لقطة من لعبة الحب في مناورة تكتيكية فنية بارعة وبأنامل تضبط إيقاعها العصبي الخفي -فلا تكاد تلمح توتراته- يستطيع ثنائي السيناريست؛ "سامي حسام" و"أحمد ناصر" مشاكسة المقدس لديهما ولدى المشاهد في فيلميهما الجديد "لعبة الحب"، فهل ينالا بغيتهما من ذلك أم يخرجا من تجربتهما برغبة أشد في مواجهة مرتقبة وأكثر ضراوة.. ربما؟! وحين نحاول أن ندخل معهما في جدل حول تجربتهما السينمائية الجديدة -التي لعب بطولتها كل من: خالد أبو النجا، وهند صبري، وبسمة، وبشرى وأخرجها "محمد علي" في تجربته الأولى- لا نتجاوز حدود الفعل النقدي، لماذا؟ لأن الفعل النقدي بات من الواضح أنه تفهُّم استحالة الإحاطة الكاملة بخيوط أي نسيج فني، ما لم يضف من عندياته خطوطًا جديدة للعبة. فـ"جاك دريدا"، أحد أهم فلاسفة النقد في القرن العشرين، يحذر من كل خطاب نقدي يعتقد بأنه يسيطر على اللعبة بمراقبة لكل الخيوط في نفس الوقت والذي يخدع نفسه عندما يريد رؤية النص بدون لمسه، بدون وضع اليد على "الموضوع"، بدون أن يجازف بإضافة بعض الخيوط الجديدة، وهي الفرصة الوحيدة التي تسمح بالدخول في اللعبة عن طريق الإمساك بالأصابع. بمعنى آخر، صارت الممارسة النقدية ممارسة إبداعية تضيف على نحو ما للعمل الفني. وبعيدًا عن كل تلك القضايا الإشكالية، نعود للتماس مع "لعبة الحب" بما نضيفه بدورنا.. لعبة الدراما اللعبة الدرامية التي يمارسها الفيلم محورها لقاء ثان بين رجل وفتاة من المعارف القدامى. بينهما بون شاسع في المعتقدات الشخصية، ومن ثَم النظرة للذات وللعالم. أما الفتاة فهي "ليلى" (هند صبري) التي تربت في رعاية جدتها بعد أن مات أبوها ورحلت أمها إلى كندا بعد زواجها بآخر. وهي فتاة لا تحترم القيم السائدة في المجتمع الذي تعيش فيه، ويثيرها في هذا المجتمع عدم احترامه للخصوصية الفردية والذي يتمثل في رقابة جمعية يفرضها المجتمع على الفرد منذ الصغر، و"كود" يقبله هذا الفرد حتى يتكيف فيكون مُراقِبًا بقدر ما يكون مراقَبًا. أي أن الفرد نفسه بعد مرحلة يُعنى بنظر الناس لما يفعل؛ للحد الذي يحول دون قيامه بأفعال يريدها بالفعل، ويطبق هنا آليَّة تُعرف بالرقابة الذاتية. و"عصام" (خالد أبو النجا) الأخ الشقيق لصديقة "ليلى" من نبت هذا المجتمع، والمثال المرفوض من قبلها (أي ليلى)؛ لما تعزوه إلى نفاق اجتماعي وجبن وتسلط، وما يعزوه هو (عصام) إلى تكيف اجتماعي وتصالح وتفهم للقوانين الاجتماعية الحاكمة. ويمكن لنا تمثل هذا الخلاف منذ حداثتيهما في حدث يدور قبل الزمن المعيش في أحداث الفيلم، ويسترجعانه هما بتقنية "الفلاش باك"، وهو الحدث الذي يدور حين تنتبه "ليلى" المسافرة إلى الإسكندرية إلى أن "عصام" موجود هو الآخر في محطة مصر (سكة القطار)، لكنه يتظاهر بعدم رؤيتها توفيرًا للمتاعب الناجمة عن صحبة هذا النوع المتسيب من الفتيات في تقديره. وبالفعل ما يكاد يتنبه لوجودها حتى يلزم نفسه -بما لا تلزمه هي- من المحافظة عليها، فإن كان يتشاجر بسبب ذلك مرة، فدمه يحرق -حسب التعبير العامي البليغ- أو يحرق دمه عدة مرات، مرة بسبب نسيانها التذكرة، والثانية بسبب تدخينها، وثالثة تجاذبها أطراف الحديث مع غريب لا تعرفه، ومن ثَم يتشاجران بسبب خلافهما في النظر للحياة ويفترقان. إلى هذا المدى وليس هناك أي مشكلة حتى في العلاقة بينهما، فهما ببساطة قد افترقا وهذا حل درامي فعَّال، حتى في فكرة اللقاء الثاني بينهما خلاف سيسمح بوجود صراع درامي انتهى في جولته الأولى بالقطيعة كما أسلفنا. زوجة بلا شرعية إلا أن الفضاء الدرامي للفيلم يدور في هذا اللقاء الثاني، وبالتحديد في اللحظة التي يراجع فيها كل منهما قناعاته بحضور الآخر، وهو حضور هذا المرة ذو طبيعة خاصة كونه مصقولاً بالخبرة. فهي (ليلى) مثلاً وبعد علاقة معايشة كاملة بدون زواج مع طبيب أسنان تكتشف أن هذا النمط من العلاقة هو مع شخص لا يستحقها. بمعنى آخر نريد أن نركز على أنها لا تستقبح هذا النمط من أساسه -وفقًا لتلك الخبرة السلبية-، بل تجد أنها قد أخطأت الشريك الصالح لمثل هذا النمط. فهو يريد للعلاقة أن تستمر بهذه الكيفية، على ألا يتحمل تبعات التزام داخل مؤسسة الزوجية، فتفتر علاقته بها مع طلبها منه أن يتزوجا، ولا يوجد ما يبرر هذا الرفض اللهم إلا أن يكون هذا الحبيب يطنطن بشعارات متحررة، لكنه لا يقدر على مد الأمر على استقامته. وبمعنى أبسط، يقبل بها كعشيقة لا زوجة.. وها هو ذا الفيلم يثبت أن من أنصار هذا الفكر من هم متناقضين وكذابين وغير شرفاء.. ماذا نريد أكثر من ذلك؟!! زوج بلا حب وعصام على الوجه الآخر الذي تزوج ممن توافرت فيها مقومات الزوجة الملائمة من وجهة نظره كعدم وجود علاقات سابقة، والأدب، والواجهة الاجتماعية الراقية، وصلاحية التعامل في المجتمعات، والقابلية للتضحية. ولكن حدث هذا بدون مشاعر خاصة يكنّها لهذا الكائن الذي هو زوجته. السطح الساكن للعلاقتين في العالم الدرامي لكل منهما (عصام وليلى) يهزها اللقاء بالطرف الآخر، وهو لقاء المصادفة. المصادفة في التلاقي بعمل واحد هو معرض للأزياء (لاحظ المظهر الخارجي). خلال تلك التجربة الفريدة، يتاح لكليهما أن يرى نقصه بعين الآخر، فيحاول أن يزايد عليه بأنه خالف ظنه المسبق فيه. فهو يخبرها مثلاً: أنه متصالح مع عالمه؛ مع زوجة مُحبة جاءت تمثيلاً ناجحًا لتصوراته. وهي تخبره بأنها مع زوج بورقة شرعية (مكتوب كتابها) في علاقة تكلل بالنجاح عما قريب.. وكلاهما يخالف الحقيقة فهو زوج بلا حب، وهي زوجة بلا شرعية. فيروس الحياة الفيروس الذي يدخل إلى حياة كل منهما هو الكذبة الصغيرة التي يكذبانها على بعضهما البعض، فتعنى لكل منهما على حدة، أنه غير متصالح مع حياته، وبالفعل يقوض كل منهما عالمه الاجتماعي، ويتحابا؛ ليكون السؤال الدرامي العام: هل ينتصر الحب بين متناقضين على المستوى الفكري فيقررا أن يكملا حياتهما معًا بالرغم من هذا التضاد، أم تتغلب الطبائع والأفكار فيفترقا حتمًا مهما عظم الألم؟! ماذا تريد كناقد لمعركة تجمعت خيوطها الدرامية (بدون انحياز على ما يبدو)؟ فالكتابان: "سامي حسام وأحمد ناصر" نجحا بالفعل في الخروج من آثار ذاتيهما وتمثيل كلا العالمين وكلا الخصمين، وعدم الانتصار لهما وانتهى لقاء الأنداد بانتصار الحب!!! والدليل على ذلك هو حشد عالميهما بشخصيات أثبتت عدم الحصانة المطلقة لهذا التيار أو ذاك. فمثلاً لدى عالم المتحررين (ليلى) أثبت طبيب الأسنان كذبه وتدنّيه. وفي عالم المحافظين أثبتت زوجة (عصام) رقي ونضج ووعي حين طالبت زوجها بالانفصال برسوخ ظنها بأنها لم تكن يومًا تعني له شيئًا حقيقيًّا. فخ "ويجا" بمعنى آخر صانعو دراما الفيلم لم يأتيا ليصرخا بما لديهما مثلما فعل المخرج والسينارست "خالد يوسف"، قبل أشهر في فيلمه "ويجا" الذي انتصر دراميًّا لعلاقات المعاشرة الجنسية قبل الزواج أيما انتصار. فهما (كاتبا الفيلم) لم يبررا مثلاً علاقة جنسية عابرة كاستثناء لعلاقة جنسية ثابتة بفعل مخدر كما فعل كاتب "ويجا". وللتوضيح نقول إن "حبيبة" ما قامت بدورها (منى شلبي) في فيلم "ويجا" والمرتبطة بزواج عرفي دام لسنوات بشخص يسمى "إبراهيم" والذي يجد بداخله مرارة تحول دون إعلان هذا الزواج أو تحويله لزواج موثق، أو حتى الاستمرار في هذه العلاقة، تلك المرارة قبل أن تكون ناتجة من حبه لزوجة صديقه، ناجمة عن أن زوجته العرفية قد سبق لها قبل معرفته بها، أن أقامت علاقة كان نتاجها أن فقدت عذريتها. الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن زوجته تلك (زوجة إبراهيم)، ومع إعلانه لها عن رغبته في الانفصال عنها، وتحت تأثير المخدرات والخمر اللذين شاطرهما تعاطيهما الصديق المخلص الممثل (هاني سلامة)، ففقدا السيطرة على نفسيهما، فمارسا الجنس وهي تظن بفعل التعاطي أن هذا زوجها العرفي، كذلك الحال بالنسبة له (هاني سلامة)؛ إذ رآها تحت تأثير التعاطي الفتاة التي يبحث عنها. وعليه.. الشخصية لم يتم تحصينها دراميًّا في علاقتها الجنسية الطويلة مع (إبراهيم) فحسب، بل إنها وبفعل تعاطي المخدرات تنام مع صديقيهما المشترك ويمرر الخطاب الدرامي لهما الأمر. واللعبة الدرامية هنا غرضها حين ترى ما هو أكثر فجاجة تتقبل نفسيًّا ما هو أقل. أي حين تقبل مؤقتًا العلاقة مع إبراهيم، في مواجهة العلاقة مع الصديق وتأثمها تتورط في قبول العلاقة الأولى وتبرئ ساحتها نفسيًّا.. وكان هذا صراخ هستيري من "خالد يوسف" في مواجهة المتلقي المفترض، استوجب رد فعل مساوٍ في المقدار ومضاد في الاتجاه من الجمهور. إعلاء نموذج.. والعكس صحيح اللعبة في "لعبة الحب" وعت هذا الدرس جيدًا، ولم تسقط كل ثقلها في دعم كفة التحرر في مواجهة كفّة التحفظ كما أوضحنا. لكن اللعبة التكتيكية الدرامية كانت أخبث وأعقد وأحكم وأقل راديكالية وأبعد عما يثير الاحتقان في مواجهتها؟! فما