تنعقد الدورة الثامنة لمهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية منذ بضعة أيام وتُختتم بعد غد الأحد. دورة التأمت على وقع أحداث داخلية جسيمة وفي زمن سمته التقلبات وعدم الاستقرار والترقب اليومي لما ستؤول الامور اليه. لا يبدو الاقبال على المهرجان متأثراً بهذه الاجواء تحديداً، إذ لم يكن جمهور المهرجانات يوماً هو جمهور دور العرض الذي قد يقعده عن ارتيادها وضع أمني شائك مثلاً او أزمة داخلية. انه في معظمه جمهور يجد في التظاهرات الثقافية شكلاً من التصدي ليوميات ملولة بروتينها ولهواجس معيشة لا تخرج من الاطار السياسي والاجتماعي. ولكنه جمهور لا يبحث عن مهرب من مشكلاته بقدر ما يفتش عن ملاذ يعكس جزءاً من المعيش انما بلغة غير الشكوى والخطابات السياسية والوعود. لعلها الحاجة الى الارتقاء فوق الكلام المكرر والتعبير الفج والمباشر. انها الحاجة الى العين او الرؤية الذاتية للفرد. كأننا في زمن الأزمات نتطلع أكثر الى سماع رأي خاص، مخالف لما نسمع ونرى، نفتش عن نظرة لا تشبهنا متمنين ان تحمل بارقة أمل أو وجهاً لا نعرفه او فكرة تنتشلنا من الضياع. ربما من هنا استلهمت الدورة الحالية شعارها "العين بداية الصورة" بتلاعب على كلمة "عين" بالانكليزية التي يصلح لفظها للتدليل على "العين" وفي الوقت عينه على المتكلم "أنا" (eyeوi). في كلتا الحالتين، يضع الشعار الذاتية سواء من خلال الرؤية (العين) او صاحبها (المتكلم) في المصاف الأول. لا يعني ذلك تخلي المهرجان عن هاجس العلاقة بين الوثائقي وواقعه التي تبدو منذ انطلاقته متحكمة في اختياراته. ولكن ثمة ميل في هذه الدورة، صدفة او عن عمد، الى جبل الموضوعات الاجتماعية والسياسية بنظرة شخصية، أحياناً لا تتعدى شريط صوتي بلغة المتكلم. ولكن في أماكن أخرى، تتخذ الذاتية منحىً أعمق يتحول الفيلم معه رحلة تنعقد على توقعات صاحبها وهواجسه في لقاءاته مع موضوعه. من هنا يمكن اعتبار فيلم الافتتاح "يوميات بيروت: حقائق وأكاذيب" وبصرف النظر عن مقوماته الفنية اختزال لتلك الجوانب آنفة الذكر. فهو قائم على نقل مرحلة سياسية واجتماعية يعيشها البلد منذ نحو سنتين ومازالت آثارها ومفاعيلها مكملة. وهو معقود على ما يشبه الرحلة، تخوضها مخرجته مي المصري برفقة مجموعة شباب وتتوقف عند محطات وتحاول الخروج بخلاصات... بالعودة الى جمهور المهرجان، يبدو طبيعياً ان يتفاعل مع هذا النوع من الافلام الذي يحمل نتفاً من واقعه كما هي حال فيلم وائل الديب ايضاً "وجوه معلقة على الجدران" باستعادته سؤال المخطوفين اللبنانيين ابان الحرب. ولكن الشريط يحاول القفز عن العنوان العريض ليستقر في الحزن اليومي لأم فقدت ابنها. تطفو من جديد المقاربة الشخصية للموضوع متمثلة في محاولة الفيلم الامساك بحياة المرأة او بشكل هذه الحياة التي تسير على ايقاع الانتظار والامل واليأس وفي محاولة فهم المأساة. انها الهواجس الكامنة خلف العمل ويبقى مدى توصلها الى التشكل في اطار فني وبصري وتركيبي مفتوحاً على النقاش. على صعيد آخر وبعيداً من موضوعات الداخل، استطاع مارتشيللو بوكين ان يقدم تشكيلاً بصرياً شديد القسوة والواقعية من خلال خمسة أفلام قصيرة مستلة من يوميات أطفال في البيرو واسبانيا وغواتيمالا وسواها من البلدان. شهادات لأطفال بالكلمة أحياناً وبالصورة