لا شيء يضاهي عدد النشاطات السينمائية في عاصمتنا، ولا سيما بعد انتهاء فصل الصيف وحلول موسم الخريف. ما أكثرها هذه المهرجانات في مدينة هي أحوج ما تكون اليوم الى الخيال العلمي، الى الخرافة، للخروج من دوامتها: "أيام بيروت السينمائية" يطلّ في ثوب مفصل على قياس الظروف. تفاجىء كوليت نوفل الجميع بقائمة أفلام ململمة من هنا وهناك، في انتظار التكريس المطلوب لمثل هذا المهرجان المفترض تحويله الى مؤسسة، لا أن يبقى في دائرة المغامرة. غداً، من يعلم كيف تكون الوعود المهرجانية الاخرى التي تلوح في الافق، بدءاً من "دوكو دايز" و"مهرجان السينما الاوروبية"، وصولاً الى "نما في بيروت"، وكلها مواعيد ستتجدد في الشهرين المقبلين، مع اجتهادات كبيرة من جانب المنظمين للاتيان بمساحة للاختلاف الواضح. هي تظاهرات تبحث عن جمهور وسط زحمة افلام لها همّ واحد: الوصول الى المشاهد وفقاً لمبدأ الفن للفن وبعيداً عن القيود التجارية. "مهرجان بيروت السينمائي الدولي" الذي "غيّر جلده" اكثر من مرة، يرسو أخيراً على اختيارات سينمائية مفعمة بالحيوية، مع ميل واضح الى رفع سقف المهرجانات في لبنان الى مستويات دولية، وهنا يكمن البيت القصيد. ثمة مسافة طويلة يفترض بالمهرجان أن يجتازها قبل ان يستأهل هذا العنوان ذا البنط العريض، ويتصالح مع نفسه. فالرؤية لا تزال مبهمة، والاطار مستباح، والزوايا في حاجة الى تدوير. نعلم ان عقبات كثيرة منعت نوفل في الماضي من تحقيق اهدافها القريبة والبعيدة، منها ان الصحافة المتخصصة لم تقصّر في حقها، وأن المشاهد كان ناكر الجميل، في أكثر من مناسبة، وأن الضيف أدار ظهره، وحصل ما حصل. لكن يبدو ان أخطاء الدورات السابقة التي طاش فيها سهم نوفل، كانت ضرورية لاعادة الحسابات وقلب الصفحة. اليوم، هل نحن على مشارف مهرجان شائق يعدّل نظرة المهتمّ ازاءه؟ في نهاية المطاف، دعونا لا ننسى ان كلمة "مهرجان سينمائي" لا تعني في الضرورة كواليس وسجالات، انما تعني أفلاماً ومخرجين. فالسينما لا تتفبرك في الباحة الخلفية للصالات المظلمة بل في مخيلة السينمائيين، أولاً وآخراً. في اي حال، حاشدة كانت السهرة الافتتاحية التي جرت في قصر الاونيسكو مساء الاربعاء بفيلم "عودة" لكبير السينمائيين في بلاد لوركا، بدرو المودوفار، وإن كانت الوجوه غير مألوفة والحشد الغفير اكثر انتماء ربما الى الهيئات الرسمية منها الى الطلبة وعشاق السينما والرواد الذين نلتقيهم في مهرجانات كثيرة. اسم الاسباني المخضرم، في اعلى الملصق الاعلاني للفيلم، كان وحده كافياً لجلب من لا يتزحزح عادة من مكانه. "تعلمت كثيراً من أخطاء الماضي ولن أكررها. سياسة المهرجان تتجه الى دعوة أكبر عدد ممكن من الفاعلين في مجال السينما، لئلا نقع في أزمة الصالات الفارغة"، قالت نوفل في حوار أجريناه معها عام 2004، قبل أيام من إلغاء مهرجانها. في طبيعة الحال، الاسماء اللامعة هي الشيء الذي لا ينقص للمهرجان في هذه الدورة لدعوة الجمهور الى احضانه وملء الصالات، وفي الطليعة القدير ستيفن فريرز، والصاعد ايمانويل كرياليزي، والمتعذر تصنيفه جاك اوديار، والموهوب هينر سليم. لعل الاكتشاف الاكثر تجاوزاً للتقاليد والاعراف السينمائية فيلم "ماريا الممتلئة رقة" للاميركي جوشوا مارستون، وهو شريط أول ينتمي الى ممثلته الاساسية كاتالينا ساندينو مورينو، بقدر ما ينتمي الى مخرجه. قطعت هذه الممثلة الكولومبية في عام واحد شوطا طويلا، من مهربة مخدرات على الشاشة الى مرشحة للاوسكار في الحياة. فعندما تهادت فوق السجادة الحمراء الطويلة الى حفل الاوسكار في السنة الماضية، فان المرشحة لأفضل ممثلة لم يشغلها سوى "أن تتصرف كسيدة كولومبية راقية"، وهذا كلامها من دون تحريف: "يستهين كثيرون ببلدي، انهم مجانين، أود ان يروني كسيدة". هناك احتمال كبير ان تتبنى هوليوود هذه الممثلة في الايام المقبلة، لما فيها من تقاسيم لنجمة جديدة. اي تمثال تقتنصه يعني اعترافا فوريا بمكانة الممثل من أركان هوليوود واستوديوات السينما ووسائل الاعلام. مما لا شك فيه ان كلاً من الفيلم والفنانة المبتدئة يتشابهان الى حدّ كبير. الإثنان يحاولان انتزاع شرعية ما، سلطة ما، وهذه حال الافلام الاميركية التي تُصنع على هامش هوليوود وفي ظروف غير انسانية تدفع الفيلم الى ان يغدو اكثر نضجاً مما لو كان صُوّر في ظروف تقليدية. تعتبر مشاركة فيلم "كيلومتر صفر" لهينر سليم في هذا المهرجان، احدى العلامات الايجابية، اذ قليلة هي المرات يأتينا فيلم من هذه المنطقة الخصبة بالروايات، ونادرة الاطلالة السينمائية بحكم ظروف الوجود الصعب والمحرج، وكمية الاولويات التي تأتي قبل السينما. كان سليم في الـ17 من العمر عندما ترك بلاده هرباً من قمع صدام، وهو مؤمن أن هذا الشريط يدلّ على "اننا لا نزال في المكان نفسه". فالعراق لم يتقدّم خطوة واحدة الى الامام، على حدّ قوله. لعل ذلك سبب للشعور باليأس او بالامل. "عندما ننطلق من الصفر، لا يسعنا الا التقدم. اردت ان اعيد ابتكار جو ما في هذا الفيلم واظهار نتائج الديكتاتورية. انطلقت من قصة شقيقي الذي دخل الجيش العراقي رغماً عنه. كان في "البيجاما" في طريقه الى الفرن عندما نقلته شاحنة بالقوة على بعد 800 كلم نحو الجنوب، الى الحدود الايرانية. انطلقتُ من هذه الفكرة لتطوير السيناريو". مع هذا الشريط الخلاب، تصويراً وبعداً درامياً، يذكّر سليم بأن السينما ليس لها وطن. ومهما بدا هذا التعليق ساذجاً وبدائياً، فانه يكتسب صدقية صبيانية ما، لدى ارتباطه بمثل هذا الفيلم المفرط في تحريكه المياه الراكدة. "شبعنا كلاما معسولا وشعارات في حب الوطن ونظريات بلهاء. ما يسمّى فناً لم يعد عندنا الا كذباً ونفاقاً وتستراً بغيضاً. لفرط ما اشيع من اكاذيب، صدق المنافقون الكذبة وساروا في مسيرتها. لِمَ المواربة والاحتيال على الكلمة اذا كانت حقاً وحلالاً؟ فمن كثرة ما قيل لنا من أكاذيب انتهى بنا الامر الى ان نصدّق الكذبة رغم معرفتنا بأنها ليست أكثر من كذبة. هكذا تساهم الاكاذيب في تدمير مجتمع. وهكذا يُهمَّش دور الاعلام والفن وسائر اساليب التعبير. هكذا نقع في الكذبة الجماعية التي يوازي الوقوع فيها السقوط في رمال متحركة. هكذا يستحيل الافلات من الخطاب الافقي. هذا ما يحاول قوله بعض أفلام "الصف الثاني" المعروض في المهرجان. من "انا التي تحمل الزهور الى قبرها" لهالة العبدالله وعمار البيك (أول فيلم سوري يعرض في تاريخ مهرجان البندقية)، الى "ابن الرجل" لمارك دونرفورد ـــ ماي، وصولاً الى "Marock" لليلى مراكشي. قد يسأل المرء لماذا لا يتحقق حلم الفن السابع في هذا الشرق الا بعد عذابات كثيرة ومتنوعة بدءاً بهموم الكتابة والمراهنة على الخارج، أكان من أجل التمويل أم من اجل عرض المنتوج في المهرجانات العالمية، وصولاً الى سيف الرقيب الذي لا يرحم ولا يتفهم. فالحد الاقصى الذي يستطيع المخرج بلوغه هو الحديث عن هواجسه بلغة الايحاء والرمز، علماً ان المخرج والرقيب يعلمان ان هذه اللغة لا تصل الى عامة الشعب لعدم تضمنها دلالات واضحة ومباشرة يلتف حولها المشاهدون. في هذا الديكور البائس، ثمة اصوات تتعالى رغم الصعاب والمحن والتهديدات. لكن سنونوة واحدة لا تبشر بالربيع. فهذا العالم حافل بالرموز التي لا يجوز المس بها، من رؤساء دول الى قيادات روحية. ثمة آخرون ايضاً يتحدون السلطة ولا يكترثون اذا امضوا بقية ايامهم منفيين عن الوطن لمجرد انهم رغبوا قي قول كلمة لم تعجب المسؤولين. ايران هي أكثر البلدان الاسلامية المتشددة في هذا الخصوص، كون الانتاج السينمائي فيها يشهد نهضة منقطعة النظير منذ أكثر من عقد، لكن ثمة انقساماً في صف المخرجين، اذ هناك الموالون للسلطة، والذين يعملون تحت وصاية القطاع العام، والاخرون الذين يعتبر كل فيلم جديد ينجزونه معركة مفتوحة على اكثر من جبهة. المخرج الايراني جعفر بناهي الذي يُعرض له في المهرجان "تسلل"، هو من الذين اصطدموا بالرقابة الرسمية. "يعقدون الامور كثيرا على المخرجين ولا يتركون لهم سوى خيار انتاج افلامهم خارج ايران. لن احذف اي مشهد من افلامي، ولن اسمح لهم بالمس بها لانها لن تعود افلامي. هذا يعني اني سأضطر ربما الى اعتزال السينما، لاني لا اريد ان اصور افلامي خارج ايران. لن يجبروني على المغادرة. افلامي تتحدث عن الشعب الايراني وتتوجه اليه"، يقول بناهي في حوار صحافي. اذاً، ما من فرصة أكبر من هذا المهرجان لندرك كم ان السينما في دول العالم الثالث تختلف، صناعة وانتاجاً وتمويلاً ورؤية وفكراً، عما هي الحال في عواصم السينما العالمية، حيث بعض الافلام تتخطى موازنته عشرات ملايين دولار، ويستردها الانتاج ارباحاً مضاعفة ليس على الصعيد المادي فحسب، انما فكرياً وثقافياً وسياسياً لدى مئات ملايين المشاهدين. قصة الصراع الفكري بين انتاج هوليوود وغيره من الانتاجات الاوروبية والآسيوية والعربية، تعود الى بدايات الصناعة السينمائية، واذا تمكنت اوروبا الى حد ما من وقف الغزو الهوليوودي، فإن مما يؤسف له ان افلام الدول النامية ترتكز غالباً في انتاجها على مساعدات بعض "الصناديق" السينمائية الاوروبية، او على الانتاج المشترك، وفي جميع الاحوال فإن مثل هذا الانتاج يفقد المخرج حوافزه واندفاعه، وقلما يتمكن سينمائيّ في هذه الدول ان ينقل افكاره الى الشاشة العريضة باستقلالية فكرية تامة، وهذا ما يولد منذ عقود طويلة جدلاً مستمراً حتى اليوم بين السينمائي المناضل والرأسمالية، اي بين فكر يمتلك خصوصيته ويحاول مقاومة "السيستيم" بأسلحة متواضعة، وبين شيء آخر لم نعد نعرف كيف نعرّف عنه. النهار اللبنانية في 6 أكتوبر 2006
"مهرجان بيروت السينمائي الدولي" في دورته السابعة
هوفيك حبشيان لم يأتِ خبر انطلاق الدورة الجديدة من "مهرجان بيروت السينمائي الدولي"، التي تنعقد من الرابع حتى الحادي عشر من تشرين الاول، كمفاجأة لم نكن نتوقعها حتى في ايام الازدهار. فمنذ ظهور اسم كوليت نوفل على شاشة الهاتف المحمول، ربطنا بين هذا الاتصال وما تناهى عن مؤتمر صحافي عقدته مديرة المهرجان في موسترا البندقية، بعد اسبوعين من انتهاء الحرب، حيث اعلنت نيتها مواصلة النشاط ببرمجة جديدة، برغم أنف البيوت المهدمة والجسور المقطوعة. ذلك بعدما تلقت تشجيعاً من المقرب الى المهرجان مدير الموسترا ماركو موللر (مدير مهرجان لوكارنو سابقاً) و"بركته" ودعمه الذي تجسد في إمرار رزمة من الافلام اللامعة سبق أن عرضت في البندقية. فهذا اللقاء الذي كاد يصبح ظاهرة من ظواهر التأجيل والمماطلة على الطريقة اللبنانية، ولد قبل نحو تسع سنوات وسط صعوبات تنظيمية وتمويلية كبيرة، ثم غاب وعاد وغاب مجدداً في دورة عام 2004 في ظروف يبدو انها كانت أمنية، بحسب نوفل التي كانت ترغب حينذاك في دعوة نجوم سينمائيين من الغرب والشرق، لكن تداعيات التمديد للرئيس اميل لحود عادت تبعث القلق والخوف في نفوس المدعوين والمنظمين على حدّ سواء، فألغي المشروع مرة اخرى. أياً تكن الملاحظات فإن هذا المهرجان يحمل الامتياز الدولي، وتتولى ادارته امرأة ذات ارادة قوية لم تركع أمام المطبّات وظلت تؤجل الحلم سنة تلو سنة حتى كاد ان يتحقق شيئاً منه هذه السنة، وإن تحت عنوان "لبنان القائم من الرماد كطائر الفينيق" الذي اتخذته الادارة شعاراً لها. تقول نوفل: "اطلاق هذه الدورة كان أسهل من المرتين الماضيتين، فالحرب انتهت، ونحن نعلم، اقله لفترة معينة، ان الاستقرار سيسود البلاد. خلافاً للسنتين الماضيتين، بحيث كان مصير البلاد على كفّ عفريت. سابقاً، كان الخوف يتملكنا، اما الآن فيوجد احباط شديد. لكن، ارى نفسي في ارتياح أكبر الى مصير المهرجان". في البدء، بدا ان الظروف غير ملائمة لينهض المهرجان من سباته العميق. خلافاً لـ"ايام بيروت السينمائية"، لا تنتهج هذه التظاهرة خط التزام قضايا عربية ساخنة، اذ تظل على حياد أو لامبالاة من أمور كثيرة. اذاً، نحن في موسم مهرجان سينمائي هو وليدة حاجة. بحسب النيات والشهادات التي تُحكى لنا، ليس الغياب مسموحاً في مثل هذه الظروف، اذ هو يوازي الموت، لذا ينبغي الإطلالة على الجمهور بأي ثمن. تروي نوفل انها كانت تعدّ قائمة واسعة من الأفلام عشية الثاني عشر من تموز الماضي، لكنها خسرت حقوق عرض الكثير منها لأن موزيعها اعتقدوا ان المهرجان تعرض للالغاء. جرياً للعادة المكرسة، كانت هناك مسابقة ستغيب حتماً هذه السنة بحكم التنظيم الذي جاء على وجه السرعة. وتتبدى قسمات الندم على وجه نوفل حين تتذكر انه كان مفترضاً ان تستضيف في هذه الدورة جون مالكوفيتش رئيساً للجنة التحكيم، بالاضافة الى رئيسة المركز الوطني للسينما في فرنسا فيرونيك كايلا، عضواً في اللجنة. ايضاً، جرت محادثات في "كان" مع بروس ويليس لدرس امكان استضافته. طموحات تبدو أحياناً فضفاضة على بلد صغير مثل لبنان وعلى مهرجان أشتهر بغياباته. في هذا السياق، يتجلى الدعم المالي الذي تلقاه المهرجان من مؤسسة "غاند ولي" سنداً للنهوض من جديد، في اطار حملة عالمية اطلقتها المؤسسة وعنوانها "اصنع سينما لا حربا"، لـ"تشجيع السلام العادل من خلال الثقافة، التواصل والالتزام السياسي". وبحسب ورقة العمل التي وزعت اثناء المؤتمر الصحافي، فإن هذه الحملة اطلقت في الرابع من أيلول أثناء الدورة الثالثة والستين لمهرجان البندقية، وتدعو الى مبادرات خلاقة ضد الحرب، انطلاقاً من ايمان مطلقي هذا المانيفست بأن لا حل عسكرياً للمشكلات السياسية والاقتصادية والانمائية للبلدان التي تشهد نزاعات تلو نزاعات. اذاً، كانت رعاية هذه الدورة فرصة ذهبية لإيصال ما ينبغي إيصاله، ضمن هدف معلن هو الآتي: "اقامة المهرجان تأكيد مهم وانتفاضة ثقافية مقاومة للحرب، على غرار الدور الذي لعبه مهرجان السينما في ساراييفو خلال الحرب في يوغوسلافيا". لكن الأمور لا تقف عند عتبة النيات الحسنة، اذ يستقدم المهرجان بعثة دولية من مخرجي الافلام والممثلين ليشهدوا على الحال التي حلت بالبلاد ولتقديم الدعم للشعب اللبناني. سوف يجتمع الوفد بالمواطنين ويزور المناطق المتضررة وسيشارك في مؤتمر صحافي للدعوة الى الحلول السلمية للأزمة القائمة. هذا كله يعني اننا نبتعد قليلاً عن الهمّ السينمائي الحقيقي، اذ لا يكفي جمع افلام من اماكن متفرقة لنطلق على الحدث صفة المهرجان، وخصوصاً اذا غابت عن جدول الاعمال النشاطات المواكبة والسياسة الانتقائية. من جهة اخرى، هذا يدل كم ان السينما اصبحت مرتهنة للاحداث. وكم أن ابتزاز السياسة للفن السابع بلغ اوجه. ففي ظل الاحوال الاقتصادية والسياحية الصعبة، بات من سابع المستحيلات اجراء مهرجان غير ملطخ بغبار السياسة ورواسبها، ولا يكترث بادانة الحرب او تأييدها. نكاد نصدق ان ثمة مؤامرة تجعلنا ننسى ان المهرجان هو المكان المخصص لمشاهدة الافلام. في اي حال، لا تبخل هذه النسخة الجديدة في تقديم اعمال سينمائية متفاوتة القيمة، تراوح بين آخر شريط للانكليزي الماهر ستيفن فريرز، "الملكة"، الذي ابهرنا بفيلمه "السيدة هاندرسون تقدم"، والمحاكاة الهابطة الساذجة لبراين كوك (المساعد الاسبق لمخرج "البرتقالة الآلية")، "لونّي كوبريك"، عن رجل ينتحل صفة ستانلي كوبريك. يجدر التذكير بأن الافتتاح سيتم بـ"عودة" المودوفار الذي يكشف النقاب هنا عن تدهور فني وتيماتيكي لافت لدى هذا المتضلع من تصوير النساء، إذ يخضع هذه المرة للعبة فأر وقط متكررة بين موضوعاته الاثيرة ورغبة جامحة في الخروح من دائرة وجد نفسه فيها محتجزاً. هيا يا بدرو، حان الوقت لتبحث عن شيء آخر! بين الافلام العشرين، ثمة عروض لا بأس بها قُدِّمت في مهرجانات دولية، وتسنى لنا مشاهدتها. تنويه خاص بالفيلم الجماعي "باريس، احبك" ("مهرجان كان" الاخير)، إن على المستوى الانتاجي (كلودي اوسار تولت قيادة هذه السفينة)، او في ما يتصل بعدد المخرجين الذين عملوا عليه، من مثل غاس فان سانت والفونسو كوارون ووس كرايفن واوليفييه اساياس، في شريط يحمل توقيع 20 مخرجاً، اي بعدد الدوائر في باريس وعدد قصص الحب التي في الفيلم. وعليه، ليست كل الاسكتشات على المستوى نفسه، فبعضها كثير الادعاء او مرتبك في كيفية سرد حوادث تليق بالثواني الخمس المطروحة امامه، وبعضها الآخر حيوي، طريف وقادر على الامساك بيد المشاهد كما لو كان طفلاً، كي يجعله يصدق، رغم كل ما يقرأه في الصحيفة ويشاهده على قنوات الاخبار، انّ ثمة مكاناً في الحياة لا يزال مخصصاً للاحساس بالحبّ، وهذا ما يتضح من خلال مراقبة متأنية للفيلمين اللذين اخرجهما الكسندر باين والاخوان كووين. من معاناة الاكراد في كردستان العراقية، يأتينا هينر سليم بجديده "كيلومتر صفر" (حضر الى بيروت ضمن الدورة الثالثة من "أيام بيروت السينمائية" ليقدم فيلمه "فودكا ليمون")، المتمحور على اكو، الشاب الكردي الذي يحلم بالفرار من بلاده، فيلتحق رغماً عنه بجيش صدام حسين ويُرسَل الى الجبهة ويُكلَف مهمة اعادة جثة احد شهداء الحرب الى عائلته. لعلها فرصة لأكو لكي يعبر الحدود التركية - العراقية. بإنجازه هذا الـ"رود موفي" الذي يستوحيه من حياته الشخصية ومن حياة شقيقه، يعود سليم الى اصوله الكردية. الافلات من القبضة التي صادرت حرية الفرد في المغرب الذي يعيش انقسامات جوهرية على صعيد المجتمع: هذا ما تحاول تصويره ليلى مراكشي في فيلمها "ماروك" الذي اثار حفيظة السلطات الدينية واصطدم بها. عمل اصيل، فريد بلغته واطروحاته، يشي بموهبة أكيدة. المهرجان لا يزال مخلصاً للسينما الايرانية وإن بفيلم واحد، بعدما كانت الدورات السابقة تحفل بالمخرجين الايرانيين، وهي السينما التي تشهد نوعاً من الأفول على المستوى الدولي. المخرج الايراني جعفر بناهي هو من الذين اصطدموا بالرقابة الرسمية، ورغم تلقيه تقديرا كبيرا في الخارج، ليس في وارد انجاز الافلام خارج الحدود الايرانية، بسبب الرقابة المستشرية في بلاده، التي قال انها "تقتل الاندفاع" عبر حذفها مشهداً او كلمة يعتبرون انها مناهضة للقيم الاسلامية او لقيم الثورة. يعود جعفر بناهي بفيلم "تسلّل" الذي نكتشف فيه ستّ شابات ايرانيات يتنكرن في ازياء الرجال ليستطعن الدخول الى ملعب ازادي في طهران لمشاهدة مباراة التصفية الاسيوية لكأس العالم 2006، لكن يُكتشف وجودهن ويجري توقيفهن الواحدة تلو الاخرى. اما فيلم الفرنسي جاك أوديار المدهش، "من الخفقان توقف قلبي"، الذي تُوّج بسلسلة جوائز عالمية، فيحط رحاله في بيروت أخيراً بعدما صعب عرضه في الصالات التجارية، وهذه مناسبة للتعرف الى عالم أوديار ذي الصيت المتصاعد، كذلك المخرج الايطالي ايمانويل كريياليز الذي ازدادت أهميته في الآونة الاخيرة، وهو سيحمل شخصياً الى المهرجان فيلمه "العالم الجديد"، الذي يعرف عنه الملف الصحافي على النحو الآتي: "رحلة من صقلية الى العالم الجديد، أرض أميركا، في أوائل القرن العشرين". الولايات المتحدة الاميركية تتمثل هي ايضاً بفيلم "ماريا الممتلئة رقة"، الاول لجوشوا مارستون، وقد أعده بالاسبانية بعدما فضل الممثلة الكولومبية كاتالينا ساندينو مورينو على مئات الممثلات المحترفات عقب خضوعها لكاستينغ. يحكي قصة مهربة شابة للمخدرات تنقل الهيرويين الى الولايات المتحدة بابتلاعه في عبوات صغيرة. في هذا البرنامج ذي التنوع اللافت والانفتاح الموثق، تأتي الدورة السابعة بوعود بصرية شاملة، ولا يبقى الاّ التدقيق في التفاصيل فحسب، لأن الحقيقة تكمن هناك، في القطع الصغيرة التي تزرع فينا النشوة.
(•) تجري العروض بدءاً من الخميس 5/10 في سينما "أمبير - صوفيل" باستثناء فيلمي الافتتاح ("فولفر"، الاربعاء 4/10 الساعة السابعة والنصف مساء) والختام ("عمارة يعقوبيان"، الاربعاء 11/10 الساعة السابعة مساء، في حضور المخرج وفريق الفيلم)، اللذين سيعرضان في قصر الاونيسكو. النهار اللبنانية في 29 سبتمبر 2006 |
«فلافل» ميشال كمون يفوز بالجائزة الكبرى في مهرجان «نامور» للسينما الفرنكوفونية بيروت - ابراهيم العريس ليس ميشال كمون اللبناني الأول الذي يحقق للسينما اللبنانية انتصاراً كبيراً في الخارج، وتحديداً في أوروبا. لكنه، بالتأكيد، أول سينمائي، منذ مارون بغدادي، يفوز بجائزة كبرى عالمية بفضل سينمائية فيلمه وأبعاده الجمالية والتعبيرية، لا بفضل الرسالة السياسية التي يحملها. كما أنه السينمائي اللبناني والعربي الأول الذي تعطى له الجائزة الكبرى في مهرجان غير عربي، اذا استثنينا «وقائع سنوات الجمر» لمحمد الأخضر حامينا («كان» – 1975)... فالباقون نالوا دائماً جائزة ثانية أو ثالثة، أو جائزة خاصة. في مهرجان نامور الدولي للسينما الفرنكوفونية، في بلجيكا، كانت الجائزة الكبرى (البايار الذهبي)، من نصيب «فلافل»، الفيلم الروائي الطويل الأول لهذا الشاب اللبناني الثلاثيني الذي كان سبق له أن حصد جوائز عدة، أوروبية غالباً، عن أفلام قصيرة له، طبعت مسيرته التي بدأت قبل عقد ونصف عقد من الآن. و «فلافل» الذي كان قد قدم في عرضه العالمي الأول، خلال «أيام بيروت السينمائية»، في بيروت، حيث لفت الأنظار، فيلم تدور أحداثه في ليلة واحدة من حول شخصية بطله توفيق، ليرصد خلال تلك الليلة والأحداث المدهشة، المؤلمة حيناً والمضحكة حيناً آخر، التي تحدث فيها، شرائح من صورة لبنان اليوم، في تماس مباشر مع الحياة ومع سيرورة مجتمع يريد أن يعيش على رغم كل شيء. هذه الليلة التي لا تحدث فيها، مع هذا، أمور كثيرة، عرفت كاميرا ميشال كمون كيف تصورها من خلال عمل متقشف ومن خلال ممثلين مبدعين، أكثرهم لم يعرف طريقه الى الشاشة من قبل، كما من خلال ضيوف شرف أتوا من عراقة الحركة المسرحية والسينمائية في لبنان. ضيوف شرف، عرف كيف يوظف حضورهم بقوة، مخرج هو في الوقت نفسه، وهذا أمر نادر الحدوث في السينما اللبنانية والعربية، كاتب سيناريو من طراز استثنائي، حيث ان قوة هذا الفيلم تعتمد أول ما تعتمد على سيناريو قوي متماسك يقول موضوعه بإيقاع مدهش وحواراته ببساطة الحياة نفسها، في الوقت الذي ينهل بتوفيق من تجارب السينما الحديثة، الى درجة بدا معها فيلماً آتياً الى السينما من السينما نفسها. حين عرض الفيلم للمرة الأولى قبل أسابيع قالت «الحياة» حسناته... وكنا واثقين من أن الفيلم سيشق طريقه بقوة على خارطة السينما الشابة، لبنانية وغير لبنانية. وها هي «البايار» الذهبية في مهرجان نامور البلجيكي، تأتي لتؤكد هذا. بل تؤكد ما هو أكثر منه، وما كان لفت أنظارنا أيضاً: تميز موسيقى الفيلم التي وضعها توفيق فروخ وأتت مترابطة مع ايقاع الفيلم و «سيكولوجيته». وبهذا يكون «فلافل» فاز بجائزتين كبيرتين في أول اطلالة عالمية له، ما يشي، ليس فقط بولادة متكاملة لمخرج لبناني جديد/ قديم، بل بإرهاص انبعاثة جديدة للسينما اللبنانية. الحياة اللندنية في 10 أكتوبر 2006
ميشال كمون يحقق فيلمه الروائي الطويل الأول بعد أعمال قصيرة لافتة ... «فلافل»... لقاءات ليلية من النوع الثالث إبراهيم العريس ما هي أنواع اللقاءات التي تُقيّض للمرء حين يسير ليلاً في مدينة مثل بيروت؟ أنواع كثيرة بالتأكيد، ولكن يمكن التوقف عند نوعين منها: لقاء المرء مع الآخرين (الآخر عموماً)، ولقائه مع نفسه. أما حين يختلط الآخر بالذات، والعكس بالعكس، فإن ما ينتج عن هذا لقاء من النوع الثالث: لقاء مع الحياة. ولنكن أكثر تحديداً: التقاء النظرة بالحياة. ولأن مشاهد الحياة المعنية هنا لا تكون واقعاً مكتملاً مبرراً ومفسراً، يصبح اللقاء بالأحرى: لقاء النظرة بشرائح من الحياة، قد يكون كل منها في حاجة الى تفسير وتوضيح، ما يفرّع الحكايات وينتج روايات من النوع المسمى «الرواية النهر» – «يوليسيس» جيمس جويس مثلاً، أو «برلين الكسندر بلاتز» ألفرد دوبلن -. لكننا نكون هنا قد ابتعدنا عن السينما. فالسينما، أعني السينما الحقيقية الراغبة في أن تصوّر اللقاء بين النظرة وبين الحياة كما هي، لا يمكنها إلا أن تمر عبوراً بتلك المشاهد، مدركة ان تراكمها، من دون تفسير، أو تبرير ثرثار، هو الذي يشكل الفيلم. والفيلم هذا يكون، في العادة، منتمياً الى نوع سينمائي خاص جداً، ينظر الى نفسه وريث كل إنجازات السينما عموماً، إنما بعد أن يصهر كل تلك الإنجازات السابقة في بوتقة واحدة هي الفيلم الذي يحققه صاحبه انطلاقاً من هذا كله. ومن الواضح ان فيلماً من هذا النوع سيكون من الصعب القول انه ينتمي الى «نوع» محدد. لأن النوع يستدعي التصنيف. والفن الحقيقي، مهما كان ثرياً أو متقشفاً أو بين بين يكون، بالضرورة، خارجاً عن أي تصنيف... وعلى الأقل عندما يظهر كالنيزك في فضاء فن السينما... راسماً في الدرجة الأولى علاقة مبدعه بالحياة. بصورة الحياة وقد ابتعدت عن الأدلجة، وعن الغائية، وعن محاولة التحول الى موعظة أخلاقية أو رسالة نضالية. هذا النوع من تصوير الحياة هو ذاك الذي اختاره ميشال كمون، «اسلوباً» سينمائياً له في فيلمه الروائي الطويل الأول «فلافل» الذي قدم في بيروت قبل أيام في عرضه العالمي الأول. شغف بالسينما منذ البداية لا بد من القول ان هذا الفيلم اللبناني يأتي ليُضاف الى سلسلة (قليلة العدد) من أفلام لبنانية متميزة تشمل، في ما تشمل، شرائط لزياد الدويري («بيروت الغربية») ودانيال عربيد («معارك حب»)، بدأت تظهر خلال سنوات ما بعد الحرب، وريثة شرعية لتلك البدايات اللبنانية التي حملت تواقيع مارون بغدادي وبرهان علوية على وجه الخصوص. غير انه سيكون من الظلم لفيلم كمون الأول اعتباره فقط إرثاً لهذه البدايات. هو بالأحرى وريث ولهٍ بالسينما، السينما الكبيرة والمستقلة، الأوروبية واليابانية، يتملك ميشال كمون منذ يفاعته، وسبق له أن عبر عنه في نصف دزينة من الشرائط القصيرة التي اعتبر معظمها تحفة (وجلّها عرض على الشاشات الفرنسية والبريطانية ما يجعل كمون، الثلاثيني، غير معروف للمتفرج اللبناني أو العربي كما ينبغي). ميشال كمون، وهذه ميزته الأولى، يأتي الى السينما من فن السينما نفسه، من شغفه بفيم فندرز وجارموش واوزو وناني موريتي وتوماس بول اندرسون (ويمكن للائحة أن تطول)، ومن يدقق في ثنايا «فلافل» لن يفوته أن يعثر على «تحيات» لهؤلاء، في لقطة من هنا أو مشهد من هناك. غير ان هذا يظل مسألة ثانوية جداً لأن الأساس في هذا الفيلم الطموح والفائق الجمال، هو الشغف بالحياة. فإذا كان كمون قد تعلم شيئاً من أسلافه، فإن هذا الشيء هو – أولاً – ان السينما يجب أن تقول الحياة كما هي، لتشكل حياة موازية. ولأن المسألة، هنا، مسألة سينما – أي الفن البصري بامتياز -، ولأن الفن البصري غير مخول بالتفسير والتبرير، لا يعود على السينمائي، سوى أن ينقل على الشاشة ما يرى أنه الحياة. ولِنَقْل هذه الحياة يجعل كمون جزءاً أساسياً من فيلمه «فيلم طريق»، رحلة تستغرق ساعات في ليلة واحدة يقوم بها «بطله»، أحياناً بحثاً عن شيء ما، وأحياناً من دون هدف، هي في نهاية الأمر رحلة في حياة هذا الوطن، هذه المدينة، في طوبوغرافيا المدينة – بالمعنى المادي الخالص -، وفي طوبوغرافيا الوطن، بالمعنى المرتبط بكيف صار هذا الوطن بعد الحرب. للعين دور أول هذا كله، يُروى لنا في الفيلم بصرياً، أكثر مما يروى لنا من طريق أي ثرثرة لفظية. وفي هذا الإطار يمكن اعتبار ميشال كمون، الى جانب المصري يسري نصرالله (في «مرسيدس» فقط)، والى جانب ايليا سليمان (في أفلامه كلها)، واحداً من قلة من مخرجين عرب أدركوا أهمية اللغة السينمائية البصرية في بعدها الحقيقي، كجوهر للسينما. ولعل خير دليل على هذا، في فيلم «فلافل»، هو تلك المشاهد العابقة بالكوميديا – السوداء غالباً – والتي تبدو منتمية الى زمن السينما الصامتة، حيث يكون للحركة والتعبير وقع المفاجأة التي تعطي المشهد دلالته، وغالباً ما تثير الضحك في الصالة. ولا بأس من أن نفتح هلالين هنا، لنقول ان «فلافل» على رغم كل جدية موضوعه، ومأسويته في بعض الأحيان، فيلم يضحك فيه الجمهور كثيراً، ربما بفضل ما يراه على الشاشة، ربما بفضل ما يحسه من إسقاط وتماهِ بين شخصيات على هذه الشاشة، وبين ذاته. «فلافل» إذاً، فيلم طريق، تستغرق «حوادثه» بضع ساعات. نقول حوادثه ونعرف أن ليس ثمة أموراً كثيرة تجرى في هذا الفيلم. ما يجري فقط هو حكاية توفيق (تو)، العشريني الهادئ البسيط، الباحث عن حكاية حب مع مراهقة هادئة بسيطة، وسط حفل راقص يجمعهما بأصدقاء ورفاق من النوع الذي يملأ، على تناقضاته، ليل بيروت الصاخب في الداخل، المظلم التعيس في الخارج – كما لو كان مستقى من رواية لكارسون ماكلرز أو من لوحات لإدوارد هوبر -. وتوفيق يقوم بتجواله بين الداخل والخارج، بين الرقص واللقاءات العابرة، ما يتيح لنا – عبر نظرته غالباً – أن «نرى» هذه النوعية – أو هذه النوعيات من الحياة -، وان نرى – خصوصاً – ذلك الهذيان اللبناني، الذي نعرف ان سينمائيين كثراً في لبنان حلموا بتصويره على الشاشة، منذ السنوات الأولى للحرب اللبنانية، لكن أحداً منهم لم يفعل في شكل جدي. غير ان الهذيان لدى ميشال كمون لا يكتمل إلا في أجزاء من الفيلم، وخصوصاً من حول حكاية قرص الفلافل الهارب، وحكاية بائع السلاح الذي يغرق فجأة في البكاء، وحكاية «الرجل المهم» الذي سيهين توفيق، ليندفع هذا خلال النصف الثاني من الفيلم باحثاً عنه ليثأر منه لكرامته. ولكن هنا علينا ألا نفترض ان هذا الاندفاع يشكل حدثاً ما في الفيلم. هو ليس، في نهاية الأمر أكثر من مبرر لتمكين نظرة توفيق من التقاط تلك المشاهد الحياتية التي أشرنا اليها أول هذا الكلام. ولكن ما الذي تلتقطه نظرة توفيق، نظرة المخرج ونظرتنا نحن المتفرجين بالتالي؟ أحداث صغيرة، من التي يمكن أن تحدث في كل يوم. أحداث قد يخيل الى المتفرج أن توفيق، ما ان رآها، حتى شحذ همته وراح متابعاً. لكن الحقيقة ان كل حادث من هذه الحوادث سيتوقف هنا، مع نظرة توفيق اليه. مثلاً، حين يشاهد توفيق سيارة فيها مسلحون يخطفون سائق سيارة أخرى وسيارته، لن يتعدى الأمر في الفيلم هذا البعد. تتوقف علاقة توفيق بالأمر عند هذا الحد. وأم توفيق حين تنتظر ابنها المتأخر ليلاً، بكل قلق وتعود اليها الكاميرا مرات عدة وهي تدخن خائفة... لن يتواصل قلقها، عندما يعود توفيق ستكون قد نامت! وياسمين، غرام توفيق، عندما يختفي هذا الأخير، ستعود الى بيتها – على عكس ما يحدث في «السينما» حيث يمكن ان تواصل هي المشاركة في البحث -. وتاجر السلاح الذي يشتري منه توفيق المسدس لقتل «الرجل المهم» سيتركه توفيق غارقاً في نحيبه... تماماً كما يترك الدراجة النارية قرب مخفر الشرطة ويهرب. نهاية ما ولأن لا شيء لدى ميشال كمون يأتي من الصدفة أو يدخل في سياق فيلمه في شكل مجاني، واضح ان كل هذا الترك للأمور معلقة، إنما هو تمهيد لشيء ما... وسنكتشف انه يمهد لنهاية الفيلم. هذه النهاية التي من دون أن نتحدث عنها هنا تفصيلياً، تبدو لنا أقوى نهاية شهدها فيلم عربي أو لبناني منذ وقت طويل. ولئن كان ميشال كمون حرص في طول فيلمه وعرضه، ألا يسبغ عليه أي ابعاد سيرة ذاتية، في استثناء تلك الإطلالة المتواصلة على الحياة، والتي يمكن أن تكون إطلالة توفيق أو إطلالة المخرج أو إطلالتنا، نحن المتفرجين، إذ نتوحد في هذا الفيلم من خلال عملية التماهي بالغة الدلالة والإسقاط، فإن المخرج لم يتمكن من أن ينهي فيلمه من دون ان يدخل فيه، وفي شكل رائع، جزءاً من سيرته الذاتية، المتعلقة بالارتباط الحنون الذي كان يعيشه بوَلَه مع شقيقه الأصغر سناً روي، والذي قضى قبل سنوات في حادث غرق في أحد الأنهر. واضح هنا ان ميشال كمون أهدى – هذه النهاية، وليس الفيلم كله كما يشير في كتابة على الشاشة – الى ذلك الأخ الغائب. والنهاية تتضمن، لكي لا ندخل في تفاصيلها – أخ توفيق وقد بلل نفسه وجلس منتظراً أخـاه عند الفجر مكان أمه، ثم اعتناء توفيق بأخيه وصولاً الى وضعه في سريره هو، أي سرير توفيق. لأن هذا الوضع مكنه من أن يصور أجمل وأقسى لقطات الفيـلم: اللقطة البانوراميـة التي تبدأ بسرير الأخ الخالي منه. ونحن نــعرف رمـزية السرير الخالي ليلاً من صاحبـه. هذه اللقطة التي تصاحبها موسيقى توفيق فروخ الاستثنائية، والحركة المنتمية الى عالم يوسيجورو اوزو الياباني ذي الخصوصية التشكيلية التي باتت واحداً من ضروب شغف بعض أفضل السينمائيين في عالم ما بعد الحداثة، من اندرسون الى ايليا سليمان مروراً بجيم جارموش، تأتي هنا، من ناحية لتذكرنا بمأساة ميشال كمون العائـلية الخاصة، وبمدى سينمائية هذا المخرج، الذي يبدو – ولمرة نادرة في السينما اللبنانية والعربية – محكم السيــطرة على فيلمه، أولاً بكتابة متماسكة للسيـناريو، ثم بإدارة متمكنة لممثلين جلهم من الهواة، وبعد ذلك باستخدام مدهش لبعض الفنانين الراسخين، وأخيراً باستخدام الصورة والصوت والموسيقى لخــدمة عمل، من المؤكد انه، إذا كان يتسلل الى الذاكرة ببطء، يتسلل اليها بفـعالية وقوة وتوريط للمتفرج، توريط لا ينجو منه المتفرج بسرعة. ذلك ان «فلافل» بتفاصيله – وهو فيلم تفاصيل أولاً وأخيراً، كما يجدر بالسينما الكبيرة ان تكون -، سيبقى في ذاكرة المتفرج سنوات طويلة بعد ان تُنسى أفلام كثيرة أخرى. أما بالنسبة الى مخرجه، فإنه بالتأكيد، «بسذاجة» سينماه المصطنعة، بمكره واشتغاله الخلاق على لعبة التلصص بين المتفرج والفيلم، كما بين شخصيات الفيلم وما حولهم، فتح طريقاً مدهشاً لسينما لبنانية جديدة... لبنانية خالصة من دون لف أو دوران، سينما تنتمي الى السينما أولاً وأخيراً، طريقاً سيسهل عليه خوض مشاريعه المقبلة، في الوقت الذي من المؤكد انه لن يبقي بعض السينما اللبنانية الجديدة على بلادة بدأت تتسم بها. من السيناريو الى الشاشة منذ طفولته يعيش ميشال كمون السينما بكل جوارحه، هو الذي ولد في حقبة العصر الذهبي للسينما العالمية وفتح عينيه واعياً مع البدايات الحقيقية للسينما اللبنانية على أيدي مارون بغدادي وبرهان علوية وجوسلين صعب وجان شمعون. كمون اللبناني الذي عاش سنين كثيرة من حياته في باريس، حيث كانت هوايته ونشاطه الوحيدين، مشاهدة الأفلام مرات ومرات واكتشاف كيف يعبر الفن السابع عن نفسه في العالم، كان في الثالثة والعشرين، العام 1992 حين انهى دراسته السينمائية في العاصمة الفرنسية بعد نيله ديبلوم رياضيات في بيروت. وهو على الفور بدأ يتحرك لتحقيق أفلام قصيرة وطويلة كان يحلم بها، كاتباً عشرات السيناريوات خلال عمل ليلي في أحد الفنادق الباريسية الصغيرة. ولكن اذا كان قيض له باكراً أن يحقق شرائط قصيرة، فإن حلمه بتحقيق أول فيلم طويل له، كان عليه أن ينتظر أكثر من عقد من الزمن. لكن تلك السنوات لم تكن ضائعة في حياته. فهو اضافة الى كتابته لسيناريوات بعضها رائع وينتمي الى انواع سينمائية عدة، حقق لقناة «آرتي» الفرنسية - الألمانية أول افلامه القصيرة «كاتوديك» (1993) وهو عمل مميز ينتمي الى الكوميديا المقابرية السوداء التي ستميز معظم افلامه القصيرة التالية: من «ظلال» (1995) الذي اهداه الى ذكرى مارون بغدادي وصوره في بيروت ثم «الدوش» تلك التحفة الصغيرة التي حققها في العام 1999، متأثراً فيها بموت شقيقه الصغير والوحيد غرقاً. وخلال العامين 2002 – 2003، حقق كمون فيلمين للتلفزة البريطانية «تهريج في الجوار» و «الارانب المختفية». ومنذ العام 1995، وهو في باريس قبل أن يعود بشكل شبه نهائي الى لبنان، راح كمون يحضر لفيلمه الروائي الطويل الأول، الذي تبدل موضوعه ومنتجوه الممكنون مرات ومرات. لكنه، منذ عاد الى بيروت، وبدأ يواجه الحياة اللبنانية – ما بعد – الحرب، استقر أمره على «فلافل»، السيناريو الذي كتبه انطلاقاً من رصده الساخر للحياة المحلية، ومن رغبته في تحويل ذلك الرصد الى صور، كعادته في أفلامه القصيرة. ولقد اضطر كمون الى الانتظار نحو عشر سنوات قبل أن يتمكن من تحليق فريق عمل – لبناني خالص، كما يقول – من حوله، ويبدأ وحيداً والى درجة اليأس أحياناً، في جمع الاموال – القليلة نسبياً – اللازمة لانجاز الفيلم. واستغرقه انجاز الفيلم نحو ثلاث سنوات كاملة، منها سبعة اسابيع تصوير فقط. واليوم اذ يتحدث كمون عن «فلافل» بارتياح مشوب ببعض القلق، يقول إن الفيلم، على رغم أنه فيلم مؤلف، يدين في وجوده الى افراد الفريق الذي عاونه، ممثلين وتقنيين، ومنهم من لم يسبق له أن وقف وراء الكاميرا أو أمامها. والحقيقة أن النتيجة في المكانين تجعلنا نشكك في صحة هذا القول! الحياة اللندنية في 22 سبتمبر 2006
|
"مهرجان بيـروت السـينمائي الدولي" في دورته السابعة (2) لـئــــلا نـــقــــع فـي أزمــــة الـصـــــالات الــفـــــارغــــة هوفيك حبشيان |