دامت "ليلى" قد تخلت عن نمطها الحياتي من أجله، و"عصام" قد فعل المثل من أجلها؟! فهي إذن معركة أنداد. وهكذا تأتي الإجابة بتقبل النموذجين وامتثاله كل منهما للآخر.. لكن تلك لعمري خدعة يسربها إليك بنعومة وليونة وهمس الكيان الفني على المستويات الجمالية والفكرية كافة وتلاحم هذا مع ذاك. لكن المتأمل يكتشف إعلاء نهائيًّا لنموذجها على نموذجه فهو يتزوجها ويقبلها على عيبها وفقًا "لنموذجه" الأخلاقي. وهو يراها غير معيبة مما يعني تبديله نموذجه بنموذجها، وهو ما يمر عليه الفيلم مع اعتذاره لها عن حاجته للتفكير، فهو يواجه ذاته بعد ليلة قضاها معها، ويعتذر لها بكونه كان بحاجة للتفكير ومواجهة ماذا؟! نفسه والانتصار على نفسه/ نموذجه.. بهذا المعنى بشكل هامس محترف يتم استقطاب نموذج وإعلاء آخر.. هذا الهمس ذاته هو الذي مكَّن من متابعة العناصر الفنية الأخرى في الفيلم، ولن يجعل المتلقي يبخسها قدرها من التأمل مثلما حدث مع "ويجا". ** كاتب وناقد مصري. إسلام أنلاين في 15 نوفمبر 2006
كما لو انك تختزل الشجرة الي خيزرانة.. والبحر الي سحابة.. تجرعت الغصة وحيدا.. مذهولا.. من شقاء الكتابة عن اللقاء... الاول والاخير.. فالرجل يحمل اسمه الغزير.. بينما تحمل انت افراحك الشحيحة. وغزارة الموت في شوارع بلادك. وكما انت وحيد الآن.. هو وحيد مثلك.. جريح.. وليس من دم يدل علي اقتراب الموت من بابه.. وانت وحيد ايضا.. وجراحـك يتوزعها الصمت والانتظار لعلها تنزف ما تبقي من الدم بين يـدي ترابها الأول... الكرسي المتحرك الصديء يحتضن صمته.. وتراب باهت اللون.. علي قميصه.. بينما رائحة البارود تختلط بما تبقي علي قميصــه من العطر.. وعشرات المناكب المتزاحمة التي ترش الصبر علـي فزع الآخرين. ألتفت اليه.. فلا أري الغليون في يده.. ايعقل ان يكون هو؟؟ الشعر الأبيض ذاته.. والفم.. يحمل الابتسامة الدفينة ذاتها.... وثمة سيدة تمسح رأسه بيد.. ودموعها تخضب يدها الاخري. ـ ألست..؟ فتهز رأسك ايجابا. بينما تصرخ السيدة: ـ نعم انه هو.. الحمد لله انك عرفته وسط هذا الزحام. ـ انها رائحة البارود.. وتراب الاوتاد المترنحة.. يغشيـــان الابصار سيدتي. اضاحكك بكل ما اوتيت من الدمع، بينما تكتفي بالابتسام.. من خديعة الموت، فثمة الطبيب العراقي القادم من مؤتمر الموت هناك.. الي مؤتمر الموت هنا.. ـ أحـد. احــد.. تلك الصخرة الازلية.. وذلك القلب الهلامي الذي ألف الرابضين عليه. ـ احــد.. أحــــد ودمك مطالب بالاعتذار، لأنه لم ينفر، اسوة بدماء الآخرين... دمك الذي خدع المأساة.. وصمتك الذي اوهمهم بأنك تفكر بمشاهد جديدة للعراء الذي ينتاب التاريخ. دمك الذي كان ينساب في جوفك.. لكأنك كنت تخجل ان تعلـــن استغاثتك عبر الدم.. ـ هل أقطع اكمام القميص سيدتي..؟؟ ـ افعل.. ارجوك افعل. وأفعل ذلك وأخالني ذلك الطفل الذي كان شبلا في أسد الصحـراء.. غير اني ويا لها من فجيعة، كنت ابحث عن نظارتك انت.. وليس عن نظارة الشهيد (عمر المختار). أحـــد.. أحــــد.. والسبيل الي وريدك متعثر.. كأن دمك عصي علي العيان... دمك كان نشيد تلك النــار. ولأنه كذلك، كانت الشظية في عنقك تشبه توقيع القتل.. ساخنة، قبيحة.. ولم تدع الدم يغادر الوريد.... وحده الهواء انسل من بين آهتين الي رئتيك ولم يستطع بعد ذلك فرارا... ـ أحد.. احد.. أحــــد واحبس اسمك بين فكي ثم اطلقه دفعة واحدة.. انه مصطفـــي العقاااااااااد.. بينما اتحسس فمي لئلا تتناثر منه اسماء شتي كانت لتقفز لو انك تجيد الاستماع آنذاك.. اصرخ باسمك فينثال ابطالك في غرفة الطواريء، يحملون كرسيك وغليونك وبياض شعرك والصحاري التي طرزتها باسمائهم..... ينثال ذلك التاريخ الذي رسمته بالضوء والرمال... والهواء ما يزال حبيسا تحت جلدك.. ذلك الهواء الذي انسل من بين آهاتك ليقبــع هناك.. ينثال اسمك علي الشفاه، فيسير بك الجمع الي حيث سرير الضوء والمباضع.. انت هناك اخيرا.. والآخرون يبحثون عن مستقر دمك.. وأنا احاول ان اداهن الكلمات التي سأدونها عن عشية لقائنا. سأقول انــك كنت عابرا لم يشأ ان يخضب ايدي محبيه بدمه.. لم يتأوه.. ولم يومئ الا الي جرح البلاد.. وبينما كنت اقرأ اسمك في عيون الآخرين كان هناك جمع من الرجال الأنيقين جدا يسأل عنك، حينذاك عرفت اننا لم نعد وحدنا.. عرفت انني لن التقيك مرة أخري. حيا أم ميتا.. فانسللت الي حيث يرقد ذلك الطبيب العراقي الـــذي استشهد وأعلن عن دمه الصارخ.. جلست بجانبه ونفثت سيجارتي علي زجاج النافذة.. وسرحنا بابصارنا صوب اغنية عراقيــــة عن دم صاخب، ودم هامس. اغنية عن موت يمشط شعر الرمال. كاتب من العراق يقيم في الاردن القدس العربي في 15 نوفمبر 2006 |
كاميرا الدهشة تلتقط «رنة الإبرة» في شعر مريد البرغوثي قراءة في فيلم »المكان ليس هنا« للمخرج عائد نبعة كتب: محمد دلة قطرة ماء واحدة تحمل في رحمها كل كيمياء البحر،ولكن كم نشيد تتكسر ناياته لتصبح هذه الرؤية مفتتح القهوة في صباحات المدينة المشهرة جفافها والتي أطلقت كل إسفنجها الرمادي لتغتال عذارى الماء. وهكذا كان على المخرج عائد نبعة أن يصنع من المقابلة - بآفاقها المحدودة زماناً ومكاناً- فيلماً سينمائياً يتفجر فيه جموح الكاميرا عابراً أقاليم الشاعر الفلسطيني''مريد البرغوثي'' ذات التضاريس المشتبكة والذي يقيم فيزيائياً خارج المكان، وإبداعيا يرفرف عالياً فوق تخوم سماء الرؤية، ولا يجد غير بساط الزمن قمراً يربي في حناياه نباتات الظل والنور، أو مخطوطات الكشف أوأثاث القلب، إنه يقيم خارج عقلانية المشهد،خارج طقوس الحزن. وعلى المخرج أن يؤلف بين قصائد مريد التي تتحدث عن عدن لا تطالها الكاميرا مقابل مدن تعربد سدومييتها في كل ركن،ما بين كل حرفين ،وبعد وقبل كل نقطة وفاصلة،وهكذا دون سابق احتكاك قد تحشو الشارع في حقيبته وترسله طابع تشرد لمنفى جديد. إن الملح الذي سيضيء به المخرج عدسة كاميراته هو ماس الكلام،فالفيلم عليه بعلبة رمل واحدة تَساقط من كم الزمن أن يتلمس ما تلاه مريد البرغوثي عبر مسيرة شائكة عجزت عن ألوانها شقوق الصحف ورفضتها قضبان كل السدنة ولم ينظر لها إلا غزلان الإبداع المريضة بمسكها ومراعيها الراكضة.وعليه أن يعدد كل حالات الغياب الخارجة عن كل أزاميل التشكل ،فهي قائمة فقط في أخاديد الذاكرة ولا يموجها إلا رنين الكلام. وينطلق الفيلم كبراق يتذكر مسالك درب التبانة وقد ضل خطاه في دروب السماء،فتلمح أولاداً يؤثثون الرؤيا بحركة دائبة،يتسلقون وعورة الأرض مطلقين لعدسة الكاميرا أن تستحم بشفاعة الخضرة وانصباب الخطى،وعبر مشهد آخر تلمح مريداً يمتد في شساعة الشارع معلنا جبريات حياته دون أن يقول أي شيء ،فأصدقاؤه يتلمسون عناد الخطى في مروره المثقل بالوجع والحكمة والذين ربما ذات رحيل قد يغادرهم قبل أن يكمل نعناع الفجر فجوره في فنجان شاي،ويدخل هكذا-دون سابق إنذار-رجل يملأ عدسة الكاميرا ،ورغم عدم تعالقه بالفيلم إلا إنه يستمر بيقين دكتاتور مجبراً الذاكرة أن تستدعي كم مرة دخلوا غرفة نوم الحروف وفطموا نقطة الباء عن أمها السفينة، كم مرة أجبر المكان المنزلق خطى مريد أن تأخذ قالباً جديداً. ولم يترك المقابلات داخل الفيلم أسيرة رمادتها الحركية،بل وظفها حتى آخر النزف والبوح ،فها هي الكاميرا تلتقط حركة ''رمي الميكروفون'' بعيداً، معلناً حكمته وفوضاه، فلا شيء قادم من خارج أمومة الذات يستحق أن يتعربش قلبي، وكل الأجهزة عاجزة أن تتمثل إطلالتي من فوق أعالي الكلام.ولا قيد حتى وإن نسجته خيوط قوس قزح أطيق له ظلاً. وتكشف الكاميرا علاقة الحموضة بين الشاعر والأمكنة،ربما ارتاحت موريات الشاعر في نزق هذه الشرفة،ولكن طقوس الوداع الاضطراري تسكن غرف الحقيبة،وقد تعلن أجراسها المضرجة بدماء الاقتلاع، فمريد يدير ظهره للكاميرا مستعرضاً مشهد المدينة الجميلة كخوخة مزة، لا يريد أن نطل عليه متلبساً بالمدن المؤقتة، وحين يدير وجهه للكاميرا تستعرض الكاميرا المدينة مسرعة مخافة أن تتحول إلى تمثال من الصوان تضربه الريح وتنفلت عن مفاصله أجنحة نباتات الظل. ورافقت المشاهد موسيقى تصويرية أذنت للشاعر أن يموسق كل الفراغات بقراءاته وبحديثة عن تلوث اللغة وعن اشتباك علاقته بالمكان وعن إقامته في مدن الزمن، وعن الطفولة الغائبة ومتواليات الغياب من غياب النقد إلى غيابات الديمقراطية، من حضور الفاجعة حتى عربدة المزيف الموشى بالخواء وتقشير الجوهري. نعم استطاعت الموسيقى أن تجعلنا نشكل ما استحضرته الكاميرا بجدلية غياب الصورة لصالح حضور نقيضها وجعلت قراءات مريد تتبرج بصرياً وصوتياً وحفرا في شرفات الذاكرة. وفي ارتطام السرد بسد النهاية، يسطو مريد على مساحة المشهد رويداً رويداً، فيملاها جسده ومن ثمة وجهه وأخرا صدره لتطفح الصورة بظلاله إلا أن تكتمل العتمة وتعلن النهاية انتظارا لبوح ما. يستحق مريد