في معظم الوقت مشغولة بتفاصيل مذهلة وبتأثير بالغ. الدهشة منابعها عدة: كلام الأطفال، وعيهم، حالتهم الانسانية القاسية، أشغالهم... ثمة حالات لا يمكن لذهن بشري ان يتخيلها كطفل يعمل في صب الاسمنت طوال النهار وقد آلت ملامحه الى شيخوخة مخيفة كما في Angel's Fire وآخر يغفو من شدة تعبه بينما يلتهم سندويشاً مع انتهاء يوم تسوله كما في Lima's Street. افلام مكرسة للرضاءة على وضع اجتماعي بائس، تحتفظ بقيمة فنية عالية وبقدرة على التوثيق في آن. خادمة للبيع "الاستلاب" هو سمة تلك الافلام وغيرها..أو بمعنى آخر تحولها على يدي مخرجيها تجارب تتخطى العناوين المعروفة الى هاجس شخصي لا ينفصل أحياناً عن وطأة الإحساس بالمسؤولية. ينطبق ذلك على شريط ديمة الجندي "خادمة للبيع". وهو بالمناسبة الشريط الثالث في غضون أقل من سنة الذي يتناول موضوع الخادمات الأجانب في لبنان والظلم الذي يتعرضن له. قبله، عرضت كارول منصور "خادمة في لبنان" Maid in Lebanon وكورين La Bonne Femme. تتشابه الافلام وتتباعد مع احتفاظها بنبرة افلام التوعية. يبدأ شريط الجندي بتعليق صوتي للمخرجة، بلغة عامية لا تخلو من الشعرية هي بابها الأول الى "استلاب" موضوعها. تصور لنا هاجسها الممتد منذ سنوات بمراقبة "الأيدي الصغيرة تقطع الخضار أو تجلي الصحون" في إشارة الى الخادمات السريلانكيات كلما دخلت بيتاً فيه خادمة من التابعة السريلانكية. ثم تنتقل بالصوت ايضاً الى لب المشكلة اذا جاز التعبير الا وهو "هوس أرباب العمل" في إملاء اوامرهم عليهن واستغلالهن. تكتفي الجندي بأمثلة ايجابية مثل "جانيكا" التي تستعد للمغادرة بعد ان أمضت خمس سنوات في خدمة عائلة لبنانية عاملتها بالحسنة كما يظهر من علاقتها بربة المنزل. ولكننا نكتشف لاحقاً عندما تقابلها المخرجة في سريلانكا ان الأمر يتعدى المعاملة الطيبة. فهناك استغلال لجهدها ازاء غياب اي قانون عمل يحدد ساعات العمل مثلاً او تبعات الاستغلال الجنسي أو غيرها. هذا أحد اوجه المشكلة التي يطرحها الفيلم آخذاً بآراء قانوني (محامي) يتوصل الى وصف حالة الخدم الاجانب في لبنان بـ"الاستعباد الحديث". يحاول الفيلم الإحاطة بجوانب المشكلة كافة مازجاً بين اهتمام المخرجة الشخصي بالموضوع من جهة الذي يطل من زوايا عدة ليس اقلها اتقانها اللغة السريلانكية التي تتواصل بها في بعض المشاهد مع إحدى شخصيات الفيلم وحضوره كمشكلة اجتماعية وانسانية وقانونية من جهة ثانية. يشمل الشق الاخير زيارة المكاتب المتخصصة باستيراد الخادمات للوقوف على تفاصيل العملية ومحاولة استشفاف سلوك اللبنانيين من اختياراتهم. كما يقدم مقابلة مع كاهن كنيسة يروي فيها مصادفته حالات مختلفة من منتحرات الى حوامل الى هاربات... ولكن الشق الابلغ أثراً هو ذاك المصوَّر في سريلانكا بين سيلان وكونغو. في سيلان الى حيث عادت "جانيكا" بعد غياب خمس سنوات ونيف، نشهد تحضيرات إمرأة شابة للمغادرة بعقد عمل الى لبنان. من عثور الوكيل عليها وحتى مغادرتها مروراً بتلقيها دروساً في التدبير المنزلي الاولي، نرافق رحلة عذابها من افتراقها عن طفلها وزوجها وحتى وصولها الى منزل مخدوميها في بيروت. نشهد على الايام الاولى.. بكاء الفرقة وألم الانفصال وصعوبة التواصل بينها وبين ربة المنزل بسبب اللغة. بعدها تتركها الكاميرا الى غير رجعة