كاتالينا ساندينو مورينو (25 سنة) هي أول فنانة أميركية جنوبية رشحت لجائزة الأوسكار كأفضل ممثلة. كان ذلك في العام 2005، عن دورها الصعب والجميل في فيلم «ماريا» الكولومبي، الذي أدت فيه شخصية فتاة تضطر من أجل العيش للعمل لحساب عصابة من مهربي المخدرات، وتتركز مهمتها على ابتلاع أقراص تحتوي مواد ممنوعة، والسفر من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة حيث تفرّغ معدتها من الأقراص، والعودة إلى بلدها لتكرر العملية بشحنة جديدة. إلا أنها تتعرض لحادث ذات مرة أثناء نقلها المخدرات، إذ تنفجر الأقراص في بطنها وتفارق البطلة الحياة وهي لم تتجاوز العشرين. نال فيلم «ماريا» شهرة عالمية، فسمح لبطلته بالاستقرار في الولايات المتحدة، بعدما كانت بدأت مشوارها الفني في مسقط رأسها كولومبيا، وها هي تتقاسم بطولة فيلم جديد عنوانه «أمة الفاست فود»، مع بروس ويليس وباتريسيا أركيت، الذي عرض في مهرجان كان 2006 قبل أن ينزل قبل أيام إلى صالات السينما في العالم ويدور لغوٌ في شأنه بسبب مضمونه الواقعي الساخر تجاه الأضرار الصحية التي يصاب بها الشبان الأميركيون، لا سيما في سن المراهقة، بسبب تناولهم الكثير من وجباتهم الغذائية في مطاعم الـ «فاست فود». ويأتي هذا الفيلم بعد فيلم «نشكرك لأنك تدخن» المعروض منذ شهرين، والذي يعتمد الأسلوب نفسه لكن تجاه شركات صناعة التبغ، إذ يبدو أن السينما الهوليوودية ترغب في تسليط الضوء على عيوب المجتمع الأميركي، وربما أنها تهدف في الوقت نفسه إلى لعب دور تربوي يكمل مهمتها الترفيهية الأصلية. ولمناسبة نزول فيلم «أمة الفاست فود» إلى دور السينما، التقت «الحياة» كاتالينا ساندينو مورينو وحاورتها. · لقبتك مجلة «بيبول» الأميركية بإحدى أجمل نساء العالم، فكيف كان رد فعلك؟ - أنا بطبيعة الحال لا أعير مثل هذا الكلام أي أهمية، وإلا وقعت في فخ تصديقه ورحت أغير سلوكي مع الغير، ما أعتبره أخطر شيء بالنسبة إلى فنانة شابة مبتدئة. ثم إنني محاطة على قائمة «أجمل نساء العالم» بحسب تصنيف المجلة، بما لا يقل عن 49 اسماً، فنحن إذاً 50 إمرأة في هذا الوضع، علماً أن القائمة تجدد مرة في كل سنة، ما يقدم الدليل القاطع على سطحية العملية كلها (تضحك). · حدثينا عن حكايتك مع السينما ومع هوليوود؟ - تعلمت الدراما في بوغوتا في كولومبيا، لكنني لم أحصل إلا على أدوار صغيرة في التلفزيون، علماً أن بلدي من أكثر الدول الأميركية اللاتينية التي تنتج المسلسلات، وأي ممثلة تحوز دوراً رئيسياً في أحدها، تنطلق بسرعة الصاروخ إلى سماء النجومية وتتمتع على الفور بشعبية عالية جداً. قالوا لي إن تسريحة شعري لا تناسب العقلية الكولومبية، وأن ملامحي حزينة أكثر من اللازم، لكنني لا أعرف السبب الحقيقي وراء قلة حصولي على فرص للعمل هناك، خصوصاً أن التسريحة قابلة للتغيير طبعاً، وتعابير وجهي الحزينة أيضاً يمكنني التعديل فيها بما أنني ممثلة. وعلى العموم لست نادمة على شيء بما أنني مثلت في «ماريا» الذي يعتبر أحد أجمل الأفلام السينمائية الكولومبية، وحصلت بعده على الترشيح لأوسكار أفضل ممثلة. وأنا أول ممثلة كولومبية تحصل على هذا الشرف، وتنال بالتالي فرصة العمل في هوليوود. أنا الآن ممثلة هوليوودية بحتة، والعروض تنهال علي من كل الجهات، وأدرسها بالتعاون مع وكيل أعمالي لأختار الأفضل منها. · هل كنت تتكلمين الإنكليزية قبل حكاية الأوسكار؟ - نعم، فأنا تعلمت في مدرسة إنكليزية أصلاً، وعائلتي تتكلم الإنكليزية بطلاقة تامة. كلمة «لا» · ألا تخافين فخ الأدوار الجنوب أميركية التقليدية، مثل شخصية الفتاة المغتربة المسكينة التي تضطر للسرقة أو التي تقع في غرام زعيم عصابة مثلاً؟ - طبعاً أخاف الوقوع في فخ هذا النوع من الشخصيات، لذا أدرس السيناريوات التي تصلني بعناية فائقة وبصحبة وكيل أعمالي، مثلما ذكرته تواً، حتى أتعلم الرد بكلمة «لا» على كل ما أراه لا يتفق مع طموحي. · شاركت بروس ويليس وباتريسيا أركيت بطولة فيلم «أمة الفاست فود»، فماذا كان شعورك حينما علمت أنك تظهرين معهما في لقطات واحدة؟ - فرحت، وهذا شيء طبيعي جداً، لكنني لم أتأثر مثلما كنت سأفعل لو سمعت خبر مشاركتي خافير بارديم أو غاييل غارسيا بيرنال أو كيت بلانشيت أو فرانسز ماكدورماند مثلاً، بطولة فيلم ما. أنا مولعة بهؤلاء الذين ذكرتهم، ثم بوودي آلن أيضاً، وببعض المخرجين مثل بدرو ألمودوفار وأنغ لي، وأعرف انني سأعمل معهم أو على الأقل مع أحدهم، في يوم ما. · كيف تعرفين ذلك؟ - لأنني طموحة، وغالباً ما أحصل على ما أريده في الحياة. · لكنك بقيت حبيسة الأدوار الثانية في كولومبيا، أليس كذلك؟ - نعم، وربما لأنني كنت في قرارة نفسي أحلم بنجومية على مستوى يتجاوز الحدود المحلية. · هل توقعت نجاح فيلم «ماريا» بالشكل الذي حدث؟ - نعم ولا، فأنا عرفت منذ تصفحي السيناريو أن هناك مادة غير عادية قد تثير ردود الفعل بطريقة أو بأخرى، إلا أنني لم أستطع تحديد مدى إيجابية أو سلبية هذه الردود وقررت خوض المغامرة والمجاذفة بمستقبلي الفني. فلو كان الفيلم فشل كلياً وواجه الاتهامات بسبب مضمونه الجريء، لكنا أنا وزملائي فيه، قد عجزنا عن العثور على أدوار أخرى في بلدنا كولومبيا. لكنني من ناحية ثانية، ومثلما قلته سابقاً، لم أكن في ذلك الوقت أعمل كثيراً هناك بسبب تسريحتي ووجهي الحزين، وبالتالي لم تكن المجاذفة كبيرة جداً. · وماذا فعلت عندما تلقيت نبأ ترشيحك لأوسكار أفضل ممثلة؟ - أتذكر أنني كنت أتمشى في أحد شوارع نيويورك عندما تلقيت الخبر، وكاد أن يغمى علي أول الأمر، ثم حاولت السيطرة على نفسي وعلى أعصابي إلى حين عودتي إلى غرفتي في الفندق، فهناك تركت العنان لمشاعري العميقة ورحت أبكي وأصرخ وأضحك في آن، قبل أن أتصل هاتفياً بخطيبي لأنقل إليه الخبر. · من أخبرك بالأمر؟ - أمي، بواسطة الهاتف الخليوي. · هل تعمل أمك في حقل السينما أو في الفن عامة؟ - لا أنها طبيبة. · هل لا تزالين مخطوبة؟ - (تضحك بصوت عال) لا، أنا الآن متزوجة من الرجل الذي كان خطيبي حينذاك. تزوجنا في شهر نيسان (أبريل) الماضي. · وهل أنت سعيدة بذلك؟ - أنا أسعد إمرأة في الوجود بطبيعة الحال. · ألا تشعرين بأي صعوبة في الدمج بين حياتك الزوجية ومهنتك الفنية؟ - أنتم جميعاً يا أهل الصحافة تثيرون خوفي وقلقي بهذا السؤال الذي يتكرر دورياً في أحاديثكم. لا أشعر بأي صعوبة حتى الآن، لأنني أثق بزوجي مثلما يثق هو بي، ويقدر ظروف عملي ويشجعني على الاستمرار فيه، بل على التفوق في كل التجارب الجديدة التي أخوضها. معاناة مادية · هل تغيرت حياتك كلياً منذ أن جئت إلى الولايات المتحدة؟ - أجل، فأنا أعتبر نفسي امرأة مستقلة منذ أكثر من عامين، بينما تبقى الفتاة في كولومبيا، في بيت أهلها إلى أن تتزوج. وأنا إذا عشت هناك من وراء أدواري الصغيرة في التلفزيون، أي بلا مورد رزق مرتفع، لفعلت الشيء نفسه طبعاً، وربما أنني لم أكن قد تزوجت بعد. فأنا استطعت تحقيق أمنيتي في الارتباط زوجياً بخطيبي لأنني أكسب ما يسمح لي بالمشاركة الفاعلة في نفقات الحياة اليومية. أنا لا أحب المعاناة المادية المستمرة، ولا الاعتماد الكلي على المردود الذي يأتي من قبل طرف واحد في البيت.وبين الأشياء التي تغيرت منذ أن صرت معروفة ومقيمة في الولايات المتحدة، عبوري نقاط تفتيش شرطة المطار من دون أي مشكلة بينما كنت أتعرض في الماضي للمضايقات والتفتيش، مثل أي مواطن أميركي جنوبي يدخل أميركا الشمالية. عندما وصلت إلى نيويورك ذات مرة، بعد ظهور فيلم «ماريا» في الصالات، أوقفني المسؤول عن الجمارك وبدلاً من أن يفتشني مثل العادة، طلب مني صورة موقعة، وصورة ثانية يظهر هو فيها إلى جواري، فرددت عليه بأنني بدوري أرغب في صورة معه، كي أبعث بها إلى عائلتي وأثبت لهم أن الشرطة في الولايات المتحدة تقدر على فعل شيء آخر غير تفتيشي أو إلقاء القبض علي (تضحك). · ماذا عن المسرح في حياتك الفنية؟ - أنا أعشق المسرح إلى درجة الجنون، وأمنيتي الغالية هي الوقوف في المستقبل القريب فوق خشبة أحد مسارح نيويورك، إذ أعرف انني في الولايات المتحدة أستطيع كسب ما يكفيني للعيش بهذه الطريقة، علماً أن الفنان المسرحي في بلدي كولومبيا، يموت من الجوع. · تربطين كل شيء بالمال إذاً؟ - لست مستعدة للمعاناة من قلة الرزق المادي، وربما أن هذه حال كل من عرف الفقر وكبر في بلد غير مرفه. · هل تعتبرين نفسك محظوظة؟ - أنا محظوظة إلى درجة كبيرة جداً، ولا أستطيع تجاهل هذه النقطة أو الادعاء أنني وحدي المسؤولة عن نجاحي. · مثلت في فيلم «باريس أحبك» الذي يتألف من مجموعة حكايات صغيرة تدور كل واحدة منها في حي باريسي مختلف، فما ذكرياتك عن هذا العمل؟ - كانت أول رحلة لي إلى باريس، وقضيت أوقات فراغي خارج التصوير، في التنزه وزيارة المعالم والمتاحف والمطاعم والمقاهي. لقد وقعت في غرام باريس، لذا تجدني سعيدة جداً بالعودة إليها كلما عثرت على فرصة لذلك، مثل المشاركة في الترويج لأحد أفلامي أو حضور مناسبة فنية ما. أما عن الفيلم في حد ذاته، فقد أحببت دوري فيه لأنه اختلف عما قدمته من قبل، فأنا مثلت شخصية مربية تسكن أحد الأحياء الفقيرة وتتردد من أجل عملها في كل صباح، إلى حي ثري، مصطحبة طفلها الرضيع معها. والشريط يصور المشوار بين المنطقتين، ثم أيضاً الطفلين، الثري والفقير جنباً إلى جنب، وأنا في وسطهما أهتم بهما، الواحد لأنه مورد رزقي والثاني لأنه ابني. إنني أحمل ذكريات طيبة عن الفيلم وعن أيام تصويره في باريس. الحياة اللندنية في 3 نوفمبر 2006