فيلما وفيلمين وأكثر، فهذا الفيض الذي عبر عن المعتم والمضيء في صرر ذواتنا، وهذا الإشراق الذي رأى رام الله يشكل حالة متفردة في الأدب العربي الحديث ، لكن سؤال الطفل الذي أسر به للكاميرا بالجمر والنهر، ما زال سوار اللعنة،فالتسعة عشر حزباً التي لم تأتلف حتى على هدفها الواحد ،نظَرت لشاتها العرجاء وحاولت نفي جواد الكلمة إلى وعورة السكون، ولكن هيهات أن تدجن البحر أشباح السواقي والسبخات. إن من يحرك السكون، ويفجر الغياب ليجعله حركة،ويشد المقابلات بخيوط الحبكة السينمائية،وتجليات الصورة ،ويوظف الصمت والصوت واللون،ويجدل المشاهد المتقطعة، لتأخذ شكل فيلم سينمائي وثائقي عبر رؤيا جديدة للتعامل مع الأفلام الوثائقية،تخرجها عن قيود الرتابة،ولا تبعدها قيد شعرة عن صدقها وواقعياتها لقادر على أن يقدم عمقاً مغايراً للمشهد السينمائي العربي إن لم يترك وحيدا ككاهن الصمت،تذوَب رؤاه لصالح السائد والسطحي والمفرغ من المهنية والمعنى ومن رؤى سينمائية تركز على الرخيص ولا تحكمه إلا قوانين التلوث واصطياد الأرباح ولو عبر الانحياز لمحق الهوية الإبداعية والإنسانية. الوطن البحرينية في 15 نوفمبر 2006
فيلم »السيدة في الماء« صناعة الأسطورة من الواقع محمد راشد بوعلي لقد كان الانتقاد الذي واجه فيلم ''السيدة في الماء'' للمخرج الهندي الأصل ''م.نايت شاميلان'' شديداً مما دفع جماهيره إلى الشك بقدراته الإبداعية في كتابه النصوص الغريبة والفريدة من نوعها، والتي ميزته عن غيره من الكتاب والمخرجين خلال العقد الاخير أو كمن لقبه بمخرج المفاجآت لكونه دائما ما يجعل من نهاية أفلامه مفاجآت غريبة لا يتوقعها المشاهد ويجعله في مقعده هائماً بما حدث، ولعل أبرز هذه الأفلام ''الحاسة السادسه، غير قابل للكسر، والقرية''. إلا أنني من محبي أسلوبه الراقي والغريب في صناعته وكتابته للأفلام ودائماً ما يبهرني في تكريس حركة الكاميرا والإضاءة والموسيقى والألوان بأسلوب رائع يجعلني مبهوراً بالعبقرية التي يتمتع بها وباللمسات الأخاذه التي يضيفها على أجواء أفلامه السابقه، فلذلك لم أستطع منع نفسي من التواجد في أول عرض للفيلم. لقد كان يرتابني شيء من الخوف بأن أصدم بمستوى متواضع لا يصل لما قدمه شاميلان سابقا، وخاصة لما رافق صناعة الفيلم من أقاويل بدأت برفض منتجي شركة ديزني من تمويل هذا الفيلم وانتهت بمبلغ هزيل غير متوقع في شباك التذاكر الامريكي لم تغط تكاليف صناعة الفيلم التي تجاوزت الـ75 مليون دولار. ما إن بدأت موسيقى البداية وبدأ شاميلان بطرح فكرة فيلمه الغريبه بأسلوب رائع باستعماله أسلوب الرسومات الموجودة على صخور الكهوف إلا أن فقدت الإحساس بالوقت ووجدت نفسي هائماً في عالم خيال شاميلان السينمائي! لقد كان لوجود الممثل المتألق وضيف شرف مهرجانات الأوسكار في السنوات الأخيرة ''بول جياماتي'' رونق خاص، أعطى بأدائه جمالية غير طبيعيه لدوره في الفيلم. كما