لتختار مثالاً جديداً هو زواج مختلط بين رجل عربي وإمرأة سريلانكية وتأسيسهما عائلة مؤلفة من طفلين. على الرغم من جلوس "آن" امام الكاميرا في وضعية السيدة وليس الخادمة، الا ان دمعة عالقة في مقلتيها تشي بصعوبة الحياة التي يؤكدها الزوج بقوله انهما يعملان لجمع المال وبعدها سيغادران للعيش في سريلانكا. يكتفي الفيلم بتفاصيل من هذا النوع للتدليل على عمق التمييز في المجتمع تماماً كما تكتفي الكاميرا بالوقوف خارج "المشرحة" التي تضم عشرات من جثث السريلانكيات اللواتي قتلن او انتحرن او فارقن الحياة تحت وطأة التعذيب والضرب. يبقى فيلم الجندي شريطاً نابعاً من موضع انساني وقائم على مادة بحثية جيدة مع احتفاظه بمنحى إخباري هو رديف الافلام التي تطرق موضوعات ذات سمة اجتماعية. "بنات" تهاني راشد تتفرد تهاني راشد بتجربة بارزة وجريئة في جديدها "البنات دول" الذي قدم في عرض اول في مهرجان كان السينمائي في أيار الماضي. شريط راشد الاسود والقاسي بما يكشفه من واقع مرير لشريحة كاملة من الاطفال والمراهقين التي تحيا في عالم القاهرة السفلي، ليس بالصورة النموذجية التي يمكن ان ينتظرها اي مصري او حتى عربي من فيلم يشارك في المهرجانات السينمائية. ثمة هوة كبيرة بين هذا الوجه "الفاضح7-7- او 7-7-المعري7-7- الذي يقدمه الفيلم والآخر الاحتفالي الذي يرجوه كثيرون من السينما العربية. اشكالية تدور في فلك عقدة الصورة والهاجس الملح حول اي صورة يجب ان نصدر عنا. ولئن كانت الاجابة عن هذا السؤال في اي مكان آخر من العالم بسيطة الا انها في منطقتنا تتضخم وتتشتت بين غياب حرية الفن وضآلة الابداع وسواهما اللذين يتيحان ذلك التحرر من مفهوم الصورة الواحدة الأحادية المنوط بها تمثيل مجتمع بكامله. لقد اختارت راشد لفيلمها 7-7-البنات دول7-7- صورة قاتمة من صور القاهرة الحديثة تلك التي بدأت بالتشكل والظهور بعد الثورة. في حي المهندسين الذي تسكنه الطبقة المتوسطة ويشكل نقطة اجتذاب للسياح العرب، يحيا مجتمع آخر، حياة أخرى أناسها من أطفال ومراهقين يسكنون الشارع. والاخير شخصية اساسية في الفيلم، اختبرته المخرجة لنحو سنتين وصورت 7-7-سكانه7-7- لتخرج بفيلمها هذا. ليس اولئك ايتام؛ معظمهم اختار الشارع كما تقول احدى البنات هرباً من مشكلات عائلية او مجرد اقتراب من نمط حياة يتيح بعض الحرية. تقلب الكاميرا في حيواتهم من دون ان تستبيحها. تترك لكل فتاة ان تحكي ما يحلو لها، فتتراكم عشرات القصص لترسم ملامح كائنات غريبة، قد تصيبنا قشعريرة من احساسنا انها تحيا هناك بموازاة ـ او تحت ـ عالمنا. شهادة صارخة هو فيلم راشد ووثيقة ولكنها متحررة من مشكلات هذا النوع من الافلام بعدم اكتفائها بموضوعها وبجرأتها وبـ 7-7-شرف المحاولة7-7-. انه فيلم متماسك مشدود، تتداخل شخصياته وحيواتهن ولا يلجأ الى التجزيء السهل او الاسئلة التقليدية وينأى بنفسه عن اي تحليل اجتماعي او نفسي. انه عن حياة الشارع، يشبهها الى حد بعيد بتركيته المتداخلة وكادره الواسع الذي يتسع للجميع, يدخله ويخرج منه من يشاء. انه فيلم صادم ليس فقط بحكايات 7-7-نسائه7-7- الطفلات والمراهقات وانما ايضاً بقدرته على تجنب السقوط في سؤال 7-7-وماذا بعد؟7-7- بعد مرور الصدمة الاولى. تعكس الكاميرا علاقة المخرجة بشخصياته البعيدة من اية وصاية او ارشاد او حتى رصد لحالة غير طبيعية. هي علاقة اعجاب ودهشة تجاه قدرة البنات على العيش والمواجهة والحب وعقد الصداقات...وليس بعيداً من المنطق ان نفكر في انهن كن في شكل ما غطاء الحماية الذي يضمن صنع هذا الفيلم من دون مشكلات مع السلطات. لحظات الضعف كثيرة ونوبات البكاء متكررة ولكنها ابداً لا تدخل في اطار البناء الدرامي الذي يتوخى الوصول الى ذروة درامية. بمعنى آخر، ليست هناك من محاولة لتشكيل حياة الشارع واطفاله لتلائم الفيلم. بل هو لقاء بين كاميرا المخرجة وهذا العالم، تدخله وتتوه في زواياه وهي تدرك سلفاً انها ستغادره وان الحياة فيه ستكمل. ليلى خالد كما افتتح شريط المصري المهرجان بمزيج من الشخصي والعام وبموضوع داخلي، كذلك سيُختتم المهرجان بعد غد بمقاربة مماثلة ببعد عربي. "ليلى خالد: خاطفة الطائرات" للينا مقبول سيسدل الستار على الدورة الثامنة للمهرجان مسبغاً عليها أسئلته المعلقة ونبشه الأنيق في متاهات التاريخ والمفاهيم المغلوطة التي ترافق اليوم جزءاً كبيراً من نظرة العالم الى القضية الفلسطينية ومحطات تحولها. انه محاولة لقراءة شخصية فلسطينية، تختزن تاريخاً طويلاً وتختزل بتناقضاتها حكاية شعب. هي ليلى خالد المقاومة الفلسطينية التي يشير التاريخ اليها كأول إمرأة تقوم بخطف طائرة. بمشاهد أرشيفية غير مستهلكة ونتف من مقابلات وصورة فوتوغرافية وحيدة تظهر فتنة غامضة، يقدم الفيلم لشخصية ليلى خالد ولتاريخ الصراعي العربي الاسرائيلي. لا تنفك المخرجة تربط الأحداث بسيدة الفيلم. "كانت ليلى خالد في الرابعة من عمرها عندما وقعت النكبة..." يقول شريط الصوت وكانت كذا عندما غادر اهلها حيفا.. وقامت بكذا عندما كان جمال عبد الناصر يعن استعداد العرب لمحاربة اسرائيل... رسم رشيق لملامح المرحلة، يعينها على تحقيقه أرشيف غير مطروق وتسجيلات صوتية وتوليف يستلهم من السينما الصامتة. تعيد المخرجة تركيب حادثة اختطاف الطائرة الاولى في العام 1969 واقتيادها الى الهبوط في دمشق من خلال مقابلات مع ربانها وأحد الركاب الذي كان طفلاً وقتذاك ومضيفة كانت على متن الرحلة. الكل يحاول رسم صورة لتلك الصبية الجذابة التي لم يتخيلوها تحمل سلاحاً وتقوم بعملية خطف طائرة. كذلك تركز المخرجة على التغطية الاعلامية للحادثة. تنتقل بعدها الى محاولة الخطف الثانية بعد مرور عام والتي تنتهي بفشل خالد واحتجازها في سجن بلندن. الا ان نجاح رفاقها في تنفيذ بقية الخطة واحتجازهم رهائن بريطانيين سرعان ما سيتحول نقطة تفاوض تنتهي لإطلاق سراحها مقابل تسريح الرهائن. هنا تنتهي حكاية ليلى خاطفة الطائرات وتبدأ حكاة المرأة التي تحاول المخرجة حفر ملامحها وسط الهالة الكبرى التي تحيطها. مكالمة هاتفية من السويد، المخرجة في جهة وخالد في الجهة الأخرى في عمان، تعبر خلالها الاولى عن رغبتها في صنع فيلم عن الأخيرة. بعدها نشاهد مقبول في بيت خالد لتبدأ حواراتهما القصيرة والمقطعة على طول الفيلم. يتحول الفيلم في هذا الجزء الى نقل قلق مخرجته وحيرتها تجاه ما فعلته خالد وكيفية نظرتها اليه بعد مرور قرابة 35 عاماً. بين توقعات المخرجة بسماع كلمات ندم من بطلتها وبين صلابة الأخيرة، تزداد حيرة الاولى وتعجز عن فهم وجهة نظر بطلتها او الاحرى عن قناعة الاخيرة التامة بما فعلت. لا تغيب عن الفيلم وضعية المقارنة التي تتخيلها المخرجة او توحي بها. فهي في لحظة تتمنى لو تستطيع القيام بما قامت به خالد وفي لحظة أخرى تدينه. يدفعها هذا القلق الى النبش في شخصيتها لتتوصل الى بورتريه لإمرأة صلبة ، تتمتع بحس فكاهي وايجابية على الرغم من كل ما مرت به. تحاول استشفاف مناحي أخرى لشخصيتها، فتصورها خلال قيامها بأعمال التنظيف وتطلب اليها التمدد على الكنبة.. كأنها تبحث في تلك الوضعيات المختلفة عن إمرأة أخرى. ولكنها في نهاية المطاف تكتشف انها امام إمرأة واحدة هي ليلى خالد في كلامها واستذكاراتها وتمددها ونومها...هي كلية واحدة لا تتجزأ. يخرج عن هذا السياق مشهد وحيد عندما تأتيها من بيتها في حيفا بقطعة من البلاط وبحجر بناء. عندها فقط تذوب ملامح خالد وتنخرط في نوبة بكاء. بالنسبة الى شريط يتناول جزءاً من سيرة شخص، يبدو مستهجناً اختتامه بحوار للطيار الاسرائيلي الذي كان يقود الطائرة الثانية التي حاولت خالد خطفها. ولكن خيار المخرجة يصب تماماً في محاولة استخلاص معنى لكلام خالد. فما لم تفهمه في كلام خالد من اصرار على المقاومة وعدم رفض أعمال العنف، فهمته في كلام الطيار الاسرائيلي ومنطقه الالغائي لينتهي الفيلم بمنطق اسرائيلي عقيم ربما وحدهم الفلسطينيون يشعرون به ووحده يبرر كل أعمال المقاومة مهما اختلفت اشكالها ويقود المقبول الى الاستنتاج بأن النصر وحده قادر على امحاء صفة الارهاب. أسئلة المخرجة الكثيرة لخالد عن معنى الارهاب وجدوى القيام بأعمال العنف وسواها تخبىء سؤالاً يظل عالقاً، تتردد المخرجة في طرحه على خالد وجهاً لوجه. تنتظر عودتها الى السويد لتسألها عبر الهاتف: "ألم تفكري عندما صعدت الى الطائرة ان هذا العمل قد يلطخ سمعة الفلسطينيين؟" سؤال هو في الغالب شخصي، تسأله لنفسها لتفهم أكثر من دون ان تنتظر جواباً. المستقبل اللبنانية في 10 نوفمبر 2006 |
الخصوصية التراثية في السينما العربية بقلم : عدنان مدانات احتلت إشكالية البحث عن ما يسمى مجازا لغة سينمائية عربية ذات خصائص فنية تراثية قومية حيزا كبيرا من نقاشات السينمائيين العرب لفترة طويلة من الزمن. وقد عرفت السينما العربية بعض المحاولات لإنتاج أفلام روائية طويلة تقترب بهذا الشكل أو ذاك من التراث، سواء من حيث الموضوع أو من حيث الشكل. وتبرز بشكل خاص ومبكر في هذا المجال تجربة المخرج المصري الراحل شادي عبد السلام في فيلمه القصير شكاوى الفلاح الفصيح، وكذلك فيلمه الروائي الطويل المومياء اللذان انتجا في ستينيات القرن العشرين، ويستفيد موضوعهما من التراث الفرعوني. وتجدر الإشارة أيضا إلى فيلم المخرج الجزائري مرزاق علواش مغامرات بطل (1974) الذي استفاد أسلوبيا من ألف ليلة وليلة، وكذلك يتميز الفيلمان التونسيان من إخراج الناصر خمير الهائمون (1984) وطوق الحمامة المفقود (1988)، بأجوائهما ومواضيعهما التراثية. على المستوى النظري، فإن مسألة الاستفادة من التراث في الفنون العربية المعاصرة من اجل تأسيس أو ترسيخ خصائص فنية عربية الطابع، تراثية الجوهر والشكل، فرضت نفسها على الإبداع العربي المعاصر بعناد كما لو أن القضايا التي تجابه الإبداع الفني المعاصر لا يمكن أن تحل من دون الإجابة عن سؤال الخصوصية الثقافية وأصولها التراثية منعكسة في الشكل الفني. ومن الواضح إن نقاش هذه المسألة على المستوى النظري المفهومي لم يستطع أن يحسم أو أن يجد إجابة وافية عن أسئلة أولية من نوع: أين يبدأ التراث، وأي تراث نريد، وما هي خصوصية هذا التراث بالمقارنة مع تراث الشعوب الأخرى، والأهم من ذلك: كيف يمكن الاستفادة من التراث فيما يخص كل حقل فني على حدة؟ وفي حين يرى بعضهم أن التراث يعني الماضي (دون تحديد زمن هذا الماضي بدقة)، يرى بعضهم الآخر أن التراث ليس الماضي فقط، بل هو أيضا الحاضر بما هو امتداد للماضي وتأثر به، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار كل ما جرى من تطورات. كما إن هوية التراث بقيت دون إجابة واضحة، فهل هو فقط التراث العربي خاصة، أم العربي الإسلامي عامة، أم هو خليط الثقافات التي تفاعلت تاريخيا في هذه المنطقة من العالم؟ وتكمن المعضلة الأساسية في كيفية الاستفادة من التراث (هذا إن تم تحديده والاتفاق عليه) في المجالات الإبداعية في حال عدم توفر خبرة تاريخية في المجال الإبداعي المقصود. بالنسبة للسينما بالذات، فإن الإشكال الأكبر يتجسد في أن هذا الفن معاصر ويقوم على أساس تقنيات علمية معاصرة نتجت في ظل العالم الرأسمالي، أو بالأحرى في ظل حضارة القرن العشرين، كما إن هذا الإشكال يتجسد في أن السينما اتخذت منذ بدايتها طابعا كونيا وطرحت نفسها كمشروع لغة عالمية خارج الخصائص القومية المستقلة. وهذه الإشكالية المطروحة أمام السينما العربية أكثر صعوبة وتعقيدا منها في مجال الفنون الأخرى، بالنظر إلى أن حداثة هذا الفن وتميز وضعه من حيث قوة تأثير التقنية الخاصة به على وسائله التعبيرية. وفي الواقع، فإن هذه القضية المثارة في مجالات الأدب والفن في العالم العربي أنتجت الكثير من المحاولات والاجتهادات المختلفة ذات الطابع التجريبي. فإذا ما تقصينا هذه القضية في مجال الرواية كمثال، فإننا سنجد أن المحاولات المتحققة تدور في محورين، الأول منهما هو محور اللغة، والثاني محور أسلوبي وبنائي. فعلى مستوى اللغة، فإن المصدر التراثي الأساسي هو الأساليب اللغوية والبلاغية في الأدب العربي القديم كما في استعمالات اللغة في نصوص القرآن الكريم. وعلى المستوى الأسلوبي العام، فإن تلك الروايات التي لجأت إلى التراث استمدت مصادرها من أدب المقامات وبنية حكايات ألف ليلة وليلة ومن بعض السير التراثية الشعبية. ووجد المؤلفون المسرحيون أمامه العناصر ذاتها التي استخدمتها الرواية في بحثهم عن الشكل التراثي واستكمل المخرجون المسرحيون هذه العناصر في تقديمهم للعرض المسرحي من خلال أشكال مستعارة من الاحتفالات والمواسم الشعبية والدينية وجلسات الحكواتي إضافة إلى تراث مسرح الأراجوز. كما استمد الرسامون العرب المعاصرون تراثهم من الأشكال الزخرفية وفنون الخط العربي، فيما عمد آخرون إلى ملء لوحاتهم برموز معمارية وتشكيلية من نوع الكف والعين والخرز والهلال والقباب والمقرنصات وغيرها. أما السينما فتجد الوضع أمامها أكثر صعوبة في محاولتها العثور على نموذج تراثي خاص بها وملائم لطبيعتها، يمكن أن يعطيها خصوصيتها القومية. ومع ذلك، يحاول بعض الباحثين في مجال السينما في العالم العربي إيجاد صلة وصل بين فن السينما المعاصر وبين شكل فني وتقنية قديمة شاعت في التاريخ العربي (مع أنها معروفة في حضارات آسيوية أخرى)، ألا وهي فن خيال الظل استنادا إلى واقع أن الشكل النهائي للعرض متشابه. ففي