يبدأ، مساء غد الجمعة، أسبوع أفلام ناطقة باللغة الإسبانية، في <مسرح بيريت> في الجامعة اليسوعية، يُعرض فيه عددٌ من الأفلام المنضوية في إطار مشروع <سينما في طور البناء<. وهي المرّة الثالثة التي تشهد فيها بيروت هذه التظاهرة. يُذكر أن الأفلام الخمسة تُعرض مجاناً، الثامنة والنصف مساء كل يوم ما عدا يوم الأحد، في حين أن عرض يوم السبت يُقام عند الثامنة مساء. للعام الثالث على التوالي، ينظّم <معهد سرفانتس> في بيروت أسبوعاً سينمائياً بعنوان <سينما في طور البناء>، بالتعاون مع <المهرجان الدولي للسينما في سان سيباستيان> (إسبانيا) و<لقاءات السينما الأميركية اللاتينية في تولوز> (فرنسا)، وذلك بين السابع والعشرين من تشرين الأول الجاري والأول من تشرين الثاني المقبل، في قاعة <مسرح بيريت> التابعة ل<معهد الدراسات المسرحية والسمعية البصرية> في <جامعة القديس يوسف> (طريق الشام). وهذه التظاهرة تُعنى بدعم أفلام روائية طويلة مستقلّة من أميركا اللاتينية وإسبانيا، استطاع مخرجوها تصويرها، لكنهم واجهوا صعوبات عدّة حالت دون إتمام عملياتها الفنية المتنوّعة. منذ ثلاثة أعوام، يشارك <معهد سرفانتس> في هذه التظاهرة بتعاونه مع المهرجانين المذكورين، لتشجيع عرض الأفلام المعنية بها في البلاد كلّها التي تتواجد فيها فروع له. في هذه الدورة الثالثة ل<سينما في طور البناء>، التي احتفلت يومي السادس والعشرين والسابع والعشرين من أيلول الفائت بعيدها العاشر، والتي تُقام في بيروت للعام الثالث، اختار المعهد ثلاثة أفلام من الأرجنتين، وفيلمين آخرين من إكواتور وكولومبيا، تُعرض مجاناً بنسخ <دي في دي> ناطقة باللغة الإسبانية ومترجمة إلى الإنكليزية، وفقاً للبرنامج التالي: الأفلام الجمعة، 27/,10 الثامنة والنصف مساء: <الخروج المقبل> (الأرجنتين، 110 ,2004 دقائق) لنيكولاس تيوزّو (تمثيل: ليوناردو راميريز ورودريغو سيلفا وداريو ليفي ومونيكا لايرانا): يجد العامل السابق في مصلحة السكك الحديدية كارلوس فيلمار نفسه في حلقة تلفزيونية يُقدّمها أحد أشهر مقدّمي البرامج الحوارية، يتحدّث فيها عن وضعه الآنيّ، ويتطرّق إلى مسألة الطرد من العمل التي تعرّض لها خمسة زملاء له في ظروف مختلفة مرّت بها المصلحة، فإذا بهؤلاء الخمسة يسعون جاهدين إلى الخلاص من المتاهة التي وقعوا فيها جرّاء البطالة، وإلى إعادة تنظيم حيواتهم في قلب واقع يتجاوزهم وينال منهم ويدفعهم إلى مصير مرّ. في المقابل، هناك مجموعة من المراهقين هم أولاد الرجال الخمسة أنفسهم، الذين باتوا اليوم شهود اللحظات الصعبة التي يمرّ بها آباؤهم، فيقرّرون القيام بخطوة متفائلة تحمل شيئاً من المخاطرة، وتقضي بتنظيم لقاء يجمعهم معاً في إحدى الليالي، التي يتسامرون فيها ويكشفون بعضاً من مشاعرهم المتناقضة وهواجسهم وأحلامهم وخيباتهم. السبت، 28/,10 الثامنة مساء: <الأشعة فوق البنفسجية> (الأرجنتين، 80 ,2003 دقيقة) لسانتياغو بالافتشينو (تمثيل: خوسيه إينياسيو مرسيليتّي وفالنتينا باسّي وروبيرتو كارناغي وفيديريكو إيسكيرو ومارتن كوهان): يعود المخرج السينمائي الشاب سيباستيان باغاني إلى تشاكابوكو، مدينته الأم، بعد غياب طويل، برغبة في تحقيق فيلمه الأول فيها، المرتكز على قصّة لهارولودو كونتي، الكاتب الذي ينتمي إلى البلدة نفسها، والذي قتله النظام الديكتاتوري. غير أن هذا المشروع يتداخل مع ذكريات شخصية متعلّقة بصديق قديم له انتحر في ظروف ليست واضحة تماماً. وبما أنه خضع لدراسة فنية وجمالية بهدف تحقيق فيلمه المقبل هذا، فقد عرف باغاني كيفية البحث عن تفاصيل هذا الموت، التي (أي التفاصيل) زادت الغموض غموضاً، ولم تستطع أن تكشف الكثير من الرموز والدلالات القديمة. الاثنين، 30/,10 الثامنة والنصف مساء: <ظلّ المشّاء> (كولومبيا، ,2003 مئة دقيقة) لتشيرو غيرّا (تمثيل: سيزار باديلّو وإينياسيو برياتو وإيناس برياتو سارافيا ولووين آلّيندي): يمرّ ماني في ظرف اقتصادي صعب، بعد أن فَقَد قدمه ولم يعد قادراً على العثور على عمل وبات عاجزاً عن دفع إيجار المنزل. أكثر من ذلك، فهو عرضة للسخرية من قبل كثيرين يشبهونه ويكرهونه في آن واحد. في خلال بحثه عن مورد رزق، يلتقي رجلاً يمتلك ملامح إنسان غير طبيعي، نذر نفسه لعمل غريب: أن يحمل الناس على ظهره لقاء 500 بيزوس في قلب مدينة بوغوتا. هذا الرجل يُعرف ب<الرجل الكرسي>. شيئاً فشيئاً، تنمو بينهما صداقة غريبة، تلعب دوراً في تغيير حياتهما، وتمنحهما فرصة للتطهّر من أدران الحياة وأفقها المسدود أمامهما. ذلك أنهما يملكان ماضياً متشابهاً، مليئاً بالعنف الذي يتشارك فيه الكولومبيون منذ زمن بعيد. الثلثاء، 31/,10 الثامنة والنصف مساء: <خارج اللعبة> (إكواتور، 122 ,2002 دقيقة) لفيكتور آرّيغي (تمثيل: مانولّو سانتيان ودانيال بوستامنتي وفابيان فيلاسكو وكسيمينا غانشالا): خوان شاب إكواتوري متحدّر من وسط اجتماعي فقير، يحلم بالهجرة للخلاص من الحالة الخانقة في بلده. في بحثه عن المال اللازم لتحقيق حلمه هذا، يجد نفسه متورّطاً في أعمال إجرامية مدفوعاً بيأسه وبالتأثيرات الناتجة من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي لبلده على عائلته ومحيطه. يتعمّق الفيلم في تفاصيل المأزق الإنساني، في حين أن التداعيات الأخرى التي يعانيها البلد تظهر في <السيرة> التي يرويها خوان بسلوكه وأحلامه وألمه وواقعه. الأربعاء، 1/,11 الثامنة والنصف مساء: <بيوبلو شيكو> (الأرجنتين، 65 ,2002 دقيقة) لفرنان رودنيك (تمثيل: لورنزو كوانتيروس ودييغو ستاروستا وكارلا كريسبو وجوليان روميرا وأوجينيو سوتو): تدور أحداث هذا الفيلم في قرية تقع على شاطىء البحر، يديرها المختار منذ ثلاثة عقود، ويقيم فيها مع ماريا، خطيبته الشابة التي تعمل في مكتب البريد. في أحد الأيام، يصل توني البحّار إلى هذه القرية في مهمة تهدف إلى وضع تقرير حول واقع المنطقة كلّها. يتعايش الرجلان والمرأة معاً في حالة من الهدوء، قبل أن يأتي مستثمرون غرباء حاملين معهم مشاريع تنمية وتطوير لا تتلاءم وعقلية المختار الذي يتصدّى لهم بحزم، مما يؤدّي إلى قيام العاصمة بقطع الموارد الحياتية والاتصالات عن القرية لعزلها كلّياً وإغراقها في الجوع والوحدة. لكن القرية تقاوم. هذه حكاية قرية لا تريد أن تختفي. السفير اللبنانية في 26 أكتوبر 2006
كلاكيت التنميط نديم جرجورة هل تغيّر أسلوب التعاطي السينمائي الغربي مع العرب، أفراداً وقضايا؟ لا يكفي أن يكون هناك فيلم أو أكثر للقول إن تبدّلاً قد طرأ على لغة التصوير السينمائي الغربي للواقع العربي. ذلك أن التجارب الفردية الغربية لا تعني سياسة متكاملة، والتقاط التفاصيل الواقعية لتقديمها <كما هي> على الشاشة الكبيرة، ليست خطّة عمل إنتاجي، بل مجرّد لحظة (قد تكون عابرة) في قراءة المشهد. في فيلمي <خلية هامبورغ> لأنتونيا بيرد و<يونايتد 93> لبول غرينغراس، لا يظهر الإرهابي الأصولي الإسلامي بالشكل التقليدي المعتاد الذي درجت أفلام غربية عدّة على تصويره، والذي تستمر نتاجات سينمائية عربية في اعتماده (لحية مرتخية، شاربان حليقان، زيّ أبيض، غضب وحقد ظاهران في العينين، صلوات لا تنتهي...)، بل يبدو إنساناً عادياً مفعماً بالإيمان والتقوى والتصرّف الطبيعي، بإضافة سلوك معين يعكس انتماءه وثقافته الدينيين. لا يسعى الفيلمان إلى شتمه أو تصنيفه المسبق، ولا يُقدّمانه كائناً خالياً من المشاعر والتناقضات والقلق والبحث عن معنى التحوّلات المختلفة التي مرّت عليه. إنهما أقرب إلى الواقع منه إلى أي شيء آخر: هؤلاء بشر لا يختلفون عن البشر الآخرين، إلاّ بالتزامهم عقيدة قادتهم (لأسباب يوحي بها الفيلمان أو يشيران إليها صراحة) إلى ارتكابهم معصية إنسانية متمثّلة، هنا، بالقتل الجماعي. بهذا المعنى، لا يقع الفيلمان في التنميط المملّ، ولا يروّجان لثقافة الحقد والعنصرية، ولا يمارسان قمعاً ثقافياً يشوّه الوقائع ويزوّر الحقائق، ولا يُطلقان أحكاماً مسبقة على هؤلاء وقضاياهم. إنهما، باختصار، يلتقطان النبض الحيّ لأصوليين أقاموا، بجريمتهم، حدّاً فاصلاً بين تاريخين، ويرويان جزءاً من سيرهم الذاتية في المراحل الأخيرة من حياتهم، ويدفعان المتلقّي إلى الإحساس بقذارة فعلتهم وبشاعة تفكيرهم، من دون أن يحرّضانه على هذا الإحساس بشكل مفتعل. تتناقض هذه الصورة تماماً مع ما تقدّمه السينما المصرية تحديداً. هنا، تقع المشكلة: فالسينما المذكورة مستمرّة في اعتماد التنميط المتداول في رسم أي شخصية مستلّة من الواقع، بدل البحث عن آلية فنية جديدة تسمح بتقديم المختلف من دون القطع مع الواقع والحقيقة. أي، ببساطة، رسم الشخصية المختارة بلغة سينمائية متجدّدة لا تلغي حقيقة بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحياتية. في <عمارة يعقوبيان> للمخرج المصري مروان حامد، تنكشف الصورة التقليدية الباهتة عن الأصولي المتزمّت، الذي يتحوّل إلى الإرهاب للانتقام لنفسه من قهر المجتمع وقمع السلطة، ويظهر مأزق السينما المصرية المستمرّة في اعتماد التنميط والتصوّر المسبق اللذين يرسمان ويُحلّلان بطريقة تقليدية باهتة. بهذا المعنى، فإن <عمارة يعقوبيان> فشل في التحرّر من الكليشيهات المعهودة، ربما بسبب قوة الواقع، أو ربما بسبب غياب مخيّلة إبداعية قادرة على قراءة هذا الواقع بلغة فنية أخرى، على نقيض التجربتين الأخيرتين لبيرد وغرينغراس. السفير اللبنانية في 26 أكتوبر 2006
نسل الجريمة الأصلية وصورتها المحنّطة زياد الخزاعي <التصبير> (عرض في الدورة الخمسين ل<مهرجان لندن السينمائي>) عنوان قد يعكس هوس التلغيز في التسميات، لكن تورياته أبعد من ترتيب حروفه. الاستعارة جلية، لأن ما سيُسرد في هذا الفيلم يذهب الى أبعد من الشتيمة السياسية، والى ما وراء <الساغا> العائلية التقليدية وتراجيدياتها المتراكبة. إنه مصطلح غريب يتغزّل بالفتنة السينمائية. في عمله الثاني، يختزل المخرج الهنغاري جورجي بالفي (عرف اهتماماً نقدياً وإجماعاً على موهبته وابتكاره اللذين تجلّيا في فيلمه الشاذ والخالي تقريباً من أي حوار <هاكل> في العام ألفين، الذي مزج السياسة بالتهتك والشبق في قرية نائية)، في إحدى وتسعين دقيقة، صيرورة عائلية تتشكل عناصرها من خيوط الغرابة الإنسانية نفسها، والقائلة إن مصائر البشر تقودها قوى غامضة ترسم، في نهاية المطاف، حكاية واحدة بوجوه متعددة السحن والأقدار. أما غرابتها فتكمن في تأريخ الفرد ذاته، الذي يتبع، بمنهجية سحرية، إرث الأوائل، ويتلبّس نزعاتهم (وإن اختلف الرداء)، ليشكل نواة عائلة <تصبِّرها> (أي تحنّطها) الأعراف ودورة أفلاك جيلية. هذه الكلمة الأخيرة هي الشرك الذي يقود فيه فيلم بالفي مشاهده النبيه إلى أرفع قدر من المتعة. للوّهلة الأولى، يبدو <التصبير> أو <التحنيط>، الذي عُرض في <نظرة خاصة> في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان <كان>، كوميديا تلهو بالغرائبي ومشهدياته السحرية، التي صورّها بخيال باذخ مدير التصوير جرجيرلي بوهارنوك وصمّم أجواءها السوريالية الفنان أدرين أزتالوش. إلاّ أن منابزاته السياسية ترغمنا على الانغماس بلعبة التوريات الفلسفية الطابع. لا يعني هذا الكلام أن الفيلم يعقّد إحالاته وسياقاته، بل امتاز بسيولة سينمائية تحتاج الى الصبر في الربط بين أجيال عائلة الجد فندل موروسكوفني (أداء الموهوب تشابا تشني، الذي يُذكّر كثيراً بالألماني الراحل كلاوس كينيسكي في رائعة فارنر هيرزوغ <فويسك> في العام 1979)، الذي يُفتَتح الفيلم بوجهه القاسي، وشفته العليا المشرومة، وجسده الرشيق الجبّار في تحمّل العمل المضني، ذلك التكليف الذي يأتي من قوة نافذة وغامضة الأصول، في خدمة عائلة ضابط لا يني في إهانته وتكريس عبوديته. عالم عجيب إنه مفتتح القرن الماضي، في بقعة منعزلة هي أقرب الى جبهة حرب، لن نسمع صوت رصاصها أو هدير معاركها، يعيش فندل حياة حيوانية. ينام في الزريبة محتضناً الخنزيرة الوحيدة في المزرعة، التي يماهيها بامرأة أحلامه. هو جزء من ممتلكات السلطة العسكرية (يلبس زياً صُمِّمَ كخلطة بين الجندي والفلاح)، طاعته لا تفّوِت طلباً، وعبوديته لن ترحم كيانه الذائب في شبقه وفحولته. هناك حرية وحيدة يستخدمها فندل، هي التلصّص على الابنتين الشابتين وهما تستحمان، فيما تَصعَد نطفته الى النجوم ليُلقح كون عزلته بكواكب سحرية. في المقابل، هناك واجب جسدي يُرغم عليه مرة كل شهر، يوّاقع فيه الأم شديدة البدانة في حوض الحمام الخشبي، الذي شهد تاريخ دورة أجيال العائلة كلها. ومنه (أي الحوض) تبدأ الدورة المقابلة لفندل وعشيرته المستقبلية الغرائبية. تحبل الأم الآثمة بسفّاح يدعى كلمان، يحمل ذيل خنزير في مؤخرته (تماهت المرأة في خيالات فندل بخنزيرته أثناء المضاجعة)، الذي يقطعه الضابط مبقياً على جذره (كينونة الأحفاد المقبلين) قبل أن يطلق رصاصته على رأس العبد الذي خان الولاء (على الرغم من أن جريمته هي في الواقع <تطبيق طاعة> لرغبة سيدة البيت، التي تصرخ <كن رجلاً واهرس جسدي!>). يرث الصبي بدانة أمه وعبودية والده التي تتحول في شبابه (لن نرى من نشأته سوى اكتشاف السلطات الرياضية قدراته الخارقة في التهام كيلوغرامات من الأكل بسرعة تبزّ الجميع) من الضيم العسكري سابقاً إلى لعنة الحزب التوتاليتاري وأزلامه الذين يرغمونه على اجتراح معجزات الفوز. لئن فَرَّغ الوضيع فندل شبقه بإطلاق وهج نار حامية من عضو ذكوريته (في مشهد مضيء بسورياليته وفكاهته)، فإن نجله شديد البدانة يُفرغها في منافسات الأكل. إنه وارث العبودية، لكن من باب عزّة الحزب وكرامة الدولة التسلطية التي تريد منه، كمنافس دولي، أن يُبقي اسم الوطن ورايته عاليين (نرى الرايات والشعارات الحزبية ونستمع إلى أناشيدها الموزّعة بترتيب متناظر، كما لو أنها مشهد من أوبرا صينية متقنة التصميم). يتزوّج كلمان حبيبته غيزي البدينة، وينجبان لايوش (يوحي المخرج بالفي أنه أبن زنا آخر، حيث نرى صديق كلمان يضاجع المرأة ليلة عرسها فيما تنظر هي إلى زوجها وهو يؤدّي أغنية حب). إلاّ أنهما يواجهان عاراً يتمثل في أن الحفيد شديد النحافة يُعاف الأكل والناس، ونراه ممتهناً حرفة تحنيط الحيوانات. التحنيط لماذا التحنيط؟ الأب، الذي استفحلت بدانته وتحوّل الى وحش أكول، يندب حظّه بالصبي الذي قطع حبل سرّته مع الأمجاد الأولمبية، ويكيل له الشتائم والتعيير الجارح، لتقع مشادات تنتهي بسهو لايوش إغلاق باب القطط العملاقة التي تبقر كرشه المتضخم. يعمد الحفيد، تحت بشاعة منظر الجريمة الحيوانية، الى تحنيط والده مردّداً: <سوف تصبح أجمل!>. أثناء هذه العملية، يعي <البطل الثالث> أنه آخر السلالة التي مارست العبودية على جسدها، فيقرّر تخليد أنفس ما فيه: نحافته، ويجري عملية جراحية، صوّرها بالفي بكثير من التفاصيل المريعة، <محنطا> فيها أحشاءه وقاطعاً يده اليمنى قبل رأسه. ثم نراه لاحقاً يقف كما تمثال أفروديت الشهير ولكن.. بقضيب ذكوري. ثلاثة أجيال، ثلاث حقب، ثلاث ميتات. هل يعني هذا أن لا أحفاد لخلية فندل مع نهاية الفيلم الأخّاذ؟ المشاهد المتعجل يحسم أمره مع هذه ال<لا>، بيد أن المخرج بالفي (32 عاماً)، يرصدهم (الأحفاد) وهم شبان يرتدون أزياء <حداثية> يستمعون، وكأنهم محنطون، داخل غاليري فني، إلى حكاية الطبيب الذي اكتشف الضدين، ويقدمهما كعملين أثريين: الأب ببدانته المحنطة، والابن الذي نحت جسده كما لو أنه استخدم الإزميل الخالد لمايكل أنجلو. هذا الأخير لم يُصوّره الفيلم كمجنون، بل بدا واضحاً أن بالفي، الذي صاغ حكاية فيلمه اقتباساً من قصص قصيرة للكاتب الشهير لايوش بارتي ناجي، ينتصر لفكرة أن البشاعات التي تُرتكب، والكيانات التي تحمل عاهاتها، والمحيط الذي يرعى ولاداتها ونشأتها ونمو تشوهاتها، لا تزال ماثلة أمامنا، وستبقى تتوالد على الرغم من تحنيطها. فلايوش، ابن مفتتح القرن الجديد، يفشل في تحقيق إنسانيته في التعامل مع الجنس الآخر، كونه عنيناً لن يفلح في استخدام أداته الذكورية كما كان جده ووالده. من هنا، يُفهَم استثناؤه هذا العضو من القطع، باعتباره رمز كماله المنتقص من قبل الأخريات اللواتي عليهن نيله، كما جدته، لضمان دورة أجياله (نرى الطبيب الراوي وقد سرق جنيناً ميتاً وطلب تحنيطه من أجل حمّالة مفاتيحه الشخصية!). وحين يرى لايوش أحشاء والده وقد مُدّت على أرضية القبو، لن يتردّد في تفريغ جوفه وملئه بالقش. كلمان، الذي يستخدم كلماته النابية كتورية لشتم جيل تخلى عن نظام وشارك في إسقاطه، كان <يصنع> الأبطال، ويرى في نجله انحطاطاً وجبناً أمام نظام جديد حوّله إلى آلة، وفُرضت عليه العزلة وعدم المبادأة. وحالما يفضّ لايوش يده من عملية <تخليد> الوالد الأولمبي، يشرع في <تأبيد> الوجه الآخر للبشاعة والعبودية والرضوخ والمهادنة (أي هو شخصياً). يُعيدنا هذا الى فقرة الجد فندل (الذي تم تصويرها بمزيج لوني من البني والبرتقالي يقارب إضاءة الشموع على غرار اشتغال مديري التصوير جون ألكوت في <باري لندن> لستانلي كوبريك وناستور ألمندروس في <أيام الجنة> لمواطنه تيرينس ماليك)، التي هي بدء العبودية التي ستَرحَل في الذيل الصغير للوليد كلمان، وتستكمل لاحقاً عبر كرشه المهول ببدانته، وتنتهي في مباضع الحفيد لايوش وماكيناته (تم تصوير هذه المقاطع بتغليب اللون الأزرق النيوني، تعبيراً عن عوالم الحوانيت والمتاجر، وهي مكان تواجده ووحدته معاً، فيما صُوِّرت مشاهد تحنيطه الذاتي بألوان قاٍنية أضفت طابعاً قاسياً وعنيفاً). لا بد من الإشارة الى جهد المونتاج الذي تلوّن على يد ريكا ليمهني، إذ بدأ الفيلم بلهاث من المشهديات التي اجتزأت ما هو تقليدي في التعريف بالشخصيات، وقفزت فوراً وسط مستنقع حياة الجد فندل. وفي مقطع الابن حوّلت إيقاعها الى التقابلات الصورية التي تتطلبها منافسات الأكل (هناك لؤم مقصود في تطويل مشاهد التقيؤات التي يمارسها المتنافسون بعد كل جولة لتفريغ أمعائهم)، فيما ينحو الإيقاع في مقاطع الحفيد نحو البرودة، إذ إن عالم لايوش ناء في مشاعره وردود أفعاله وحركاته المتماوتة كما هي محنطاته. (لندن) السفير اللبنانية في 26 أكتوبر 2006 |
شيء من الخوف، كثير من الرقابة (1) السينما المصرية من الوعي السياسي إلى التسلية الجوفاء الوسط - محرر سينما شيء من الخوف.. عنوان لفيلم عرضته دور السينما المصرية العام 1969... حسين كمال كان مخرجه، وجمال عبدالناصر كان هو من أجاز عرضه بعد حضوره عرض خاص للفيلم، تم في شهر اكتوبر/ تشرين الأول قبل أربعة عقود من الآن. حضور عبدالناصر لم يأت تفضلاً على صناع الفيلم ولا ليرفع من قيمته الفنية أو ليعطيه برستيجاً خاصاً، لكنها كانت العادة حينها، تحديداً في الفترة الواقعة بين الأعوام 1967 - 1970، الفترة التي اعقبت النكسة من جهة وسبقت وفاة عبدالناصر من جهة أخرى. لكن اختيار الفيلم لم يأت اعتباطاً، إذ كان واحداً من مجموعة أفلام واجهت اعتراضات رقابية بسبب مضامينها الروائية واسقاطاتها السياسية على واقع مصر السياسي في ذلك الوقت. ولم تطل قائمة تلك الأفلام بل جاءت محدودة العدد نذكر منها (المتمردون) لتوفيق صالح 1968، (المخربون) لكمال الشيخ 1967، (العيب) لجلال الشرقاوي 1967،(القضية)68 لصلاح أبوسيف في 1968، وأخيرا (ميرامار) لكمال الشيخ العام 1969. جميع هذه الأفلام خلقت توجهاً جديداً لدى صناع السينما المصرية، أعطى للسينما دوراً أكبر وأكثر قيمة، دور غير العلاقة بينها وبين السياسة، وجعلها تلعب دوراً مهماً في تشكيل الوعي السياسي لدى الجماهير، أو حتى تغيير ذلك الوعي وقلب المفاهيم وخلق نزعات وتوجهات سياسية جديدة. حول الدور الجديد للسينما المصرية، نشأته وعوامل ازدهاره ثم تراجعه، كتب ناجي فوزي بحثاً مطولاً ناقش فيه عدداً من العوامل التي ساهمت في تكوين سينما الوعي السياسي في مصر والدعوة للإصلاح .سينما الوسط تحاول إستعراض تلك الدراسة بإيجاز، عبر عدة حلقات، وإلقاء الضوء على بعض أهم محاورها. يؤكد فوزي أن السلطات حاولت منذ البداية، وعبر اجهزتها الرقابية، منع السينما من تحقيق دورها في صنع الوعي السياسي، سواء في مصر أو غيرها من الدول التي لا تحترم حرية الرأي والتعبير. ولعل مصر تحظى بشرف أقدمية محاولات خنقها لحرية صناع الأفلام تلك منذ البدايات، إذ ترجع أولى محاولاتها تلك الى العام 1938 ومع بدايات تطور الأفلام السينمائية. في ذلك العام قامت الدولة بتسليط جهاز الرقابة على المصنفات الفنية لديها على فيلم »لاشين« الذي أخرجه الألماني فريتز كرامب والذي قام ببطولته مجموعة من فناني تلك الفترة يأتي على رأسهم حسن عزت، نادية ناجي، وحسين رياض. اعتراضات الرقابة حينها جاءت على قصة الفيلم، التي كتبها هنريش فون ماين، والتي تدور حول لاشين، قائد جيوش أحد الحكام، الذي يحاول تنبيه الحاكم لمحاولات رئيس وزرائه الفاسد في السيطرة على الحكم والتلاعب بمقدرات الشعب. لكن الملك الضعيف لا يكترث لنداءات قائد جيوشه وينشغل بعلاقاته النسائية الكثيرة، الأمر الذي يجعل رئيس وزارئه يتمادى ويتمكن من تلفيق تهمة للاشين يودع على أثرها السجن. تتأزم الأوضاع بسبب فساد رئيس الوزراء ويثور الشعب احتجاجاً على أفعال الحاكم ورئيس الوزراء الظالم، وفي النهاية تنتصر الثورة الشعبية ويتم إطلاق سراح لاشين وتعم العدالة البلاد. الفيلم أشار بوضوح إلى مسئولية الحاكم عن شعبه، وإلى إمكان قيام ثورة على الحاكم الذي يتآمر ضد شعب بلاده، أو على الأقل لا يعمل لصالحه، خصوصاً مع وجود حاشية تعرقل وصول صوت الشعب إليه. لهذا تعرض الفيلم للمنع أولاً، ثم إلى محاولات تعديل نهايته مرتين، بما يساير رغبة القصر الملكى فى مصر فى ذلك الوقت. وعلى رغم كل التغيرات، لم يعرض الفيلم سوى مرة واحدة، ليظل بعدها محرماً على المشاهدين 53 عاماً بحجة امتلائه بالإسقاطات السياسية التي تسيء للذات الملكية في ذلك الوقت. المصادفة وحدها مكنت المنتج جمال الليثي من شراء الفيلم من معرض للأفلام القديمة في ألمانيا العام 1991، إذ فوجئ بعرضه، فقام بشرائه وبيعه للتلفزيون المصري، ليرى النور لأول مرة على الشاشة الصغيرة. بعد ذلك لم يحمل أي من صناع الأفلام في مصر الجرأة على تقديم فيلم على تلك الشاكلة، واكتفوا بتقديم ما أرادت لهم السلطات وأجهزتها الرقابية أن يقدموا من تسلية وامتاع فقط على حساب الفائدة والهدف. بعدها بثلاثة عقود وبعد ثورة 52 ، أجري تعديل على قانون الرقابة على الأفلام إذ ألحقتها الدولة بوزارة الداخلية. وبحسب فوزي فقد كشف ذلك عن نظرة متدنية للسينما، بوضعها ضمن » الملاهي« حتى تضع أصحابها فى موضع الشبهة منذ البداية، وتعزل فنان الفيلم عن أصحاب الرأى، الأمر الذي كان له تأثير واضح على فن الفيلم، إذ ظل الإنتاج السينمائي حبيس أهداف التسلية. ويؤكد فوزي أن المتتبع للأفلام السينمائية المصرية يستطيع أن يلاحظ بسهولة عجزها عن تقديم أي مساهمة فى غرس الوعي السياسي، كما إنها »في الوقت نفسه سينما كسولة، خائفة من ممارسة هذا الوعي، استكانة للإنتاج السهل، ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نعفي عنها تهمة التنصل من هذه الوظيفة الثقافية المهمة التي يقوم بها هذا الفن في التاريخ السينمائي للشعوب المتقدمة عموماً. على رغم ذلك يعود الباحث ليضيف بأنه كانت هناك بعض المحاولات القليلة جداً التي تصل إلى حد الندرة في هذا المجال، لعل أشهرها الأفلام المذكورة أعلاه (المتمردون، العيب، المخربون، ميرامار، القضية 68). ويتطرق أول هذه الأفلام الذي اخرجه توفيق صالح بشكل واضح إلى الثورة في مصر وإخفاقاتها، وذلك من خلال قصة نزلاء مصحة صدرية يقومون بالثورة على طاقم إدارتها السيئ، ويقومون باختيار أحد نزلاء المصحة من مقيمي الدرجة الأولى قائداً لثورتهم، وهو طبيب صدر مريض مثلهم. إلا أن الثوار وعلى رأسهم قائدهم الطبيب المريض يفشلون فى إدارة المصحة، إذ إن قائدهم الثوري لا يملك سوى أحلامه الخالية ليقودهم بدلاً من أن يكون قادراً على التخطيط العلمي السليم. بالطبع واجه الفيلم مشكلات كثيرة مع الرقابة التي حاولت منعه لعامين ثم طلبت تغيير نهايته، خصوصاً لتزامنه مع الوقت الذي كان الوضع السياسي في مصر في انهيار تام. يقول صالح في أحد لقاءاته التلفزيونية معلقاً على ذلك »في نهاية الستينات أو يعني من أيام حرب اليمن وإحنا نازلين سياسياً خطوة خطوة، أنا بدأت تصوير(المتمردون) يوم خمسة يونيو/حزيران سنة 1966، الوضع السياسي في مصر كان في انهيار واحدة واحدة كده، هنا بتلاقي إدارة لا تخدم شعبها... يعني لا تخدم المرضى والمرضى في ثورة بدون وعي، هم بيغضبوا آه وييجوا على حاجة ويعملوا تمرد ومظاهرة بينما مش ده اللي هايحل المشكلة«. وبشأن تشديد الرقابة على الفيلم الذي قام ببطولته كل من شكري سرحان وزيزي مصطفى وزوز شكيب، يقول صالح »المتمردون لما راح الرقابة تأخر... يعني عادة بيأخذ ثلاث أيام أربع أيام وبتطلع النتيجة فده تأخر فأنا رحت علشان أشوف سبب التأخير ليه، لقيت واحد جاي يقول لي المياه في الفيلم ترمز لإيه؟ والثاني يقول له لا الشمس ترمز لإيه؟ المياه مياه والشمس شمس، هم ابتدوا يفكروا إن كل لقطة وكل شخصية ترمز لحاجة وكانوا رافضين يكتبوا تقرير لأن الفيلم قطاع عام«. الوسط البحرينية في 18 أكتوبر 2006
شيء من الخوف... كثير من الرقابة (2) النكسة... انفراج رقابي وجدية سينمائية الوسط - محرر سينما منذ بدايات عهد السينما في مصر، سلطت الدولة على انتاجاتها، السياسية خصوصاً، يد الرقابة التي خنقت كثيراً من المحاولات الجادة فيها،وهي التي كانت كفيلة برفعها من المستوى المتأخر الذي تعاني منه اليوم. وطوال عقود ظلت محاولات السينمائيين المصريين في مجال التوعية السياسية متذبذبة لا يحكمها سوى تقلب الحوادث التي تمر بها البلاد، وطبيعة القائمين على الحكم فيها. في الحلقة الأولى من هذا المقال استعرضنا، بإيجاز، ومن خلال موجز لورقة بحثية قدمها ناجي فوزي، بعض المحاولات السينمائية الداخلة ضمن إطار تشكيل الوعي السياسي وصوغه لدى الجماهير، والتي أجازتها القيادة الحاكمة آنذاك، فيلم »المتمردون« لتوفيق صالح تحديداً. نواصل اليوم الحديث عن المزيد من تلك المحاولات وعن تأثيراتها على الوعي السياسي، وعن ردود الفعل الرقابية تجاه كل منها. وكما يؤكد فوزي فإن أفضل فترات انتعاش الفيلم السياسي هي تلك التي جاءت إبان حكم الرئيس جمال عبدالناصر التي بدأت العام 1967، حدث حينها تحول كبير في موقف الرقابة على السينما من قضية الوعي السياسي، إذ سمحت السلطات بقدر من الانفراج الرقابي عقب وقائع الهزيمة. وهو تحول اعتبره الباحثون في السينما المصرية، نوعاً من التنفيس، أو التسريب السيكولوجي للغضب الكامن في النفوس، وأشادوا بذكاء القيادة الحاكمة في تشريعه آنذاك، إذ أرادت ذلك لكي تتحول بعض التعليقات اللاذعة والنكات السياسية المحرمة في الشارع المصري إلى حوار مشروع على ألسنة أبطال الأفلام. »المخربون«... »العيب« والفساد الاجتماعي هكذا كما يضيف فوزي، ظهرت الكثير من الأفلام المندرجة تحت فكرة غرس الوعي السياسي، تحدثنا في الحلقة السابقة عن احدها وهو فيلم »المتمردون« لتوفيق صالح. من »المتمردون« ينتقل فوزي إلى فيلم » المخربون« الذي أخرجه كمال الشيخ العام 1967، وعرض في العام نفسه. هذا الفيلم، الذي يقوم ببطولته أحمد مظهر ولبنى عبدالعزيز، يعتبر أول فيلم يشير بوضوح إلى فساد بعض موظفي الدولة، وذلك من خلال قصة مهندس يدفع ثمن نزاهته حين يكلف بمعاينة حادث انهيار مدرسة حديثة البناء، ليكشف النقاب عن أحد أوجه فساد موظفي الدولة في المجتمع المصري. كذلك عرض في العام نفسه فيلم »العيب« للمخرج جلال الشرقاوي، الذي يتناول الفساد من زاوية مشابهة، إذ يتحدث عن مافيا الموظفين الفاسدين في الدوائر الحكومية. ويختلف هذان الفيلمان عن فيلم »المتمردون« الذي يقدم إدانة واضحة للنظام الحاكم حينها وينتقد خططه الثورية، في أن الأخيرين ينسبان الفساد في الدولة إلى أفراد معينين وليس النظام الحاكم، معتبرين هؤلاء استثناءً خاصاً داخل المنظومة الإدارية للدولة. »القضية 68« وإدانة النظام الحاكم بعدها جاء فيلم »القضية 68« الذي أخرجه صلاح أبوسيف العام 1968 والذي يتناول في قالب كوميدي حكاية صاحب منزل معرض للانهيار على ساكنيه، متردد في اتخاذ قرار بشأن المنزل. صاحب المنزل أو العم منجد، يحب سكان عمارته، إلا أنه ضعيف ومتردد، في مقابل سكان المنزل المتمسكين بشدة بمنزلهم المتهالك. الفيلم يؤكد أن قيمة حب المسئول لسكان العمارة في مقابل تمسكهم بمنزلهم، لا يمكن أن تتحقق فعلياً إلا باتخاذه لقرار حاسم بتأسيس بناية أخرى يشارك الجميع في بنائها. وكما يؤكد فوزي، فإن إدانة الفيلم لتجربة التنظيم السياسي الواحد وهو الاتحاد الاشتراكي بدت واضحة للغاية، هذا عدا عن انتقاده للبيروقراطية الخانقة واستغلال النفوذ وتضارب القوانين التي أدت إلى انهيار البيت/ الدولة. نقد لعبدالناصر، ومصرع الديمقراطية لعل أحد أكبر تلك الأفلام التي واجهت اعتراضات رقابية، شهرة فيلم المخرج حسين كمال »شيء من الخوف« الذي عرض على الشاشات العام 1969. الرقابة فرضت على الفيلم حصاراً امتد لعامين كاملين لم ير فيهما النور الا بعد تدخل القيادة الحاكمة المتمثلة في الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك. اعتراض الرقابة كان بسبب مضمونه الروائي الذي يدور حول زعيم عصابة مسلحة يحكم إحدى القرى الريفية بالحديد والنار، مهيمنا على كل مقدراتها الإنسانية والاقتصادية معاً، إذ وجد موظفو الرقابة حينها أن هذه الشخصية هي بمثابة تعريض بالرئيس جمال عبد الناصر تحديداً. صالح يناقش العدالة المفقودة يكتب فوزي أنه في العام 1969 عُرض فيلم » يوميات نائب في الأرياف » للمخرج توفيق صالح، وفيه تناول صالح بشيء من التفصيل قضايا العدالة المفقودة في المجتمع المصري، والديمقراطية المغيبة، بل المقتولة في هذا المجتمع، فضلاً عن الترديين الاقتصادي والاجتماعي لمعظم أعضائه. ومع أن كلا الفيلمين يدوران في نطاق زمني خارج حاضر زمن العرض (أي ما قبل 1952) إلا أن وضوح الإشارة إلى الديكتاتورية والتسلط والعنف في الفيلم الأول، كان يقابله غموض الإشارة إلى مصرع الديمقراطية وانتفاء العدالة وتردي المجتمع في الفيلم الآخر. ميرامار في العام نفسه (1969) تكرر اعتراض الرقابة على فيلم يتناول التجربة السياسية المصرية وواقعها المعاصر (في ذلك الوقت) بالنقد المباشر الجريء، وهو فيلم » ميرامار« لكمال الشيخ، لمهاجمته عددا من نماذج العهد الثوري وبعض رجالاته. طبعاً استدعى الأمر تشكيل لجنة سياسية رفيعة المستوى رأسها أنور السادات، تشاهد الفيلم وتجيز عرضه. »حكاية الأصل والصورة« كذلك يشير فوزي إلى الفيلم الروائي »حكاية الأصل والصورة« الذي أخرجه مدكور ثابت العام 1972 عن قصة لنجيب محفوظ، كثالث قصة ضمن الفيلم ثلاثي القصة »صور ممنوعة«. على رغم عرضه بعد عامين من وفاة عبدالناصر، التي ختمت فترة الانفراج السياسي، إلا أنه يمكن ضمه إلى أفلام الفترة الماضية لطبيعة الموضوع الذي يناقشه. تشير حوادث الفيلم بصورة غير مباشرة إلى حرب 1967، من خلال استعراض صانعيه للتحقيقات في جريمة قتل لامرأة مجهولة. صناع الفيلم لمحوا إلى أن لجميع الأبطال علاقة بمصرع هذه المرأة متعددة الهوية اسماً وفعلاً، التي ينشر خبر قتلها في الصفحة الأولى إلى جانب نبأ عن إحدى العمليات العسكرية للقوات المسلحة المصرية على الجبهة في مواجهة العدو المحتل. وبحسب فوزي فلا يمكن تجاهل هذه الإشارة المرئية المقصودة، التي يتكرر ظهورها من دون أي تعليق لا على شريط الصورة ولا شريط الصوت، بل يراها المشاهد تطفو على سطح مياه النيل بصفحتها ذات الخبرين البارزين. المخرج يريد أن ينقل أن هذه المياه نفسها، التي تبتلع هذه الصحيفة حديثاً، هي التي نشربها لنرتوي منها. يقول فوزي إنه وعلى رغم كل تلك الإشارات لم ينل الفيلم ما يستحقه من بحث في هذه الجزئية متوارية الحساسية، والبعد السياسي الذي لا يمكن تجاهله. البحث عن الهوية المفقودة وإلى جانب تلك الأفلام التي اعتمدت الإشارة إلى بعض المظاهر الاجتماعية ذات البعد السياسي، فإن هناك نوعاً آخر من رد الفعل إزاء هزيمة 67، تمثل في فكرة إعادة البحث عن الهوية الحقيقية للوطن المصري. هنا جاء فيلم »المومياء« العام 1975 الذي أخرجه شادي عبدالسلام، الذي تأجل عرضه ما يزيد على 5 أعوام، على رغم كونه محاولة سينمائية مصرية على درجة عالية من الرقي الفني. الوسط البحرينية في 25 أكتوبر 2006
|
"سينما في طور البناء" في "مسرح بيريت" الرجل الكرسي والقرى المحاصرة نديم جرجوره |