كان للتعاون الثاني مع ابنة المخرج العالمي ''رون هوارد'' الممثلة ''بريس دالاس هوراد'' بعد فيلمه ''القرية'' موفقاً بقيامها بدور ''ستوري'' الحورية التي تنتقل من العالم الأزرق إلى عالم الإنسان وما رافق ذلك من أحداث! قد يعتبر العديد من المشاهدين أن القصة سيئة ولا ترتقي لما قدمه شاميلان، لكن بالعكس تماماً أعتقد أن شاميلان استطاع أن يقدم جديداً في أسلوب صياغة القصة الاسطورية الفنتازية ،حيث استطاع ان يضعها في عالم الواقعية بإبعاد فكرية دائماً ما يتفنن شاميلان بها، استطيع القول بأن شاميلان صنع من قصة خيالية تقارب في خيالها ''سيد الخواتم'' بأسلوب واقعي، والإبداع يكمن في كيفية صياغة هذا الاسلوب! لقد استطاع شاميلان ان يبني فيلما مليئ ببطولات ثانوية فاستطاع ان يجعل لكل شخصية على الرغم من تعددهم رونق خاص بها . كما لا ننسى الحوارات المصاغة بحرفنة نذكر منها كيف استطاع أن ينتقد الأفلام المملة التي تزج بها هوليوود كل يوم في سينماتها بهذا الحوار: كليفلاند ''بول جياماتي'': كيف كان فيلمك؟ هاري '' بوب بالبتند'': سيء! كليفلاند: اووه.. هاري: مجرد فيلم قمامة آخر حيث يعترف الحبيبان في النهاية بحبهما لبعضهما بعضاً في وسط عاصفه ممطرة! لماذا دائما ما تدور حوارات نهاية الفيلم في وسط المطر؟. طبعاً هناك المزيد من الحوارات التي جعلتني وأنا استمع لها ابتسم وأقول إبداع لكن هل كلنا ننتبه لأعماق هذه الحوارات؟ طبعاً لقد كان للإثارة عنوانها في الفيلم وإذا كنت في العادة لا أقفز من مكاني في أي من الافلام فأستطيع أن أقول إني قفزت بالحركة البطيئة أعلى قفزه في حياتي، خاصة عندما يتخلل مشاهد الفيلم موسيقى الموسيقار المبدع ''جيمس هوارد نيوتن'' والتي اعتقد انه مهما ظلم الفيلم ولن يحصل على الجوائز فمن الحرام أن يحرم منها هذا الموسيقار! الفيلم لم يخلوا من السلبيات ولعل أهم سلبية هي جناية مراقش على نفسها، عندما وضع شاميلان لنفسه دوراً في الفيلم يقود بدور كاتب ستلهم كتاباته العالم في المستقبل وسيغير من مجرى العالم! إضافة إلى بعض المبالغات أحياناً لزياده الإثارة، فعلى سبيل المثال تنتظر ''ستوري'' من ''كليفلاند'' إلى أن يواجه ما سأطلق عليه ''الوحس'' حتى تخبره بما يجب أن يفعله خطوة بخطوة! لماذا لم تخبره من البدايه حتى يكون عالماً لما يفعله؟ قد لا تكون النهاية مفاجأة كما في أفلامه السابقة ولكن بعد وصول الفيلم إلى منتصفه كنت أتمنى أن ينهي شاميلان فيلمه بالطريقه العادية ولا يجعل فيها مفاجأه وإلا سوف يهدم البناء الذي قام به في بداية الفيلم. على الرغم من السلبيات إلا أني أستطيع أن أقول إنه من أكثر الأفلام إمتاعاً لهذا العام، قد لا يرشح لجوائز ولكن وبصراحة ''لن تجد من المتعه السينمائيه في أفلام الإثارة مثلما تجدها في أفلام شاميلان''. الوطن البحرينية في 15 نوفمبر 2006
|
"لعبة الحب".. سينما تخترق العفة ياسر علام** |