القاهرة - أمل الجمل من المُدهش حقاً أن يعود إلينا إنسان من خضم الحروب وأهوالها وهو لا يزال قادراً على حب الحياة، ولا تزال عيناه قادرتين على رؤية الأشياء الجميلة. إنه المخرج والمصور الموهوب إبراهيم البطوط الذي قضى 18 عاماً مصوراً بين الحروب وخطوط النار، بين حقول الموت والمقابر الجماعية. ومع ذلك تمكن من تحقيق فيلم – «إيثاكي» روائي، ديجيتال، ألوان، مدته 70 دقيقة، وبتكلفة قدرها 37 ألف جنيه فقط - ينطق بالجمال في كل كادر منه، فيلم يُؤكد أن في الحياة ما يستحق المعاناة. تُرى كيف حافظ هذا المبدع الشاب على بقاء فكره سامياً؟ هل مست روحه وجسده عاطفة نبيلة مثلما قال الشاعر اليوناني «كفافي»؟ يعترف البطوط أن عقله أصبح «مملوءاً بصور الحرب وبالذكريات المؤلمة»، لكنه يرفض أن يتخلى عن الأمل، فإذا فقده كيف يستمر؟ يُنفره المستسلمون الذي يُجيدون تجسيد أدوار الضحايا. يرى أن الصعاب إحدى سمات الحياة، وأن على الإنسان مقاومتها، فإذا تركها تطغى عليه ولا يعود ضمن الأحياء، بل سيكون نصف ميت. هذه النظرة تنعكس بوضوح في كل من فيلمه التسجيلي «26 ثانية في باكستان» 2006، وفيلمه «إيثاكي» الذي أهداه إلى «من ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا»، إلى من «ذهبوا وعادوا مكسورين»، وإلى من «ذهبوا وعادوا أكثر قوة»، إلى «علي تانخي» الذي لم يعش ليرى فيلمه الأول وإلى أصدقائه الذين ساعدوه ليرى هو فيلمه الروائي الأول متوسط الطول «إيثاكي». كاميرا العالم يمتلك إبراهيم البطوط خلف شخصيته كهفاً عميقاً. هو مخرج واعٍ يرى العالم بعيون الكاميرا، مُرهف الحس، هادئ، يميل إلى الصمت، قليل الكلمات لكن عندما يتحدث تكشف كلماته المختارة بدقة عن عقل متأمل، وروح صافية... خلف طفولته، وشبابه وسنوات نضجه، تختبئ رواية تستحق السرد. البطوط من مواليد بورسعيد. كان في الرابعة من عمره عندما وقعت حرب 1967، فظلت الحرب عالقة في ذهنه. درس في الجامعة الأميركية. حصل على بكالوريوس العلوم، (فيزياء، 1985). كان متفوقاً في الإلكترونيات، فعمل مهندساً للصوت في شركة تصور الأخبار وتنتج الأفلام الوثائقية لعدد من الشركات الأجنبية. هناك تعلم التصوير والمونتاج والإخراج. منذ عام 1987 أصبح مصوراً تلفزيونياً تسجيلياً محترفاً. سافر إلى أوروبا. عمل مع عدد من القنوات التلفزيونية العالمية منها التلفزيون البريطاني، قناة «زد دي إف» الألمانية، و «آرت تي» الفرنسية، «تي بي إس» اليابانية. ذهب إلى البوسنة والهرسك وعاش فيها من 1992 إلى 1997. كان شاهداً على فظاعة الحرب في كل من رواندا والشيشان، الصومال وجنوب السودان، سيرلانكا وأفغانستان والبوسنة، فلسطين، لبنان، العراق وإيران... صنع عدداً من القصص الإخبارية والتسجيلية حول الخسائر البشرية والمادية والمعاناة الإنسانية جراء الحروب. حصل على عدد من الجوائز العالمية. من أعماله: «بغداد» 2004، «المقابر الجماعية في العراق» 2003، «إدمان المخدرات في الكويت» 2002، «الحج إلى مكة» 2001، «ثلاث نساء ألمانيات» 2001، «نجيب محفوظ» 1999، «بداية الحرب في كوسوفو» 1998، «العبودية في السودان»، «الحرب الأفغانية ضد مزار شريف» 1996. إصابة إبراهيم البطوط بطلق ناري على أيدي قوات البوليس المصري أثناء قيامه بالتصوير في عام 1988 وضعته وجهاً لوجه أمام قوة الصورة وخطورة ما تصنعه، وجعلته يستعيد من بئر الطفولة صور الحرب النابضة بالألم. تولدت لديه رغبة قوية في معرفة الأسباب التي تدفع الشعوب إلى التورط في الحروب. تلك الرغبة شكلت نقطة جوهرية في قطار حياته إذ قادته إلى مساره المهني، فقام بتغطية 12 حرباً، كانت حرب البوسنة أكثرها خطورة. هناك أُصيب للمرة الثانية. منذ البداية آمن البطوط بأن الصورة ستلعب دوراً في تغيير العالم، وفي إنهاء الحروب. ظل يُرسل إلى العالم صور القتلى والجرحى والدمار الذي صنعته الحروب منذ عام 1992 حتى 1995 لكن لم يتحرك أحد، ففقد ذلك اليقين. أدرك أن الدائرة اكتملت، إنه يُخاطر بحياته من أجل لا شيء، فقرر العودة إلى الوطن. وصل المخرج الشاب إلى قناعة بأن المعاناة الإنسانية تتشابه في كل مكان، وأن «الكناس» الذي يظل طوال النهار ظهره محنياً لا يحصل إلا على 200 جنيه ويُعاني من مئات الأمراض، وحول عنقه تلتف مسؤولية أسرة يحاول السعي للإنفاق عليها، فيقف في الإشارات ينظر إلى الناس ربما منحوه اثنين من الجنيهات وربما امتنعوا. معاناة ذلك الرجل لا تقل عن معاناة تلك المرأة بطلة فيلم «جربافتسيا» التي تم اغتصابها في حرب البوسنة والهرسك. ربما يكون حنين إبراهيم إلى خوض تجربة السينما الروائية هو ما أسهم في تشكيل رؤيته بأن لغة الفيلم الوثائقي لم تعد تُؤثر في الجمهور، بأن عليه البحث لاكتشاف لغة اخرى تساعده على التواصل مع الناس ومشاركتهم أفكاره. أدرك أن صيغة الفيلم الروائي ستمنحه مساحة من الحرية أكبر، فقرر تنحية العمل التسجيلي جانباً - موقتاً - والاتجاه إلى الأسلوب الروائي. وكانت النتيجة فيلمه البديع «إيثاكي». إيثاكي يدور الفيلم حول مجموعة من «الإيثاكات»: «إيثاكي»، الرحلة الطويلة للبطل الأسطوري «أوليسيوس» التي كان يجب أن تنتهي في أيام لكنها دامت سنين طويلة قبل أن يعود إلى وطنه وزوجته بعد انتهاء حرب طروادة. و «إيثاكي» قصيدة الشاعر اليوناني كونستانتين كافافي الذي سكن في مدينة الإسكندرية وقال فيها: «عندما تتهيأ للرحيل إلى إيثاكي تمنّ أن يكون الطريق طويلاً... حافلاً بالمغامرات عامراً بالمعرفة... لا تخشَ الليستريجونات والسيكولوبات، ولا بوزايدون رمز البحر الهائج، لن تجد أبداً أياً من هؤلاء في طريقك إن بقي فكرك سامياً، إن مست عاطفة نبيلة روحك وجسدك». أما «إيثاكي» الثالثة فهي رحلة المخرج إبراهيم البطوط وتجربته الذاتية التي استوحى منها فكرة فيلمه. ثم مجموعة أخرى من «الإيثاكات» لشخصيات حقيقية تعرف إليها المؤلف وأخرى ربطت بينه وبينها صداقة. يدعونا «إيثاكي» (الفيلم) ألا نكتفي برؤية الأشياء من حولنا بل أن نحس بها، أن نكتشف طاقة الحياة والحب الموجودة في داخلنا بإزالة التراب من فوقها. فالطريق إلى «إيثاكي» لا بد من أن ينبع من داخلنا حتى نستمر. والأهم من ذلك أن نستمتع بالرحلة الممتدة، فالجمال والمتعة الحقيقية ليسا في الهدف بل في السبيل الى ذلك الهدف. لم يعتمد الفيلم في نسيجه على البناء التقليدي للحبكة، لم يكن هناك سيناريو مكتوب. فقط شخصيات لها ملامح عامة في ذهن مبدع العمل وحده، وحوار كتبته «مريم ناعوم» بعد نقاش مع المؤلف. تجربة تقترب من روح الارتجال، فيها قدر كبير من المخاطرة إن لم يكن ذهن مخرجها حاضراً بصفة مستمرة. في أولى تجاربه الروائية كشف البطوط عن قدرته الإبداعية في اختيار المعادل البصري والجمالي لموضوعه الشعري، وفي اعتماده كثيراً على اللقطات الطويلة الملائمة لطبيعة «إيثاكي»، في اختيار وتوجيه الممثلين حتى لو كانوا من الهواة، في تعاونه مع مؤلف موسيقي مبدع هو أمير خلف، في قدرته على القفز فوق الصعاب وتحقيق فيلم ممتع بعيداً من السينما السائدة ومن دون موازنة تُذكر. 26 ثانية في باكستان يحكي الفيلم التسجيلي «26 ثانية في باكستان « - 18 دقيقة - عن اللحظات القصيرة التي تقلب حياتنا رأساً على عقب، عن زلزال ضرب باكستان كانت مدته 26 ثانية... 26 ثانية فقط قُتل خلالها مئة ألف وجُرح أكثر منهم، 26 ثانية تركت ثلاثة ملايين مشرد، على رغم كل ذلك لم تنل هذه الـ 26 ثانية من روح الشعب الباكستاني. الفيلم مملوء بالأنين وبالشجن، لكنه أيضاً مفعم بالأمل، بروح التحدي والصمود. في لقطات سريعة تنتقل الكاميرا بين فتاة مصابة تبكي في لوعة فراق ذويها، وطيارة تحلق في السماء تحمل المصابين، بين «عربة كارو» تحمل الجثث المتعفنة، وإناس يضعون الكمامات لئلا تصلهم رائحة الموت في كل مكان، بين رجال يُكسرون أحجار الجدران المنهارة، وآخرين يبحثون تحت الأنقاض عن أموات وربما عن أحياء. يتكون نسيج الفيلم من سلسلة لقاءات مكثفة مع عدد من نساء باكستان. اعتمد المخرج على فكرة أن يكون الفيلم بمثابة جلسة علاج نفسي لهؤلاء النسوة. ترك لهن مساحة من البوح. ساعدته في ذلك أسماء بشير التي تعمل في الدعم النفسي والاجتماعي في الهلال الأحمر التركي. نعمة فتاة دُفنت هي وأسرتها تحت الأنقاض. كانت تشعر بالناس وهم يسيرون فوقها. أخرجت إصبعها وحركته من تحت الأنقاض فأدرك المارة وجود إنسان حي مدفون فاستخرجوها هي وعائلتها. تُوفي والداها وأُصيب أخوها. في البداية شعرت بالغضب الشديد وتساءلت كيف يفعل الله ذلك ويأخذ منها والديها؟ لكن بعد جلسات نفسية عدة أدركت نعمة نجاتها، وأنها ليست الوحيدة التي تمر بهذه المحنة القاسية. أكثر من أي وقت مضى شعرت بالرغبة في مساعدة الآخرين. ذكاء المخرج وإدراكه طبـيـعة النـساء قـاداه إلى تحطيم الحـاجـز النفـسي بين هؤلاء النسوة وبين الكاميرا، وذلك من خلال توظيـف وجود «أسماء». حكت لهن عن معاناتها وسألت عن آلامهن فانسابت الأحاديث صادقة متدفقة كالشلال. نساء وأطفال ورجال لم يجربوا من قبل الإقامة في الخيام، لكنها أصبحت مصيرهم المحتوم. سيزداد الوضع صعوبة مع قدوم الشتاء وبـرده الوشيـك وسقـوط الأمطار. مات بعضهم في الزلزال وربما يموت البـاقون من البرد القارس. سيكون الأمر غايـة في الصعـوبة وسيقع معظمهم فريسة للأمـراض. على رغم كل ذلك استمروا في نـصب الخـيـام ومـواصـلة الحـيـاة وإقـامة حفلات الزفاف. إنها إرادة الحياة تقهر قوة الموت. أجمل ما في الفيلم أنه يمنحنا فرصة الاقتراب من أعماق هؤلاء الضحايا. كان «إبراهيم» مخرج الفيلم ومصوره مثل القناص المحترف. قناص يُقيم علاقة عشق خاصة مع أدواته، مع الكاميرا التي يحملها بين جناحيه، مع الطبيعة من حوله، قناص للمشاعر الحقيقية واللحظات الإنسانية التي تكشف سراديب النفس البشرية. اهتم بالإشارات الجسدية الكاشفة، بلمسة الأيدي المتضامنة، بنظرات العيون على اختلافها، خصوصاً عيني تلك الطفلة ذات السنوات المعدودة. عيناها الشاردتان تحدقان في عين الكاميرا، بينما أناملها تتحرك في رقة وشرود فوق يدي الأم. يا لها من لقطة بديعة. تُرى بم كانت تُفكر هذه الطفلة؟! هل كانت تفكر في الدور الذي يلعبه هذا الفيلم في تحريك ضمير الشعوب، وفي تغيير مصيرها هي وعائلتها؟! أم أنها تُدرك ببراءتها الفطرية أن الناس حينما يرونها سيقولون بحزن شديد: «إنه لشيء رهيب ومؤلم»، ثم يواصلون تناول العشاء! الحياة اللندنية في 3 نوفمبر 2006
بسكنتا (جبل لبنان) - إبراهيم توتونجي «كان الثلج يغطي المكان ويعكس أشعة الشمس على وجه مارون. كانت الحماسة تملأه لإنجاز الفيلم، ولم يتوان عن سؤال أي كان، حتى الاشجار والصخور، عن ذكرياتها مع الأديب». يقف نبيل نعيمة الى جانب وجه عملاق لعمه الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1988) منحوت في الصخر، ويعود بذاكرته الى العام 1978، حين كانت ضيعة بسكنتا، مسقط رأس الأديب، تحتفل بمرور تسعين سنة على مولده: «كان المخرج الراحل مارون بغدادي كلف رسمياً من الرئيس الياس سركيس توليف فيلم تسجيلي عن حياة عمي الاديب، حمل اسم «تسعون». عرض الفيلم في المهرجان التكريمي بحضور الرئيس ومن ضمن فعاليات عدة، ونال استحساناً واسعاً. لم نعرف شيئاً عن الفيلم من وقتها». يقول نعيمة إنه في صدد التحضير لتجهيز ما يشبه المتحف الذي يجمع أشياء صاحب «مرداد» و «دروب» و«أبعد من موسكو وواشنطن» ونسخ من كتبه المترجمة الى لغات عدة من بينها الصينية والاندونيسية، الا أنه عمل جاهداً على الاتصال بالجهات كافة التي توقع وجود نسخة من فيلم بغدادي لديها، من دون جدوى: «اختفى الفيلم. أتمنى ممن في حوزتهم نسخة عنه أو معلومات ان يبادورا الى التواصل معنا، حفاظاً على ارث الأديب وذكراه، وكذلك المخرج الراحل». وكان بغدادي، الذي اشتهر بسلسلة أفلام روائية وتسجيلية عن الحرب اللبنانية، نفذ الفيلم عن نعيمة في حياته، مستفيداً من شهادته الحية على أحداث سيرته الزاخرة منذ أن ترك قريته الى روسيا (1905-1911) ومن ثم الى الولايات المتحدة، حيث حصل على جنسيتها وبرز اسمه كأحد أعضاء الرابطة القلمية وأبرز وجوه كتاب المهجر الذين تصدرهم الأديب جبران خليل جبران. ولبغدادي أفلام تسجيلية أخرى حققها في المرحلة ذاتها، خلال الحرب اللبنانية، لا تزال محفوظة مثل «تحـــية الى كمال جنبلاط» و «الصمود علـــى لسان الصامدين وفي اغانيهم وحياتهم اليومية» و «بيروت المدمرة» و «الجنوب بخير، ماذا عنك؟». الحياة اللندنية في 3 نوفمبر 2006 |
عن البطولة والصورة والحرب في جديد كلينت إيستوود «رايات آبائنا» ... جنود دمرتهم النجومية وعدو ينتظر الفيلم المقبل إبراهيم العريس الحكاية، في البدء، حكاية صورة. هي صورة من أشهر ما التقطه المصورون خلال الحرب العالمية الثانية. مشغولة بعناية. مشهدها يحمل قيمة فنية لا تضاهى. ومع هذا لم تكن هذه القيمة الفنية ما أعطى الصورة شهرتها، في التاريخ الأميركي الحديث خصوصاً، وفي العالم، بل دلالتها الوطنية التي زاد من أهميتها حسن استخدام السلطات المعنية لها. وقبل الحديث عن هذا، لا بد من التذكير بالصورة نفسها: إنها تلك التي تمثل قبضة من جنود أميركيين يرفعون فوق قمة جبل أجرد، في مكان ما من جنوب شرقي آسيا، راية الولايات المتحدة وسط ما يبدو انه عصف ريح شديد. هذه الصورة اشتهرت خلال الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية، كما اشتهر اسم ملتقطها جو روزنتال، الذي نال عليها، في ذلك الحين جائزة «بوليتزر» لأفضل صورة صحافية. ومن حينه والصورة معلقة في ملايين البيوت الأميركية وقد أضحت أيقونة حقيقية من النوع الذي لا يعود أحد يسأل عن حقيقته وعن ظروف ولادته. وكان يمكن هذه «المسلّمة» أن تبقى هكذا، لولا ان الممثل (السابق؟) والمخرج الأميركي المبدع – منذ عقود – كلينت إيستوود رأى ذات يوم أن في إمكان هذه الصورة أن تكون أساساً لفيلم كبير. وبالفعل، أعوام قليلة بعد ولادة الفكرة لديه، ها هو الفيلم صار حقيقة وبدأ يعرض في مدن كثيرة باسم «رايات آبائنا». بل ان الفيلم صار فيلمين في الحقيقة، ذلك ان ثمة جزءاً ثانياً مكملاً له، ستبدأ عروضه أوائل العام المقبل في عنوان «رسائل من أيوجيما»... ومنذ البداية يمكننا، طبعاً، ان نتصور اننا هنا في ازاء فيلم حربي، يتحدث عن فصل من فصول تلك المذبحة المرعبة التي دارت خلال النصف الأول من أربعينات القرن العشرين في كل مكان من العالم تقريباً. والتصور، طبعاً في محله... لكن الحرب نفسها ليست كل ما في هذا الفيلم الذي نعرف الآن انه جزء أساس من مشروع شديد الطموح. فكلينت ايستوود، راعي البقر والمفتش التحري القاسي السابق، منذ بدأ يخوض الاخراج السينمائي – ما أوصله طبعاً الى أوسكار أحسن مخرج قبل عامين عن رائعته «طفلة بمليون دولار» -، آلى على نفسه ألا يقدم مواضيع عادية. وهو ما يفعله هذه المرة أيضاً. ومن هنا فإن «رايات آبائنا» يتجاوز مسألة كونه فيلماً عن الحرب، ليطرح، وسط التباسات قد لا تكون شديدة الحدة، مجموعة من المسائل التي تشغل بال كل فنان صادق ومجتهد: مسألة النجومية، مسألة الحرب، مسألة مصير أبطال الحروب بعد انقضائها... ثم، أخيراً وخصوصاً، مسألة الصورة نفسها. ولنبدأ هنا من هذه المسألة الأخيرة. صدقية صورة السؤال الأول الذي يتبادر الى الذهن هنا هو الآتي: هل هذه الصورة حقيقية أم مركبة – ناتجة من «ميزانسين» رسم بعناية ونفذ بدقة -؟ هنا لا يجيب ايستوود بصراحة، إذ يصل الالتباس لديه الى مستوى لم يعرفه عالم الدلالات في أي فيلم من أفلامه السابقة. لكن سياق الفيلم والطريقة التي وظفت بها الصورة، رسمياً، يفتحان الباب واسعاً على الاحتمالات كافة. ونحن نعرف ان السنوات الأخيرة، جاءت بالكثير من ضروب إعادة النظر في لغة الصورة ومفهومها وصدقيتها... والمثال الأفصح على هذا كان في فرنسا حيث من بعد ما كان الناس جميعاً يؤمنون لعقود طويلة بأن صورة دوانو الشهيرة «القبلة» صورة التقطها الفرنسي الشهير في باحة بلدية باريس، لعاشقين يتبادلان قبلة حقيقية احتفالاً بانتهاء الحرب، انكشف لاحقاً ان الصورة مركبة، وان العاشقين ممثلان دفع لهما دوانو أجرهما ليقفا ويصورهما! في «رايات آبائنا» ثمة، إذاً، اقتراح من هذا النوع، اقتراح يوحي بأن الصورة، في الأصل مركبة، صنعت أصلاً، وبالأسلوب الفني الرائع الذي حققت به كي يمكن استخدامها دعائياً، من ناحية لرفع المعنويات العامة، ومن ناحية ثانية، لجمع التبرعات من أجل المجهود الحربي. ليس ثمة، في الفيلم، تشديد واضح على هذا – فـ «رايات آبائنا» يلعب أساساً على الالتباس -، لكن فيه، في المقابل، استخدام اللوحة (التي طبعت في ملايين النسخ ووزعت في كل البيوت) وفي رفقتها ثلاثة من الجنود الظاهرين فيها وقد أعيدوا الى الوطن إثر تحولهم، بفضل الصورة، أبطالاً قوميين من الباب الرفيع. يومها طلبت حكومة روزفلت من الجنود الثلاثة ان يقوموا بجولات جمع التبرعات، بحيث كان في وسع الشعب الأميركي ان يرى عن كثب أولئك الأبطال بفضل مئات اللقاءات التي حولتهم نجوماً... لكنها في الوقت نفسه نسفت حياتهم بأقصى مما فعلت الحرب نفسها برفاقهم الثلاثة الآخرين الذين كانوا أبقوا في الجبهة. مصير جنود نعرف الآن ان كلينت ايستوود، الذي بنى فيلمه انطلاقاً من الصورة، استند في السيناريو الى نص وضعه ابن واحد من الجنود – النجوم الثلاثة، جون برادلي، عما كان أبوه قد رواه له... والكتاب أتى ليروي، كما الفيلم لاحقاً، فصول حياة و «مغامرة» ذلك الأب ورفاقه. ومن هنا ينقسم العمل كله قسمين: قسم يدور داخل معركة ايوجيما نفسها، وقسم يدور في الأراضي الأميركية من حول جولات الجنود والصورة وجمع التبرعات والدمار النهائي لحياة كل واحد من الثلاثة. ولئن جاء هذا القسم الأخير قاسياً، اتهامياً كما كان في زمنه فيلم «أجمل سنوات حياتنا» لويليام وايلر عن بؤس الجنود العائدين بعد انتصاراتهم ليجدوا حياتهم وقد تدمرت، جاء القسم الآخر، القسم الحربي حماسياً بطولياً من النوع المعتاد في هذا الصنف السينمائي، والذي كان سبيلبرغ أوصله الى ذروته في «إنقاذ المجند رايان». وهذا القسم، كما يمكننا ان نخمن، يتحدث عن تلك المعركة العنيفة التي دارت بين المهاجمين الأميركيين، والمدافعين اليابانيين، على أرض جزيرة ايوجيما اليابانية البركانية القاحلة بغية السيطرة على موقعها الاستراتيجي. وتاريخياً معروف ان الهجوم نجح في النهاية، ما مهد لغزو اليابان، ولذا ليس ثمة هنا مفاجآت على رغم عنصر التشويق والتقنية الرقمية العالية التي استخدمها ايستوود في الفيلم. المفاجأة الوحيدة في هذا القسم هي من نوع آخر: مشاهد المعارك والهجوم والانتصار، لا نرى فيها سوى الجنود الأميركيين. أما الأعداء اليابانيون فلا نراهم على رغم ان عددهم يتجاوز 22 ألف جندي وضابط. وهذا طبيعي في منطق الفيلم: اليابانيون المدافعون عن الجزيرة، كانوا مرابطين في أغوار الأرض، داخل أنفاق ومغاور وكهوف، وذلك تبعاً لاستراتيجية دفاعية مدهشة رسمها قائدهم الجنرال كوريباياشي. وهنا، مهلاً، قبل أن نتهم كلينت إيستوود بعنصرية تجعله يتجاهل وجود العدو لمصلحة الحضور الكلي للأميركيين، علينا أن نتذكر ما قلناه أول هذا الكلام من أن ثمة فيلماً آخر، يكمل «رايات آبائنا» سيبدأ عرضه بعد أسابيع قليلة. وهذا الفيلم هو «رسائل من ايوجيما»، ولطمأنة محبي التوازن نسارع الى القول ان هذا الجزء يدور كله في صفوف اليابانيين المدافعين، ذلك انه مأخوذ من كتاب آخر يحمل العنوان نفسه ويسجل الأحداث من وجهة نظر الجنرال الياباني الذي كان معروفاً ككاتب وشاعر ورسام، إضافة الى براعته العسكرية. وهكذا، إذاً، بدلاً من أن يقيم كلينت إيستوود المجابهة العسكرية داخل فيلم واحد، خص كلاً من الطرفين بفيلم يعبر عن نظرته الى الحرب. وطبعاً لا يمكننا منذ الآن، إذ لم نشاهد سوى فيلم واحد من الاثنين، أن نحكم في شكل قاطع على نظرة إيستوود الى الحرب. غير اننا، بالاستناد الى «رايات آبائنا» وقدرته – المضمنة غالباً – على تمجيد الحرب في الوقت نفسه الذي يسخر من سوء استخدام السلطة لابطالها، ويعبر فيه بمرارة عن ان الذين يحققون النصر هم دائماً من يدفع الثمن، يمكننا ان نفترض ان الروح الاجمالية للثنائي السينمائي هذا («رايات آبائنا» و «رسائل من ايوجيما») ستكون مناهضة للحرب، هذه الحرب التي نبه كلينت ايستوود، خلال مؤتمر صحافي عقده من حول فيلمه أخيراً الى عبثيتها، إذ قال في معرض حديثه عن عبثية كل الحروب وإمعانه، المُلتبس على أية حال، في تفكيك المثال الأعلى البطولي لكل حرب: «ان الناس يحاولون، في الحروب، قتل بعضهم بعضاً، وهم أنفسهم – في ظروف أخرى – كان يمكنهم ان يكونوا أصدقاء حقيقيين لبعضهم بعضاً». في أي تجاه؟ طبعاً سنعود لنقول هنا ان هذا الجانب العقلاني، من تفكير كلينت إيستوود حول مفهوم الحرب، قد يجد نسفاً كلياً له في مشاهد المعارك، لكنه سيظل حاضراً في الذهن لاحقاً ولا سيما حين يفرغ المرء من مشاهدة الفيلم والتحسر على مصير «أبطاله»، الهندي منهم الذي مات قهراً وهو يمضي وقته في إدمان المشروبات، والآخر الذي على رغم وسامته فشل في تحقيق حلم هوليوودي كان يسعى اليه، والثالث الذي مات شاباً معدماً من دون أن تشفع له نجوميته. في النهاية قد يتساءل المرء: أين الالتباس في هذا كله؟ والجواب بسيط، ان الفيلم كما يشاهد سيقول لنا في النهاية ان هؤلاء الجنود، انما سقطوا ضحايا نجوميتهم والصورة، أكثر مما سقطوا ضحايا للحرب والقتال. وفي هذا التأكيد وحده، ما فيه من دفع الى التفكير... ولكن في أي اتجاه؟ الحياة اللندنية في 3 نوفمبر 2006
سيناريو لمشروع فيلم لبازوليني لم ينجزه أبداً ... «الأب المتوحش»: فرصة ضائعة للمصالحة الأوروبية مع افريقيا روما – موسى الخميسي نشرت مجلة «آداب» الإيطالية في عددها الأخير مقالاً عن موضوع وسيناريو فيلم» الاب المتوحش» الذي كتبه الشاعر والسينمائي والفنان التشكيلي والروائي الراحل بيير باولو بازوليني عام 1964، بعد رحلة قام بها الى عدد من دول افريقيا للبحث عن اماكن يمكن فيها تصوير الفيلم، كما يتيح بازوليني لنفسه خلق مقارنة عالم أفكاره الافلاطونية بالواقع المأسوي الذي تعيشه افريقيا. كانت المسألة بالنسبة إليه بحسب يومياته التي كتبها «خبرة غير عادية». الا ان من المؤسف عدم انجاز هذا المشروع السينمائي، بسبب ادعاء الجهات المسؤولة آنذاك بأن الفيلم لن يحقق مهمات ثقافية وفنية ضرورية، إضافة كما تقول رسالة من تلك الجهات بأن الفيلم لا يمكن تحقيقه لأن الشخصيات الافريقية لا يمكنها ان تخلق واقعاً للتفاهم مع الممثلين الايطاليين. في الوقت الذي كان فيه هذا الفنان المبدع يتحسس اشكالات الدول النامية، وبعد ان قام بترجمة اشعار الشاعر والرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنغار الى الإيطالية، تجلى لبازوليني الصراع بين شعوب المنطقة والبيض الذين يجاهدون في اخفاء زيفهم حول نقل الثقافة الغربية للافارقة. تبدأ حكاية الفيلم بوجود شاب افريقي قادم من إحدى القرى الافريقية النائية التي تهيمن عليها سلطة رئيس القبيلة. يصل هذا الشاب القروي الى عاصمة احدى الدول الافريقية المتحررة حديثاً لمواصلة دراسته، يصادف ان يكون في المدرسة مدرس» ابيض» يحمل اهتمامات غير عادية، وهو ذو شخصية قوية، رياضي، في الثلاثين من عمره، من شبيبة ستينات القرن العشرين اليسارية المفعمة بحيوية الفكر. كثير القلق حين يبدأ يومه الاول في المدرسة، في تجربة مميزة مع طلبة أفارقة غرباء عنه. يلفت نظره اسم الشاب «دافيسون» القادم من إحدى القرى النائية والذين تبلورت ثقافتهم تحت تأثير الامتثال الذي لقنه لهم المدرسون المستعمرون، ووعودهم عن سلسلة معارف تاريخية ونفسية زائفة، من اجل تحقيق سلطة تتطلب هي الأخرى الخضوع السلبي. هكذا يرى المدرس الشاب نفسه في مواجهة «دونكيشوتية فكرية» لشاب مملوء بالأفكار الجديدة، والمشاريع المتقدمة ضمن رؤية معادية لكل تسلط. معنى القصيدة يكرس الجزء الأول من السيناريو للصراع المكشوف بين الطلبة ومدرسهم، فهذا الأخير يقضي وقتاً طويلاً في بداية الأمر لحمل تلاميذه على ان يعتادوا الشعور بأنهم «احرار» وأن بلادهم «حرة»، فلماذا يتوجب عليهم الاستمرار في الشعور بالدونية والسلبية؟ لماذا عليهم الانغلاق وعدم الصراحة الى حد يحتفظون لأنفسهم فقط بالأسرار الخاصة، وبقلق يغلف مواجهتهم للعالم الذي يحيطهم من كل مكان؟ تصل المواجهة الى ذروتها بين الأستاذ وتلامذته حين يطلب منهم كتابة موضوع يصفون فيه قراهم او مدنهم، وهنا يعجزون عن وصف شيء ما سوى الزرائب مما يدفع المدرس الى الغضب، الأمر الذي يدفع «دافيسون» الذي يعاني منذ صغره صعوبة التعلم، الى الهرب من الصف متوجهاً الى أحد البيوت حيث توجد «روزا» الخادمة السوداء التي تمارس الى جانب عملها بالخدمة، قطع الأشجار. يتعرف دافيسون إلى هذه الفتاة المتحدرة من قبيلته، فهو يفهم سر احزانها، وكثيراً ما يدهشه فيها حديثها العذب، والذي يتجه نحو دفعه للتعلم والكتابة، فيكتب في يوم من الأيام الموضوع الذي طلبه المدرس بأسلوب بعيد عما اعتاد عليه في السابق، يكتب بعيداً من السحر وطقوسه، مقترباً من واقعية الوصف، مستمدها من رحلة افريقية استثنائية ذات اصول طقوسية خاصة بقبيلته، حيث جرت العادة ان يقوم مراهقو البلدة بعرض رجولتهم امام الجمهور، وذلك في محاولة صيد الأسد. حين يعود من جديد الى مدرسته ليقرأ ما كتبه امام المدرس يشعر الأخير بفرح عامر وكأن ما كتبه دافيسون قصيدة شعرية. من تلك اللحظة يساور دافيسون الفضول لمعرفة معنى هذه الكلمة «قصيدة» مع أمل حميم بأن يساهم في زهو مع العالم المتمدن الذي يمتلكه مدرسه. من طريق الصدفة يقابل في أحد الأيام أستاذه في أحد الشوارع ويسأله بثقة لا توفرها أجواء المدرسة عن معنى كلمة «قصيدة»؟ وكيف يمكن ان يكون المرء شاعراً؟ يبتسم المدرس بنشوة ويشير الى الفتاة الخادمة روزا التي كانت ترافقه بأن تجيبه، وبخجل تبتسم روزا وتقوم برقصة محلية مشيرة بعذوبة ووحشية الى جسدها المهتز لتقول: هذه هي القصيدة! ذات مساء يجتمع خليط من بيض وهنود وعرب في مقهى مملوء بالزبائن الصاخبين، بين هؤلاء يتقابل ثانية دافيسون وزملاؤه والأستاذ، وهي المرة الأولى التي يلتقون فيها في محيط خاص بعيداً من المدرسة، ويرافق المدرس بعض زملائه فيدخلون جميعاً الى احدى الغرف لتناول الشراب حيث تقوم بخدمتهم فتاة سوداء كثيرة المرح، ووسط الضوضاء ورنين الكؤوس لا يتمكن دافيسون من ان يصغي لأستاذه عندما يدعو للجلسة بعض الشابات، يغتاظ دافيسون فيصرخ ناسياً خجله رافضاً هذه الفوضى. وهكذا يودع الأستاذ الجميع تاركاً إياهم وسط حالة من الفوضى. في مشهد آخر نرى دافيسون يتحدث الى روزا وشعور عارم يجتاحه بمحبتها. ايام الدراسة الأخيرة تمضي وسط صراع وسقوط. لقد استطاع المدرس ان يؤسس نوعاً من «مركز ثقافي» لطلابه، تمكنوا فيه من مناقشة مشكلاتهم بالثقة العالية بالنفس والسلطة الذاتية... الخ. ولكن من جهة اخرى فان آمال المدرس التي كان يحلم بتحقيقها لم تتجسد. مهمة مستحيلة يكشف سيناريو مشروع الفيلم طبيعة المجابهة المستجدة بين السلطة الوطنية الجديدة وبقايا المخلفات والوسائل الملتوية للاستعمار الجديد. وعلى كل حال فاليوم الأخير من السنة الدراسية لم يكن سعيداً في حياة المدرس وهو يرى دافيسون متجهاً صوب الغابة الموحشة، حيث تبدأ رحلته التي يتطلع بوضوح فيها الى حقيقة اوضاع بلده ثم يبدأ صراع جديد بين دافيسون ووالده، صراع غامض في حقيقة غاياته، اذ يتصاعد عند الأب ظمأ قديم للحروب خلقته حقبة بعيدة تمتد الى اسلافه، ولم يكن موضوع حقده لا البيض ولا رؤساء الحكومات الجديدة انما هو حقد دفين تجاه قبيلة كان بينه وبينها صراع قديم لذا نراه وبلا مبرر واضح يساعد الحكومة في ملاحقة «الثوار» مهيئاً قبيلته للحرب. يرجع المدرس مرة ثانية لمتابعة المهمة ذاتها من دون حافز فيحس بأن مهمته مستحيلة وعمله ليس سوى عمل جماعي ابوي، ولا يجد اي قيمة لأفكاره امام شبيبة تتقاذفها حالات معقدة بهذا الشكل على المستوى النفسي والاجتماعي، وبدخوله الصف يشاهد حالة غير منتظرة اذ يتدافع لعناقه التلاميذ وكأنه صديقهم الكبير، فالحرية التي تعلموها تبدو وقد ترسخت فيهم، انهم نهمون لفضول حر وفوراً يبدأون الحوار، ما يفرح المدرس. لكن دافيسون يبدو منغلقاً صامتاً في عينيه التماس ورغبة بالحنان والمساعدة. حركاته آلية وكأنه خارج نطاق الحياة. يحس مدرسه بذلك وبأن قلق دافيسون نابع من شعور بالقهر وشعور بالضيق يمنعه من ان يرى جيداً ما حوله، فيحاول المدرّس عمل شيء ويبدأ بمحاولة التعرف إلى حالة دافيسون الاجتماعية من خلال اصدقائه وبعدها يفكر بموضوع العلاقة التي تربطه بالشابة روزا، فيسألها عن أحوال دافيسون وتجيبه بصيغة عمومية ليست ذات نفع. واخيراً يذهب الى حيث ينام دافيسون ويوهمه بأنه اطلع على كل شيء، وهنا يرتعب دافيسون، ويشعر بأفكار قلقة وشعور بالذنب ما يدفعه لأن يحتدم ويهم بضرب أستاذه، وبعدها يهرب الى الخارج نحو الطرق المملوءة بالأمل التي شهدت ولادته تحت وطأة التناقضات الثقافية والافكار الغربية، الطرق التي شهدت احتفالاتهم بيوم التحرير، الطرق التي عبرها مع اصدقائه البيض والمؤدية الى المدينة الجديدة. كوحش جريح يهرب دافيسون باتجاه البيوت المهجورة المحترقة التي تضم اجناساً متنوعة يلازمه الشعور بالدونية وفجأة يحس في داخله بموسيقى لكلمة ما ثم... اخرى واخيراً تولد القصيدة التي غزته من الداخل فظلت تتحول ببطء الى ان جاء مخاضها مكتملاً ومفاجئاً. وفي كلماتها «الخيال» الذي تحركه الغابات والارواح التي تسكنها وهكذا تبدأ الطيور تغني والناس تتحرك فثمة عائلة فرحة مع اطفالها وثمة روزا ترقص ضاحكة. واخيراً يتحول الخيال الى قصيدة تتحرر ذاتياً من دافيسون. في اليوم التالي يطالب الأستاذ بموضوعة جديدة وعندها يتجاوز دافيسون خجله المتوحش ويقرأ قصيدته. انها ليست من تلك القصائد الفنتازية، لكنها تنطلق من بواعث عميقة وسرية ذات أساس عقلي، يملأها الغموض، وصور الطقوس الدينية الأفريقية، العالم الخارجي الذي لا يستوجب عليه ان يفصل بين الدين والتقدم، حين ينهي قصيدته ينتابه الخجل فيهرب الى غرفته، وبعد ان ينهي المدرس حصته يذهب فيلقى دافيسون مع روزا التي تسقط على العتبة خجلاً وعندها يرفع دافيسون عينيه مرتعداً حين يرى مدرسه يدخل. وفي المساء يتجول مع رفاقه ويذهب لزيارة روزا متجاهلاً الحدث. وهكذا تمر سطور اخرى في رأسه ولكنها الآن اكثر إنسانية أثمر فيها أمل اشد صفاء، انها حلم الأشياء لمستقبل مضطرب، ولكنه سعيد إذ في إمكانه ان يعيد الى وجه الفتى الأسود المكتئب ابتسامة خفيفة بيضاء. الحياة اللندنية في 3 نوفمبر 2006
|
أول أميركية جنوبية رشحت للأوسكار تنهال عليها عروض هوليوود... كاتالينا ساندينو مورينو لـ«الحياة»: وداعاً فقر كولومبيا باريس - نبيل مسعد |