كيف كان يمكن أسرة انكليزية من طبقة عليا أن تعيش الأسبوع الذي شهد وتلا مقتل مطلقة الابن الأكبر لهذه الأسرة في حادث سير سرعان ما يتبين ان عشيقها الجديد قتل معها فيه؟ إذا نسينا حين نشاهد فيلم «الملكة» لستيفن فريرز، أن ربة الأسرة هي ملكة بريطانيا العظمة، وربّها، زوج السيدة الملكة، يمكننا أن نجيب بسهولة على السؤال: كان من شأن هذه الأسرة ان تعيشه تماماً كما عاشته الأسرة المالكة، بحسب سيناريو بيتر مورغان وإخراج فريرز، وسط كثير من الارتباك وعزة النفس. فالأسرة في الفيلم فضّلت، أول الأمر، الابتعاد عن المكان والتوجه في نزهة خلوية طالما ان المطلقة هنا، أي الأميرة ديانا، لم تعد فرداً من الأسرة. لكن المشكلة تبدأ في الفيلم وفي الحياة العادية، من الكلمة التي تلي تماماً كلمة «الأسرة» الواردة في السطر السابق: ... المالكة. فحين تستنكر الملكة اليزابيث في الفيلم أن يكون من الضروري انضمام الأسرة الى الشعب والحكومة في الاحتفال بدفن ديانا والحداد عليها، تصر الملكة على ان هذه الأخيرة لم تعد واحدة من أفراد الأسرة المالكة.

ولكن، في تلك الأثناء يكون توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الطازج الآتي من «النيولايبور» (أي حزب العمال الجديد)، الذي وجد نفسه آخر شهر آب (أغسطس)، أي بعد أسابيع قليلة من تسلمه الحكم، أمام معضلة سياسية – عائلية – قومية، يكون قد وصف ديانا بـ «أميرة الشعب» مستجيباً لحداد عشرات ملايين الانكليز ومئات ملايين الأفراد في العالم أجمع أمام هول كارثة أودت بحياة صبية كان الناس اعتادوا وجودها و... التسامح مع نزواتها، منذ سنوات.

الأسرة المالكة، ولا سيما إليزابيث الثانية وزوجها دوق أدنبرة، ما كان يمكنها ان تتسامح، فالمسألة ليست فقط مسألة عائلية، بل قضية كرامة سياسية.

كل هذا يشكل، طبعاً، جوهر هذا الفيلم الذي يتدفق الملايين لمشاهدته منذ بدء عرضه قبل أيام... وهو كله معروف وينتمي الى التاريخ المعاصر. لكن فريرز، الاستفزازي عادة، شاء إذ اقترب من هذا الحدث الفظيع وما ترتب عليه، شاء أن ينظر الى هذا التاريخ المعاصر من ثقب الباب. شاء أن يصور ما لم يره أحد يومها وبالكاد طرح الناس في حينها أسئلة من حوله: كيف عاشت إليزابيث وأهل البلاط كل تلك الأحداث المتعاقبة، في حياتهم الخاصة؟ كيف جرت تلك الأمور التي لا يعرف أحد شيئاً عنها؟

ومن هنا يشتغل الفيلم على مبدأ التلصص، مخاطباً رغبات المتفرجين، ليس في معرفة كيف جرى التاريخ الرسمي أو كيف يمكن تفسيره، بل في معرفة كيف كان يمكن أن يكون قد حدث على المقلب الآخر، هناك حيث لا يمكن عيناً أو أذناً أن تصل.

صراع الأسرتين

والحقيقة ان هذا ما أعطى فيلم «الملكة» قوته الاستثنائية ونقطة جاذبيته الأساسية. فهنا، حتى وإن كنا في قلب التاريخ، والتاريخ الذي يعرفه الكل عن ظهر قلب، فإننا أيضاً في قلب «الذي لا يوصف»، في داخل حميمية أهل بلاط باكنغهام المعاصرين لنا. بل أكثر من هذا في فيلم ستيفن فريرز الجديد ثمة حميميتان تنكشفان فجأة أمامنا: حميمية قصر باكنغهام وقصر الصيد الملكي في بالمورال، ثم حميمية بيت توني بلير، حيث ان الفيلم لا يصف فقط ما فعلته الملكة وظل خفياً، بل ايضاً ما عاشه بلير، الذي، على رغم عماليته، يصل به الأمر الى إنقاذ الملكة من نفسها... على الضد من رغبة زوجته شيري ذات النزعة الجمهورية.

للوهلة الأولى قد يبدو هذا كله وكأنه يضعنا في قلب دراما قصور من النوع الشكسبيري، وهو ما أشار اليه نقاد كثر تحدثوا عن الفيلم من هذا المنطلق، لكن الأصح من هذا هو أن الفيلم يبدو منتمياً أكثر الى عالم ماكيافيللي (ولنتذكر هنا، في المناسبة، ان ماكيافيللي لم يكتب «الأمير» فقط بل كتب مسرحيات عدة أيضاً). والماكيافيللية في هذا العمل القوي والاستثنائي تكاد تصف تصرفات بلير نفسه، في أول تجربة جادة له تتعلق بمسألة الحكم وإدارة الدولة، بعيداً من مبادئ نظرية كان المسؤول العمالي قد تعلمها واعتاد ممارسة بعض منها، قبل وصوله الى الحكم. وفي اعتقادنا ان هذه السمة في الفيلم هي ثاني أهم سمة فيه، بعد مسألة التلصص المدهش على الحياة الحميمة لآل وندسور (الأسرة المالكة) في التجابه مع أسرة سبنسر (أهل ديانا الذين لم يفوتهم ان يتهموا قصر باكنغهام بتدبير مؤامرة أدت الى مقتل ابنتهم).