الحالتين يجد المتفرجون (أو النظارة، حسب المصطلح التراثي)، أنفسهم أمام عرض مرئي فيه خيال ممثلين يتحرك على الشاشة. وهذا الخيال يروي لهم وبمساعدة من الصوت البشري حكاية ممثلة. غير أن أولئك الباحثين يعجزون عن إيجاد صلة أعمق وأشد أصالة تجمع بين هذين الفنين، التراثي والمعاصر، ويمكن الاعتماد عليها لتطوير وسائل تعبير سينمائية تراثية الخصائص. هذا مع ملاحظة أن اوجه الاختلاف بين هذين الفنين هي أكثر بكثير من أوجه التشابه فيما بينهما. وأبسط مثال على الاختلاف أن السينما تقدم صورا شبيهة بالواقع إلى درجة الإيهام بحقيقتها. ويلاحظ أن المحاولات القليلة التي تمت في السينما العربية لإنجاز أفلام تستفيد من أشكال تراثية ارتكزت في أساس محاولاتها إلى التراث الأدبي بالدرجة الأولى، فبعضها استعار أسلوب ألف ليلة وليلة في السرد، حيث تمتزج الخرافة والواقع، وحيث تقود الحكاية القارئ إلى حكاية جديدة تتداخل معها فيما يشبه التوالد الحدثي المتسلسل، كما استفادت محاولات أخري من صيغة الراوي في القص الشعبي، فيما اكتفت محاولات أخرى باستعارة الموضوع، أو الحكاية، من التراث. كما نجد في بعض الأفلام محاولات لتوظيف الموسيقى التراثية أو فن العمارة الشرقي. وهذا كله لا يتناقض مع إمكانيات السينما، بل على العكس من ذلك، فهو يتلاءم مع طبيعة الفن السينمائي من حيث هو فن تركيبي يستفيد من الفنون والآداب الأخرى السابقة عليه ويطوعها لصالح تقنيته وخاصيته الأساسية، خاصية الحركة في الزمان والمكان، وخاصية الإيهام بالواقع. وهذا يعني أن بإمكان السينمائي الباحث عن أشكال تراثية أن يستفيد من كل ما يمكنه من أشكال تراثية منفردة أو مجتمعة. غير ان حقيقة المشكلة وجوهرها لا يكمنان في إمكانية الاستفادة من الأشكال التراثية بحد ذاتها، بل في أن هذه الاستفادة لا يجوز أن تقتصر على استعارة الشكل التراثي، بل عليها أن تستنبط من الشكل التراثي عناصر جزئية بنائية تعبيرية دلالية تستمد قيمتها من كونها يمكن أن تتحول إلى رموز وعلامات تساعد على أن تطبع بطابعها المميز وسيلة التعبير السينمائية بخصوصيتها التراثية، أي أن الفيلم ككل وليس بعض عناصره فقط يعكس التميز الفني الثقافي. من الطروحات المهمة والدقيقة المتعلقة بهذه الإشكالية ما أورده الناقد المخرج السوري صلاح ذهني في مقالة له بعنوان السينما العربية والمواجهة الحضارية نشرت في عدد خاص من مجلة الوحدة الشهرية حول السينما العربية جاء فيه: ... فمجموعة المبادىء والقواعد والإشارات والرموز، التي تتضمنها كلمة (كود) في مجال السينما العربية لم تستنبط من واقع الحياة والميراث العربيين، بل تم تبنيها على مدى السنين والتجارب الكثيرة عبر العين الغربية، مما جعل الجمهور العربي نفسه يرتبط برباط وثيق بهذا (الكود) أو مجموعة الرموز، فصار من الصعوبة بمكان على كائن من كان من المبدعين العرب في الميدان السينمائي أن يخرق هذا الكود ويطور لغة سينمائية تعتمد على بديل عربي. وعملية الخرق هذه تحتاج في سبيل الوصول التغيير وإلى بلوغ كود جديد يقبله الجمهور العربي إلى تبني بعض المقومات الأساسية ذات الأهمية: بدءا بطرح السؤال عن ماهية المشهدية، وكيف يؤثر الموقف الكوميدي، وأي نوع من (الكود) اللفظي يمكن أن يستخدم، أية رؤى تنقل، أية كنايات ممكنة، وهكذا. وتلك قضايا سينمائية بقدر ما هي خصائص ثقافية (مجلة الوحدة، العدد 37 لعام 1987). إن الإجابة عن هذه التساؤلات ليست أمر سهلا على الإطلاق، فالواقع أن التراث الفني العربي لا يساهم كثيرا في هذا المجال. وتساعد على فهم هذا الأمر المقارنة مع التراث الفني الشعبي لدى شعوب أخرى في آسيا وإفريقيا خاصة. فبعض الفنون لدى الشعوب الإفريقية او الآسيوية لا تمارس لذاتها فقط، وإنما تستخدم كوسائل تعبير لغوية فردية او جماعية. وكمثال واضح على هذا الفرق، يمكن الرجوع إلى تقاليد الرقص الشعبي. فالرقص الشرقي التقليدي، على سبيل المثال، عبارة عن حالة احتفالية عاطفية تستخدم فيها حركة الجسد بمرافقة موسيقى إيقاعية، ولا تتميز الحركات التي تقوم بها الراقصة بجسدها أو بأيديها بأية علامات خاصة أو إشارات ورموز تعبيرية دلالية وذات طبيعة لغوية. هذا في حين أن الرقص الشعبي الهندي يحتوي على العديد من الحركات والإشارات الاصطلاحية التي تجسد رموزا ودلالات والتي تشكل بمجملها عناصر تعبير لغوية الطابع. عن حركات أصابع الأيدي التي تقوم بها الراقصة الهندية لها دلالات خاصة لا يمكن لغير المطلع عليها أن يفهم كنهها. وأما الرقص الشعبي في الصين واليابان فهو عنصر أساس من عناصر السرد والتعبير والترميز التي تنبني عليها العروض المسرحية التقليدية. والأمر نفسه يمكن أن يقال حول الملابس والأقنعة والأصباغ التي ترسم فوق أوجه الممثلين الراقصين. ولهذا يصعب على غير الصينيين واليابانيين، أو غير الدارسين لهاتين الحضارتين وفنونهما الاستعراضية فهم واستيعاب مجريات العروض المسرحية التقليدية ومعانيها (عروض مسرح النو والكابويكي التقليدية). وقد تنبه إلى هذا الأمر العديد من الباحثين المسرحيين العرب الذين سعوا وراء التأسيس لصيغ مسرحية تراثية والذين أرادوا توظيف التراث فبحثوا عما يساند رغبتهم في مجال الرقص وبعض أشكال الاحتفالات الشعبية. ومن هذا المنطلق طرح بعض الباحثين إمكانية الاستفادة من رقص السامر الجماعي الذي يتشكل من فريقين متقابلين من الراقصين على أساس اعتباره شكلا فنيا تراثيا يؤدي استخدامه إلى إضفاء صبغة أو هوية فنية تراثية على العرض المسرحي. غير أن المسرح العربي، على الرغم من كل التجارب، لم يتمكن من الاستفادة من رقص السامر وما يصاحبه من غناء إلا باعتباره ممارسة احتفالية تقليدية وفرجة شعبية، فلا توجد في تقاليد رقص السامر رموز خاصة أو عناصر لغوية دالة. وهكذا، فالمعضلة الرئيسية التي تجابه السينمائيين العرب في بحثهم عن خصوصية تراثية للسينما العربية هي الحاجة لعدم الاكتفاء بالتراث الفني باعتباره شكلا وفلكلورا، بل وجوب العثور على مضمون لهذا الشكل وعلى العناصر الرمزية التي تنبني بواسطتها لغة ودلالات، وتعكس في الوقت نفسه الروح القومية والخصائص المميزة للتراث القومي، وتضفي على ذلك كله وعيا معاصرا. والأمر الذي يميز السينما بالذات عن غيرها من الفنون هنا هو الحاجة إلى مواءمة كل تلك الحلول التي قد يمكن التوصل إليها مع الخصوصيات التقنية التي تفرض نفسها شئنا أم أبينا على الصورة السينمائية وعلى بنية وشكل الفيلم كله. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 10 نوفمبر 2006
|
الدورة الثامنة لمهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية توشك أن تختتم
ريما المسمار |