لم يحظَ الشريط الأخير لغسان سلهب باهتمام المهرجانات الاساسية الكبرى. "أطلال" ليس فيلماً يسهل التعامل معه لاسيما في حسابات المهرجانات الكبرى. انه عمل يتركك حائراً بين جديته في طرح الامور كما هي وبين قدرته على تمرير ومضات تقول بأن ثمة ما هو أبعد مما نراه. وهو فيلم لا ينتمي تماماً الى بيئته. او الأحرى هو ابن متمرد لهذه المنطقة. ينكرها، يعشقها، يكرهها، ينقدها... ولكنه ابداً لا يستسلم للخطاب المطالب به سينمائيوها. بل لعله ابن متمرد للمخرج نفسه، نائياً بكيانه عن "أشباح بيروت" و"أرض مجهولة" الى تخوم "الظرف الانساني" كما يسميه سلهب، غير المرتبط بمكان وانما النابع منه. قُدم الفيلم في عرضه العالمي الاول في مهرجان لوكارنو السينمائي اوائل شهر آب/أغسطس الفائت ابان اشتعال الحرب في لبنان، وفي عرضه المحلي الاول في مهرجان "ايام بيروت السينمائية" قبل نحو عشرة ايام. ومن المنتظر ان يطلق في صالتي "متروبوليس"و"سينما سيكس" بأمبير صوفيل في العاشر من تشرين الاول/اوكتوبر المقبل. لا يمكن القول ان الحوار التالي مع المخرج كان حول الفيلم. فالفيلم بما هو فيلم يتشكل بالنسبة الى سلهب مما هو أبعد من الصورة على الشاشة. ولكنه حوار حول بعض ما يطرحه الفيلم وخلفياته المتمثلة بهواجس مخرجه. *** · اللافت في "أطلال" انك تنطلق من مدينة موجودة وأناس حاضرين بعد ان كانت بيروت وأهلها مثار أسئلة في فيلميك السابقين "أشباح بيروت" و"أرض مجهولة". الفيلم الحالي، بخلاف سابقيه، يتعاطى مع بيروت كواقع وحقيقة وليس كإشكالية تاريخية ومعاصرة. ـ ربما لأنني في هذا الفيلم توقفت عن طرح الأسئلة. لم أعد أسأل نفسي عن ماهية هذه المدينة. ارتضيتها واقعاً وكذا بالنسبة الى شخصيات الفيلم. ولكن علاقة الفيلم ببيروت عضوية. ربما لا ينطبق على الفيلم وصفه بأنه عن بيروت او عن لبنان ولكنه حتماً نابع منهما. أعتقد ان "أطلال" فيلم عن الظرف الانساني في إطار مديني. وهو اذا اردت التحديد أكثر عن شخص منزوع من الحياة أسير به الى نهاية المطاف. ولكن الأخيرة ليست الموت بل اللاموت. انها حالة الشبح بين الحياة والموت. مقارنةً بفيلمي السابقين، "خليل" هنا لا يتطلع حوله ولا يتساءل حول علاقته ببيروت او هويتها. هو شخص يضيع هويته الانسانية لذلك أدعوه في العنوان الانكليزي للفيلم َفح َُّّفج موش او "الرجل الأخير". ولكن هذا الرجل ليس في بيروت صدفة وليس طبيباً بالصدفة. الفيلم يحكي عن الشبح وفي هذه المدينة الاشباح تتراكم. الفيلم يحكي عن تحول انسان في مدينة لا تتوقف عن التحول. الفيلم عن عزلة الانسان العميقة والحتمية وبيروت تفضح تلك العزلة أكثر من غيرها من المدن. هذا ليس تنبؤآً بمصير اي منهما. فمن عاش هنا يدرك ان الظلام ليس بعيداً انما تحت الأرجل. بالنسبة الي، هذا العمل يؤفلم تلك الحالة من التحول المستمر للمدينة ولناسها. حالة أذهب بها الى الآخر لأوصل معناها. · انطلاقك من بيروت كمدينة واقعية بتلك المواصفات يعني انك وصلت الى افق مسدود من دون أسئلة وانما بقناعة لا تخلو من سوداوية. ـ لا أنكر ان نظرتي تذهب الى السوداوية. المدينة تحولنا أشباحاً. · ما هي علاقتك بفكرة الشبح التي تتردد في كلامك وأفلامك؟ ـ هناك امران يوضحان ربما تلك الفكرة ومصدرها. الاول هو أنني أشعر ان الانسان يتأرجح بين نفسه وشبحه. أحياناً أرى الناس اشباحاً وأشعر انني شبح في علاقتي بالناس والحياة. والامر الثاني هو السينما نفسها كحالة تشبه الحياة ولكنها ليست الحياة. السينما بالنسبة الي أقدر الفنون على التقاط شبح الحياة. والانسان بعزلته المحتومة يذهب رويداً الى حالة الشبح لاسيما اذا كان محيطه، مثل بيروت، لا يترك له مساحة للتنفس وأخذ مسافة من التحولات. بيروت بتاريخها القصير عاشت تحولات كبرى أكبر من ان يستطيع الانسان هضمها او مواكبتها. هكذا ندخل في العزلة. · ولكن لماذا تقول ان السينما هي شبح الحياة؟ لماذا لا نقول انها صورة الحياة؟ ـ الامر سيان. الصورة بالنسبة الي شبح. او هي هكذا في وعيي ورؤيتي ،انا أعمل على تكريس تلك الرؤية. فعندما يطول زمن الصورة على الشاشةـ وهو ما أفعله غالباً في افلاميـ فإنها تحاول ان تلتقط شيئاً أبعد مما نراه وان تمنح المشاهد الوقت لقراءة ما خلفها. الشبح يعني العزلة ويعني ان نخطو خارج ذواتنا والتطلع اليها. في تلك اللحظة يتولد الازدواج بين انفسنا واشباحنا. ان تقطير تلك الحالة من الحياة هو الفيلم. في الحياة ادوات تمكننا من العيش ومن مواجهة الذات. هي الأحاسيس الحب والكراهية وهي الآخر الذي يطمئنك الى وجودك. الفيلم هو خارج الأحاسيس وخارج العلاقة بالآخر. انه بين خليل ونفسه او خليل وشبحه. · رغم ذلك فيلمك حافل بالتفاصيل الحياتية ولعله أكثر افلامك التقاطاً لمواقف وتفاصيل واقعية جداً كالحوار والمصادفات اليومية... ـ ربما لأنني احتجت الى خط واقعي لأبرز تمايز اللاواقعي. أما الحوار فقليل وعادي بخلافه في "أرض مجهولة" حيث كانت المسرحة سمته الاساسية للتعبير عن اننا نعيش في مونولوغات وليس "ديالوغ". · لقد عالجت تلك الافكار في افلامك السابقة ولكنك في العمل الحالي ذهبت الى الاستعارة المباشرة لفكرة الشبح من خلال ميثولوجيا مصاص الدماء. ـ هذا صحيح لان ميثولوجيا "الفامباير" او مصاص دماء عظيمة وتجذبني وأعتقد انها تشكل الاستعارة المثلى للسينما. مصاص الدماء هو المخلوق السينمائي المطلق لأنه مثل السينما في علاقتها بالحياة يتحول شبحاً، ومثلها ايضاً يتقلص تجاه الضوء وينجذب في اتجاه العتمة. كذلك يتشاركان، السينما ومصاص الدماء، لعبة السلطة المغوية. كلاهما يغوي شريكه، المشاهد او الضحية. هو لا يرى صورته في المرآة اي انه لم تتبقَ له صورة. هكذا ينسحب "خليل" بكل كيانه من الحياة، يترك كل شيء ويذهب الى العتمة. · التماهي هنا واضح في ما ذكرت بين مضمون الفيلم وادواته السينمائية. كل تلك العلاقة بين تحولات الشخصية وبين عناصر السينما الى اين تقود برأيك؟ ـ أعتقد ان هدف اي مخرج يصنع فيلماً ان يذهب أبعد من الرواية وأبعد مما نرى. ولكن تلك تبقى محاولة. فالمخرج لا يملك كل الأدوات. انه يركب العناصر في محاولة لتحقيق شيء أبعد لجعل الامور تحدث على النحو الذي ذكرنا. هذه لغة السينما. · على الرغم من الجسم التحليلي الذي يرتكز الفيلم عليه لاسيما فكرة الشبح الا انه اقل افلامك ذهنية وأقربها الى الحسي والمحسوس؟ ـ تعرفين، أحياناً أشعر بالسخافة عندما أتحدث عن شغلي. فأنا ايضاً فطري وحسي ولست فقط ذهنياً. لعل ذلك الجانب ظاهر أكثر في هذا الفيلم. وهناك أشياء كثيرة تفلت من سيطرتي وأراها فجأة على الشاشة. في هذا الفيلم، على المشاهد ان يثق بمشاعره من دون ان يحلل او يفهم. فقط يترك لمشاعره ان تقيم حواراً مع الفيلم. · ذكرت المشاهد غير مرة في كلامك وهو أمر غير معتاد. هل لعبت في هذا الفيلم على العلاقة بالمشاهد في حين انك لم تضعه في حساباتك المباشرة في افلامك السابقة؟ ـ المشاهد طرف اساسي في هذا الفيلم اذا ارتضى ان يكون ذلك. علاقته بالفيلم عضوية وتجربته جسدية. هناك لعبة غواية بين المشاهد والفيلم تماماً كالتي بين مصاص الدماء وضحيته. كما نرى في الفيلم، الناس لا تقاوم مصاص الدماء بل تستسلم له كتراجيديا لا يمكن ايقافها. السينما هي ايضاً سلطة تُمارس على المشاهد. · هل ينطبق ذلك على علاقتك ببيروت؟ هل هي علاقة غواية قاتلة؟ ـ لا أريد تصنيفها ولكن واضح بالنسبة الي اننا لا نبني المدينة ولا نعطيها الوجه الذي نريد. نحن نلحق بها حيث تذهب. الطريقة الوحيدة لتعامل مع ذلك هي ربما ان نكون اشباحاً؟ · تقصد ان ندرك اننا اشباح؟ ـ ان نفهم اننا مزيج مما نحن عليه ومن اشباح. نحن نعيش الحياة بما لا نراه. معرفة ذلك او عدمها مأساة. يمكن ان نموت من دون ان نعرف ذلك. واذا عرفنا فهذا يعني اننا قطعنا الحدود بين الانسان والشبح الى حالة الشبح. المعرفة تتضمن خطر ان يغلب علينا الشبح وعدم المعرفة خطر ايضاً. · ماذا يحدث اذا قرأنا الفيلم حرفياً؟ هل هو فيلم نوع (genre) يمكن الامساك بتقاليده ومتابعتها؟ ـ هو فيلم ينطلق من النوع، من تاريخ طويل لسينما مصاص الدماء ويأخذ من ادواته تفاصيل الضوء والعتمة والانعكاس غير المرئي... ولكنه يترك تفاصيل أخرى كالصراع بين الخير والشر والتحول المرئي وغيرهما. ولكن الفيلم لا يلعب ضمن القواعد المعروفة. لا مكان للتماهي هنا بين المشاهد وإحدى شخصيات الفيلم. وفي غياب الحبكة الدرامية، يصبح مكان المشاهد أصعب. دخول المشاهد في الفيلم رهن بلعبة الغواية التي لا تكشف عن شروطها. ولكن قراءة الفيلم متعلقة بالتجربة الشخصية لكل مشاهد. الفيلم بالنسبة الي ليس استعارة للحرب ولكنني لا استطيع ان اقول انها قراءة خاطئة ايضاً! · ولكن الصراع بين الخير والشر يتمثل أحياناً في مقاومة "خليل" للتحول الذي يعتمل في داخله.. وهنا ايضاً نلاحظ كيف يختلف خليل عن شخصياتك السابقة في انه يقوم بفعل ما بينما الأخيرة مستسلمة لأقدارها. ـ الصراع هنا بين خليل ونفسه. العدو ليس خارجياً بل داخلي. هو العدو والمخلص في آن. مقاومة خليل هي فعل ولكنها تذهب سدى. كذلك بالنسبة الى الراقصة التي تجسد من خلال الفلامنكو، رقصة التحدي، صراعاً داخلياً وغواية مع الكاميرا. ولكنها تنتهي ضحية من ضحايا مصاص الدماء. ما يحدث في الحياة أقوى منا. سيطرتنا على حيواتنا وهم كبير. · هل هذا الفيلم هو طريقتك الخاصة في المقاومة؟ أقصد الخروج من دائرة الحديث على بيروت والحرب وما أصبح من "مسلمات" الرؤية للمدينة وتاريخها؟ ـ هو ذلك وليس ذلك. أقصد تنتابني احاسيس متناقضة تجاه الفيلم. أحياناً أشعر انه عني وعن علاقتي ببيروت وأحياناً أخرى اراه بعيد جداً عن هنا. ولكن الأكيد هو انه ثمرة تجربتي وحياتي في بيروت. الكلام على بيروت ليس هدفي ولكنه موجود اذهب اليه كما يذهب الانسان الى الايمان من دون ان يعرف الى اين بالتحديد. لم يعد بإمكاني ان افصل بين من انا وبين بيروت وحياتي فيها. لذلك أعتقد انها ملهمتي بشكل لا يقبل النقاش ولا التفسير ايضاً. كلانا متداخلان. · الممثلون انفسهم يتنقلون بين افلامك مع فارق انك في "أطلال" تترك المجموعة لتلحق بشخص واحد. ـ رحلة "خليل" يمكن ان تكون رحلة اي من شخصيات افلامي السابقة. ليس صدفة ان يلعب عوني قواص دور مصاص الدماء وان يكون الرجل العائد من الموت في "اشباح بيروت". كارلوس شاهين يلعب دور "خليل" هنا وكارلوس بالنسبة الي أكثر من ممثل. فهو بالاضافة الى قدرته على قول اشياء كثيرة في الدور بأقل ما يمكن من الكلام، هو ايضاً يختزل شيئاً أبعد. هو حاضر وغائب في الوقت عينه. هو "أطلال" انسان. لقد رأيت الشبح فيه قبل ان اصوره. الكتابة مع كارلوس في ذهني وجهتني الى مكان خاص يشبه كارلوس. انها كيمياء. · فنياً للفيلم الحالي ايضاً خصوصية ربما لا تنفصل تماماً عن فيلميك السابقين ولكنها مختلفة. الهواء بين المشاهد وداخلها مضغوط هنا والتجزيء اقل. ـ الفيلم يبدأ بتقطيع يشبه الافلام السابقة ولكنه سرعان ما يضيق ليصبح حاد الرأس. وينسحب رويداً من المعاصر الى الكلاسيكي حتى بالمعنى السينمائي. فالفيلم يصبح اقرب الى الابيض والاسود مع تحوله الى العتمة والى السينما الصامتة مع انعزال "خليل" وصمته. لا اسمي تلك تحية ولكنها سفر في السينما وفتح حوار مع افلام مورنو الاولى التي استطاعت ان تلتقط المدينة واشباحها. "خليل" بالنسبة الي حفيد "نوسفيراتو" من دون ان يعرف. · مازال هناك شق من الفيلم شديد الجاذبية والحضور هو الماء. الماء رمز الحياة ولكنها في فيلمك تتحول عالماً مظلماً... ـ الماء عزلة ايضاً. ولكن الفكرة الاساسية منها كانت ان ارى بيروت من زاوية ثانية. في المحصلة، الماء هو عالم "خليل" الذي ينسحب اليه وحيداً بما يهيئه للذهاب الى عالم آخر من العزلة في نهاية الفيلم. · أعتقد انك وصلت في هذا الفيلم الى مكان متطرف جداً في علاقتك بالأشياء حولك. ماذا سنتوقع منك تالياً؟ تكملة ما؟ ـ لا أنكر أن فكرة فيلم عن حياة الشبح وعلاقته الغريبة بالحياة تراودني ولكن ليس الآن. في هذا الفيلم ذهبت بعيداً جداً في علاقتي بالزمان والمكان وبكل شيء. لا يعني ذلك انني لا اريد ان اقول اشياء اخرى. ولكنني أمام خيارين اما الذهاب ابعد وتالياً الاقفال على نفسي تماماً وهذا ما يعني مشكلات كبرى مع التمويل والتوزيع و..و.. وإما أن آخذ خطوة افقية أعتبرها جسراً من دون ان ارفض "أطلال". ولكن العودة الى شيء جديد براديكالية "أطلال" يلزمه بعض الوقت. المستقبل اللبنانية في 29 سبتمبر 2006 |
متاهات السينما العربية بقلم : عدنان مدانات متاهة أولى في العام 1968 أسس مجموعة من السينمائيين الشبان في مصر جماعة سينمائية أطلقوا عليها اسم جماعة السينما الجديدة، وأصدروا بيانا سينمائيا نظريا دعوا فيه إلى تطوير سينما مصرية تعبر بصدق عن قضايا الواقع المصري وهموم الناس وتتمتع بمستوى فني وتقني متطور. بعد عامين من تأسيسها نجحت الجماعة في إنتاج فيلمين روائيين طويلين اعتمادا على دعم من القطاع العام السينمائي في مصر. بعد ذلك توقفت الجماعة عن الإنتاج، وكان من أسباب ذلك صعوبة الحصول على الدعم المالي بعد إلغاء القطاع العام السينمائي في مصر. وهكذا خلت الساحة لمنتجي القطاع الخاص التجاري، فكان لا بد لمخرجي جماعة السينما الجديدة من المصالحة معهم، كي يتمكنوا من العمل وتحقيق الأفلام، بعد أن كانوا أعلنوا الحرب السينمائية ضدهم. بهذا انتهى العمل الجماعي الهادف إلى إيجاد حلول جماعية من أجل تطوير السينما المصرية ككل، وحل محله الجهد الفردي. نتج عن هذه المصالحة خلال العقود التالية بعض الأفلام المصرية المميزة التي تنسجم مع أهداف الجماعة، ولكنها لا تحقق حلم تطوير السينما المصرية، في حين أخذت صناعة السينما المصرية في التردي وتقلص حجم الإنتاج السنوي من الأفلام الروائية الطويلة بنسبة كبيرة، وتصدرت شاشات العرض السينمائية موجة الأفلام التجارية التي يصفها النقاد بأنها أفلام هابطة. متاهة ثانية في العام 1972 انعقد في مدينة دمشق المهرجان الأول لسينما الشباب العرب تحت شعار السينما البديلة. حضر المهرجان سينمائيون شباب من مختلف الأقطار العربية. عقد المهرجان برعاية المؤسسة العامة للسينما بدمشق التابعة للقطاع العام من خلال وزارة الثقافة. وكانت تلك الفترة تتسم بوجود اكثر من قطاع سينمائي عام واعد ترعاه وزارات الثقافة في عدة دول عربية، في المشرق والمغرب. كان السينمائيون الشباب آنذاك مشبعين بالأحلام والآمال والطموحات ومفعمين بالعواطف والحماس، لكن القطاع السينمائي العام في العالم العربي ككل، مع بعض الاستثناء، سرعان ما خيب الآمال وأجهض الطموحات الخاصة بالسينما العربية كما يحلم بها السينمائيون الشباب. متاهة ثالثة في العام 1972 ذاته، ونتيجة لأجواء الحماس التي سادت أثناء مهرجان دمشق الأول لسينما الشباب، وبالتزامن مع الحماس الذي أشعلته المقاومة الفلسطينية في نفوس السينمائيين العرب، تنادى مجموعة منهم، ممن شاركوا في مهرجان دمشق، لدعم سينما المقاومة الفلسطينية، التي كانت آنذاك ما تزال بعد تخطو خطواتها الأولى. وهكذا جرت عدة لقاءات بينهم أسفرت عن تأسيس جماعة السينما الفلسطينية التي اتخذت من بيروت مقرا لها وتلقت الدعم من مركز الأبحاث الفلسطيني، أهم المؤسسات الثقافية آنذاك والتابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. بعد فترة وجيزة من تأسيسها تمكن أحد مخرجي الجماعة من إنتاج فيلم تسجيلي قصير. وكان هذا الفيلم نهاية المطاف في مسيرة الجماعة ولم يعد لها وجود بعد ذلك. خلال فترة السبعينيات أنشأت بعض فصائل المقاومة الفلسطينية أقساما للسينما أنتجت بضعة أفلام تسجيلية. ولكنها عجزت عن تحقيق حلم السينمائيين بإنتاج فيلم روائي طويل. وكان يسود شعور عند السينمائيين العاملين والمتعاونين مع دائرة الثقافة في منظمة التحرير وبقية أقسام السينما التابعة لفصائل المقاومة أن ثمة حاجة ملحة لوجود مؤسسة سينمائية فلسطينية قوية تضم الجميع وتكون قادرة على خلق سينما فلسطينية والانتقال من الفيلم التسجيلي إلى الفيلم الروائي، الذي هو الحلم الأكبر بالنسبة لكل سينمائي. في العام 1982 تمكن احد أقسام السينما الفلسطينية من إنتاج فيلم روائي طويل، وكان يمكن لهذا الفيلم ان يمهد لانتاج أفلام روائية فلسطينية أخرى، لولا ان العام نفسه كان عام خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان نتيجة للاجتياح الإسرائيلي. وهكذا تشرذم السينمائيون الذين تعاملوا معها في أرجاء المعمورة، مما أعاد الأمور إلى نقطة الصفر. متاهة رابعة في أواسط سبعينيات القرن العشرين التقى مجموعة من السينمائيين العرب في مهرجان سينمائي عقد في دولة أوروبية. كان اللقاء مناسبة لإحياء حلم مشترك طالما سعوا إليه وتداولوا بشأنه في كل تجمع سينمائي تواجدوا فيه يرتبط بتشكيل اتحاد للسينمائيين العرب. وهكذا عقد السينمائيون العرب اجتماعا تحضيريا ابتدأوه بالتعريف بأنفسهم: قال واحد انه لبناني يقيم في السويد، قال ثان انه عراقي يقيم في لبنان، قال ثالث إنه مصري يقيم في العراق، قال رابع إنه أردني يقيم في لبنان، قال خامس إنه سوري يقيم في مصر، قال سادس إنه جزائري يقيم في فرنسا، قال سابع أإه عراقي يقيم في سوريا، وهكذا دواليك. كان معظمهم يعيش خارج بلده. أسفر هذا الاجتماع بعد نحو عام عن تأسيس اتحاد للسينمائيين العرب العاملين في مجال السينما التسجيلية بعد اجتماع ثان موسع عقد في بغداد، وكان ذلك في العام .1976 بعد عامين من تأسيسه، تمكن الاتحاد من دعم إنتاج ثلاثة مشاريع لأفلام تسجيلية، أحدها أنتجه اتحاد السينمائيين التسجيليين المصري، والثاني أنتجته مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت، والثالث أنتجه سينمائي سوري مستقل. بعد ذلك لم يستمر الاتحاد في النشاط، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير من السينمائيين العرب الدين أخلصوا له، بل كان ذلك نتيجة ظروف قاهرة. متاهة خامسة نتيجة فشل كل الحلول التي اقترحها السينمائيون الشباب عبر تجمعاتهم، ونتيجة كل الاحباطات التي رافقت محاولات العمل الجماعي الهادف لتطوير السينما العربية والتي أدت إلى حالة من اليقين بأن القطاع العام السينمائي في الدول العربية ليس في حالة تجعل من الممكن الاعتماد عليه للنهوض بصناعة السينما في العالم العربي وتوفير قاعدة راسخة للإنتاج السينمائي تسمح للسينمائيين بتحقيق طموحاتهم، بدأ بعض السينمائيين العرب الشباب البحث عن حلول فردية تسمح لهم بتحقيق أفلامهم الخاصة. من بين تلك الحلول كانت صيغة الإنتاج المشترك الذي يعتمد على التمويل الأوروبي. وقد حققت معظم الأفلام التي أنتجت على قاعدة الإنتاج المشترك أو التمويل الأوروبي مستوى متطورا فنيا وفكريا، لكن بالمقابل، فإن السينمائيين الذين أخرجوا تلك الأفلام تعرضوا لحملات من التشكيك والاتهامات من أطراف متعددة. غير أن المشكلة الفعلية التي جابهت خطوات السينمائيين العرب نحو الإنتاج المشترك لم تكن في حملات التشكيك والاتهامات التي تصدوا لدحضها، بل كانت تكمن في أن هذه الطريق شاقة وطويلة ومليئة بالعوائق، وهي ليست متاحة للجميع، كما انها ليست متاحة بما يكفي لإشباع طموحات السينمائيين العرب بإنتاج متواصل للأفلام التي يطمحون لتحقيقها، حيث ينتظر معظمهم سنوات طوال فرصة لتحقيق مشروع فيلم واحد، يبذلون خلالها جهودا مضنية للحصول على التمويل، أو الدعم المالي، الذي يكون في أحيان كثيرة شحيحا، بالكاد يسد جزءا يسيرا من الأموال اللازمة لإنتاج الفيلم، مما يضطرهم للبحث عن مصادر دعم وتمويل متعددة ومتنوعة لكل منها شروطها الخاصة. هكذا بدأ السينمائيون يعيدون النظر في جدوى توجههم الفردي نحو الخارج والتمويل الأجنبي على المدى البعيد، وعادوا من جديد للبحث عن حلول من الداخل، أي من داخل بلدانهم، تستند إلى قاعدة يمكن الاعتماد عليها، وتكون قادرة على إيجاد حلول جماعية لمستقبل السينما العربية. هنا يحضرني مثال دال: ففي أواسط تسعينيات القرن العشرين وأثناء أحد المهرجانات السينمائية، التقى سينمائي فلسطيني شاب من الأرض المحتلة جاء مع فيلمه الروائي الطويل الأول الذي تمكن من انتاجه بدعم أوروبي مع سينمائي فلسطيني عتيق كان من العاملين في مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت في السبعينيات وواحد من مؤسسي جماعة السينما الفلسطينية. قال السينمائي القادم من الأرض المحتلة حاملا معه فيلمه الطويل للسينمائي الآخر القادم إلى المهرجان كضيف خالي الوفاض ساخرا: لقد أضعت انت وزملاءك عمركم وأنتم تحاولون إنجاز فيلم طويل من خلال مؤسسة رسمية ففشلتم، أما أنا فقد نجحت بجهودي الخاصة في تحقيق فيلمي الروائي الطويل الأول. رد الآخر عليه بالقول: نعم هذا صحيح، لكننا كنا نحاول التأسيس لقاعدة مؤسسية راسخة تسمح لنا ولمن سيجيء بعدنا بالعمل، ولم نبحث عن حلول فردية. كانت السينما الفلسطينية هي القضية بالنسبة لنا وليس الفيلم الواحد. بعد عشر سنوات تقريبا من هذا اللقاء حصل بين الاثنين لقاء آخر، وفيه اعترف السينمائي الذي انجز بعد فيلمه الروائي الطويل الأول فيلمين روائيين طويلين آخرين، أنه على الرغم من إنجازه الفردي الذي حقق له سمعة طيبة، فإنه بات مقتنعا بضرورة العودة إلى البحث عن حلول مؤسسية من داخل الوطن لمستقبل السينما الفلسطينية ككل. ومن المفيد هنا ملاحظة أنه بعد أربع سنوات من هذا اللقاء الثاني تم في الأرض المحتلة الاعلان عن إعادة تأسيس جماعة السينما الفلسطينية. متاهة جديدة محتملة على الرغم من الاحباط الذي اصاب السينمائيين العرب من مؤسسات القطاع العام السينمائي، إلا أن هذا الإحباط لم يصل إلى مرحلة اليأس المطلق، خصوصا وأن تجربة بعض البلدان العربية في مجال دعم الانتاج السينمائي المحلي بينت أنه ما يزال من الممكن أن يلعب القطاع العام السينمائي دورا رئيسيا في قيادة مسيرة الانتاج السينمائي الوطني، كما هو الأمر بالنسبة لمؤسسة السينما السورية التي بدأت تستعيد عافيتها بعد تعثر طويل، أو دورا داعما للإنتاج السينمائي الوطني، وهذا ما يفعله المركز الوطني للسينما في المغرب او وزارة الثقافة في تونس، اللذان عادا للعب دور في دعم تمويل الأفلام الوطنية بعد أن تخليا عنه في السنوات السابقة. لكن، انطلاقا من الحديث الذي يقول إن المؤمن لا يقع في الجحر مرتين، فإن السينمائيين العرب الذين عادوا ليطالبوا القطاع العام بلعب دوره في دعم السينما الوطنية، لا يستطيعون الركون إلى ذلك كليا، حتى ولو احسن مسؤولو القطاع العام النية، فليس من السهل أن يحل يقين جديد محل شكوك قديمة كان لها ما يبررها. ولهذا بات من الضروري البحث عن حلول جماعية موازية على شكل تجمعات وتعاونيات انتاجية الطابع تضم السينمائيين معا. وما يشجع على إعادة إحياء فكرة التجمعات هو انها هذه المرة لا تقوم على مبادئ أيديولوجية مثالية، بل استجابة لمصالح عملية وتحقيقا لأهداف إنتاجية، صار بالامكان تحقيقها بيسر اكثر بفضل تقنيات الفيديو الرقمي، وهي البديل المعاصر والمستقبلي لتقنيات صناعة الفيلم التقليدية. * ناقد سينمائي أردني الرأي الأردنية في 29 سبتمبر 2006
|
غسان سلهب عن فيلمه "أطلال" عشية إطلاقه في الصالات اللبنانية: الفيلم يحكي عن تحول إنسان في مدينة لا تتوقف عن التحول ريما المسمار |