في السمتين إذاً، نحن في قلب التاريخ، وفي قلب السينما إذ تكتشف قدرتها على التعامل مع هذا التاريخ. والأقوى من هذا، ان فيلم فريرز لا يتعامل مع هذا التاريخ في قالب تسجيلي (كما كان يمكن له أن يفعل لصعوبة التعامل الروائي مع أحداث طازجة، لكل من أبطالها سماته وشكله وسيكولوجيته المعروفة والراسخة عميقاً في ذهن الجمهور) بل يتعامل مع التاريخ في تحد كبير. إذ نعرف ان مثل هذا الفيلم كان يمكن له أن يفشل لو ان اختيار الممثلين، واللحظات المصورة، لم يكن دقيقاً. والمسألة هنا دقيقة تقنياً. ففيلم «الملكة» هو فيلم سيناريو في الدرجة الأولى، أكثر منه فيلم إخراج. وبالتالي هو فيلم يشتغل على مستوى الحوار والحركة المرسومين سلفاً ما يحتاج الى قدرات تمثيلية هائلة، ليس فقط من أجل إقناع الجمهور بـ «حقيقة ان هذا قد حدث فعلاً وعلى هذا النوع»، بل أكثر من هذا، بأن من نراه على الشاشة هو الملكة حقاً، وتوني بلير هنا، والأمير فيليب والأمير تشارلز هم أنفسهم حقاً. بالنسبة الى ديانا، اختار فريرز، طالما انها الغائبة – الحاضرة في الفيلم كله، الاستعانة مباشرة بمشاهد موثقة لها شخصياً. أما الآخرين فكان عليه ان يستعين بممثلين لا يكتفون بأن يشبهوا الشخصيات الحقيقية – وهو أمر مستحيل طبعاً – بل يتجاوزون هذا للتعبير عن الروح الداخلية للشخصيات الحقيقية. وفي يقيننا ان قوة فيلم «الملكة» الأساسية تكمن هنا. لقد وفق ستيفن فريرز بالنسبة الى كل الذين قاموا بالأدوار الأساسية في الفيلم، ولكن خصوصاً في اختياره هيلين ميرين لدور الملكة اليزابيث، ومايكل شين لدور توني بلير. فهما، أمام كامرا ستيفن فريرز القوية والسابرة لروح الشخصيات، تمكنا بعد دقائق تردد أولى، من اقناعنا بأننا حقاً أمام اليزابيث وبلير. بل – من دون أن نجازف بالمبالغة – شعر الجمهور أمام حضور كل منهما الطاغي، انه أمام أكثر من الملكة وأكثر من بلير: أمام ما كان يجب أن تكون عليه اليزابيث حقاً، وما كان يجب أن يكون عليه بلير!

التاريخ افتراضياً

قوة الاداء والاخراج ساعدا على هذا بالتأكيد. ولكن هناك أيضاً سيناريو بيتر مورغان، ثم الحوارات القوية – الشكسبيرية حقاً هنا – سواء جاءت عبر جمل ترمى هنا وهناك لتعبر عن مسالك هذه الشخصية أو تلك، أو تدور بين شخصيتين أو أكثر. من النماذج الدالة على النوع الأول، ما يقوله الأمير فيليب (الذي يكاد يكون أكثر شخصيات الفيلم إثارة للاشمئزاز) حين يدخل مدير البروتوكول ليخبر الملكة عن مقتل ديانا. ففيليب حين يسمع اسم ديانا هكذا عند الفجر، يقفز قائلاً: «ماذا... فعلت أيضاً هذه المرة؟». هذه العبارة إذ تأتي في هذا السياق، تكاد وحدها تقول الفيلم كله، وتقول موقف قصر باكنغهام مستفزة مشاعر المتفرجين. أما المثال الأروع على الحوارات الثنائية، فذلك الحوار الذي يدور في المشهد الأخير بين الملكة ورئيس حكومتها.

إن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه هنا، طالما ان موضوعنا هو العلاقة بين السينما والتاريخ، هو التالي: هل حدثت الأمور، في الكواليس، على هذا النحو حقاً؟ الجواب، طالما اننا أمام عمل فني في نهاية الأمر هو: ليس بالضرورة. ويمكن لأوساط الملكة ولأوساط بلير أن توضح وتنفي. لكن أحداً لم يفعل حتى الآن. وتحديداً لأننا هنا في صدد عمل فني مهمته ان ينظر الى التاريخ افتراضياً، وليس واقعياً تماماً. فهنا، في فيلم فريرز هذا، ليس المهم ان يُروى التاريخ – في تفاصيله – كما حدث حقاً. ونحن نعرف ان أحداً لا يملك، حتى بالنسبة الى التاريخ العملي والعلمي، زعم انه يقول الحقيقة... فكيف بالتاريخ وقد حُوّل الى عمل فني؟

وأكثر من هذا: حين تقدم السينما على تحقيق فيلم تاريخي، يستعان طبعاً بالأرشيف وبخبرات المتخصصين، ومع هذا تكون النتيجة فقط عملاً يعبر ليس عما حدث حقاً، بل عن نظرة المؤلفين والفنانين الى ما حدث. ذلك ان السينما لا ترى ان من مهمتها بأن تقول التاريخ كما هو، بل مهمتها خلق ذلك التفاعل بين النظرة الراهنة وتاريخ الأحداث، ما يخلق لعبة الاسقاط المتبادلة بين الماضي والحاضر. أما في فيلم من نوعية «الملكة» فإن المقترح، ليس رواية التاريخ، بل رواية ما لا يمكن التاريخ ان يصل اليه. ومن هنا تطلع أمامنا مرة أخرى لعبة التلصص. ولنوضح: كل الناس يعرفون ما الذي حدث حين قتلت ديانا في حادث الاصطدام في باريس. وكل الناس يعرفون ان النبأ خلق أزمة سياسية في انكلترا، وان الملكة حاولت التملص من المشاركة في العزاء والدفن، ما زاد من عداء الشعب الانكليزي للقصر، ومن تفاقم الأزمة، وشعبية ديانا بالتالي. ولكن في النهاية، وهو أمر يعرفه كل الناس أيضاً، لانت الملكة وشاركت و «حزنت». كل هذا معروف، لكن ما لم يعرفه أحد، في أوساط الرأي العام على الأقل هو: كيف حدث ولانت الملكة وما الذي بدل الأمور.

في مصلحة من؟

طبعاً نعرف هنا ان ليس ثمة أرشيفات توضح الأمور... ونعرف، بالتالي، أن كل فيلم ستيفن فريرز إنما هو قائم على فرضيات، وعلى رواية يملكها كاتب السيناريو. ومع هذا يمكن لأي كان ان يتصور ان ما نشاهده من حياة الكواليس في الفيلم، كان يمكن أن يحدث.

ومن هنا ينتمي «الملكة» الى التاريخ الافتراضي ويقدم لنا، ماكيافيللياً في المضمون، شكسبيرياً في الشكل، أمثولة مدهشة عن الطريقة البارعة التي أنقذ فيها رئيس حكومة عمالي، المؤسسة الملكية في بريطانيا، ببعض العبارات والمواقف التي عرف بها كيف يعيد الملكة الى صوابها والى شعبها وشعبيتها. فلم، اليوم، قد يكون من مصلحة قصر باكنغهام، أو من مصلحة بلير، نكران ذلك كله؟

الحياة اللندنية في 27 أكتوبر 2006

 

أندريه شوراكي لم يقرأ مؤرخي إسرائيل الجدد...

ومرة أخرى «الفيلم المستحيل» لم يتحقق بعد

إبراهيم العريس 

حين ظهرت رواية كولنز ولابيار «أو... جيروزاليم» للمرة الأولى قبل أكثر من عقدين من الزمن، وبيع منها على الفور مئات ألوف النسخ وترجمت الى لغات عدة، كانت «فتحاً» جديداً من عالم الرواية التاريخية، اذ على طريقتهما المعتادة، والرائدة في ذلك الحين، جرؤ هذان الكاتبان على الدنو من موضوع كان بالكاد يمكن روائياً ان يدنى منه: الصراع الفلسطيني - الصهيوني، وتأسيس دولة إسرائيل. وكان ذا مغزى، يومها، أن يُدنى من هذا الموضوع، انطلاقاً – بالتحديد – من الصراع الذي دار حول مدينة القدس خلال الشهور التي سبقت والأيام التي تلت قرار تقسيم فلسطين وإعلان دولة اسرائيل.

يومها حاول الكاتبان خلق ذلك التوازن الذي سرعان ما أدرك القراء انه توازن وهمي. اذ في موضوع مثل الموضوع الفلسطيني واضح دائماً ان من المستحيل على أي كاتب ان يبقى موضوعياً، حتى وإن أراد ان يروي الحوادث «كما هي» يوماً بيوم. والحقيقة ان عذر الكاتبين، يومها، كان طغيان الروايات الرسمية والشهادات «المحايدة»، ناهيك بأن الجانب العربي ندر ان دنا من الموضوع من دون نفحة عاطفية، فيما عرف الجانب الإسرائيلي واليهودي غير الإسرائيلي، كيف يوظف «الحقائق» لمصلحته ليأتي كل عمل موضوعي، اشبه، في نهاية الأمر، بدعاوة صهيونية... او هذا على الأقل ما كان عليه الرأي العربي، ورأي قطاعات عريضة من المنصفين في العالم. اليوم إذ يأتي المخرج الفرنسي - الأميركي اندريه شوراكي، لتحويل «أو... جيروزاليم» الى فيلم حمل العنوان نفسه، وإذ يُعرض الفيلم ويثير سجالات، يمكن المخرج ان يقول انه، الى حد كبير، التزم جوهر الرواية، وأنه الى هذا، ألحق بالفيلم المصور، كتابات على الشاشة توضح رغبات سلمية لا شك فيها، وتعاطفاً ما، مع قضية الفلسطينيين، حتى وإن كان هذا التعاطف لا يستهدف تدفيع الإسرائيليين الثمن.

حتى هنا، يبدو الأمر أقرب الى الموضوعية. لكن المشكلة تبدأ انطلاقاً من هنا... ذلك ان أول ما يمكن قوله في هذا السياق هو انه خلال العقدين اللذين يفصلاننا عن تاريخ صدور الرواية، صدر في اسرائيل، ولكن نتحدث هنا عن الساحة العربية، عشرات الكتب التي وضعها من سُمّوا «المؤرخين الإسرائيليين الجدد»، تعيد النظر في التاريخ الرسمي كله، سواء كتبه العرب أو الإسرائيليون. ولسنا في حاجة الى التذكير هنا بأن إعادة النظر هذه، اتت وفي مختلف الروايات الجديدة، تناقض الصيغ الإسرائيلية وغير الإسرائيلية التي اعتمدت دائماً بصدد الحديث عن تقسيم فلسطين وطرد الفلسطينيين... أتت، في اختصار، أقرب الى الرواية العربية الأكثر تداولاً. ولعل في إمكاننا ان نذكر هنا نقاطاً اساسية لم تكن رائجة يوم صدور «أو... جيروزاليم»: فلسطين لم تكن ارضاً من دون شعب لشعب من دون أرض. والفلسطينيون لم يهاجروا لمجرد ان الإذاعات العربية حضتهم على ذلك. كان الدافع الرئيس وراء هجرة الفلسطينيين، المجازر التي راحت معظم التنظيمات اليهودية تمارسها – بتوزيع ادوار في ما بينها، بحسب تأكيدات اسرائيلية – ولعل رمزية مجزرة دير ياسين هنا تبدو ناقصة. ففي فيلم شوراكي، يقال لنا ان تنظيم الأرغون المتطرف هو الذي قام بالمجزرة وسط معارضة من هاغاناه دافيد بن غوريون (وهذا مشهد اساس في الفيلم طبعاً)، خطأ، يقول المؤرخون الجدد. فهم يرون هنا توزيعاً للأدوار... بين «المعتدلين» والمتطرفين.

وليس هذا سوى مثال ليس على تزوير التاريخ، بل على تجاهل بحوثه الجديدة. ومن هنا يبقى علينا ان نسأل عن صدقية شوراكي حين يقول انه جعل فيلمه أميناً للرواية!

مهما يكن، ليس هذا النقص الوحيد في الفيلم، والذي يجعله فيلماً اسرائيلياً يمينياً بامتياز – حتى ولو زعم وقوفه الى جانب «يساريي» بن غوريون، ضد «يمينيي» بيغن – هناك امور كثيرة اخرى، منها ان العربي الطيب في الفيلم هو دائماً الذي يقبل اسرائيل ويسالم الإسرائيليين، وأن اليهود كانوا دائماً في حال دفاع أو محاولات فك حصار جوع فرضه العرب عليهم. وأن إنكلترا كانت الى جانب العرب ضد اليهود «كلياً». والضحايا دائماً، في اللقطات المبكرة، يهود طيبون لا يحملون السلاح إلا مكرهين. والعرب دائماً ذوو سحنات قاسية، حتى ولو كانوا معتدلين (عبدالله التل، عبدالقادر الحسيني). والفيلم يظهر تواطؤ العرب مع النازيين، لكنه لا يتفوه بكلمة عن تواطؤ صهاينة اليمين المتطرف مع هتلر حتى ضد اليهود. وهذا الإلحاح لا نجده فقط في خطاب الفيلم، بل حتى في تفاصيل ذات دلالة: مثلاً حين يعلن تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة، يصور الفيلم يهوداً قلقين وكلهم امل وطيبة، ثم ينتقل الى فلسطينيين قلقين ايضاً، لكن الشر مرتسم على وجوههم... بل يكشف لنا في لقطة بانورامية، نساء فلسطينيات حزينات وطيبات، لكن ثمة على الطاولة امامهن سكاكين حادة. قد يقول المخرج هنا انها مجرد ادوات مطبخ ترمز الى الطعام الذي لا تتوقف النساء الفلسطينيات عن اعداده – في مقابل حصار جوع هو من نصيب اليهود في القدس – ولكن هل من البراءة ان تأتي لقطة النساء وسكاكينهن مباشرة بعد لقطة مكبرة لطفلة يهودية ملائكية السمات جالسة في حضن امها؟

في احاديث صحافية عدة اعلن شوراكي انه حاول تحقيق فيلم محايد مسالم... نيات طيبة؟ ربما... ولكن يبدو انه لا هو ولا كتّاب السيناريو لفيلمه، قرأوا المؤرخين الإسرائيليين الجدد. ربما يكون هذا حقهم فنحن لا يمكننا مطالبة «ابناء عمناً» حتى ولو كانوا فرنسيين بقراءة أي كتاب. ولكن، سينمائياً، لا نعتقد بأنهم يجهلون نظريات المونتاج التي تعطي الدلالة للتفاصيل عبر توليف الصور، ما يجعل لسكين مصورة ببراءة، ألف معنى ومعنى إن تلت صورة طفل بريء!

الحياة اللندنية في 27 أكتوبر 2006

 

ملايين يتدفقون لمشاهدة «الأفارقة الفرنسيون»...

حين يفضح الفن جحود التاريخ

إبراهيم العريس 

منذ عرضه الأول خلال الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي كان كل شيء واضحاً، أو تقريباً كل شيء، كان واضحاً، مستوى الفيلم المتميز ولا سيما في مجال أداء ممثليه مجتمعين (ولذا نالوا معاً جائزة افضل تمثيل رجالي)، وكان واضحاً استقبال النقاد له استقبالاً جيداً (منذ اليوم التالي راحت الأفلام تمعن في تقريظه)، وكان واضحاً محموله السياسي والاجتماعي (لاحقاً يساهم الفيلم في حل بعض اهم المعضلات التي تسمم حياة مئات الألوف من الفرنسيين من اصول مغاربية وافريقية، وبمبادرة من جاك شيراك نفسه)، وكان واضحاً الى هذا كله، وانطلاقاً منه، مدى انخراط الفيلم في «السينما التي يصنعها التاريخ، ومن ثم تساهم في صناعة التاريخ»، وكان واضحاً اخيراً، ان الفيلم سيتوج مكانة مخرجه الجزائري الأصل رشيد بو شارب وجهوده، هو الحاضر في السينما الفرنسية منذ عقود. غير ان ما لم يكن واضحاً، او يمكن أحداً توقعه هو النجاح الجماهيري الساحق الذي راح الفيلم يحققه. اذ ها هو، عند كتابة هذه السطور يدخل شهره الثاني من العرض في طول فرنسا وعرضها مجتذباً، حتى الآن، نحو مليونين ونصف المليون من المتفرجين المتدافعين لمشاهدته.

الفيلم الذي نتحدث عنه هنا هو، بالطبع، «الأفارقة الفرنسيون» (وهذه أقرب ترجمة تؤدي روح معنى اسمه الفرنسي)، هذا الفيلم الذي، انطلاقاً من بعده التاريخي بخاصة، تحول ظاهرة اجتماعية في فرنسا. إذ، وفي بساطة كلية، يمكن القول ان مئات الألوف الذين يقصدون الصالات لمشاهدة الفيلم، لا يأبهون كثيراً بمستواه الفني – وهو مرتفع على اية حال – ولا بنجومية ممثليه – وكلهم من ذوي اصول عربية ومعروفون كنجوم كبار في فرنسا والمغرب العربي -، ذلك ان المخرج، جردهم تماماً، في الفيلم من تلك النجومية، ليستخدمهم كأبناء وأحفاد يمثلون على الشاشة أدواراً لعبها آباؤهم وأجدادهم في الحياة. ونعرف ان هذه الأدوار الحقيقية، كانت في انخراطهم خلال الحرب العالمية الثانية في الصراع دفاعاً عن فرنسا ضد النازيين، آتين من الجنوب عبر ايطاليا والشرق الفرنسي.

تاريخياً، كان هذا كله «منسياً». أو بالأحرى، مسكوتاً عنه. فرنسا، ومنذ عقود تفضل دائماً ان تعزو تحريرها من النازيين الى الأميركيين القادمين من الغرب والشمال. طبعاً لا يمكن احداً نكران هذا الأمر، لكن الكل أنكر الأمر الآخر... جهل وتجاهل الألوف الذي هبوا من قراهم وصحاريهم وبيوتهم المغربية والافريقية السوداء على صرخة «هيا... هبوا لننجد الوطن الأم». والوطن الأم هذا، كان في ذلك الحين فرنسا. وهم أسرعوا من دون ان يكونوا عارفين شيئاً عن فرنسا. بالكاد كانوا ينطقون لغتها، ومع هذا حاربوا وضحّوا وانتصروا. ثم جلسوا بعد ذلك كله، أو جلس من بقي منهم، ينتظر عرفاناً بالجميل. فكانت النتيجة تجاهلاً وصمتاً اشبه بصمت القبور التي يزورها، في نهاية الفيلم، واحد من الجنود بعد ذلك بعقود، ما شكّل نهاية للفيلم أثارت جدلاً وسجالات عنيفة، حتى من قبل ان يعرض الفيلم على الشاشات. فالذين كانوا يفضلون السكوت والتناسي فُضحوا، والذين كانوا يجهلون، أتى الفيلم ليضع حداً لجهلهم.وبهذا أعطى «الأفارقة الفرنسيون» للسينما وظيفة كانت شبه ناسية لها منذ زمن بعيد: وظيفة تتعلق بكشف التاريخ وإعادة التذكير، المزعجة، مما كان كثر يفضلون السكوت عنه: الفرنسيون الأقحاح لكي لا ينكشف «خداعهم» لأولئك الأغراب الفلاحين، والمسلمون لكي لا يتذكروا سذاجة قادتْهُم الى المذبحة، والغرب بأجمعه – أو بالأحرى الغرب المتعصب – كي لا يرى في المسلمين مكوناً اساسياً من مكونات حريته خلال نصف قرن وأكثر.

اليوم، بعد «الأفارقة الفرنسيون»، واضح ان محظوراً كبيراً خُرق، ليس فقط على الصعيد الحقوقي أو التاريخي، أو الفني – اكسسوارياً -، بل بخاصة على الصعيد السياسي والاجتماعي. صار في وسع صاحب النظرة المنصفة ان يفهم في شكل افضل مرارة كثر من ابناء الفرنسيين الأفارقة وأحفادهم – مغاربة أو غير مغاربة – حين يعبّرون بين الحين والآخر عن غضبهم إزاء «الوطن الأم»، كما صار ممكناً – وبالتفاتة الفاشي الفرنسي جان ماري لوبان امام هذا الواقع الجديد! – التفريق بين المهاجرين الجدد، والآخرين القدامى الذين رووا بدمائهم ارض ذلك «الوطن» الجديد... الجاحد.

رشيد بو شارب، التقط إذاً، لحظة تاريخية، واشتغل عليها سياسياً... ولكن فنياً ايضاً، ليحقق فيلماً من الواضح ان تأثيره في التاريخ بدأ يكبر... وهذا ما نعنيه هنا حين نتحدث عن وظيفة متجددة للسينما.

الحياة اللندنية في 27 أكتوبر 2006

مايكل مان يدفع الاختبار الرقمي الى اقصاه في "شرطة ميامي"

الحــــلـم الأســــود نـشــــاهــــده بــعـــيـــنــين مــفـــتــوحـــتــين

هوفيك حبشيان 

على مسافات شاسعة من سينما الحركة اللامبالية لمعادلة الشكل - المضمون، يصنع مايكل مان أفلاماً متوترة، صاخبة، ممتلئة فكرياً ومكتملة بصرياً. ما سرّ هذا السينمائي الذي اصبح في بضعة أعمال الطفل المدلل للسينيفيليين، والمايسترو الذي لا يوازيه الا سكورسيزي ودو بالما؟ كيف استطاع نتاجه ان يتضمن هذا القدر من التأمل في السلوك البشري، من دون ان يكون ذهنياً ومدعياً؟ علامَ تنطوي لغته المؤلفة من طبقتين، الاولى ظاهرة للعيان، والثانية تُقرأ من خلال الغوص في عوالمه السفلية وديكوراته الخلفية؟ الواضح ان مصمّم الاشكال هذا، يتخطى المظاهر الخلابة لسينماه، عاملاً بعكس منطق الانسيابية، معطلاً مبادئه، ومعتنقاً اسلوب التصادم. فخلف الصورة الانيقة والكادرات المذهلة والاضاءة الخافتة، ثمة انحلال وتواطؤ وفساد ورذيلة تربط الطرفين، الباحث عن العدالة والساعي الى الافلات من قبضتها، الى حدّ التجاذب والتماهي. خصلة شعر تفصل هذين العالمين، وسينما مان مبنية على هذا الحدّ الفاصل، الرفيع والضيّق، المغبَّش والمبهم. سينما، عيون الفاسقين فيها ممتلئة بالدموع، شأنها شأن عيون الباحثين عن الخير.

المقاربة الفضلى لأعماله، سوسيولوجية وفكرية وسينمائية وبصرية في آن واحدً. هذا ما يخلص اليه في كل حال فيلمه الجديد، "شرطة ميامي". فبعد لوس انجلس، "مدينة الملائكة"، التي غدت في بؤرته الضحلة، مسرحاً للتسكع الليلي ليس فيه سوى القتل والانتقال من فريسة الى اخرى، تتعقب كاميراه تجّار المخدرات والشرطيين المتسللين الى تلك الاوساط بحثاً عن امجاد مهنية. أوساط ترفع شعار الترهيب وينهمك فيها الجميع في ارتكاب المفاسد. وفي غياب الانضباط، تتبدى المدينة برمتها أشبه بالغاب، بلا شريعة أو رادع، حيث السلطة في يد الاقوى، وحيث الانسان طريدة لاخيه الانسان. هذه الفوضى، يملك مان موهبة تنظيمها في سيرورة درامية بلا اعوجاجات أو مواربة.

بيد ان من الواضح ان نضج مخرجنا وطموحاته تمثل خلف هذا التحديث الذي ينطبع به فيلمه الجديد، اذ لا يستقي من مسلسله الشهير الذي انتجه في الثمانينات، الا العنوان وبعض الخطوط العريضة ذات الصلة بالسلوك البوليسي. ثمة ايضاً ميله الى الاتيان بتيار وموضة جديدين. فحتى لو اقتصر هذا الخرق للتقليد على النظارت والملابس والسيارات والموسيقى وأماكن التصوير الخلابة، فهذا تفصيل من مئات التفاصيل التي يتشكل منها عمل مان، الذي كثيراً ما تعتمل في داخله رؤية سياسية متيقظة. كيف يمكن ان نمرّ على مقربة من هذا السؤال المتصاعد من صميم عمل مان، في وقت يجعل سطح المسلسل مكسواً بغبار الماضي، في فيلمه الجديد؟ غبار من زمن الجمهوريين يبدو مختلفاً عن زمن "المحافظين الجدد". اختلاف، وربما تناقض احياناً، اذا ما عقدنا مقارنة بسيطة بين ما نراه في المسلسل (الاهواء، المزاج العام، الضوء، قمصان هاواي، شجر النخيل المزروعة على جانبي الطريق، الانشراح النفسي، الالوان الزاهية)، وما نشاهده في نسخته السينمائية (اطار معتّم، انسداد احتمالات الخلاص والتوبة، توسيع أفق الانعتاق الاخلاقي، الالوان المائلة الى الازرق). في جديد مان، لا لقطة لغروب شمس أو لشروق الا بعد قطيعة موقتة مع الكآبة التي تغلف الفيلم برومنطيقية حزينة، مؤلمة، صارخة، تكاد تمنح ميامي ملامح اخرى، غير تلك التي تكرست لها في المسلسل.

رغم بدايات محتشمة، تشتد وتيرة العنف وحدّته، وتبلغ قمماً في الضخامة التصويرية والبصرية في مشاهد كثيرة، وخصوصاً في تبادل الرصاص. ومن اجل ابتكار مشهدية كهذه، يصوّر مان باليه الاجساد التي وضعها قبالة كاميرا محمولة، يهتز فيها الكادر فيعاد تأطيره مراراً وتكراراً وتجتازه لحظات من الـ"فلو" الاستيتيكي البديع. هذا كله يدعم اللقطات بصدقية وواقعية ستبقى راسخة في اذهان الكثيرين من هواة الابداعات التقنية. لا، نحن بعيدون هنا عن مهارة سيدي الحركة جون ماك ثيرنان ووليم فريدكين في بناء ايقاع جهنميّ، وفي منأى ايضاً عن طريقة جان بيار ملفيل التي كانت مصدراً للوحي في شريطه السابق "كولاتيرال". نحن في قلب سينما مان التي يتعذر تصنيفها. يستبدل صاحب "علي" مشاهد الربط ويختزل النقلات الفجة، ليؤلف سمفونية تحاكي الليل بلغته، وانشودة لمدينة حين تكون نائمة. في محاذاة ذلك، نكتشف ان قلة قليلة في السينما المعاصرة تضاهي مان في ترتيب الاجساد في مساحة مدينية ولوحة ليلية تحبس الانفاس بجمالها، وألقها، وبالسواد الليلي الطاغي على الوجوه. وجوه لأجساد شبه ميتة، وليست تحركاتها الدائمة دليلا على وجود الحياة فيها، والموت هنا هو من نصيب صلات الشراكة بين الشرطيين سوني كروكيت وريكاردو توبز (كولين فاريل وجايمي فوكس)، اللذين لا يتبادلان الكثير من الكلام. امتداداً لانعدام الطرافة والنكات والخبريات الصغيرة التي يحفل بها عالم الشرطة، يعصف بالفيلم شيء من حديّة المعالجة والصرامة بحيث يتماهى ابطاله مع المخرج. وعليه، فإن علاقة غير تقليدية ينسجها مان بين الرجلين، فلا يحتاجان الى مخاطبة أحدهما الآخر، بل يكتفيان بنظرة، وفي ذلك يكمن كل الفرق بين التلفزيون والسينما: الاسفاف مقابل الايجاز.

لن يؤخذ على مان ان ما يشغله هو الاخراج الشهواني والعضوي وتقنيات السرد أكثر من السرد ذاته. منذ البداية لا يرى المخرج الحاجة لتعريفنا الى بطليه، فيقحمنا في عالمهما مباشرة بعد مشهد اطلاق الرصاص في الملهى الليلي، محافظاً على سمات الشخصيتين الرئيسيتين اللتين جاء بهما من المسلسل، ومهيلاً عليهما اضافات جديدة، مثل امتناعهما عن البوح بإخلاص الواحد للآخر الا في لحظة الضيق والحرج. مجموع هذه التراكمات يتيح لمان الخروج من دائرة المخرجين الذكوريين. بيد انه، بسقوط بطله سوني في فخ الاغواء الحوائي، في لحظة شغف وهذيان وخروج على السيطرة، يفاجىء مان كثراً من انصاره بفيض من المشاعر يجتاح الشاشة فجأة من حيث لا ندري، وهو سابقة في سينما تفيض بعلامات القسوة واللارحمة، سينما العقل والمنطق لا الاحساس والغريزة. لعل الوقت حان لديه لوصل الطرفين المتباعدين، لمزيد من اللعب بنار العواطف والتحكم بالاقدار الشخصية.

الاهم في هذا الفيلم هو الاستخدام الصائب وغير المسبوق لكاميرا "دي في" ذات المواصفات العالية الجودة والتي تغدو مصدر وحي مبهر عند مان، ذاهباً بذلك الاختبار الى اقصاه. من نقاوة الصورة وعمقها على امتداد البصيرة، والزوايا البالغة التعقيد التي منها التقطت المشاهد، الى التقطيع المذهل، كلها عناصر تجعل من "شرطة ميامي" حلماً أسود نشاهده بعينين مفتوحتين، حلماً بصرياً تفوح منه رائحة أمكنة عدة، ويحلق في فضاء احتمالات سينمائية رقمية. بيد اننا، في مسارنا من ميامي الى كوبا مروراً بالبرازيل وهاييتي والباراغواي، لا نلبث ان نلحظ كل التجاوزات الفريدة، لكثرتها وتنوعها، ولأننا في صريح العبارة كنا مذهولين بموهبة مخرج دخل نهائياً من باب نظام الاستديوهات القاسي الى منصة الكلاسيكيين - المحدثين الكبار.

* يُعرض حالياً في سلسلة صالات "أمبير" و"كسليك".

النهار اللبنانية في 27 أكتوبر 2006

 

رشيد مشهراوي يقتفي أثر الغائب...

«أخي عرفات»: حين تصبح الذكريات اكسسوارات مرهقة

دمشق – فجر يعقوب 

في فيلم «أخي عرفات» للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، يمكن أن يقال الكثير عن تفصيلات يومية لا تنتهي في حياة الدكتور فتحي عرفات، ابتداء من العزاء المفتوح في مدينة القاهرة لشقيقته الراحلة وحديثه العاطفي المؤثر عنها، الى اللحظة التي تبدأ فيها الطبيبة الفرنسية قص القشور الجلدية من راحة يديه في أحد المستشفيات الفرنسية وهو يتلقى علاجاً كيماوياً صاداً للأورام السرطانية، وليس انتهاء بالطبيب الصيني المعالج بالابر، فيما هو يهاتف شقيقه الرئيس ياسر عرفات المعزول في مقره في رام الله عن التسمم الذي لحق به جرّاء العلاج الكيماوي.

يمكن الاضافة الى مثل هذا النوع من التراجيديا الشخصية التي تتشكل في هذه اللحظات القاسية من معاناة مريض بالسرطان، يفترض الفيلم سلفاً أنه يقيم في قلعة أخيه، والمقصود بالطبع ياسر عرفات، مالئ الدنيا وشاغل الناس. ولكن ما أحدثه مشهراوي لا يتعدى المواربة في القول السينمائي، وهي (المواربة) عرّضت الفيلم في أكثر من مكان الى حشو أرهق العمل، وبدده في اتجاهات عدّة. اذ بدا أن تنقل مشهراوي بين معبر رفح وغزة والقاهرة وباريس لا يتعدى التنقلات الخاصة التي لم تضف الى الفيلم قيمة تذكر، اللهم الا تذكيرنا بأن المخرج ممنوع من العودة الى رام الله والاقامة الطبيعية فيها، وهذا كشف عن قوة الاقحام الكبيرة التي استند اليها مشهراوي وهو يعيد تفصيل روايته على حجم المادة التي تجمعت تباعاً بين يديه، وقد اختار تصوير أجزاء طويلة من فيلمه بنفسه!

إبهار وذكريات

حاول الفيلم أن يستعير موجز حياة الدكتور فتحي عرفات رئيس الهلال الأحمر ومؤسسه، عبر بعض الصور الفوتوغرافية المبهرة في وثائقيتها، ثم استكمل ذلك بذكريات لا تنضب عن الشقيق الطالب المهندس الفدائي في مصر، الى الشقيق الذي فجّر الرصاصة الأولى في حياة الثورة الفلسطينية المعاصرة. وهنا هذه الرصاصة لا تشبه خمسين مستشفى بناها مؤسس «الهلال» في حياته في أماكن سكنى الفلسطينيين، فما من ربط درامي بينهما في الفيلم. وللمفارقة غدت هذه الذكريات بمثابة إرهاق إضافي لمادة تأبى على نفسها قبول المعالجة الصحيحة وكأنها تعاند ذلك، وهي ما دفع بالفيلم (52 دقيقة) الى مصاف الأفلام التي يخيل لصانعيها أنها تدرك تماما ما تذهب اليه، ثم تكتشف بعد زوال الأثر العاطفي المترتب على نشوئها عدم صلاحية هذه الفكرة من أساسها.

يطل الفيلم على حياة الدكتور فتحي عرفات بذرائعية منقوصة من أجل اطلالة متوخاة على حياة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهو المقصود بالفيلم، لكن (الرئيس) هنا ظل عصياً على الاستعارة الفيلمية، على رغم أن مشهراوي أراد منذ الكادر الأول أن يظهر في الفيلم راوياً للأحداث، وهو كان يتردد على الطبيب عرفات في مقر اقامته في القاهرة، ما اتاح للمشاهد أن يطل في الفيلم على بيت الرئيس الفلسطيني المهجور من دون أن نقتفي أثره هناك كما تفترض هذه النوعية من الأفلام.

تتغير وجهة الفيلم مع معرفة الطبيب عرفات بإصابته بالمرض العضال، وبدلاً من أن تتحول هذه «المعرفة» الى دفة في يد المخرج تحولت الى دفة في يد الشقيق عرفات، فأغرق نفسه في تأويل كل ما قاله عن الأسئلة المتعلقة بمستقبل الشعب الفلسطيني، وهو ما افترضه مشهراوي مدخلا لفيلمه، وبدت مراقبة الطبيب المريض مجرد محاولة مستعصية للذهاب الى ذكريات تربطه بشقيقه الرئيس من بعيد، وهي لا تقدم ولا تؤخر في السياق الذي اختطه المخرج لفيلمه على رغم المكالمات الهاتفية التي جمعت بينهما، وربطت في شكل مزيف ما بين باريس ورام الله!

هذا التبدل الذي أصاب الفيلم ظهر كما لو أنه محاولة للنفاذ في عمق العلاقة التي تربط الشقيقين الثمانينيين، وهما على أعتاب غياب مأسوي، وهو يوفر مادة غنية للفيلم لم تعالج معالجة صحيحة كما أسلفنا، إنما ظلت مرهونة بالدفة التي تسلمها الطبيب المريض من دون أن يقرر تسليمها الى المخرج ليقول ما يريد قوله في ما لا يمكن قوله في مثل هذه الأحوال باعتبار أن شقيقه الرئيس كان محاصراً ومعزولاً، ولا يبدو اللقاء معه ممكناً للإجابة عن أسئلة مشهراوي، حتى بدا اللقاء اليتيم (المدبر) مع الرئيس عرفات من أجل افطار صباحي في مقر حصاره بمثابة اكسسوار زائد على الفيلم نفسه، وهذا ما شكّل مفارقة. فبدلاً من الذهاب الى جوهر الرواية الكامن في رمزية ياسر عرفات في هذه اللحظات الثقيلة، ترانا نذهب الى تصورات عكسية سببها هذا التبرم الذي ظهر فيه الرئيس الراحل، وقد بدا شكاكاً ورياباً وعجولاً في إنهاء الفطور على رغم أنه هو من كان يقتات من الصبر مادة حياته كلها.

غياب وغياب

لا يوجد ما يضير في الرواية لو سلمنا أن المخرج مشهراوي انما كان يسجل يومياته بالذهاب الى غزة ومعبر رفح بالكاميرا الرقمية الخفيفة التي يجيد حملها، واتخاذه من الدكتور عرفات ذريعة للمعنى الذي أراده لفيلمه. فبعض هذه اليوميات بدا مؤثراً فعلاً، كتلك التي ظهر فيها مشهراوي وهو يقيم عند المعبر مدة أسبوعين، أو في تلك المشاهد المنقولة عن التلفزيون وهي تبث مباشرة وقائع رحيل الرئيس عرفات.

وحتى غياب الطبيب بعد ثلاثة أسابيع من غياب الرئيس لم يؤرخ بصرياً لشيء في الفيلم، وكان في وسعه ذلك طالما أن القدر هنا قد تدخل وأبعد الشقيقين اللذين يكادان يكونان توأمين، عن بعضهما بعضاً في رحلة الأبدية، من دون أن يعرفا بذلك، وظل الأثر الوحيد منهما معفياً من التلويح بنهاية آسرة للفيلم الذي أضرت به الحشودات المؤثرة التي حصل المخرج عليها سابقاً في رام الله ورفح وغزة، وهي قد بدت بمثابة اكسسوارات تصلح لفيلم آخر.

أياً يكن الامر، كان في وسع مشهراوي أن يتمهل قليلاً في تركيب (أخيه عرفات) بدلاً من أن يلهث وراء جودة إعلامية لم تسعف السينمائي المتيقظ الذي فيه!

الحياة اللندنية في 27 أكتوبر 2006

 

اليزابيت الثانية وعرب حرروا فرنسا وتقسيم فلسطين في عدسة الفن السابع الفضولية 

«حتى اذا لم يعد ثمة ذات يوم مواضيع يمكن للفن السابع أن يصل اليها، سيبقى التاريخ رافداً أساسياً لمواضيع هذا الفن». هذه العبارة قالها ذات يوم، الباحث الفرنسي مارك فيرو، أحد أبرز دارسي العلاقة التبادلية بين السينما والتاريخ. والحقيقة أن فيرو لا يبدو بعيداً من الصواب في تأكيده هذا... خصوصاً وأننا نعرف ان السينما، حتى قبل أن تبدأ في تصوير أعمال تاريخية، كادت حتى اليوم تشمل كل ما يمكن أن يلفت النظر في تاريخ العالم، سجلت أيضاً لحظات التاريخ المعاصر، السياسي وغير السياسي الذي كان يمر أمام عدستها، ساعة بساعة ويوماً بيوم. السينما منذ أكثر من قرن، أي منذ اختراعها، أضحت جزءاً من ذاكرة التاريخ، الفعلي والروائي. ومع هذا لا يكف الباحثون ومن بينهم فيرو نفسه، عن التأكيد أن من غير المنطقي اعتماد الصورة السينمائية، تسجيلية كانت أو روائية، لسبر الجوهر الحقيقي لأي حدث كان. فالصورة، حتى متحركة، محدودة القدرة على التعبير عن الحقيقة. ومن هنا يظل التاريخ الذي يصوّر، افتراضياً، ان لم يكن مجرد انعكاس لوجهة النظر التي تصوره.

وما ينطبق على السينما هنا ينطبق كذلك على التلفزة، بل حتى على الأخبار التلفزيونية نفسها، وفي معنيين، من ناحية كون اختيار زاوية التصوير هو، في نهاية الأمر، اختيار ايديولوجي مهما حاولت الزاوية ان تكون محايدة، ومن ناحية ثانية كون أي وجود لكاميرا ملحوظة في موقع ما، يحول كل ما يحدث أمامها الى نوع من «التمثيل»... الى «ميزانسين» يأخذ وجود الكاميرا، أي العين التي تشاهد الحدث، منذ تلك اللحظة والى أبد الآبدين، في الحسبان.

غير ان هذه الحقائق لم تردع بالطبع السينمائيين وغيرهم من مواصلة التعبير بلغة الكاميرا عن الأحداث، غير ان الجديد هنا، انما هو تلك الجرأة المتزايدة في التصوير الروائي – خصوصاً – لأحداث آنية، وغالباً هنا، بحثاً عن دور سياسي أو ايديولوجي. في معنى ان السينما الروائية – والتلفزة الروائية كذلك – باتت أكثر امعاناً في الدنو من أحداث طازجة غالباً ما تكون مثيرة للسجال، لتصويرها وقول كلمتها في شأنها. فإذا كان تصوير شريط تاريخي عن الاسكندر، أو عن واحدة من مسرحيات شكسبير أو عن معركة أو حرب قديمة ما، كان دائماً ضمن هم خفي غايته الإسقاط المتبادل بين الماضي والحاضر. فإن أفلمة الراهن تتخذ بعداً آخر، غالباً ما يكون بعداً ايديولوجياً – يطغى غالباً في الأفلام والشرائط الأقل أهمية – أو تعليمياً الى ما هنالك. لكنه في أحيان أخرى، يتخذ أبعاداً أكثر دقة ورهافة.

والحقيقة ان العواصم الكبرى، في أوروبا وغيرها، تشهد هذه الأيام عرض عدد لا بأس به من الأفلام المتحدثة عن الزمن الراهن. وهنا في هذه الصفحة اخترنا التحدث عن ثلاثة من هذه الأفلام، يعبر كل منها في اعتقادنا عن نزعة من نزعات التعامل الفني مع التاريخ المعاصر والحديث، أي مع الراهن الذي لا يزال من الطزاجة والحضور، في شكل يجعله في أغلب الأحيان صادماً. ولا يعني وضعنا لهذه الأفلام الثلاثة معاً في هذا الملف اننا نساوي بين قيمتها الفنية أو التاريخية. ففيلم، «أو... جيروزاليم» لا يرقى بأي حال من الأحوال – فنياً وسياسياً – الى مستوى «الملكة» و «الأفارقة الفرنسيون»، كما ان هذا الأخير لا يستهدف نفس جمهور أو غايات سابقه.

لكنها هنا معاً، كثلاثة نماذج لتعامل السينما الروائية المعاصرة مع التاريخ الحاضر، تعاملاً يتوخى الوصول الى تغيير ما، الى فهم ما، او الى مجرد التعبير عن نظرة أصحاب الفيلم الى الواقع الكبير المعيوش.

الحياة اللندنية في 27 أكتوبر 2006

 

سينماتك

 

«الملكة» لستيفن فريرز:

كيف أنقذ توني بليرمؤسسة قصر باكنغهام يوم مقتل ديانا

إبراهيم العريس

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك