لدى وصول الزائر إلى مدينة الإسماعيلية يصعب عليه أن يتوقع قيام مهرجان دولي للأفلام التسجيلية في هذه المدينة الهادئة، الغافية تحت ظلال أشجار النخيل والمانغا، لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدد أمام حماسة وإصرار منظمي المهرجان الذي بلغ، في هذه السنة، دورته العاشرة ليصبح تقليداً سينمائياً يكسب المدينة بعداً ثقافياً فنياً، فضلاً عن شهرتها التاريخية المرتبطة بقناة السويس.

الأفلام التي شاركت في الدورة الأخيرة جاءت من بلدان مختلفة، تماماً كتلك البواخر التي تحمل أعلام مختلف دول العالم وهي تعبّر بصمت مياه القناة بالقرب من القرية الأولمبية، مقر إقامة ضيوف المهرجان. نقاد ومخرجون وإعلاميون قدموا من عواصم العالم، البعيدة والقريبة، جمعهم عشق السينما، والرغبة في حوار يسهم في التقارب والتعايش بين الثقافات، ولعل ما يميز مهرجان الإسماعيلية هو انه يبتعد عن كل ما هو سياحي واحتفالي ودعائي، كما هي الحال في معظم المهرجانات السينمائية، لينفتح على الفن السابع بمختلف تياراته ومدارسه واتجاهاته وأنواعه...، فباستثناء الفيلم الروائي الطويل الذي يحتفى به في مختلف المهرجانات السينمائية، فإن السينما بكل أطيافها تكون حاضرة، وهذا الحرص على السينمائي دون الدعائي الترفيهي ربما يفسر سبب غياب جمهور الإسماعيلية عن العروض اليومية، ليقتصر الحضور على نخبة قليلة من أهالي المدينة ومن الضيوف ممن لا يأبهون بالبريق والأضواء بل بما يعرض على الشاشة في الصالة المعتمة.

عرض المهرجان ما يقرب من تسعين فيلماً توزعت بين التسجيلي القصير، والتسجيلي الطويل، والروائي القصير، وأفلام التحريك، والفيلم التجريبي، وكان من الصعب العثور على هوية أو «ثيمة» تجمع بين هذه الأفلام التي اشترك ستة وستون منها في المسابقة الرسمية، لكن الملاحظ أن القضايا الإنسانية الاجتماعية ذات النبرة الوجدانية غلبت القضايا السياسية الكثيرة المثارة في العالم العربي والعالم، مع ضرورة الإشارة إلى أن فيلم الافتتاح «أخي عرفات» جاء بتوقيع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي الذي يرصد من خلاله جانباً من الحياة الإنسانية الشخصية لياسر عرفات، وخصوصاً في أيامه الأخيرة، بلسان شقيقه فتحي عرفات مؤسس الهلال الأحمر الفلسطيني.

ولئن جاء هذا الفيلم بمثابة تحية للسينما الفلسطينية التي كانت غائبة عن هذه الدورة، شأنها في ذلك شأن معظم السينمات العربية، فإن تكريم المخرجة الفلسطينية مي المصري يصعب تأويله سياسياً، ذلك أن المصري حققت خلال تجربتها السينمائية ما تستحق عليه التقدير، لاسيما أنها تحمل مفهوماً خاصاً للسينما يخالف ما هو سائد، ومبتذل، وهي كانت برشاقتها وحيويتها نجمة المهرجان الذي وزع كتاباً عن سينماها بعنوان «مندوبة الأحلام، سينما مي المصري» لفجر يعقوب، وعرض في أمسية خصصت لها، فيلمها الأخير «يوميات بيروت: حقائق وأكاذيب» التي توثق عبره تلك الأيام القاسية التي عاشتها بيروت عقب اغتيال رفيق الحريري، وكذلك فيلمها «أحلام المنفى» الذي نال العديد من الجوائز لدى إنجازه في العام 2001.

واحتفى المهرجان كذلك بالفيلم الإماراتي عبر اختيار نماذج لمجموعة من المخرجين الإماراتيين الذين يحاولون تقديم تجارب سينمائية جريئة تتفاوت في مستواها لكنها تعبر بمجملها عن رغبة في الانحياز إلى فن السينما في بلد يفتقر إليه، وعن طموح نحو تكريسه، والارتقاء به.

قريباً من التوقعات

جوائز المهرجان جاءت قريبة من توقعات الضيوف، وفي حديث ودي مع العضو في لجنة التحكيم بندر عبد الحميد التي ترأسها محمد كامل القليوبي وضم في عضويتها السينمائي العراقي انتشال التميمي، ومن الهند الناقدة إندو شريكنت، ومن هولندا المخرجة سونيا دولز، ومن الأرجنتين السيناريست والمخرج لاوترو نونيز دي آركو، أكد ان اللجنة «عملت في جو من الحوار الودي العميق ومنحت جوائزها دون أي وصاية أو توجيه»، فنوهت بالفيلم السوري التسجيلي الطويل «حجر اسود» للمخرج نضال الدبس، في حين ذهبت الجائزة الكبرى إلى الفيلم التسجيلي الطويل «دفتر أحوال شوتكا» (صربيا ومونتنجرو، التشكيك) للمخرج الصربي الكسندر مانيتش الذي يراقب عبر لغة سينمائية مؤثرة يوميات بلدة شوتكا، فيعثر هناك على شخصيات طريفة، وحيوات متنوعة تتحايل على الحياة وتغني بفرح على رقعة جغرافية منسية بيد أنها غنية بالدلالات والرموز والإيحاءات التي تلتقطها كاميرا المخرج بذكاء لافت. ومنحت مجلة «سينما»، كذلك، جائزتها إلى هذا الفيلم معللة ذلك بأنه فيلم «يرسم بلغة فنية مبتكرة صورة غنية بالخيال والحيوية وحب الإنسانية». أما الفيلم التسجيلي الطويل «البنات دول» لتهاني راشد فقد قطف جائزة افضل فيلم ما أثار جدلاً بين الضيوف، ذلك أن أفلاماً مصرية أخرى اعتُبرت افضل منه، مثل فيلم «مكان اسمه الوطن» لتامر عزت، لكن ما ميز فيلم راشد هي أنها اختارت موضوعاً حساساً، إذ وجهت الكاميرا نحو قاع المجتمع المصري، وعرت تناقضاته عبر عيون نساء محرومات من كل شيء، فسجلت المخرجة بذلك جرأة نادرة رغم العثرات التي وقع العمل فيها.

أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فكانت من نصيب الفيلم الهندي «قوة السلطة الخاصة للقوات المسلحة 1958» للمخرج هاوبام بابان كومار الذي يختار نموذجاً يمثل كيفية قمع السلطات المستبدة للاحتجاجات الجماهيرية على ظروف القمع والتسلط، وقد حاز الفيلم كذلك على جائزة لجنة (وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية)، كما حصل على تنويه من جمعية نقاد السينما المصريين التي منحت جائزتها الرئيسة للفيلم الأرجنتيني «أعدم في فلورستا» للمخرج دييغو سيبالوس.

في مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة نال الفيلم السويسري «سلام فيتنام» للمخرج روبرت منيني ميروت جائزة افضل فيلم، بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم إلى الفيلم الفرنسي «مارغريت جارنر» لمخرجه مصطفى الحسناوي، في حين حصل فيلم ليث عبد الأمير «العراق:أغاني الغائبين» على تنويه يستحق الفيلم اكثر منه، ذلك أن المخرج حمل كاميراه في ظروف سياسية عصيبة أعقبت سقوط النظام العراقي وراح يستكشف حضارة بلاده المغرقة في القدم، ليظهر عمق المأساة التي يعيشها العراق حالياً.

أما جائزة أفضل فيلم ضمن مسابقة الأفلام الروائية القصيرة فقد قطفها فيلم «محظوظ» ( جنوب أفريقيا، بريطانيا) للمخرج أفي لوثرا، بينما ذهبت جائزة لجنة التحكيم إلى فيلم «صباح الفل» لشريف البنداري الذي ينجز عبر لقطة واحدة طويلة (9 دقائق) لحظة مضنية في حياة امرأة مصرية متزوجة (هند صبري) تعترف خلالها بهواجسها وأحلامها ومعاناتها في صباح تستعد فيه للذهاب إلى العمل، فتكتشف انه يوم عطلة يستحق أن يكون صباحه (صباح فل). في مسابقة أفلام التحريك استحق فيلم «أنيق» المشغول بذكاء، والقادم من لوكسمبورغ لدانييل وايروث جائزة افضل فيلم، وفي مسابقة الفيلم التجريببي حاز فيلم «شوربة سمك» من ألمانيا على الجائزة الرئيسة.

شعرية التسجيل

وشهد المهرجان ندوات عدة حول الأفلام التي شاركت في المهرجان، لكن الندوة الدولية الرئيسة تمحورت حول «شعرية الفيلم التسجيلي والقصير»، وشارك فيها نخبة من النقاد والسينمائيين بينهم جابر عصفور، سيد سعيد، بندر عبد الحميد، ابراهيم نصر الله، سلمى المبارك، محمد كامل القليوبي...وغيرهم ممن حاولوا الإجابة على أسئلة تتعلق بمفهوم الفيلم الشعري، وما هي المعايير التي تحدد هذا الاتجاه السينمائي؟ وما الذي يميز الفيلم الشعري عن غيره من الأفلام؟

إلى غير ذلك من الأسئلة التي تثار في الوسط السينمائي ولا أحد يستطيع تقديم أجوبة ناجعة بشأنها، بحسب ما انتهى إليه المشاركون في الندوة. وأقامت «سمات» للإنتاج والتوزيع وبدعم من الاتحاد الأوربي ورشة «الذات والمدينة» بهدف «تعميق الحوار السينمائي والثقافي والإنساني بين الدول العربية والأوربية» كما تقول هالة جلال التي أشرفت على أعمال الورشة. وكان حفل الختام مؤثرا إذ انتهى بعرض ملصق المهرجان القادم ليجدد الأمل باللقاء، وليحفز السينمائيين على إنجاز أفلام ستتبارى في الدورات القادمة.

الحياة اللندنية في 29 سبتمبر 2006

 

فى مهرجان الإسماعيلية الدولى العاشر

معجزات علبة الصفيح الأمريكاني!

د. نهاد إبراهيم 

من بين أفلام الدورة العاشرة لمهرجان الإسماعيلية الدولى للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة، اخترنا التوقف أمام فيلم واحد يكاد يكون أقصرها على الأقل فى قسم التسجيلى القصير، وهو الفيلم الفلبينى علبة وخُفْ Can and Slippers إنتاج عام 2005 الذى يستغرق عرضه دقيقتين فقط لا غير.

قبل مشاهدة الفيلم يخبرنا مخرجه كافِن أن هذا الفيلم ليس من إخراج كافِن، فضحكنا وعلمنا أننا أمام فنان فلبينى مشاكس خفيف الدم، يتمتع بسرعة بديهة وذكاء أيضا فى استقطاب المتلقى من أبسط وأيسر طريق، كما أنه أيضا رجل متعدد المواهب ويمارس كتابة السيناريو والتأليف الموسيقى إلى جانب مهمته الأساسية فى الإخراج. كل ما هنالك أن الكاميرا بدأت دورة حياتها مع الفيلم بتثبيت كادرها الصغير القريب جدا لحظات معدودة أمام علبة مياه صفيح لمشروب غازى أمريكى شهير، تقف وحدها فى العراء لا تفعل شيئا فى الحياة سوى أنها تستند دون قصد أو عن عمد على أرض الفلبين، تعلن عن نفسها ووجودها وجنسيتها وهيمنتها وشرعية احتلالها الثقافى الاقتصادى الفكرى لهذه المنطقة الخفية فى وطن الغير، لنعرف أنها بطل العمل الرئيسى على سبيل الاستعارة الرمزية الواضحة أو على الأقل أحد أبطاله. وبالفعل ينطلق الصبى الفلبينى الفقير الصغير بهذه العلبة وهو يركلها بكل قوة وتصميم ومزاج دون أن يحدد نشانه هدفا واضحا، يلعب بها وكأنها كرة قدم طبقا لخياله الواسع وإمكاناته المعدمة وحلوله الطفولية اللاتقليدية الواقعية العظيمة، فهو يريد أن يستكشف العالم من حوله فى هذه اللحظة من خلال هذه العلبة الفارغة من محتواها المادي، لكنها على النقيض ممتلئة عن آخرها بالكثير من المفاهيم التى تحملها فى كل مكان تذهب إليه فى العالم.. فيأخذنا الصغير فى جولة سياحية سياسية اقتصادية اجتماعية سيكولوجية فنية تفقدية غير مرتبة عبر الكثير من شوارع الفلبين وحواريها وبيوتها المقفرة، وسط الركام والتلوث والقاذورات والملابس المهلهلة والبيوت المهدمة والمواطنين المطحونين جدا فى كل مكان.. كل هذا ومازال الصبى الصغير يركل العلبة الفارغة بقدمه، ونحن نتابعها تارة بالصوت والصورة فى زوايا متدحرجة ملولبة تسير بنا عبر منظور أرضى وآخر أعلى قليلا وهكذا حتى تلم بالمنظور من عدة جوانب، بينما نتابعها تارة أخرى عبر صوت ارتطامها المزعج فقط بالنسبة لنا والممتع بالنسبة لهذا الشقى الصغير للعلبة وهى تحتك بأرض الوطن وممتلكاته الرثة التى تحملها الشوارع على كتفيها بمنطق مجبرا أخاك لا بطل، وكأن هذه العلبة المستوردة الدخيلة الدسيسة تعلن لهذا الوطن وسكانه الملهيين فى البحث الخرافى عن لقمة العيش عن وجودها الراسخ المتغلغل المتسلل، وقدرتها الفائقة على محاورتها فى أى مكان ومهما كانت الظروف المحيطة. فى ظل موسيقى مرحة متعجلة طبقا لإيقاع الصبى الصغير المنطلق، ومونتاج ذكى يتعمد بعض الفوضوية والتخبط الارتجالى فى التنقل من هنا إلى هناك دون تمييز لمكان بعينه أو فرد بعينه، لا تتعامل الرؤية الفنية الفكرية فى هذا العمل مع أفراد وعالمهم وخصوصياتهم، بل مع الغالبية العظمى للمجموع الشعبى العام لمواطنى الفلبين. لأن بالتأكيد الولد الصغير ذاته لم يرسم لنفسه خطة حربية مرتبة للبدء من هذه النقطة حتى النقطة الأخرى ولا ينتظم منهجا بعينه من قريب أو من بعيد، فنقطة الانطلاق الوحيدة تتحقق فقط عندما يناوشه مزاجه ليلعب قليلا ويسرق بعض لحظات طفولته من بين أنياب هذا الزمن المتشدد معه أكثر من اللازم دون أى معرفة سابقة بينهما. أما نقطة الانتهاء وإسدال الستار على هذا العرض الكروى الفنى القصير، فتأتى إما عندما يتخفف الصبى الصغير من رغبته فى اللعب قليلا إذ ربما يختطفه أى عفريت آخر، أو ربما عندما يتعب وتغلبه أنفاسه اللاهثة ويرتكن إلى الراحة لحظات يسايس روحه حتى يستأنف لحظة تحقيق ذاته من جديد. أو ربما عندما يصل هذا اللاعب المغامر الجريء وحده دون شريك إلى ذروة استجماع قواه ويكف عن العدو وركل هذه العلبة الكروية ويستعد نفسيا وبدنيا للحظة التسديد المنتظرة، ليحرز جووول عظيما فى قلب الفراغ والزمن، سيحسب له فى رصيده كنموذج مواطن بسيط أولا وأخيرا لا نعرف له اسما ولا بيتا، وإنما نعرف الآن عن وطنه الحقيقى الكبير الخارجى والداخلى من الكثير ما يكفى لإدراك رؤيته هو ولتكوين رؤيتنا نحن أيضا.

أما المفاجأة التى أخفاها لنا المخرج كافِن الذى لا يريد انتساب فيلمه إليه فى نهاية هاتين الدقيقتين، هى أن هذا الطفل اللاعب الماهر المارد المزعج الشقى الذى نرى كل جسده لأول مرة فى آخر لقطة، يسير فى واقع الأمر على عكاز فقير جدا فى خشبه، يعينه على هذا الزمن الرديء وعلى هؤلاء الدخلاء الذين يريدون احتلال كل شبر فى الأرض الفارغة. فهذا المرح الذى يصادق طفولته وعجزه وبيئته مبتسما فى وجه وطنه رغم كل شيء، يعيش ويجرى كل هذا المشوار ويركل علبة المياه الغازية الأمريكانى بكل قوته المكتومة وينتصر عليها انتصارا ساحقا وهو لا يملك إلا قدما واحدة.

العربي المصرية في 1 أكتوبر 2006

فيلمان تسجيليان من السينما الصافية

بقلم: عدنان مدانات 

فيلمان تسجيليان طويلان كانا مفاجأة مهرجان الإسماعيلية العاشر للفيلم التسجيلي والقصير، أحدهما حصد الجائزة الكبرى للجنة التحكيم، وثانيهما حصد معظم الجوائز المقدمة من مختلف الهيئات المانحة للجوائز في المهرجان، والأهم من ذلك إجماع السينمائيين ضيوف المهرجان على أهمية هذين الفيلمين المميزين عن حق.

عرض الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى تحت عنوان «دفتر أحوال شوتكا». وهو إنتاج تشيكي صربي مشترك من إخراج إلكسندر مانيك. ينتمي الفيلم إلى فئة الأفلام التسجيلية الطويلة. وفي العادة تتضمن الأفلام التسجيلية الطويلة قدرا من المخاطرة ببعث الملل عند المشاهدين، لكن هذا الفيلم كان على قدر كبير من الإمتاع من بدايته وحتى نهايته.

يصور الفيلم مجموعة شخصيات في قرية صغيرة تقع في البلقان أغلبية سكانها من الغجر تدعى «شوتكا» يعرفها الفيلم بأنها غير موجودة على الخارطة، وأنها في الأصل كانت عاصمة لروما القديمة. والمهم في القرية سكانها، وهم جميعا، كما يقدمهم الفيلم، على قدر كبير من غرابة الأطوار والسلوك، وكل منهم يمارس عملا أو هواية ما، مهما كانت شاذة أو تافهة، يخوض مباريات مع أقرانه في مجالها من أجل الفوز ببطولتها ويعتبر نفسه بطلها الأفضل، أي أن كل منهم بطل في حقل هوايته. والهوايات والممارسات متنوعة، فقد يكون الرجل بطلا في حفر القبور، أو الملاكمة، أو جمع أكبر قدر ممكن من أشرطة الأغاني التركية، أو بطلا في الملاكمة، أو في تدريب الطيور البرية على المصارعة، أو امتلاك اكبر قدر من أربطة العنق المصنوعة في فرنسا، أو حتى بطلا في الشذوذ المخنث.

أحد سكان القرية مشعوذ يرتدي عباءة سوداء مثل التي يرتديها مصاصو الدماء في الأفلام، وهو يدعي القدرة على اصطياد مصاصي الدماء.. وآخر يفاخر بأنه يستطيع أن ينتقل من حيث يقف إلى مكان بعيد في لمحة عين، وثالث ولي يدعي القدرة على الشفاء، ورابع عجوز في الخامسة والسبعين من عمره يعتبر نفسه بطلا في الحب لأنه جعل زوجته تنجب طفلة وهو في هذا العمر فأطلق على زوجته اسم «كاساندرا» تيمنا ببطلة المسلسل المكسيكي الشهير التي وقع في غرامها. رجال ونساء كلهم غريبو الأطوار يعرفنا الفيلم عليهم عن قرب، يرسم ملامحهم الخارجية ودواخلهم النفسية. شخوص مثيرون للسخرية، لكن الفيلم يجعلنا نحبهم ونتفاعل معهم. هم نصابون لكنهم ليسوا أشرارا مؤذين، يضعون أنفسهم بكل صدق وصراحة وعفوية في مواجهة الكاميرا. وهذا إنجاز توصل إليه المخرج نتيجة معايشة حقيقية لسكان القرية وعلاقة معهم يشوبها التفهم والمحبة.

لا تقتصر قيمة هذا الفيلم على مادته الوثائقية وعلى غنى شخصياته وعلى عالم القرية الذي يكشف عنه وعن تراث أهلها الفني، ولا على التعليق الممتع الذي يرافق تقديم الشخصيات، بل تشمل قيمته بشكل خاص قدرته على تقديم شخصيات متعددة متنوعة واقعية تماما وحقيقية، وما كان يمكن تخيل وجودها إلا في فيلم روائي، ينتمي إلى السينما الغرائبية، شخصياته من صنع خيال جامح لمؤلف أو مخرج. وفي واقع الحال فإن هذا الفيلم أوقع العديد من مشاهديه في حيرة وفي شك من أن تكون مشاهد الفيلم مصنوعة من خلال التمثيل، لكن الفيلم في حقيقته تسجيلي بامتياز، ينتمي إلى السينما المباشرة، ولكنه يتعامل مع الفيلم التسجيلي باعتباره فنا يستطيع تقديم مادة من الواقع لا تفقد أهميتها مع تغير الأزمان، وليس مجرد توثيق مرئي أو تحقيقي مصور حول موضوع راهن.

أما الفيلم الثاني الذي أثار الإعجاب فقد جاء من الهند، وهو بعنوان «قوة السلطة الخاصة للقوات المسلحة 1058». وهو أيضا فيلم طويل من إخراج هاوبام بابان كومار.

ينطلق الفيلم من حادثة جرت حديثا في قرية هندية تقع في ولاية مانيبور شمال شرق الهند، وهي واحدة من الولايات السبع المعروفة في الهند باسم «الشقيقات السبع». تتعلق الحادثة بالعثور على جثة امرأة مقتولة وملقاة في الشارع وعليها آثار اغتصاب. كان يمكن أن تمر الحادثة من دون ضجة لولا أن المرأة كانت اعتقلت من داخل منزلها من قبل جنود تابعين لفرقة عسكرية تابعة لقوات خاصة ذات صلاحيات استثنائية، بما فيها القتل لمجرد الاشتباه، مكلفة بالإشراف على الأمن في تلك الولاية منذ العام 1908، وهي الولاية التي كانت مستقلة في العامين التاليين على استقلال الهند، ثم انضمت إلى الدولة الهندية التي وضعت فيها قوات خاصة من الجيش تخوفا من قيام حركات استقلالية، حيث أن مواطنيها ينتمون لعرق مختلف الهوية واللغة.

تسببت هذه الحادثة بموجات من حملات الاحتجاج المتتالية التي سرعان ما انتشرت في أرجاء الولاية. كانت النساء في القرية هن المبادرات للقيام بحملة الاحتجاج والتظاهر التي اتسمت بعفوية مطلقة وكانت من دون تخطيط أو حتى عناصر قيادية. فقد اندفعت النساء إلى الشوارع فور انتشار الخبر ودخلن في مواجهات شجاعة مع قوات الجيش الذي مارس جنوده العنف ضدهن. بعد ذلك انتقلت الاحتجاجات والمواجهات إلى صفوف الطلبة الذين انتفضوا ودخلوا في صدام عنيف مع الجنود. صدام طابعه غير مسلح من قبل الطلاب يقابله عنف دموي من قبل أفراد الجيش. فيما بعد، شملت حركة الاحتجاج قوى سياسية محلية. مع ذلك تعاملت الحكومة المحلية مع هذه الاحتجاجات باستخفاف ولم تحرك ساكنا لوقف العنف الدموي من قبل الجيش ضد المدنيين. وفي النتيجة لم تعد مطالب المحتجين تقتصر على معاقبة المذنبين، بل تحولت إلى المطالبة بسحب قوات الفرقة الخاصة نهائيا من هذه المنطقة.

على امتداد ساعة وربع الساعة، رافقت الكاميرا وصورت عن قرب كل تفاصيل الاحتجاجات والصدامات لحظة فلحظة. نجح المخرج، وهو أصلا من مواطني الولاية، في تحقيق هذا الإنجاز عن طريق تجنيد ثمانية مصورين محترفين كانوا على أهبة الاستعداد للتواجد في أي مكان مع بداية الحدث، وكانوا على قدر كبير من المهارة والمبادرة والجرأة في آن. كان كل منهم أشبه بقناص متمرس لا تفوته حركة إلا والتقطها. وهكذا تضمن الفيلم العديد من المشاهد المؤثرة والصادمة للمشاعر، مثل مشهد نساء القرية وهن يتعرين كليا مقابل بوابة ثكنة الجيش في تحد سافر لفعل الاغتصاب، يقفزن ويتمرغن في التراب وهن يصرخن بكل حدة، وكذلك مشهد القائد الطلابي الذي التقطته عدسة الكاميرا، وقبل أن يلاحظه الجنود المنتشرون في المكان أو حتى رفاقه، أشعل النار بجسمه ثم ركض محترقا صارخا من شدة الألم إلى أن سقط إلى جانب الطريق في حفرة فيها ماء موحل، فاندفع نحوه الطلاب والجنود لإطفاء النيران، ثم صورته الكاميرا راقدا في المستشفى مضمدا من رأسه حتى أخمص قدميه، باستثناء وجهه، وكان يتكلم بصعوبة شديدة أمام الكاميرا نتيجة الألم مواصلا التعبير عن احتجاجه، إلى أن يشير الفيلم إلى وفاته في اليوم التالي. كذلك صور الفيلم عن قرب كيف ينهال الجنود على المتظاهرين بالعصي وركلات البساطير, وصور عن قرب كيف تعب أحد الجنود من ضرب وركل الشاب الملقى على الأرض، فسحب رشاشة وأجهز عليه بطلقة في الرأس.

ما هو مرعب في هذه المشاهد، ومنها الكثير في الفيلم، ليس فقط قسوة مادتها وصورها، بل أيضا عدم اهتمام الجنود بكونهم معرضين عن قرب لعدسة الكاميرا، وكأن ما يقومون به من قتل وتعذيب أمر طبيعي لا داعي للخجل منه أو إخفائه عن الأعين.

لم يلجأ الفيلم إلى المقابلات الصحفية، واستعاض عن هذا كله بتعليق حميم من المخرج وبلوحات مكتوبة تمر على الشاشة بين مرحلة وأخرى، على شكل لقطات دخيلة، تتضمن معلومات ضرورية، بالمقابل فهو ترك الصور تعبر عن نفسها بكل حيوية ومصداقية تجعل المشاهدين يتفاعلون معها ويعيشون معها لحظة فلحظة.

لم يكتف المخرج بتقديم كل هذه المشاهد العنيفة غير المسبوقة، بل نجح في ربطها في بنية سردية تصاعدية وصولا إلى الذروة، بنية تتجاوز العرض الدرامي إلى قمة العرض التراجيدي. وهنا أيضا، كما في فيلم «دفتر أحوال شوتكا» نجد أنفسنا أمام إنجاز فني، وإن بصورة مختلفة، يجعل المادة التسجيلية ذات قدرة بنائية لا تقل أهمية عن قدرة المادة الروائية المتخيلة. وعلى الرغم من أهمية المضمون السياسي والأخلاقي للفيلم، إلا أن المخرج لم يجعل منه بيانا سياسيا، بل عملا فنيا ينتمي إلى السينما التسجيلية الصافية، السينما القائم منهجها على إعادة تنظيم الواقع، وليس على إعادة خلقه، كما هو الحال في السينما الروائية.

* ناقد سينمائي أردني.

الرأي الأردنية في 6 أكتوبر 2006

 

سينماتك

 

مهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي في دورته العاشرة...

تكريم مي المصري وانفتاح على تيارات سينمائية من العالم

الإسماعيلية ـ ابراهيم حاج عبدي

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك