تشيع عبارة بين الناس مفادها أن "الاختلاف لا يفسد للود قضية"، ورغم تكرار ترديدها تبقى باهتة على صُعُد ومسارات كثيرة، أكثرها وضوحا الاختلاف السياسي الذي جعل من الآخر القريب جدا آخر بعيدا وعدوا بكل ما تحتمله الكلمة من معنى، وبكل ما تستحضره من تداعيات، في ظل ثقافة تلغي الآخر وتقصيه، وما تشويه صورته إلا إحدى الطرق لذلك.

فلماذا لا نحاول أن نرى كيف قدمت السينما المصرية (مثلا) الآخر المختلف سياسيا على شاشتها الساحرة؟ وتحديدا وبعد أن سمعنا خبرا منذ فترة مفاده أن هناك مشروع فيلم كوميدي يسخر من تجربة الإخوان المسلمين في البرلمان المصري، وأن هناك مشروع فيلم آخر سينتج عن شخصية الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة، وهذا يجعلنا نتساءل: إلى أي مدى يستغل الفن لتشويه أو تجميل أطراف سياسية؟ وكيف وظفت السلطة الحاكمة الفن لتشويه معارضيها؟.

لن نخوض هنا في المشروعين السابقين، فهما لم يظهرا إلى النور بعد، لكنهما فتحا بابا واسعا لاستدعاء العديد من الأعمال السينمائية التي شوهت الآخر المختلف سياسيا لصالح السلطة الحاكمة.

ملابسات الصورة

ترافقت عملية تشويه الآخر المختلف سياسيا والسخرية منه مع عمليات تمجيد الذات (النظام أو مصدر السلطة)، والواضح أن العمليتين لا يمكن فصلهما أو الوقوف على حدود ممايزة بينهما، كما أن ملابسات كثيرة أحاطت وأثرت في نحت مفهوم الاختلاف السياسي في دولة كمصر، وهي قادت لأن تكتسب الكلمة الكثير من "السمعة السيئة"، وأصبحت مرادفا في كثير من الأوقات للعمالة والخيانة، والرغبة في الإخلال بالأمن والاستقرار، والنيل من "ثوابت الأمة" ومكاسبها، ولكثير من المصطلحات التي كانت تسود صحائف الادعاء المجهزة سلفا للآخر المختلف سياسيا.

ومما أثر في الصورة الذهنية للمختلف سياسيا خاصة في السينما أن السينما -ومنذ ثورة 1952- أصبحت بقبضة الدولة تتحكم في جميع مراحلها منذ كتابة السيناريو إلى التمويل والتوزيع والعرض، فلم يتوقف دور الدولة في الإرشاد أو في الرقابة فقط بل في التحكم وصنع توجهات هذه السينما والقضايا التي تهتم بها وتعالجها.

وإذا تتبعنا التعامل مع صورة المختلف سياسيا داخل السينما المصرية عبر مراحل تاريخها الممتد حوالي مائة عام فسنجد أن هناك ثلاث مراحل واضحة ومميزة:

 أولا: الانقلاب على العهد الملكي (بعد ثورة 1952).

 ثانيا: الانقلاب على العهد الناصري، أو ما عرف بأفلام "الكرنكة" نسبة لفيلم الكرنك (أثناء العهد الساداتي).

 ثالثا: تشويه الإسلاميين وجماعات الإسلام السياسي (في أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات).

يوليو هي البداية

الممرضة نادية (ليلى مراد) تحتفل بعيد ميلاد إحدى زميلاتها، ويستمعن لغناء "محمد عبد الوهاب" في الراديو لأغنية "الدنيا ليل"، ولكن ما تلبث الكهرباء أن تنقطع فتطلب الزميلات من نادية أن تكمل الأغنية، فتبدأ في إنشاد كلمات الأغنية المعروفة:

"الدنيا ليل والنجوم طالعه تنورها

نجوم غير النجوم من حسن منظرها

ياللي بدعتو الفنون وفي إيدكو أسرارها

.................................

الفن مين يوصفه إلا اللي عاش في حماه

والفن مين يعرفه إلا اللي هام في سماه

والفن مين أنصفه غير كلمه من مولاه

والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه

أنت اللي كرمت الفنان ورعيت فنه

.................................

إحنا يا تاج البلاد في الجنة سكانها

وأنت راعيها وحارسها ورضوانها".

كان هذا مشهدا من فيلم اسمه "الماضي المجهول"، قامت ببطولته "ليلى مراد"، وإن كنتَ ممن شاهد الفيلم في عروضه الأولى في سينما "ريفولي" عام 1946، أو حتى بقية العروض حتى قيام ثورة يوليو، وشاهدت الفيلم بعدها فستكتشف أن هذا المشهد غير موجود بتاتا.

فمنذ عام 1952 أخذ الجميع يشاهدون الفيلم دون أغنية لأنها أزيلت من رجال الرقابة بعملية جراحية سياسية دقيقة، لم تكن إلا واحدة من عمليات سريعة بحق أبدان أفلام مصرية كثيرة عن طريق استئصال أغنيات تمجيد رمز العهد الملكي فاروق؛ لجعلها مناسبة للظرف التاريخي والسياسي الجديد (أي ثورة يوليو).

وكما يظهر فالنظام تدخل بعمل سينمائي منجز أصلا لنفي الآخر المختلف معه سياسيا والمنقلب عليه، وهو نفي بقصد تشويه الآخر، كما أن المشاهد العادي يستطيع أن يلاحظ ويميز تلك المشاهد الموجودة في الأفلام القديمة التي ظهرت فيها صور الملك فاروق بطريقة كشطت من فوق شريط "السوليلود" لتظهر على الشاشة كأنها خطوط بيضاء، كما في أفلام: "الأسطى حسن"، و"ليلى بنت الفقراء"، وغيرها.

إلا الملك

يذكر الباحث الناقد "محمود قاسم" في كتابه: "الفيلم السياسي في مصر" عن تعامل الأفلام المصرية مع الملك فاروق بعد الثورة: "إن الحديث عن الملك في هذه الأفلام كان بمثابة الحديث عن الغائب وليس عن الحاضر، فلم يكن مسموحا على ما يبدو أن يظهر الملك بوجهه حتى إن كان نوعا من أنواع التمثيل، ولعل ظهور صورة الملك في فيلم: "الله معنا" تعكس ذلك، والتفسير هو أن المودة القديمة التي يكنها الناس لفاروق كان يمكنها أن تتأجج برؤية وجهه الذي كم هتف الناس باسمه، وكنوا له مشاعر خاصة، لذا فإن الأفلام التي تؤرخ للثورة تتحدث عن الملك كشخصية غائبة فاسدة، وقد صورت هذه الأفلام رموزا آخرين ينتمون للعصر كرؤساء الوزراء أو الوزراء أو أشخاص مقربين من الملك لكن إلا الملك نفسه".

هكذا أحاطت شخصية الملك حوائط من النفي وعدم التصوير وضعت حجابا بينه وبين الناس حتى ينسوه، فكانت هذه هي أولى التقنيات المستخدمة للانقلاب على هذا العهد بجميع رموزه.

المرأة لتشويه "الآخر"

فيلم "الله معنا" ليس المثال الوحيد، فهناك ما جاء بحنكة لا بأس بها لإحداث تشويه لرموز ومسئولي العهد السابق كفيلم "غروب وشروق" إخراج "كمال الشيخ"، وهنا يستوقفنا الاسم بما يعني من غروب العهد الملكي، وشروق عهد الثورة الذي يشخص رموز العهد الملكي لاهين دون قيم حقيقية، غارقين حتى آذانهم في مستنقع الرذيلة، يستغلون نفوذهم للحصول على شهواتهم الخاصة والتخلص من أعدائهم.

في حين يقدم الفيلم -وعلى النقيض من ذلك تماما، وعلى نفس الدرجة من المبالغة- أعضاء التنظيم الثوري المناوئ "ملائكة"، كما قدم في رمزية تكاد تكون شفافة كيف أن انتماء البطل اللاهي لهذا التنظيم طهره وحوله من مجرد رجل لاهٍ له تأثير سلبي على النساء لرجل يقدم خدمات وطنية جليلة عن طريق استخدامه لنفس مهاراته القديمة في التأثير على النساء، فيتزوج من ابنة رئيس البوليس السياسي، ويحصل على مذكراته الخاصة وينشرها في فضيحة للنظام الذي يمثله.

وهنا لا بد أن نرصد أحد أهم ملامح تشويه الآخر الذي تمثل في مواظبة السينما على استخدام المرأة واستغلالها في عمليات تشويه الآخر، فقد استغلت على مستويين: أولهما، ممارسات المرأة وسلوكياتها عندما تعبر عن عصر بعينه، وثانيهما، عبر الممارسات والسلوكيات التي تقع على المرأة سواء علاقات هذه المرأة برموز عهد أو تيار سياسي معين بما يشير لهذا الانحطاط الأخلاقي، أو ممارسات هذه الرموز أو الآخرين معها مثل: التعذيب والاغتصاب، وهذا ما سوف يمتد لنراه في أفلام الانقلاب على العهد الناصري أو أفلام تشويه الإسلاميين.

أفلام الكرنكة

جاء العصر الساداتي حاملا على عاتقه العديد من المشاكل التي ورثها عن سلفه، ومن أهمها هزيمة يونيو 1967 التي وجب عليه أن يحولها إلى نصر. ليبدأ مهندسو المشهد بالتعبئة بوسائل الاتصال الجماهيرية، فكان لا بد أن تتحدد هذه التعبئة بالانقلاب السياسي والفكري على منجزات العهد السابق.

وكان انقلابا ممكنا وسهلا لا سيما أنه اتكأ على الشعور بمرارة الهزيمة، فكان من الممكن مراجعة النظام السابق والشك في أطروحاته الكبرى، فأصبحت العديد من الأفلام تقدم دعاية مجانية للنظام الجديد الذي يبشر بالتصحيح والقضاء على مراكز القوى والهيكل البوليسي. ولم يطل ذلك فانقلب العهد على جميع الثوابت الليبرالية التي بشر بها عندما زج بأعداد كبيرة جدا من مفكري مصر المعارضين لاتفاقية "كامب دافيد" في السجون والمعتقلات.

جاءت إستراتيجية الدعاية للعهد الجديد من خلال إطار رئيسي تكرر في أغلب الأفلام التي كانت تعرض البطش الشديد الذي مارسه العهد السابق بحق "الآخر" عبر تقديم ما حدث في المعتقلات والسجون المصرية، والذي عكس عدم آدمية هؤلاء وبشاعة ممارساتهم، وغالبا ما ينتهي الفيلم إما بتبشير صريح، أو عرض لدور النظام الجديد في القضاء على تلك الممارسات، أو ترك الأمر لحنكة المشاهد الذي يقارن بين ما يحدث الآن وما حدث سابقا.

جاء فيلم "الكرنك" للمخرج "علي بدرخان" عام 1975 كلمسة أولى رائدة في "بورتريه" تشويه العهد الناصري، وتشويه أجهزته البوليسية والقمعية لصالح الدعاية للنظام الساداتي، وأعقب هذا الفيلم العديد من الأفلام التي تتبنى هذه الطريقة من التعبير، أطلق عليها مصطلح "الكرنكة" نسبة للكرنك، ومن أهمها "وراء الشمس" لمحمد راضي عام1977، و"إحنا بتوع الأتوبيس" لحسين كمال عام1979.

وليس الخطير في الأفلام المستوى الحسي لمشاهد التعذيب البشعة، بل هناك المستوى الدلالي الساخر الذي وظف للتدليل على تخبط وجهل النظام السابق وقمعه للقوى كافة، إضافة إلى ظلمه وقسوته.

وإذا كان المشاهد لا يستطيع أن ينسى مشهد اغتصاب "سعاد حسني" في فيلم "الكرنك"، فإنه لا يستطيع أن ينسى مشهدا مشابها في "إحنا بتوع الأتوبيس" لـ"عبد المنعم مدبولي" وهو عاري الصدر، موضوعا في رقبته طوق جلدي، منحنيا على أربع مقلدا صوت الكلب، مختنقا في بكائه قائلا للضابط الذي يعذبه: "كلب يا رمزي بيه أنا كلب".

هذه المشاهد وغيرها أصبحت تشكل مجموعة من الخطوط والتيمات الرئيسية التي تكررت في فترة أفلام "الكرنكة"، وهي إن كانت تشوه نظاما سابقا فهي تجمل نظاما موجودا عبر انتهائها بمشهد إزالة الظلم أو توقفه؛ ليزفر الجمهور حامدا الله على نعمة الحاضر.

تشويه الإسلاميين

على الرغم من أن السينما المصرية قد دخلت معترك معركة النظام ضد جماعات "الاحتجاج الإسلامي المسلح" متأخرة نسبيا فإنها دخلت بقوة وبنجمها الشهير "عادل إمام" في فيلم التسعينيات "الإرهابي" (تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال). وهو فيلم تجاري تحول بفعل صناعه والنظام لمهمة وطنية مقدسة، فظهر كواجب قومي عبر الوصف الذي جاء على ملصقات الدعاية التي كانت تقوم بحساب عدد المشاهدين، وتصفهم بمحاربي الإرهاب، مثل: "مليون مشاهد قالوا: لا للإرهاب حتى الآن".

كما أن النظام لم يبخل بأي جهد لمساندته، فقد رأى أن الفيلم خير دعاية له، فنزلت قوات الأمن تحمي وتؤمن دور العرض في سابقة تعتبر الأولى من نوعها حتى مع فيلم "الملائكة لا تسكن الأرض" لسعد عرفة رغم كونه حمل نفس المضمون في التقديم والمعالجة.

ولن نحلل الفيلم لكن المؤكد هنا أنه اعتنق رؤية غاية في التسطيح والتشويه والتنميط، مكونة من عناصر الرؤية الرسمية للنظام دون محاولة منه للقراءة العميقة، وهو ما تكرر في كثير من الأعمال اللاحقة.

ويضاف لأخطاء الفيلم المتمثلة في التنميط والمبالغة ونزع الشخصيات من سياق أفعالها أنه تبنى مجموعة من "الإكسسوارات الفكرية" -إن صح التعبير- لشخصية المتشدد دينيا، أهمها: الجهل الشديد، والتلقين، وعدم الحوار، ومن هذه اللوازم الإشارة إلى أن هذه العمليات مبعثها تقاضي أموال من الخارج، أو أن المتطرف يعاني الكبت الجنسي، واستغلال المقولات الدينية لإباحة نوع من أنواع الفوضى في الزواج بمن يرغبون من النساء.

ولم تختلف الصورة كثيرا في فيلم "عادل إمام" في "طيور الظلام" الذي صور فيه المحامي الملتزم دينيا الذي يقدم دعما للجماعات الراديكالية، همزة الوصل المالية بين الممولين الخارجيين للإرهاب وعناصره الداخلية، ولكن زاد في رغبة المحامي في الوصول للسلطة من خلال السيطرة على النقابات المهنية كخطوة أولى، وهو نمط آخر من الإرهابيين له نفس الصفات الأساسية مضافا لها طموح أوضح وأسرع للسلطة، أي صورة لشريحة أخرى من "الإرهابيين" الذين يقدمون على أنهم أخطر على المجتمع من الفاسدين الذين يمثلهم "عادل إمام".

الصورة لم تختلف كثيرا لليسار أيضا، ونجدها في "طيور الظلام" سلبية، وفي "السفارة في العمارة" ظهر اليساري ذا رائحة كريهة، وغير ملتزم، ويتكلم دون فعل، ماجنا، وجاء هنا التركيز على اليسار لدواعي سياسية ليس لها علاقة بالعنف.

لسنا هنا بصدد الانتصار لجماعات الإسلام الراديكالي أو السياسي، ولكننا بصدد رصد سياقات و"ميكانيزمات" التشويه لهم بوصفهم آخر مختلفا سياسيا، ووقعت الأفلام في فخ تشويههم، كما وقعت من قبل معتنقة "عقيدة النظام" ومقولاته دون أي محاولة استشراف جادة لأبعاد القضية وتحليلها بشكل أكثر نقدية ووعيا، لا يقف عند تداعيات اللحظة الحالية وتجلياتها بل بالنظر لما هو أبعد.

** ناقد سينمائي مصري.

إسلام أنلاين في 20 نوفمبر 2006

 

لماذا حقق كل هذه الايرادات؟

على الطرب بالثلاثة.. فيلم فاشل حتى فى التفاهة اللذيذة

سعيد شعيب 

فى الأغلب الأعم أفضّل تجاهل هذه النوعية من الأفلام، لأننى أشعر أنه لا طائل من وراء الكتابة. ولكن على الطرب بالثلاثة يمثل حالة نموذجية، أو بمعنى أدق حالة ذروة لنوعية من الأعمال انتشرت فى السنوات الأخيرة. والسبب الثانى أن هذا اللا فيلم حقق نجاحا جماهيريا ضخما، حيث تصدر قائمة الايرادات فى أفلام العيد، فصالة العرض التى شاهدته فيها كانت مزدحمة عن آخرها، رغم أن هذا الفيلم ليس فيه أى شيء على الإطلاق من السمات المتعارف عليها فى السينما.

وأنا اعتبر السينما فنا ديمقراطيا، بمعنى أن الناس تشترى التذكرة بكامل ارادتها، كما أننى أحترم اختيارات الناس، أى ناس، حتى لو اختلفت معهم.. ولكن هذا لا يمنع السؤال: ما الذى جعله يحقق كل هذه الإيرادات؟

السؤال صعب الإجابة عليه بشكل مؤكد وحاسم، وكل ما يمكن قوله هو فى النهاية مؤشرات قد تخطئ وقد تصيب، ومعظمها لا علاقة له بالفيلم ذاته.

ربما يكون السبب الأول فى النجاح الجماهيرى هو أن هذا أول ظهور سينمائى للراقصة دينا بعد الانتشار الضخم للسيدى الشهير لها منذ سنوات قليلة.. ناهيك عن رؤيتها وهى ترقص على شريط سينما أرخص كثيرا من أن تراها بعينيك فى أى مكان، فإذا أردت مشاهدتها فى فرح، فهذا معناه أن تكون على علاقة بالكبار فى البلد.. وإذا أردت أن تشاهدها فى فندق مثلا، فلابد أن تكون من أصحاب الدخول العالية.. والأرخص من كل ذلك أن تشاهدها فى بعض السينمات بعشرة جنيهات.

ونفس الأمر ينطبق على محمد عطية الذى يجذب فى ظنى قطاعا لا يستهان به من الشباب الصغير، بطريقة لبسه واغانيه، ناهيك عن النجومية التى حققها له البرنامج الشهير ستار أكاديمي. ونفس الأمر فيما أظن ينطبق على سعد الصغير الذى تشَكل له جمهور من قطاعات مختلفة من الحرفيين على ما اعتقد.

ولكن هل هذا سبب كاف لأن يتكفل المشاهد عناء دخول السينما؟

ربما وربما هناك سبب آخر أظنه أكثر تأثيرا هو حاجة الناس الشديدة للضحك، الضحك لمجرد الضحك، حاجة الناس لأن توقف رأسها عن التفكير، عن أى شيء من أى نوع.

هناك عطش للضحك ولعمل فاصل قصير فى الحياة مع أى تفاهات.

فهل هذا خطأ؟

لا أظن، فلست ضد الافلام التافهة، أى التى تخلو من أى مضمون كبير، بل واراها نوعا من السينما علينا احترامه.

ولكن على الطرب بالثلاثة يخلو حتى من أسس الأفلام التى يمكن أن نسميها خفيفة، والتى فى اغلبها تحترم الحد الأدنى من أساسيات السينما حتى تصبح أفلاما فيها متعة من نوع ما، مثل بعض الأفلام التى يقدمها أحمد حلمى، منها مثلا ظرف طارق.

ولكن الفيلم الذى نتحدث عنه حطم كل القواعد والأعراف وأى شيء من أى نوع، ليس لأنه من الأفلام التى تبحث عن الجديد بالمعنى الفنى، ولكنه مجرد حشو لهؤلاء الأبطال الذين تحدثت عنهم، فالمخرج أحمد البدرى لم يحرم أياً من هؤلاء من الوجود الوفير على الشاشة، فقد رقصت دينا كثيرا بكل ما أوتيت من حركات مثيرة.. وسعد الصغير غنى كلاما تافها محشوا بالألفاظ الشعبية المبتذلة ورقص هو أيضا، ومحمد عطية سبل عينيه فى عشرات المشاهد، إذا جاز أن نسميها كذلك؟.

وخلاف ذلك لا تسأل عن أى شيء، السيناريو الذى كتبه أحمد عبد الله لا علاقة له بأى قواعد فى الدراما، ولذلك لا تتعب نفسك فى أن تفهم أى أحداث أو أى شخصيات، لأنه لا يوجد هذا أو ذاك.

مجرد سلسلة من الافيهات الخشنة التى لم اسمع ضحكا حقيقيا فى الصالة، ناهيك عن العنصرية الشديدة فى التعامل مع أصحاب البشرة السوداء وأصحاب الأجساد الضخمة.. وهذا طبيعى فلا يوجد حد أدنى من الدراما يمكن أن ينبع منها أى كوميديا من أى نوع.

هل أجبت على السؤال الذى طرحته فى البداية وهو لماذا يذهب الجمهور لهذه النوعية؟

لا أظن.. ولكنى حاولت.

العربي المصرية في 19 نوفمبر 2006

"مراجيح"، فيلم المواعيد المؤجلة

في فسحة الوقت المُقْتَطَع بين قذيفتين

هاني درويش 

المشاهد لفيلم "مراجيح" للمخرج المصري الأسباني باسل رمسيس ربما يخرج من قاعة العرض مصحوبا بتلك القائمة من الشكوك التي كثيرا ما تدهشنا كلما إصطدمت توقعاتنا فيما ألفنا أنه معنون ومضمون الصياغة. هكذا كان حال معظم المتابعين لعرض الفيلم الأول بنقابة الصحافيين في يوم لم يخرج فيه إلا محبو السينما التسجيلية والقادرون على التضحية بنهائي كأس إفريقيا الثأري بين الأهلي والصفاقسي التونسي. وما بالنا إذا ما كان الفيلم يتحدث عن معاناة السيدات الفلسطينيات بين جانبي خط الهدنة لعام 1949، حيث من الطبيعي أن تحتاط لجرعة الإحباط المتوقعة عند التفكير في مثل تلك العناوين، نعم العناوين، فمجمل القضية الفلسطينية أصبح أقرب إلى شريط من الأخبار يمتد لكيلومترات يحمل عناوين التهافت السلطوي بين حماس وأبو مازن أو على أقصى تقدير أعداد جديدة لقتلى في توغلات إسرائيلية، أو في أقصى التقمصات المازوخية إحتفاء بالموت في عملية إستشهادية لا تنزع الروح فيها إلا لمنفذها الذي يبدو ساكنا مهجوسا بالخوف في صور الحائط في منزل أهله فيما يحتفي الجانب الآخر بعدد مصابيه بين تأرجح كاميرات التلفزيون العالمية. القضية الفلسطينية المختصرة في شريط النزيف الأحمر القاني لقناة الجزيرة تم إختصارها عند حدود المسيرات بأعلامها الخضراء وأسلحتها المشهرة في وجه السماء تحمل زخات الرصاص لتمزق الهواء المغبر للجماهير الزاحفة. فهل تتوقع من فيلم تسجيلي ما أن يتجاوز تلك الحدود؟ الريبورتاج التلفزيوني قد يهرول لإلتقاط الفجوة التي أحدثتها قذيفة دبابة بأحد البيوت. تستطيع الكاميرا أن تنقل الفجوة كخبر لكنها لن تعود بعد أيام لترصد الفجوات النفسية الممتدة مع عائلة باتت تفترش الطريق، وهذا تحديدا ما بات ينقص علاقتنا بالقضية الفلسطينية خارج خبرية التعامل معها: أن نخدش تلك الصورة الخيالية التي تحيل شعبا بالكامل إلى الإرتهان المعلب في صورة البطل السيزيفي. أن ترى ما هو خلف الزغرودة الإحتفالية لأم الشهيد في جنازته، أن ترى حزنها المثقل بعد أن تطفأ أضواء الإنارة لمقابلة تلفزيونية.

باسل رمسيس في فيلمه الأخير يقتفي ذلك الأثر المموه عنه ليتحدث عن المسكوت والصامت، يرتحل عبر ما يناهز العشرين موقعا للتصوير من أقصى الجليل شمالا حتى صحراء النقب جنوبا، من مطاعم مدن الضفة الغربية المفتوحة غربا إلى بيوت الصاج في مخيمات غزة. بوصلة واحدة تقود خطاه، ذلك الوجع الأنثوي الثقيل لنساء بتن يدفعن كل فواتير الصراع مضاعفة. نساء يتحدثن لأول مرة عن عنف المحيط بهن. المرأة المجهضة عند الحاجز الإسرائيلي تتحدث بنفس الصوت الصادر من مطربة الضفة الغربية الشهيرة، أم الشهداء الأربعة التي تفترش كوخا من الصفيح لايقل وجعها عمن تبكي عذابات الحماة وقسوة الأهل مخافة الطلاق. يمزج ويؤرجح باسل رمسيس بين النضالي عند حدود البيت مع محتل غاشم وبين عوالم البيت الداخلية التي يعيش فيها قهر البنية الإجتماعية التي تؤله الذكورة وبطريكية العائلة. الحكايات لاتدعي شرفا إستثنائيا لنضال الخارج في ما عدا ما يستحقه من بطولات، كتلك الأسيرة الفلسطينية المحكوم عليها بالسجن فيما زوجها ترك أطفاله ليتزوج من أخري في الأردن. أو ذلك العجوز الذي أصيبت زوجته إلى جواره في سيارتهما بطلق ناري إسرائيلي، فطلب لها التعويض من الحكومة الإسرائيلية وتزوج عليها ـ لأنه يحتاج لمن يخدمها. ثم أخيرا تلك التي تحكي عن القتل تحت مسمى جرائم الشرف، والمغتصبة داخل عائلتها من الأخ والعم فيما أمها تطالبها بالصبر.

ويمتزج كل ذلك تقنيا في مقابلات يحضرها الذكور الصامتين أحيانا المتدخلين أحياناً أخرى، أو مقابلات هي أقرب لجلسات النساء الصباحية حيث النقاش مفتوح حول قهر النساء للنساء. الأم والحماة اللتان تشكلان العماد الفقري للأسرة الفلسطينية ربما تكونان أكثر قسوة من رجالها. ورغم أن الصوت الوحيد الحاضر في جميع المقابلات هو صوت النساء إلا أن الرجل هو قلب المروية. الرجل هنا في تقاليد جيش الإحتلال العنصري الذي يتعمد مسرحة عملية القبض والتفتيش ليثخن جراح الأمهات والزوجات، كما هو المناضل الذي يفرغ طاقة قهر الخارج في عنف جسدي مروع ضد زوجته. لافارق هنا بين أهل الضفة المتبرجزي الإنتماء وبين أفقر بيت في غزة الرازحة تحت التقليد البدوي. لافارق هنا في الأخير بين المسلم والمسيحي، فسلسلة القمع متوالية لتصيب أهش الفقرات بالتصدع، وحيث لاصوت يعلو فوق صوت معركة الوطن السليب.

تحكي إحدي المتحدثات عن لجوء بعض الفتيات المطاردات من عوائلهن للشرطة الإسرائيلية، وتحت بند إحترام الخصوصية الثقافية للعرب تعيد الشرطة الفتاة إلى أهلها لتختفي جثة هامدة بعدها بأيام. الإسرائيليون يرحبون بأي ممارسة للعنف داخل المجتمع الفلسطيني بمنطق القهر بالإنابة، وتتحول أسطورة الديموغرافية السكانية المطردة إلى أداة قمع نوعي للنساء فتتحدث واحدة عن "أننا سنظل ننجب طالما الإنجاب وسيلة نضالية" في إمتهان للآدمية النساء وتحويلهن إلي مصهر لأنتاج أفكار الذكورة عن البقاء النوعي.

الفيلم كذلك يلفت الإنتباه إلى العنصرية علي أساس اللون داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، فسبع بنات من عائلة سمراء البشرة مناضلات ومتعلمات تعنسن بسبب أن بشرتهن سوداء. فلسطين الحاضرة في "مراجيح" باسل رمسيس ليست ذلك البوستر الملون للجبل الذي لاتهده الريح، والصورة في الفيلم ليست معنية بالمشاهدات التقليدية للحواجز والمعابر والصدامات ومؤتمرات المناصرة ـ وإن لم يخل الفيلم منها لكن في حدود الفاصل القصير ـ. فالوجوه هي الأقرب بصريا لحالة الحكاية المتصلة، والفواصل الوثائقية والمعلوماتية في أضيق إستخدام. لاصوت يعلو عبر 98 دقيقة عن صوت الأنين الصامت لإنتصار إحدى الشخصيات التي توزعت مقابلتها عبر زمن الفيلم لتحكي تجربة القهر المركبة منذ الطفولة وحتي النضج والزواج. "إنتصار" التي عبرت على جسدها سياط الأب الرافض لتعليم البنات، وأخو الزوج الذي كسر لها ضلعين لأنها رفضت أن تدهس ماشيته شجرتها الوحيدة، وأيدي الزوج والحبيب الذي رهنها بالمنزل ورفض عملها تطبيقا لقرار أبيه... وتتدرج المقابلة في تفجير تلك الذكريات المريرة فيما الزوج في ركن المشهد صامت يبدل وضعية قدميه بين الحين و الآخر. وتتناص مروية إنتصار مع لعبة الطفلة هديل التي نشاهدها من اللقطة الأولى وهي تركض بردائها الفلكلوري بين جنبات بيارة المنزل، طفولة ستتسلم عبر قريب إرث القهر الموعود. "هديل" الطفلة المتأرجحة بين عرائسها و ألعاب الحقل وتنبيهات الجدة ألا تجلس مفرجة الساقين هي ذلك المستقبل الذي ما قدر له حتى الآن أن يخرج من التعلق بين السماء والأرض، ولا يمكن عند الحديث عن ذلك الواقع وذاك المستقبل أن نفسر بمرجعية الإحتلال الذي جمد النضج المجتمعي عند حدود التقاليد البالية. لايمكن عند الحديث عن فلسطين التي لانعرفها أن نحمل كل الذنوب علي مشجب إسرائيل الطاغية، فقانون الوراثة وحده لايصلح لتفسير ذلك الأنين الهادر من خلف كل تلك العيون المتعبة، إنها دعوة لعدم إختصار المشهد في شريط الأخبار المسرع، فخلف تلك الأبواب والعيون ثمة حكاية أخرى لم تُرو.

المستقبل اللبنانية في 19 نوفمبر 2006

 

تشريح المجتمع الأمريكي

فى أرواح سكورسيزى الهائمة

بقلم: أحمد يوسف 

قدر هائل من العنف يسرى فى معظم أفلام مارتين سكورسيزى، يطفو فوق السطح أحياناً فى أفلام مثل الرفاق الطيبون وكازينو، فترى على الشاشة لمحات خاطفة من مشاهد القتل وانفجار الدماء لعشرات الأشخاص والشخصيات، أو أن هذا العنف يختفى فى الأعماق كما فى عصر البراءة، وفى الحالين هناك نقد مرير للمجتمع الأمريكى الذى يقوم على فكرة العنف ولا يستطيع أن يستغنى عنها لأنها جزء أصيل من فلسفة وجوده، بدءاً من إبادة أجناس بأكملها منذ الغزو الاستعمارى الوحشى الذى أطلقوا عليه اكتشاف العالم الجديد ولا ندرى كيف ولمن كان جديدا، وحتى الممارسات العدوانية التى تجتاح العالم اليوم تحت شعار محاربة الإرهاب العالمى بينما هى فى الحقيقة تنثر وتنشر الإرهاب فى كل الأرجاء.

ودائماً ما يقترن مشهد القتل أو القتل المتبادل فى أفلام سكورسيزى بعبارة هذه هى أمريكا، أو هذا هو ما نفعله فى هذا البلد، تقولها هذه الشخصية أو تلك فى فخر، لكنها تعكس وعى سكورسيزى بالفلسفة الكامنة فى المجتمع الأمريكى، حيث الصراع هو المحرك الأول والأخير سواء كان دموياً أو طبقياً، وحيث كل البشر يعيشون على الحافة بالمعنى الحرفى للكلمة، وفى حالة توتر دائم لأن هناك شعرة رقيقة فاصلة بين النجاح والفشل، الفوز أو الخسارة، ودائماً ما يأتى نجاح أحد الأطراف على حساب فشل الطرف الآخر، حتى يكاد الشعار السائد بين الأفراد أو الطبقات الاجتماعية على السواء أن يكون إما أن تكون قاتلاً أو مقتولاً.

وبسبب الخلفية الخاصة لسكورسيزى فى انتمائه إلى مجتمع ما يسمى إيطاليا الصغيرة أو الحى الفقير للمهاجرين الإيطاليين فى نيويورك، فإن أفلامه تعود بين الحين والآخر إلى التعايش والتناقض فى نفس الوقت بين هذا العنف السائد ونزعة التدين الكاثوليكية التى تقوم على الشعور الدائم بالخطيئة، وهو الأمر الذى يزيد من التوتر الدرامى للبشر فى الواقع وللشخصيات فى أفلامه، حتى لو دارت الأحداث فى مجتمع المهاجرين الإيطاليين أو انتقلت إلى عالم المهاجرين الأيرلنديين، وهذا التمييز بين أصول الأمريكيين يشير إلى أنهم يعيشون فى جيتوهات حقيقية أو ثقافية أو نفسية، وأن الحلم الأمريكى والنموذج الذى تقدمه أمريكا للعالم ليس فى الحقيقة إلا حلماً ونموذجاً زائفين، لأنهما - مرة أخرى - لا يقومان على الإيمان بالمساواة بين البشر على عكس الزعم بنوع من الديموقراطية، وهى ليست فى جوهرها سوى ديموقراطية شكلية تقوم على ترسانة هائلة من الإجراءات لكنها تفتقر إلى الأخلاق، أو فلتقل إنها تفتقد سبب الوجود، فهدف هذا النوع من الديموقراطية ليس إلا إعطاء مظهر قانونى لسياسة فرض الأمر الواقع.

يقول سكورسيزى ذلك كله فى أفلامه دون أن يفصح عنه بكلمات تقريرية، قاله منذ ثلاثة عقود فى سائق التاكسى الذى رصد حاله شاب عاد من فيتنام ليتحول دون أن يشعر إلى التطرف اليمينى الهيستيرى انتقاماً من مجتمع بلا أخلاق، كما يقوله سكورسيزى مرة أخرى فى فيلمه الأخير الأرواح الهائمة الذى يعتمد على اقتباس حبكة فيلم بوليسى من هونج كونج، لكنه الاقتباس الذى يؤكد - من الناحية الفنية - أن الفنان يمكن له أن يسمو بأية قيمة إلى آفاق جديدة. لكن فلنبدأ باسم الفيلم الذى يمكن أن تختلف ترجمته إلى العربية بين كاتب وآخر، وأرجو أن تقارن التلاعب اللفظى فى عنوان فيلم هونج كونج العلاقات الجهنمية الذى يحمل تشابها كبيراً مع إدارة العلاقات الداخلية داخل جهاز الشرطة، وهى الإدارة التى تتولى تعقب انحرافات رجال الشرطة، لكن العنوان القريب لفيلم سكورسيزى هو الراحلون أو الذين انتقلوا إلى الحياة الأخرى، بينما تتكرر الكلمة عدة مرات فى حوار الفيلم لتتحدث عن أرواح الراحلين التى تهيم على وجهها لأنها لم تعرف الإيمان بعد، لكن عن أى نوع من الإيمان يتحدث فيلم الأرواح الهائمة؟

فلنتأمل حبكة الفيلم: زعيم العصابة الأيرلندى فرانك كوستيللو جاك نيكولسون فى واحد من أفضل أدواره يلتقط طفلاً من الفقراء ويرعاه لكى يصبح بمثابة الأب بالنسبة له، وسوف نعرف أنه قد صنع الأمر ذاته مع عديدين غيره ليصبحوا أبناءه المنفذين لأدوار مختلفة ومشروعاته الإجرامية. إن فرانك يرسل هذا الابن كولين سوليفان مات ديمون عندما يكبر ليصبح ضابطاً فى الشرطة وجاسوساً له بداخلها، بينما تقرر الشرطة أن تزرع أحد أفرادها فى عصابة فرانك، ويقع الاختيار على الشاب بيللى كوستينجان ليوناردو ديكابريو الذى يدخل إلى عالم العصابة ليصبح من المقربين إلى فرانك. إن هذه اللعبة المزدوجة - كأنها فيلمان فى فيلم واحد - تبقى عند مستوى التشويق البوليسى فى فيلم هونج كونج، لكنها تكتسب عند سكورسيزى أبعادا تذكرك على نحو ما بما فعله داود عبد السيد فى أرض الخوف بالحبكة المقتبسة عن دونى براسكو. إن كلاً من كولين وبيللى يعيش كذبة كبرى، بين هوية حقيقية وأخرى زائفة، ووجود أحدهما يعتمد على وجود الآخر كأنهما وجهان لعملة واحدة، مثل ذلك المشهد الذى يتبادلان فيه حديثاً هاتفياً دون أن يعرف أى منهما حقيقة الجاسوس الذى يراقب تصرفاته على الجانب الآخر من الحياة الأمريكية.

سوف يعلم فرانك أن الشرطة قد زرعت جاسوساً فى عصابته، كما تعلم الشرطة أن هناك خائناً فى صفوفها يعمل لحساب فرانك، ليتحول الفيلم كله إلى وتر مشدود بحيث لا تستطيع أبداً أن تعلم إلى أين سوف تنتهى الأحداث، لكن وراء هذا التوتر الدرامى ظلا هائلا من الشعور المرير بفقدان الهوية أو الاضطرار للحياة بهوية مستعارة، ولكى يزيد سكورسيزى من هذا التوتر الوجودى فإنه يجعل كلاً من كولين وبيللى يقع فى حب مادولين فيرا فارميجا الأخصائية النفسية التى تعمل فى جانب من حياتها فى علاج رجال الشرطة من توترات مهنتهم، وعندما تصبح حاملاً فإن الشكوك سوف تراود المتفرج حول من يكون بين هذا الرجلين أباً لهذا الجنين، وهكذا تعيش كل الشخصيات هويات مزدوجة، لذلك لا تستغرب إن اكتشفت فى النهاية - التى لن أفصح لك هنا عن كل خباياها لكى تستمتع بالفيلم - أن زعيم العصابة فرانك يستغل تعدد إدارات الشرطة فيعمل أيضاً مخبراً سرياً للمباحث الفيدرالية. وهكذا يمكنك فى هذه المعالجة أن تقرأ الفيلم فى مستويات عديدة، بين سينما التشويق والأكشن، والإشارات السيكولوجية لقتل الأب، والرموز الميتافيزيقية لتجسيد الخير والشر وأسطورة قابيل وهابيل.

هناك فى أعماق الفيلم روح من سينما السبعينات، التى كانت تتنقل بحرية بين الكلاسيكية والحداثة وما بعد الحداثة دون أن ترفع أى شعارات فنية، ولنتأمل على سبيل المثال ذلك الأسلوب الخاص فى المونتاج الذى يعتمد على القفز أو الحذف البلاغى، والإضاءة التى تجمع بين الواقعية والتعبيرية، وشريط الصوت المحتشد دائماً بضوضاء الموسيقى المعاصرة الصاخبة، لكن أرجو أن تتأمل أيضاً كيف أن هذا النوع من السينما لا يقع أبداً فى أسر الأسلوبية أو الشكلانية، فبقعة الدم ليست لوناً أحمر يتراقص على الشاشة، ومشاهد القتل ليست رقصات للباليه، فهذا كله هو أحشاء المجتمع الأمريكى الذى يحب دائماً أن يعيش على الحافة، وذلك هو أسلوب الحياة الأمريكية الذى يريدون أن يفرضوه علينا، لنفقد هويتنا وإيماننا بذاتنا ونصبح بدورنا أرواحاً هائمة.

العربي المصرية في 19 نوفمبر 2006

 

سينماتك

 

تشويه الآخر.. تحالف السينما والسلطة

محمد ممدوح **

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك