلت انتهاء عرضه الافتتاحي، أن يثير العديد من ردود الفعل، التي اختلطت بين مؤيدة لفكرة الفيلم، وللأساليب التي تم اتباعها، والمواقف التي أطلقها. في حين ظهر كثير من الانطباعات والآراء التي رأت الأمر بعين مختلفة، وليس أدل على ذلك من الموقف الذي تبنته مجموعة بارزة من الكتاب والمثقفين المصريين، وفي طليعتهم صنع الله ابراهيم، ويوسف أبو ريا، وحمدي أبو جليل، وعفاف السيد، وأسامة عرابي، ومحمد الورداني. ففي بيان أصدروه اتهموا الفيلم بالسخرية من قصيدة الشاعر المصري الكبير أمل دنقل لا تصالح الداعية لرفض الصلح مع الكيان الصهيوني، والامتناع عن التطبيع بكل أشكاله مع هذا العدو التاريخي.

تبدأ مجريات هذا الفيلم بعرض هادئ ومتأن لمجمل مكونات حياة بطل الفيلم، واهتماماته على الصعيد الشخصي، فالبطل هنا اسمه شريف خيري وهو مهندس بترول فارق وطنه منذ ربع قرن ليعمل في إحدى الشركات المتواجدة في الامارات العربية، ويقوم بدوره الفنان الكبير عادل إمام. حيث تعرض لنا المرحلة الأولى من الفيلم، الممارسات اليومية التي يقوم بها شريف خيري، وهي ممارسات جنسية، وشهوانية، واهتمامات سطحية. كما تعرض لنا اهتمام هذا المهندس بعمله، وتفوقه في القدرة على حل المشكلات، والنأي بالشركة التي يعمل بها عن الهاوية.

تهدف المقدمة الطويلة التي تصدرت مجريات العمل، وكثافة الأحداث التي تخللتها، وتتابع التحولات التي شهدتها، إلى ترسيخ انطباع محدد لدى المتلقي عن الشخصية الرئيسية، من خلال ابراز الأبعاد التي تحكمها، والأطر التي تحيط بها. فأراد المخرج أن يضع بطل الحكاية في قالب يحرك مسيرته ويضبطها على امتداد مجريات العمل، وهو القالب السطحي، والشهواني، المفرغ كليا من بقع السياسة، وقضايا المجتمع والأمة. كما أراد المخرج أن يجرد شريف خيري تماما من أي انتماء أيا كان نوعه، حتى صورة الانتماء للوطن التي كانت باهتة، وبعيدة جدا، لا يمكن استرجاع معالمها، أو تمييز مكوناتها، خصوصا بعد هذا الغياب الذي طال وامتد. وفي نهاية هذه المقدمة تمكن مخرج العمل عمرو عرفة من تشكيل صورة حيادية لبطل الفيلم، تساعده أثناء تنقله بين مشاهد العمل ومراحله المختلفة. كما تضع العمل بمجمله في إطار يمزج بين الحياد والانطواء على موقف، مما يسهل عملية عرض وتناول وجهات النظر المختلفة حيال موضوع التطبيع، والتعامل مع الكيان الصهيوني. فيستمر العمل بحياديته التي تنتهي لدى حلول لحظة التحول في شخصية البطل شريف خيري، والتي ستعلن عن موقف الفيلم برمته، ورأيه الخاص حيال نضال الشعب العربي المتعلق بالقضية الفلسطينية.

وبعد مضي عام على العرض الأول لهذ الفيلم، ما يزال هناك من يتساءل عن الفكرة العامة له، وفيما إذا كان يشكل حالة فنية رافضة للتطبيع، وسط الزخم الرسمي الاقتصادي والسياسي العربي المنحدر تجاه الكيان الصهيوني، في الوقت الذي عد فيه آخرون أن العمل عرض رفضا شعبيا للتطبيع، دون أن يتناول أسباب هذا الرفض ودوافعه، ناظرين إلى ذلك على أنه نقيصة وخطيئة كبرى اقترفها القائمون عليه. في حين شككوا بموقفه عندما أرجعوا سبب التأييد الجماهيري الكبير له، إلى أن الفيلم لم يفهم منه أية دعوة للتطبيع!

تبدأ الأحداث المحورية للعمل بالتبلور لدى عودة المهندس إلى وطنه، حيث يدخل شقة والده التي هجرها منذ أمد بعيد، فيتجول بداخلها والمشاعر تختلط في بريق عينيه، والطابع الكوميدي يكسو تصرفاته وردود أفعاله. غير أنه عندما فتح نافذة تطل على النيل الذي كان متشوقا لرؤيته وتأمله، يفاجأ وهو ينقل بصره بين الأماكن بوجود علم السفارة الصهيونية يطل من شرفة الشقة المجاورة له، وهنا - =وبلا أي تردد أو تفكير- ينتفض شعور من أعماق نفسه لم يستغربه أو يستهجنه برغم اتساع المساحة التي أبعدته عن هكذا مواقف، وابتعاده عن تبني أي رأي حيال هذه القضايا، فيرفض هذا الوضع ويستنكره، وينتقل مباشرة إلى أفراد أمن العمارة ليمنعهم من نقل حقائبه إلى الأعلى، كخطوة أولى في مشوار رفض هذا الوضع وهذه الصلة التي فرضت عليه. وفي طريقه يصادف شخصا لا يعلم أنه سفير العدو فيصارحه بمشاعره التي انفجرت من داخله تجاه هؤلاء الدخلاء، معبرا عنها بقوله: دول يستاهلو الحرق.

وفي هذا المشهد بالذات يتضح بجلاء موقف الفيلم برمته من عملية التطبيع والتعامل مع هذا الكيان، فحالة الرفض التي سيطرت على شريف خيري كانت تلقائية، تكتسب معالمها كردة فعل سريعة وغير معد لها على ما يحدث، وغير مؤطرة بمفاهيم وشعارات الرفض والنضال وعدم الانصياع، كما إنها بعيدة كل البعد عن أي وعي سياسي، أو مضمون فكري. وهنا يحاول مخرج العمل أن ينقل طابع الرفض والاحتقار لهذا العدو من الاطار التقليدي، المرتبط بالمبررات والمسوغات والدوافع، إلى إطار آخر يتضمن رفض الاعتراف والتعامل مع هؤلاء الغاصبين، دونما حاجة لتبرير أو تسويغ، مرسخا بذلك مفهوم العداء التاريخي الذي ينتقل جيلا فجيل، فتضمحل الأسئلة، وتختفي الشكوك أمام انتصاب عملية الرفض كأمر مسلم به، وكأننا به يقول: نحن نكرهكم فحسب، مؤكدا بذلك تراجع أهمية الحديث عن دوافع رفض التطبيع، والامتناع عن التعامل مع الصهاينة، وفي الوقت نفسه رافضا لفكرة اقتصار المواقف والرفض على مرتادي الصالونات السياية.

وعلى امتداد الفيلم يمكن للمتابع أن يرى العديد من الدلالات التي تخللته، فهناك بنت الليل التي رفضت إقامة علاقة مع شريف خيري بمجرد اكتشافها إقامته بجوار السفارة، مما يؤكد عمق الاحتقار، واتساع العداء مع هذا الكيان. ومن الممكن أيضا رؤية حجم الكراهية التي يعج بها الشارع العربي الشارع المصري نموذجا تجاه هؤلاء الغاصبين، فهناك شرطي المرور، ومدير المطعم، وضابط الأمن المكلف بحماية السفارة، كل له موقفه حيال ما يجري فيتحول ويتبدل بما يتناسب مع أحداث الفيلم نفسه ليخدم الهدف العام. في حين تم استخدام العمارة وشقة المهندس كنموذج للوطن، فيبين لنا ببلاغة وذكاء كيفية انتشار العدو في ثنايا الوطن كخلايا السرطان، التي تمتد وتتسع لتشوه كل ما يمكن لها أن تطاله.

وفي الوقت الذي يتأرجح فيه موقف بطل الفيلم، مما يبقي الباب مفتوحا أمام التساؤلات، تأتي مشاهد الربع الأخير لتحسم التساؤلات، وتحدد الموقف النهائي للبطل وللفيلم بمجمله، فيظهر شريف خيري أمام أحد دعاة التطبيع وهو يسخر من رأيه قائلا: بقى لنا سبع تالاف سنة بنزرع أرضنا، وجايبنهم يزرعوهالنا!. ثم يعزز ذلك بطرده لضيوف السفارة من شقته غير مبال بحجم الضغوطات التي يمارسونها ضده. وفي المشهد الختامي ينطلق بطلنا محمولا على أكتاف الشرفاء رافضا التطبيع، ذلك المفهوم الذي ردده في بادئ الأمر معتمدا على غريزته، في حين نراه وهو يتمسك به الآن وبكل جوارحه، مؤكدا العداء الأزلي بين هذا الكيان الدموي ومفاهيم السلام، معلنا بذلك الموقف الصريح للعمل برمته.

ومن الملفت في الأساليب التي استخدمت في هذا العمل، أنه خرج من الإطار السياسي إلى الإطار الإنساني، منفلتا بذلك من عقدة التوثيق التاريخي التي شكلت نمطا سيطر على مجمل الأعمال الدرامية التي تناولت هذا المحور وعرضته، فلا يمكن تصنيفه كأحد الأفلام السياسية، لأن العناصر الإنسانية هي التي شكلت الطابع العام له.

ومن جهة أخرى يمكن ملاحظة الاستخدام الذكي للكوميديا كوسيلة لحمل المفاهيم والأهداف الرئيسية للفيلم، مستغلا الحجم الكبير المتكون من المفارقات المتوفرة في هذا السياق. إلا أن بعض متابعي الفيلم سقطوا في فخ الخلط، فلم يستطيعوا الوقوف عند الشعرة التي تفصل بين الكوميديا التي تشكل وسيلة من جملة الوسائل المستخدمة لتحقيق رؤية الفيلم، وبين الكوميديا التي تشكل محورا عاما وهدفا أخيرا للعمل بمجمله، والتي كان السفارة في العمارة بمنأى عنها.

نعم، إن هذا العمل يشكل وبجلاء حالة فنية رافضة للتطبيع، بل ويرجع بنا نحو اللحظات الأولى لهذا الاحتلال، الذي كرهناه ورفضناه، حتى قبل أن ينال من أمننا، ومن أحلام وبراءة أطفالنا، أو استباحته لدمائنا. كما يؤكد انعدام المسافة التي تفصل أيا منا عن لحظة المواجهة، محررا مفاهيم المقاومة والنضال من إطار الوعي السياسي.

* باحث فني أردني.

الرأي الأردنية في 1 ديسمبر 2006

اليوم يبدأ مهرجان مراكش السينمائي الدولي نشاطات دورته السادسة...

سينما العالم أكثر والمشاركات العربية أقل

مراكش – ابراهيم العريس

إذا كانت المهرجانات السينمائية العربية، أو الأوروبية التي تقدم عروضاً عربية في شكل أساسي، تعاني هذه الأعوام، كالأعوام الأخيرة، من مشكلة ضآلة الإنتاج السينمائي العربي الجدير بأن يقدم في المهرجانات والمناسبات، وكذلك من سطوة مهرجان «كان» الذي «التهم» الجيد من الأفلام العربية منذ أواسط هذا العام، فإن مهرجان مراكش، الذي يفتتح مساء اليوم الجمعة في المدينة المغربية الفاتنة دورته السادسة، يبدو وكأنه تمكن من ان ينفد بجلده من ذلك الشح المؤكد. فهو من جديد، سار على هدي هدفه الأساسي: ان يجعل من نفسه مناسبة لاكتشاف ما لا يمكن اكتشافه في مهرجانات أخرى، غير الثلاثة أو الأربعة العالمية الرئيسة («كان»، «البندقية»... الخ)، من سينمات تأتي من بلدان لا يسمع بمعظمها أحد سينمائياً على الأقل. وينطبق هذا في شكل خاص هذا العام على المسابقة الرسمية، عصب المهرجان وعموده الفقري. ففي هذه المدينة الحمراء اللون، التي تتحول الى عالم سينمائي فسيح للمرة السادسة على التوالي، وفي قاعة قصر المؤتمرات الفخمة، يشاهد الجمهور والضيوف طوال تسعة ايام المهرجان، افلاماً يتوقع كثر ان يكون بعضها من النوع الذي سيتحدث عنه اهل السينما في العالم كله خلال الشهور التالية. والحقيقة ان هذا التوقع يستند الى ما حدث خلال الدورات السابقة. فأفلام مثل «دروب جانبية» من الولايات المتحدة و «كريزي» من كندا، و «جماعتنا» من روسيا وغيرها، وهي أفلام برزت أول ما برزت في «مراكش»، سرعان ما احتلت مكانتها معطية لهذا المهرجان الأنيق والطموح مكانته كمكان اكتشاف حقيقي.

فما هي أفلام هذا العام التي ستحوز هذه المكانة؟

مرآة أحوال العالم

نور الدين صايل، المشرف الفني على المهرجان ونائب رئيسه، يفضل ألا يبدي تفضيلاته منذ الآن، حتى وإن كان هو واحد من قلة من الناس شاهدت الأفلام المشاركة كلها. فقط يقول ان معظم أفلام المسابقة الرسمية يحمل مواصفات الأعمال المميزة «وإلا لما كانت هنا...». ما يهمه هو ان الأفلام الكثيرة التي تم اختيارها في نهاية الأمر، أتت من بلدان عدة، لتشكل ما قد يمكن اعتباره، ليس فقط مرآة لسينما العالم، بل كذلك مرآة لأحوال العالم وتغيراته المزاجية، على الأقل كما يرصدها سينمائيون بعضهم يحقق فيلمه الأول.

في المسابقة الرسمية، إذاً، نحو 15 فيلماً معظمها يعرض هنا، عالمياً، للمرة الأولى وتأتي من عدد مماثل تقريباً من البلدان. فمن ايطاليا يأتي «آكازا نوسترا» لفرانشيسكا كومنشيني، ابنة لويجي التي كانت فاجأت اهل السينما قبل سنوات بتجربة اولى ناجحة عرضت في «كان». هذه المرة تزور كاميرا المخرجة مدينة ميلانو لترسم لنا صورة لحيوات شخصيات عدة تتلاقى وتتقاطع من حول ما يشغل بال الجميع: المال. ومن ايران يأتي مازيار ميلي بفيلم «بي اهستيجي» الذي يتابع مصير محمود عامل سكة الحديد الذي يبلّغ وهو في عمله ان زوجته اختفت منذ اسبوع. ومن المغرب يطل فيلمان أولهما لنرجس نجار بعنوان «أفق ايها المغرب»، والثاني لفوزي بسعيدي في عنوان «وات أي وندرفول وورلد» (يا للعالم الرائع)، علماً بأن هذين المخرجين كانا برزا معاً في «كان» في عام واحد قبل فترة. ومن كندا يأتي روبير فافرو بفيلم اضافي عن مجازر رواندا 1994 عنوانه «ذات احد في كيغالي»، بينما يأتي من الدنمارك فيلم «براغ» الذي يصور مهاجراً تشيخياً يسافر مع زوجته الى براغ بغية إحضار جثمان والده المتوفى حديثاً، ما يشكل بالنسبة إليه مناسبة للتعمق أكثر في حياة والده، وللدنو من زوجته. مهاجر آخر لكنه هذه المرة فيتنامي يعيش في سويسرا. وها هو الآن بعد عشرين عاماً من عيشه السويسري يزمع الزواج ما يأتي بأمه لتتعرف على الأسرة التي استقبلته وربته. ونبقى هنا مع القضايا العائلية في الفيلم الإسباني «حياة شليا» الذي يحدثنا عن محاولة فاشلة للانتحار ومقتل مراهقة ذات ليلة، وصولاً الى العلاقة بين «المنتحرة» والمقتولة. أما من فرنسا فيرسل المخضرم رينيه فيريه فيلمه الجديد «كان يكفي ان ترحل امي». فيما يرسل رادو مونتيان، من رومانيا فيلم «ستكون الورقة زرقاء» الذي يحض فيه جندي شاب كل روماني على قتل واحد من الجنود الذين حاربوا في صفوف تشاوشسكو خلال السنوات الديكتاتورية. وأما حكاية الغرام فيؤمنها الفيلم الألماني «الببغاء الحمراء»، فيما يروي لنا الفيلم التايلاندي «المدرسة الداخلية» حكاية الفتى نون، الذي يروي لنا كيف بارح بيته وهو في الثانية عشرة ليلتحق بالمدرسة الداخلية لمجرد «أن أهرب من والدي...».

من البرازيل، التي اعتادت ان ترسل الى مراكش أفلاماً مميزة وغريبة بالنظر الى تجديداتها في الشكل والمضمون يأتي فيلم «بيت من رمال» الذي يحدثنا عن نساء يمثلن ثلاثة اجيال يجدن أنفسهن في نضال متواصل وسط عالم من الرمال ضد قوى الطبيعة وجبروتها، ولا سيما ضد الرمال الزاحفة. ونساء ايضاً في الفيلم الأميركي «بوبي» هن شارون ستون وهيلين هانت وديمي مور، في مواجهة مع ذكور من أمثال ويليام سي. ماسي وأنطوني هوبكنز وكريستيان سلاتر، في فيلم يروي لنا عدة حيوات متقاطعة في يوم واحد، هو السادس من حزيران (يونيو) 1968، تاريخ اغتيال روبرت كيندي على يد سرحان بشارة سرحان في لوس انجيلس. اما ماليزيا فمنها يأتي الفيلم الحميم الآخر «قبل أن نقع في الغرام مجدداً» لجيمس لي. ويتحدث كذلك عن اختفاء زوجة شابة لا يعرف أحد اين هي الآن، بل ما اذا كانت اصلاً لا تزال على قيد الحياة... حتى اليوم الذي يظهر فيه شخص غريب يقول انه هو عشيق المرأة المختفية.

الحق على الشح العربي

إذاً، من بين هذه الأفلام المتنوعة والجديدة كلياً، إذ انها جميعاً من إنتاج هذا العام، سيكون على لجنة التحكيم ان تختار الأفلام الفائزة بالجوائز المتنوعة، من جائزة احسن فيلم الى احسن إخراج وتمثيل وما الى ذلك. وطبعاً لن نعرف اسماء الفائزين إلا في اليوم الأخير. وفي انتظار ذلك يمكن طبعاً لجمهور المهرجان وضيوفه ان يشاهد أعمالاً أخرى، منها ما هو جديد نسبياً، ومنها ما هو مجرد استعادة لماض سينمائي ما. اذ الى جانب تظاهرة المسابقة الرسمية، هناك عروض اساسية، إنما خارج المسابقة وابرزها بالطبع «الأفارقة الفرنسيون» للجزائري رشيد بو شارب، وهو نفسه الفيلم الذي لا يزال منذ عرضه الأول في دورة «كان» الأخيرة يحصد الإعجاب والسجال محققاً انتصارات تجارية (نحو 3 ملايين متفرج في فرنسا حتى الآن) وسياسية (بعد الضجة التي ثارت من حوله امر الرئيس الفرنسي جاك شيراك بإنصاف عرب فرنسا، من أحفاد الذين حرروها خلال الحرب العالمية الثانية، تاريخياً ومادياً). وهناك ايضاً تحفة المكسيكي ايناريتو «بابل» الذي صور جزء كبير منه في المغرب وتدور احداثه انطلاقاً من جبال هذا البلد. وإلى فيلم «المرحلون» آخر تحفة حققها سكورسيزي حتى الآن، الذي يعرض خارج المسابقة هناك ايضاً المصري «عمارة يعقوبيان» الذي صار قاسماً مشتركاً بين معظم المهرجانات في الآونة الأخيرة... وهناك كذلك عرض خاص لـ «أوليفر تويست» الفيلم الأخير الذي حققه رومان يولانسكي – الذي يترأس لجنة التحكيم في المهرجان المراكشي لهذا العام، ما يجعل عرض «اوليفر تويست» حدثاً تكريمياً، كما كان شأن عرض فيلم «لا طريق الى الديار» لسكورسيزي في العام الفائت، حين كان هذا رئيس لجنة التحكيم في «مراكش». غير ان التكريم لا يقتصر هذا العام على بولانسكي، بل سيطاول سينمائيين آخرين – نعود إليهم في الأسبوع المقبل – من بينهم المصري الكبير توفيق صالح، الذي سينال تكريماً خاصاً عن مجمل أعماله هو الذي لم يحقق فيلماً روائياً، منذ ما يقارب الثلاثة عقود.

التكريم يطاول كذلك بعض أنواع السينما الهندية، وسينما الواقعية الجديدة الإيطالية، اضافة الى عرض خاص في الهواء الطلق، في ساحة جامع الفنا للأفلام الثلاثة التي تشكل «ثلاثية ماتريكس». وكل هذا، إضافة الى تظاهرة ثانوية من هنا وأخرى من هناك يحول دورة هذا العام من مهرجان مراكش عيداً للسينما حقيقياً، يؤسف فيه فقط ضآلة المشاركات العربية لمهرجان، كان قبل عامين، وتحت إدارة نور الدين صايل، ابدى رغبة حاسمة في ان يفرد للسينما العربية مكانة أوسع... ولكن ما العمل، والشحّ ضارب أطنابه في سينماتنا العربية في كل مكان؟

الحياة اللندنية في 1 ديسمبر 2006

 

سينماتك

 

الفيلم ونص السيناريو الأدبي

بقلم : عدنان مدانات 

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك