على رغم أنه لم يُنجز إلاّ عدداً ضئيلاً من الأعمال السينمائية (خمسة أفلام روائية ووثائقيين) فإنه عُدّ من كبار أساتذة السينما العالمية. وعلى رغم أنه عاش بعيداًَ من الأضواء وضوضاء عالم السينما، طويلاً فقد اختار أن يخرج من المشهد في يوم احتفال مدينته، روما، بالسينما. جيلّو بونتيكورفو قرر الرحيل بعد يوم واحد من انطلاق مهرجان روما السينمائي الدولي، وبدا بذلك أنه لم يرغب في الرحيل قبل أن يتأكد بأن ما حلمت به العاصمة لسنين طويلة، أي امتلاك مهرجان كبير يحمل اسمها، قد تحقق أخيراً. ولد جيلّو (جيلبيرتو) بونتيكورفو في مدينة بيزا، مدينة البرج المائل، في التاسع عشر من نوفمبر ١٩١٩ وكان مؤملاً له أن يُصبح بطلاً من أبطال التنس أو السباحة العالميين، إلاّ أن السينما سحرته بأضوائها وجذبته إلى روما. وبعد أن شاهد فيلم «بايزا» لروبيرتو روسّلّيني في عام ١٩٤٦ فلم يبارحها منذ حل فيها. وفيما كان شقيقه، برونو بونتيكورفو منشغلاً في اكتشافاته العلمية في الذرة ويعمل برفقة إنريكو فيرمي في اختبارات فصم الذرّة، قرر الشاب جيلبيرتو الابتعاد عن تلك الأجواء والعمل على لملمة ذرات المخيّلة البصرية وصناعة الأفلام. وبما أن جيلّو نشأ في عائلة شيوعية وانغمس في حياة الالتزام السياسي في روما فقد استوعب ذلك الإلتزام في إطار أممي شامل لا يفصل بين كفاح الإيطاليين من أجل الحرية ومكافحة الحكم الفاشي أو المساهمة في الدفاع عن الجمهورية الإسبانية التي أطاح بها الجنرال الفاشي فرانشيسكو فرانكو. بونتيكورفو اعتبر الدفاع عن حقوق الشعوب من أجل حريتها وانعتاقها من ربقة الاحتلالات من بين مهماته كفنان. وكان طبيعياً، في هذا الإطار، أن يشكّل كفاح الشعب الجزائري مفردة هامة في ضمير هذا المبدع الشاب آنذاك، بالضبط كما كان الأمر للعديد من مثقفي فرنسا وأوروبا بشكل عام. وتعمّد إنجاز بونتيكورفو لرغبته في تحقيق فيلم يروي كفاح الجزائريين من أجل الاستقلال، إلاّ أنه لم يكن راغباً في تحقيق فيلم عن الجزائر خارج الجزائر نفسها وسنحت له فرصة تحقيق ذلك الحلم عندما دُعي من قبل الجزائريين الذين كانوا استقلّوا للتو بعد ثورة المليون شهيد، لإنجاز فيلمه فعمل مع السيناريست فرانكو سوليناس في كتابة النص الذي نتج عنه فيما بعد فيلم «معركة الجزائر» الذي حقق لبونتيكورفو جائزة الأسد الذهبي في دورة العام ١٩٦٦ لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي وأطلق العنان لمبدع كان يمكن أن يمنح السينما العالمية لمسات رائعة، كما أطلق العنان لشريط تحوّل في الحال إلى واحد من كلاسيكيات السينما العالمية. لم يكتف بونتيكورفو بعمله كمخرج فحسب بل تولّى مهمات إدارية هامة، ففي مرحلة دقيقة من حياة «مهرجان البندقية السينمائي» في عام ١٩٩٢ أنيطت به مهمة إدارة المهرجان وحفلت جزيرة الليدو في تلك السنوات بحضور عدد كبير من نجوم السينما العالمية الذين لم يكونوا ليرفضوا دعوة وجهها إليهم المايسترو الكبير. لم يكن بونتيكورفو خصب الإنتاج وكان يقول دائماً «لن أنجز فيلماً جديداً ما لم أتمكّن من العثور على الموسيقى المناسبة لذلك الفيلم» وكان يقول أيضاً « لا حاجة لي إلى إنجاز فيلم إذا لم أعثر على القصة التي تحرك فيّ الرغبة للإنجاز...». إلى جانب «معركة الجزائر» أنجز جيلّو بونتيكورفو أفلامه الأخرى «جوفانا» من بطولة إيف مونتان وسيمون سينيوريه و«كابو»، الذي روى فيه تجربته الشخصية كواحد من مقاتلي حرب الأنصار ضد الفاشية و «كيمادا» من بطولة مارلون براندو «و أوغرو»، الذي تناول فيه ملف الإرهاب اليساري. فيلم «معركة الجزائر» مُنع لسنين طويلة في فرنسا، إلاّ أنه رُشّح بعد فوزه بالأسد الذهبي لمهرجان البندقية في عام ١٩٦٦، لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم وأفضل سيناريو. ارتبطت الجزائر بحياة وإبداع وتفكير هذا المخرج الكبير. ارتبطت به إبداعياًُ وروحياً، فهي، أي الجزائر، حاضرة ليس في شريطه «معركة الجزائر» فحسب بل هي مادة احدى وثائقيه، والذي سجّل فيه يوميات زيارة قام بها بعد ثلاثين سنة من إنجازه لـ «معركة الجزائر»، كانت تلك الرحلة تبدو مثل دفتر يوميات كُتب بالدمع الساخن. كان بونتيكورفو حزيناً لما آلت إليه الجزائر في تلك السنوات لكون الدم الجزائري يُسفح بعمى الإرهاب الأصولي. وعلى رغم الحزن والأسى الكبيرين اللذين كانا يبرزان من ذلك الوثائقي كان جيلّو واثقاً من قدرة الجزائر والجزائريين على اجتياز تلك المحنة، وحين حاورته في رييع العام ٢٠٠١ أكد لي ذلك الإحساس وقال لي «عندما عدت إلى الجزائر لم أعثر على ما كنت قد عشته في الفترة التي صوّرنا فيها الفيلم. كان البلد يبدو وكأنه ضُرب بطوفان هائج. إلاّ أنني كنت أجد في عيون الناس وفي أحاديثهم إصراراً على عدم إحناء الرأس أمام هذا الطوفان» وأضاف «كان البعض من الجزائريين يبدو كمن يسبح عكس التيار. أنا سبّاح أصلاً وأعلم ما تعني السباحة ضد التيار من رعب وخوف وجهد، لكني أعلم أيضاً بأنك إذا ما تسلّحت بالقناعة على مواجهة التيار فإنك ستبلغ الشاطئ بالتأكيد...». ربما كان بونتيكورفو على حق في ما رأى من إصرار الجزائريين على اجتياز ليل الظلامية، إلاّ أن ما هو مؤكد هو أن ذلك القلب الذي توقّف ليلة الجمعة الماضية كان ينبض بحب كبير للجزائر وللإنسان بشكل عام. وداعاً جيلّو... الحياة اللندنية في 20 أكتوبر 2006
وفاة جيلو بونتيكورفو مخرج معركة الجزائر عن 86 عاما فقدت السينما الإيطالية عشية افتتاح مهرجان روما السينمائى الأول جيلو بونتيكورفو مخرج الفيلم الشهير "معركة الجزائر". ولد جيلو بونتيكورفو فى نوفمبر عام 1919 لأسرة ثرية يهودية "لا تمارس الدين" فى مدينة بيزا الإيطالية، وكان الخامس بين ثمانية أطفال. درس الكيمياء فى الجامعة قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، كما كان يمارس رياضة التنس. وفى بداية الحرب هاجر إلى جنوب فرنسا حيث أعطى دروساً فى التنس، وهناك قابل المثقفين المنفيين ومنهم الموسيقى رينيه ليبوفيتس الذى علّم بونتيكورفو عزف البيانو وعلم الهارمونى والكاونتربوينت. فى عام 1942 أصبح عضواً فى الحزب الشيوعى الإيطالي، وعمل لصحيفة "لونيتا" وشارك فى مقاومة الفاشيين. وبعد تحرير إيطاليا أصبح مديراً لصحيفة شبابية ذات ميول اشتراكية وشيوعية. ثم عاد إلى باريس ممثلاً لإيطاليا فى فيدرالية شباب العالم. وهناك عقد صداقات مع عدد من نجوم الفن والأدب والفلسفة مثل سارتر وبيكاسو. وفى عام 1946 بدأ خطواته الأولى فى حقل السينما، حيث عمل مساعداً لعدد من المخرجين، أخرج أول أفلامه الطويلة "الطريق الأزرق الواسع" عام 1957 عن الصراع الطبقى فى قرية للصيادين. وفى عام 1959 أخرج فيلم "كابو" وهو عن معسكرات الاعتقال النازية. ثم أخرج درة أفلامه وصانعة شهرته الدولية "معركة الجزائر" عام 1965، وحصل به على جائزة "الأسد الذهبي" من مهرجان فينيسيا. بعد ذلك أخرج فيلم "كويميدا" عن قصة مغامر ساعد العبيد المتمردين فى جزر الكاريبى الإسبانية، وكان من بطولة مارلون براندو. أما آخر أفلامه فكان فيلم "أوجرو" عام 1979 وهو عن اغتيال رئيس وزراء إسبانيا على أيدى الباسك. هذا بالإضافة إلى عدد من الأفلام التسجيلية. ولا ننسى أنه عمل مساعداً للمخرج الهولندى التسجيلى الأسطورة جوريس إيفنز. فى عام 1992 أصبح مديراً لمهرجان فينيسيا السينمائي. وفى أثناء سنوات إدارته لهذا المهرجان جرى عقد مؤتمر دولى كبير عن الهيمنة الأمريكية على السينما العالمية، وهو الموضوع الذى ظل شاغلاً فكرياً هاماً له فى سنوات حياته الأخيرة. وكان قد أتيح للمحرر الثقافى لـ "العرب" حضور هذا المؤتمر ولمس مدى حماس بونتيكورفو له. كما لاحظ مهارة بونتيكورفو الكبيرة فى الكتابة الصحفية العميقة الذكية غير المدعية فى ذات الوقت، عندما قرأ له بعض المقالات القصيرة فى نشرة مهرجان فينيسيا. لقيت وفاة هذا المخرج الإنسانى العالمى الكبير أصداء واسعة فى جميع وسائل الإعلام الدولية، وخاصة الإيطالية والجزائرية. فقال رئيس مهرجان كان السينمائى جيل جاكوب إنه من المثير للصدمة وفاة بونتيكورفو ليلة الخميس عشية افتتاح مهرجان روما الجديد لانه كان سيفخر ويحب هذا الحدث . وأضاف جاكوب لقد مات مثل موليير فى إشارة إلى الكاتب المسرحى الفرنسى الشهير الذى انهار خلال آخر ظهور له على المسرح. وأعلن منظمو مهرجان روما يوم الجمعة أنهم سيكرمون بونتيكورفو بمجموعة من النشاطات والندوات ومن ضمنها عرض خاص لفيلمه "معركة الجزائر". ونشير هنا إلى أصداء وفاته فى الجزائر، فق قال منتج فيلم "معركة الجزائر" ياسف السعدى فى مقابلة هاتفية مع وكالة الأنباء الايطالية أنسا لقد فقدت أخا قبل أن يسارع للسفر إلى روما ليكون بالقرب من زوجة الراحل وأولاده الثلاثة. وأضاف السعدى لن أنساه أبدا ليس فقط لما فعله للجزائر بل لما كان عليه كمواطن حقيقى . ووصفت وزيرة الثقافة الجزائرية السيدة خليدة تومى السينمائى الايطالى جيلو بونتيكورفو بأنه كان ينظر الى المقاومات الشعبية بنظرة ثاقبة حيث ترك أفلاما ذات قيمة وجودة عاليتين جديرة بالمدح والشكر والعرفان . وذكرت السيدة تومى فى رسالة السبب أن صديق الجزائر هذا الذى كانت المقاومة بالنسبة له ثقافة وقناعة ثابتة قد ترأس خلال السنوات المأسوية التى عاشتها الجزائر اللجنة الايطالية لدعم المثقفين الجزائريين. وأضافت ان ابن القرن الـ20 هذا كان فى قلب كل المآسى والظلم المسلط على الشعوب و الحروب التى ليس لها اى أساس وأهوال الاستعمار . وفى هذا الصدد ذكرت وزيرة الثقافة مسيرة هذا الفنان الذى برع كما قالت فى وضع موهبته فى خدمة النص ليبرز مدى ضخامة الاذى عندما تحل القوة محل العقل والاهانة محل الاحترام . كان بونتيكورفو كما اوضحت الوزيرة محللا تاريخيا حقيقيا وسيلته التعبيرية الكاميرا التى كان يخرج منها صورا قوية وواقعية عنيفة ومؤلمة . وفى إشارة لفيلم "معركة الجزائر" الذى يعد حسب النقاد احد اكبر افلام هذا السينمائى اكدت السيدة تومى أن بونتيكورفو اخرج هذا الفيلم على شكل شريط وثائقى يروى الظلم الكبير الذى ذهب ضحيته الجزائريون والكرامة الشامخة التى استرجعتها المقاومة البشرية بفضل هذه الضحايا . وترى السيدة تومى أن هذا السينمائى تمكن بواقعية لافتة للنظر من التعبير عن عزم ووطنية وصدق امثال على لابوانت وحسيبة بن بولعيد وعمر الصغير وياسف سعدى وكل سكان قصبة الجزائر . كما تمكن بمهارة و حساسية كبيرتين من معالجة الاحداث والشخصيات الحقيقية النابعة من الثقافة المعاشة لشعبى كملحمة وكأنه عضو فيها وهو الشيء الذى جعل فيلمه يمنع فى دور العرض بفرنسا لمدة سنوات . كما بعث رئيس الجمهورية الجزائرية عبد العزيز بوتفليقة السبت الماضى ببرقية تعزية الى عائلة الفقيد المخرج السينمائى الايطالى جيلو بونتيكورفو ذكر فيها بخصال الفقيد وإسهامه فى الاعتراف العالمى بقيم كفاح الجزائريين من اجل الحرية. وجاء فى برقية رئيس الجمهورية بحسرة وأسى عميقين تلقيت نبأ وفاة جيلو بونتيكورفو الذى ترتبط مسيرة حياته ارتباطا وثيقا بكفاحات الشعب الجزائرى . وذكر الرئيس بوتفليقة فى هذا السياق أن هذا اللقاء أعطى الرائعة السينمائية المتمثلة فى فيلم معركة الجزائر الذى انتج سنة 1965. . وأشار بوتفليقة فى هذا الصدد إلى ان هذا الفيلم سيكون السفير الوفى لحرب التحرير الوطنى الجزائرية بقاعات السينما فى العالم اجمع حيث انه ساهم بشكل ملموس فى الاعتراف العالمى بقيم كفاحنا من اجل الحرية وفضح قمع الدولة الاستعمارية الفرنسية التى بقيت على الرغم من عنفها عاجزة عن فرض هيمنتها الوحشية والإجرامية مجددا . وأضاف أن رحيل جيلو بونتيكورفو هو أكثر من رحيل رفيق الدرب للجزائر وحتى أعز صديق. فمع رحيل جيلو بونتيكورفو نفقد عيونا متفحصة وآذانا صاغية وأيدى ماهرة جعلت من كفاح شعبنا المجيد والمرير من أجل استقلاله خلال سنة 1957 التى شهدت نار و دماءً بالجزائر رائعة حقيقية للسينما العالمية . ومن جهة أخرى وصف عمل السينمائى الإيطالى بـ الصارم والنادر مؤكدا أن هذا العمل لم يكن بحاجة لان يوصف بالملتزم حيث كان يغمره ويطبعه حب حرية الأفراد والشعوب الذى كان يسكن روح جيلو بونتيكورفو إلى حد مكنه من فرضه حتى على أعدائه الذين كانوا اعدائنا كتعبير للحقيقة المناهضة للاستعمار. وأكد رئيس الجمهورية الجزائرية فى هذا الصدد أن هذا الجانب من جيلو بونتيكورفو "..." سيظل راسخا فى قلب وأذهان النساء و الرجال عبر العالم ولا سيما فى الجزائر التى برع فى تصوير جمال وحقيقة الكفاح بها إلى حد جعله مثاليا فى نظر المشاهدين عبر العالم . العرب أونلاين+وكالات العرب أنلاين في 17 أكتوبر 2006 |
عروضه الأميركية بدأت وفي الصالات الأوروبية بعد أسابيع... «المرحلون» لمارتن سكورسيزي: هويات ملتبسة ومدن جديدة وافتتان بالشر باريس – إبراهيم العريس هواة السينما الحقيقيون ينتظرون عادة، بكثير من اللهفة، العروض الأولى لأفلام مخرجيهم المفضلين. إذ، على رغم كل ما يصيب السينما العالمية في أيامنا هذه، لا يزال هناك في الحقيقة، مخرجون مفضلون لهواة حقيقيين. ولا تزال هناك أفلام تُنتظر بشوق ولهفة. تلكم هي حال أفلام وودي آلن وفون تراير وجارموش وكروننبرغ وسبيلبرغ بين عشرات آخرين في أوروبا والولايات المتحدة وفي الشرق الأقصى أيضاً. فالسينما فن لا يزال حياً يرزق، حتى وإن كان الفرز في داخله يزداد حدة، بين أعمال استعراضية تجارية خالصة تحقق مئات الملايين. وأفلام أخرى تقول أموراً جادة بلغة فنية جادة تجول المهرجانات وتذاع شهرتها ثم، في الصالات قد لا تحقق أو قد تحقق ما كان متوقعاً منها. وحتى في أوساط اصحاب هذا النوع الأخير من السينمائيين طبقات طبقات. وأصحاب الأسماء التي ذكرنا يعتبرون من الطبقات الأولى: لأفلامهم جمهور عريض ونقد جاد، حتى وإن لم يصلوا أبداً الى المراتب الأولى. ومن المؤكد ان مارتن سكورسيزي ينتمي الى الطبقة الأولى، هو الذي يعتبر اليوم، بما يشبه الإجماع «أكبر سينمائي أميركي حيّ». ونعرف ان سكورسيزي كان قبل ثلث قرن من الآن واحداً من أصحاب «اللحى» الذين ثوروا السينما وبدلوا هوليوود، الى جانب كوبولا وسبيلبرغ ودي بالما وجورج لوكاس. ونعرف ان هؤلاء هم الذين لا يزالون اليوم أصحاب الأسماء الأكبر، فنياً أو تجارياً في السينما الأميركية، اليوم، حتى وإن غلبت «التجارية» على لوكاس ودي بالما، وتأرجح سبيلبرغ بين رغبات رقمية ضخمة ونزعات جودة فنية وفكرية ما، وآثر كوبولا ان يبطئ مسيرته فاسحاً المجال امام ابنه (رومان) وابنته (صوفيا) لكي يحلقا، رافعين لواء العائلة. أما سكورسيزي فلقد حافظ، حتى الآن، على توازن مدهش بين اللعبة الفنية والانتشار الجماهيري، حتى وإن حدث لبعض أفلامه أن أخفق في هذا. لكن سكورسيزي ومنذ نصف عقد على الأقل، يبدو ثابت الأركان، إذ قدم أعمالاً عدة، منها ما هو روائي طويل، ومنها ما هو وثائقي يتفاوت طولاً... ونعرف ان كل هذه الأفلام قد نجحت، في شكل أو آخر، لكن الثمن كان – بالتأكيد – ابتعاد صاحب «شوارع خلفية» و «سائق التاكسي» و «فتية طيبون»، بعض الشيء عن عوالمه القديمة ولا سيما عن نيويورك الحاضر، للتحليق في عوالم أخرى: نيويورك القرون السابقة، أو هوليوود، أو موسيقى الروك، من طريق عمل رائع عن بوب ديلين، أو حتى تاريخ السينما نفسه تحول فيلماً طويلاً. بعد سكورسيزي إذاًَ عن العوالم التي صنعته سينمائياً، حتى وإن بقي أميناً لنوعية الشخصيات التي يقدمها، ومسائل مثل التباسات الهوية ووحدة الانسان أمام طموحه وصعوبة العلاقات بين البشر. وحتى – أيضاً – وإن بقي أميناً للشارع الذي كان منذ البداية ميدان تحرك شخصياته الأول. فالشارع يلعب دوراً أساساً، مثلاً، في «من بين الأموات» (حيث يلعب نيكولاس كايج دور سائق سيارة اسعاف يتجول ليلاً في شوارع نيويورك ملتقطاً المصابين)، أو في «عصابات نيويورك» حيث حكاية انتقام وحب وصراع، على خلفية تجابه العصابات الايرلندية والوافدة حديثاً، من حثالات نيويورك في شوارعها. تبادل الهويات كل هذا جعل مارتن سكورسيزي يبدو شديد البعد عن بداياته، مستعيراً منها الاجواء العامة فقط. ومن هنا استبد الفضول بهواة أفلامه، في شكل ملحوظ حين أعلن سكورسيزي قبل عامين ان فيلمه التالي لـ «الطيار» سيكون مقتبساً من فيلم من هونغ كونغ هو «مسائل جهنمية». وساد التساؤل: هل سيمعن سكورسيزي في التحليق حتى هذا البعد؟ متى يعود الى الأزقة والشخصيات الملتبسة؟ متى يعود الى الأسئلة حول الخير والشر، حول الهوية، حول «فتية طيبون» في شوارع خلفية وحبكات تحبس الأنفاس؟ أخيراً، حين عرض فيلم «المرحلون» في الصالات الأميركية، قبل أيام، وحين بدأت عروضه الصحافية في باريس ولندن تمهيداً لوصوله الى الصالات خلال الشهر المقبل، تنفس المشاهدون الصعداء: أحسوا ان سكورسيزي، بعد دورة في الماضي وفي البعيد وفي هوليوود، عاد الى عالمه القديم. حسناً... هنا لدينا بوسطن مكان نيويورك. ولدينا ليوناردو دي كابريو مكان روبرت دي نيرو، ومات دايمون بدل جو بتشي وهارفي كايتل... لكن هذا كله لا يغير من الأمور شيئاً: «المرحلون» يبدو وكأنه استطراد لبعض أجمل وأقوى أفلام سكورسيزي النيويوركية القديمة: من «شوارع خلفية» الى «فتية طيبون»، حتى وإن كان يبدو من ناحية أخرى، وفي مجال تبادل وتبدل الهويات، مرتبطاً بسينما جوني وو أو مايكل مان... في اختصار، عرف سكورسيزي هنا كيف يستحوذ على الموضوع تماماً ويكيفه مع سينماه الأكثر حميمية، مقدماً أمثولة حول التمثيل والتبادل في الأدوار، ولكن أيضاً حول العنف ولعبة «الشرطي/ اللص» وما الى ذلك. بل لعل أقوى ما يمكن ملاحظته في هذا الفيلم هو قدرة سكورسيزي على جعل بوسطن، وشوارعها الخلفية، ومكاتب شرطتها، تبدو وكأنها جزء من نيويورك صباه. زعيم عنيف وفاتن موضوع الفيلم معروف للذين شاهدوا الفيلم الآتي من هونغ كونغ قبل سنوات. ولكن مع سكورسيزي لا تعود المسألة الأهم مسألة الموضوع. فالحكاية هنا عن شرطي يرسل لكي يتسلل الى داخل صفوف عصابة عنيفة قوية تعيث في بوسطن فساداً، تحت زعامة قاتل لا يرحم هو فرانك كاستيلو (جاك نيكلسون). والشرطي المتسلل هذا هو بيلي كوستيغان (دي كابريو)، الذي يتقن دوره الى حد انه يحظى كلياً بثقة كاستيلو – ما يذكر بتسلل دي كابريو نفسه الى داخل عصابة بيلي الجزار في «عصابات نيويورك» ولكن انطلاقاً من دوافع أخرى -. وفي المقابل تقوم العصابة، من دون أن تدري شيئاً عن تسلل كوستيغان، بإرسال واحد من أفرادها لينضم الى قوة الشرطة متسللاً. وهكذا تصبح لعبة الصراع بين الشرطة والعصابة مكشوفة ما يعطي الصراع أعماقاً تتجاوز الخط البوليسي ومسألة العنف. ذلك ان ما أضافه سكورسيزي، بمعاونة كاتب السيناريو ويليام مونوهان (صاحب سيناريو «مملكة السماء» لردلي سكوت)، إنما كان أزمة الهوية الحادة التي تهيمن تماماً على مات دايمون (كولين ساليفان في الفيلم)، إذ يبدأ صعوده في صفوف العصابة وسط اللعبة الخطرة التي يقوم بها. وكذلك أزمة الهوية المقابلة التي تعصف بليوناردو دي كابريو، إذ يجد نفسه، في كل لحظة، موضع الخطر في تسلله الى داخل الشرطة. غير ان ما يجب الاسراع في قوله هنا هو ان محور الفيلم ليس أياً من هذين المتسللين، بل كاستيلو نفسه. تماماً كما سبق أن كان بيلي الجزار (دانيال دي لويس) في «عصابات نيويورك» محور الفيلم. ذلك ان مثل هاتين الشخصيتين هما ما يوفر، عادة، لسكورسيزي، في أفلامه الأساسية، التعبير عن افتتانه بالشر. فكاستيلو في «المرحلون» هو الشر المطلق، القاتل الذي يجد متعة شخصية في القتل والذي يفتتح الفيلم على لقطة له شديدة العنف والقبح وهو يقتل امرأة ترتمي جثتها فوق جثة زوجها. والحقيقة ان عنف كاستيلو لا ينطلق هنا من الدفاع عن «حق» عصابته بالحياة وعن ممارساتها، بل انطلاقاً من لعبة الغدر والخيانة ولعبة الثقة. (وهو، طبعاً، أحد «التيمات» الأساس في «عصابات نيويورك» كما نذكر). ومن هنا، لأن لعبة سكورسيزي في الفيلم هي على هذا النحو، وعلى مثل هذا التحديد الدقيق، لن يعود كافياً القول ان دوري دايمون ودي كابريو، لا يحتلان المكانة الأولى، بل يصبح من الضروري إدراك أن دوريهما ما هما هنا إلا للإضاءة على دور نيكلسون. ونعرف، للمناسبة، انها المرة الأولى التي يلتقي فيها سكورسيزي نيكلسون في فيلم واحد. ويبدو واضحاً ان المخرج ترك الممثل يلعب على سجيته، الى درجة ان كثراً من النقاد في معرض تعليقهم على الفيلم أبدوا نوعاً من عدم اليقين تجاه حوارات نيكلسون، أي منها من كتابة مونوهان وسكورسيزي، وأي منها اضافة نيكلسون نفسه. والحقيقة انهم كانوا على حق، خصوصاً أن ثمة حوارات كثيرة في الفيلم تشبه نيكلسون نفسه أكثر مما تشبه أي شيء آخر! فهل معنى هذا ان سكورسيزي محا نفسه أمام شخصية نيكلسون وأدائه؟ حديقة سرية ليس بالتأكيد. ولكن من الواضح ان سكورسيزي تشاور في تصوير مشاهد نيكلسون معه كثيراً. وهو، إذ أدرك منذ البداية ان ما يريده من الفيلم مفهوم وواضح ولا يحتاج صراحة اخراجية كبرى ولا الى سيناريو منفذ حرفياً لقوله، آثر ان يوزع «العبء» على فنانين كثر مؤمناً بأن أنسب طريقة لتحقيق مثل هذا الفيلم إنما هي طريقة العمل البسيط بين أصدقاء. وهو ما يتجلى في معظم لحظات الفيلم. فيلم «المرحلون» – أو «المرحل»... وهي ترجمة لكلمة انكليزية تعني أيضاً، المبعد والميت والمتخفي – عمل جديد مبدع من مارتن سكورسيزي، عمل سيتجدد الكلام عنه مراراً وتكراراً خلال الفترة المقبلة ولا سيما بعد بدء عروضه الجماهيرية خارج الولايات المتحدة. أما هنا فحسبنا هذه الاشارات، بعد مشاهدة أولى، الى فيلم يعيد سكورسيزي مرة أخرى الى الشارع، ولكن في مدينة جديدة وفي رفقة جديدة/ قديمة، مع أسئلة تبدو دائماً هي نفسها حول الخير والشر والخيانة والليل والافتتان... خصوصاً الافتتان بالشر، الذي لم يكف دائماً عن أن يكون حديقة سكورسيزي السرية. الحياة اللندنية في 20 أكتوبر 2006
|
جيلّو بونتيكورفو: انتصار السابحين ضد التيار حتمي عرفان رشيد |