يرتدي المهرج مئات الأقنعة، ويغير ملابسه ـ الكثيرة ـ بسرعة. يضحك لينقل لك عدوى الضحك، وربما يبكي ليستدرّ دموعك، ولا يتورع عن أن يقفز من الحلبة حيث مقعدك، ليدس أصابعه بين طيات ثيابك، حتماً ستقفز من مكانك وتنتابك حال ضحك متصلة، مع أنك لا تدري سر ضحكك، لكنك تضحك، لأنه استفز فيك غريزة الضحك!

وثمة اقتناع عمومي بين النقاد وفي أوساط المثقفين بل بين محبي السينما والمدمنين عليها (من الشرائح المتبقية من الجمهور الأصيل للسينما المصرية..)، بأن موجة الكوميديا التي دشنها شريط "إسماعيلية رايح جاي" لمحمد فؤاد ومحمد هنيدي في العام 1996، ليست سوى موجة من الضحك للضحك الذي ينحرف بالكوميديا في كثير من الأحيان إلى التهريج الخالص، مهما حاول هؤلاء المهرجون أن يدسوا قضايا كبيرة في ثنايا نكاتهم واسكتشاتهم المضحكة المتصلة، التي تخفق في أن تجسد ـ في النهاية ـ قواماً متماسكاً لشريط سينمائي حقيقي!

ولأن موسم الصيف هو موسم المشاهدة الأول للسينما المصرية فإن موزعي الأشرطة المصرية باتوا يؤجلون أشرطة الكوميديا للعرض فيه، بخاصة أشرطة كبار المضحكين ـ كمحمد سعد ومحمد هنيدي وحالياً عبلة كامل أيضاً! ـ ليفجروها قنابل مثيرة للضحك جالبة الربح في ليالي الصيف الحارة. وهكذا ـ ومع صعود سينما التهريج خلال العقد الأخير ـ بأن موسم الصيف أشبه بسيرك يتبارى فيه المهرجون، لكن السيرك هذه المرة لم يكن فيه رواد، ليشاهدوا ويضحكوا..!

صبت أشرطة الموسم السينمائي الصيفي الذي انقضت أيامه 100 مليون جنيه (قرابة 18 مليون دولار) في جيوب منتجي السينما المصريين، هي حصيلة 15 شريطاً سينمائياً عرضت بين 10 حزيران ـ يونيو و10 أيلول ـ سبتمبر. إنها التسعون يوماً الرهيبة المسماة بموسم الصيف، حيث ذروة العروض السينمائية المصرية (يعرض فيها نحو 65 في المئة من أشرطة السنة التي تراوح مكانها حول الرقم 25 منذ أعوام..).

عموماً، ليربح من يربح "وملك الملوك إذا وهب..." فتلك ليست المسألة إنما المسألة الحقيقية هي من الذي خسر؟ أو بتعبير أدق: ما الذي خسر؟ ولماذا؟ وما الذي نجح؟ وماذا دفع به إلى صدارة النجاح؟ والإجابة عن هذه الأسئلة تقود في الواقع إلى حقيقة تقول إن المشهد السينمائي المصري، شهد انقلاباً حقيقياً في موسم الصيف، وإن كانت بشائره تجمعت في الأفق شيئاً فشيئاً خلال ثلاثة أعوام متصلة! الكوميديا التي كانت سيدة الموقف أخفقت في تصدر المشهد، فيما حقق الشريط السياسي ـ والشريط المسيس كذلك، وبينهما فرق! ـ تفوقاً حاسماً اربك الحسابات الإنتاجية. لكن الأهم أن هذا التفوق في حضور الشريط السياسي ربما يشير إلى تغير في ذوق الجمهور المصري بالفعل..! الظرف السياسي للمنطقة ـ ولا سيما حرب لبنان الأخيرة ـ أدت إلى نجاح الشريط السياسي ـ وهذا صحيح ـ لكن الحرب وحدها لم تكن سر نجاحه، فهذا الشريط السياسي أخذ يحقق نجاحاً تدريجياً، متأثراً بتغيرات حادة تلمّ بالمجتمع المصري، إلى أن أخذ مكانه بالصدارة من خلال العامل المحفز ـ جداً ـ حرب لبنان!.. تلك التي اشعلت الوجدان والشارع في مصر!

العلم الصهيوني

في أشرطة المهرجين، حاول المؤلفون والمخرجون الزج بالسياسة زجاً في قالب الكوميديا الأشبه بالكعكة الحلوة المغطاة بالكريما.. وضعوا الرصاص الحيّ في قالب الكعك! كان الهدف اختلاق قضية لمساندة الإضحاك، كانوا يشعرون أنه وحده لا يكفي!

لم يحل شريط هنيدي في بداياته من إحراق العلم الصهيوني. صحيح أن إحراق هذا العلم هو طقس ثابت من طقوس التظاهرات في مصر، وصحيح أن أكفّ الجمهور كانت تشكل تصفيقاً في صالات العرض، لكن السؤال بقي عالقاً: ما الذي أتى بالعلم الصهيوني وبالتظاهرات في شريط ينتمي إلى عالم السيرك؟

سبّ إسرائيل والصهيونية عموماً والتعرض لها كان جزءاً من طقوس الضحك السينمائي المصري خلال الموجة التي انهزمت اخيراً، وتحولت من طقوس للتظاهرات إلى طقوس سينمائية كوميدية خالصة..!

وفي العامين الأخيرين.. تغير المشهد!

دخلت مصر في حراك سياسي حقيقي لم يكن في حسبان منتجي السينما المصرية (من أصحاب منطق السيرك). فمن قرار الرئيس بتحويل مادة في الدستور (المادة 76 لانتخاب الرئيس من بين عدد من المترشحين بدلاً من الاستفتاء)، إلى ظهور حركة "كفاية" الليبرالية ـ اليسارية وتضخمها في الشارع، وصولاً إلى صعود "الإخوان" في المشهد السياسي وحصولهم على ما يقرب من 20 في المئة من مقاعد البرلمان وحصول الرئيس مبارك على فترة رئاسة جديدة بالانتخاب لأول مرة.. كل ذلك ـ وغيره من التفاصيل المتعلقة به وهي كثيرة ـ خلق تناقضاً جديداً لصنّاع سينما الكوميديا..!

صار هؤلاء الصناع بإزاء جمهور يتغير مزاجه، ويتحول ذوقه، جمهور يرى في الشارع واقعاً جديداً يتخلق بعيداً عن عوالم السينما، فجوة ضخمة بين همومهم اليومية وبين هموم تلك الشخصيات التي يجسدها محمد سعد وهنيدي، أو حتى عبلة كامل التي تظهر في أشرطتها الكوميدية عادة فقيرة مطحونة. ففقر عبلة يضحك الجمهور، لكن فقر قطاع من هذا الجمهور لا يسبب إلاَّ البكاء!

ثم أتت الحرب المسعورة ضد لبنان في تموز ـ يوليو الماضي، مواكبة لطرح عدد جديد من هذه الأشرطة.. كان المصريون يتظاهرون في الشوارع ضد "أولمرت" و"بيرتس" و"كونداليزا رايس"، فيما تقدم لهم عبلة كامل (عودة الندلة) ويقدم محمد سعد "كتكوت" ويطرح عليهم هنيدي "وش إجرام". المقاومة تصمد والمنتجون يقدمون للجمهور شريطاً بعنوان "العيال هربت"..!

وهكذا.. انكشفت حيلة العلم الصهيوني المحروق في أشرطة الكوميديا حين اندلعت الحرب الصهيونية الحقيقية ضد لبنان، وقبل ذلك كانت التطورات في مصر تسير باتجاه يكشف انفصال أشرطة الكوميديا عن كل ما يحصل في المجتمع من حراك سياسي أو تغيرات إيجابية أو سالبة، وأخذ النقاد يتنبأون ـ ثم يؤكدون ـ بأن التراجع التدريجي لإيرادات نجوم الضحك مؤشر على احتضار موجتهم وانطفاء نيرانهم، غير أنهم لم يفطنوا إلى ذلك، وظل السيرك منصوباً، إلى أن أتت النتائج في هذا الموسم الصيفي حاسمة، قاطعة.. لا لبس فيها!

اكتساح يعقوبيان

بصرف النظر عن اختلاف الآراء حول شريط "عمارة يعقوبيان"، وكونه قدم مبالغات في تصويره لمجتمع وسط البلد، وأتى بمستوى فنى أقل من حجم الدعاية الرهيبة التي كرست له منذ أول أيام تصويره، فإن شريط يعقوبيان أتى على رأس قائمة الإيرادات هذا العام (حقق 20 بفي المئة من جملة إيرادات الصيف بواقع 20 مليون جنيه تقريباً..)، وهو شريط سياسي ـ اجتماعي صارخ بالسياسة وقضاياها، ولا يحتوى دقيقة واحدة من الإضحاك، برغم أن بطله (عادل إمام) هو شيخ المضحكين العرب الآن..!

وإذا كان نجاح يعقوبيان مردوداً عليه من صناع الكوميديا بأنه صاحب أكبر حملة برباغندا في تاريخ السينما المصرية، وأنه يضم أكبر وأهم نجوم ونجمات السينما المصرية، فإن الرد يكون بالسؤال: ولماذا أتى شريط "واحد من الناس" لكريم عبد العزيز ومنة شلبي في المركز الثاني، وهو شريط اجتماعي (وسياسي بصورة غير مباشرة..) يربط الفساد بالظلم الاجتماعي عبر قصة حب يغتالها الفساد وعدد من رجال الأعمال، ويتحول بطل الشريط ـ كريم ـ إلى ثائر ضد هذا الفساد؟ ولماذا يأتي شريط "أوقات فراغ" الذي قام ببطولته عدد من الممثلين الشباب في أول بطولة لهم في الترتيب الثالث للإيرادات؟

الأشرطة الثلاثة بينها جميعاً رابط واحد: السياسة التي حضرت في صور متباينة في النسيج الأساسي للأشرطة. يعقوبيان فتح ملفات سياسية كثيرة كالفساد والاستبداد والتطرف بصورة مباشرة تماماً (كالمباشرة التي في النص الأصلي، رواية على الأسواني)، و"واحد من الناس" تحدث عن الفساد حين يعصف بمصير أسرة شابة يربط بينها الحب في أول الطريق، و"أوقات فراغ" يحكى مأساة جيل الـ2000، بين الخواء الفكري والانحلال أو المصير الثاني.. التطرف الديني! ووسط ظروف محلية وإقليمية في هذا الصيف لم تكن تحتمل أي هزل، انتخب الجمهور هذه الأشرطة لتتصدر الموسم، وعبر عن انتخابها بالإيرادات، مثلما عبر عن إسقاطه لـ (حكومة الكوميديا التي تحكم السوق منذ 10 سنوات) بالإيرادات أيضاً..!

سقوط حليم

في الوقت ذاته، شهد "المعسكر الكوميدي" ردتي فعل عجيبتين على هذه الهزيمة أمام الشريط السياسي!

فأما ردة الفعل الأولى، فهي أن المنتجين والموزعين بادروا إلى إنكار الهزيمة عبر تصريحات للصحف والشاشات ـ وحتى على مواقع الإنترنت ـ بأن حرب لبنان هي السبب، وأن الكوميديا سيدة الموقف، وستواصل نجاحها خلال المواسم القادمة فالحرب صرفت الناس إلى أشرطة متجهمة... ولو كان هذا صواباً لنجح شريط مثل "حليم" وهو شريط جاد، ويتعلق بحياة نجم ضخم (عبد الحليم حافظ) ولا يخلو من السياسة، فلماذا فشل؟!

وأما ردة الفعل الثانية فهي تأكيد النجوم أنفسهم أنهم ماضون على طريق الكوميديا إلى آخره من دون تردد، وكأنهم يعاندون التيار. لكن هذا لم يغط على اعترافهم الداخلي بالهزيمة، وإلا لماذا مضى هنيدي مثلاً إلى التعاقد مع "روتانا" لتمثيل أربعة أشرطة كوميدية (بالجملة)، وبأجر إجمالي (لو حسبنا تفاصيل الأجر لعرفنا أن الشريط الواحد انخفض فيه أجر هنيدي 20 في المئة!!) واتجاه محمد سعد الى ايقونة حظه شركة السبكي للانتاج البروتيني والفني ـ شركة لحوم بالاساس ـ بسيناريو "كابتن اوفه" مدرب المنتحب الوطني لكرة القدم لعله يعوض بجماهير الكرة ما فقده من جماهيرية في صالات العرض.

ولعل عجز كتاب الكوميديا وقصور خيال أبطالها ـ النجوم ـ عن ابتكار أشكال جديدة من التهريج وطرق جديدة لجذب الجمهور، أو موضوعات مبتكرة للإضحاك، يفسر ضخامة الهزيمة، وربما لو كانوا نجحوا في ابتكارهم هذا لكانوا حققوا الشيء الذي يحفظ لهم ماء الوجه من النجاح!

محمد هنيدي لم يحقق جديداً في "وش إجرام". لا زال الرجل يعتمد على ضآلة حجمه الجسماني لإضحاك الناس، هو ينكر هذا الاتهام لكنه واضح من دون شك، فالضآلة هي مفتاحه للضحك، ويعتمد عليها في خلق تناقض كوميدى بين حجم جسمه كبطل، وبين المهام التي يؤديها في الأشرطة، كجندى الأمن المركزي الذي يفترض فيه الشجاعة "عسكر في المعسكر" أو البطل القوي في "فول الصين العظيم" أو اللص الذي لا يبارى في "وش إجرام". ويظن هنيدي في ما يبدو أن هذا التناقض بين حجم جسمه وطبيعة دوره كاف للإضحاك، ولا ينسى أن يدعم ذلك بأغان كوميدية، أو ببطلة محبوبة للجمهور وقديرة في التمثيل والرقص كلبلبة التي شاركته "وش إجرام"، غير أن حيل هنيدي كلها لم تجد نفعاً هذه المرة، ولا في المرات السابقة!

عودة الندلة

عبلة كامل أصرت كالعادة على احتراف دور "السوقية"، التي تحمل كل مفردات الأحياء العشوائية (لا الشعبية العريقة)، وتمارس سوقيتها بشكل مشاجرات وإفيهات بذيئة أو أغان مفعمة بالبلاهه. ومع ازدياد وزن عبلة والسمنة التي طرأت عليها، بدت بالفعل كامرأة سوقية في "عودة الندلة"، وكأن عبلة أدمنت لعب هذا الدور من "كلم ماما" إلى "خالتي فرنسا" إلى "سيد العاطفي" ـ وقبلها جميعاً "اللمبي" ـ وصولاً لـ"الندلة" الذي لم تجن منه عبلة سوى انصراف الجمهور وغضب النقاد. فهم طالما رشحوها للعب دور حاسم في مجال التمثيل السينمائي، لما لعبلة من قدرات كبيرة في هذا الفن، ولأنها في أول الطريق بدأت بأشرطة لها أهميتها الخاصة مع مخرج كبير في قامة "يوسف شاهين" ثم مع "رأفت الميهي"، لكنها فجأة تزعمت الشق النسوي من الموجة الكوميدية في حلبة السيرك! وعبلة التي يطالبها النقاد بصيانة تاريخها والحفاظ على آمالهم فيها تبدو كمن لا يُلقي بالاً على الإطلاق لكل هذه النداءات..!

محمد سعد لم تُفلح كل حيله الجبارة للإضحاك في شريطه الأخير "كتكوت"، والحق أن سعد يمتلك أكبر موهبة في الإضحاك بين هؤلاء جميعاً، وأنه لا يزال يحتفظ بلقب (صاحب الرقم القياسي في إيرادات السينما العربية كلها) بشريطه "الليمبي" ـ الشريط الظاهرة الذي حقق 28 مليون جنيه، أو 5 ملايين دولار تقريباً، قبل أربع سنوات.

ومن هذا الشريط بدأت إشكالية سعد في التعقيد، فهو في كل شريط مطالب بأن يصل إلى نفس النجاح، لكنه لا ينجح أبداً في تحقيق الهدف، وظهرت أعراض الفشل التدريجي من "اللي بالي بالك" إلى "عوكل" إلى "بوحة" وصولاً إلى "كتكوت"، أي أنه انتقل من شخصية اللمبي إلى شخصية الميكانيكي عوكل اللحام في (بوحة) إلى الصعيدي القوي ـ جداً ـ في "كتكوت"، لوى سعد لسانه إلى اللهجة الصعيدية، وبالغ في حركاته التي تشبه لاعبي السيرك ذوي المرونة العالية ورقص وغنى ونثر الإفيهات، لكنه في النهاية واصل ابتعاده عن هدفه!

وحتى أحمد حلمي الذي يحاول الموزعون النفخ في صورته وتقديمه في هيئة البطل المخلص لموجة الكوميديا (جاء شريطه في الترتيب الرابع من حيث الإيرادات) فإنه بشريطه "جعلتني مجرماً" لم يحقق سوى ما يليق به كنجم ـ احتياطي ـ كهنيدي وسعد وغيرهما. فالنجاح الذي حققه لا يعني أن الكوميديا بخير، وإنما يعني أن حلمي استطاع الارتقاء بمكانته بين المضحكين الجدد!

خارطة السينما المصرية كلها تتغير بقوة، وإذا قدر للكوميديا أن تصمد فإنه ينبغي لها أن تغير جلدها وتجد مخرجاً من طريقها المسدود. وإلى أن يحدث ذلك فإن السيادة ستظل تنسحب من تحت أقدام الكوميديا لصالح الأشرطة السياسية والاجتماعية الجادة، وهذا ما حسمه بوضوح موسم الصيف المنقضي!

المستقبل اللبنانية في 17 سبتمبر 2006

 

افتتاح الدورة الرابعة لـ "أيام بيروت السينمائية"

رغبة الحياة وشغف السينما

ريما المسمار 

لم يكن ما جرى أمس افتتاحاً عادياً لمهرجان بات مكرّساً في المشهد السينمائي، بل كان إطلاق الدورة الرابعة لمهرجان "أيام بيروت السينمائية" (السابعة والنصف مساء أمس في سينما امبير صوفيل) أكثر من ذلك، ليس بسبب من بهرجة الحفل أو تأنق مدعويه أو ضخامة فعالياته، ولكن لأن رغبة ما دفينة وصميمة لدى كل مدعو في الاحتفال بالحياة وبعث مظاهرها اليومية والبسيطة ترافقت مع الافتتاح. كانت جمعة أكثر منها احتفالاً رسمياً. وكان اتفاق أكثر منه تلبية لدعوة رسمية على أن تعود الحياة الثقافية إلى مزاولة وظيفتها في تغذية الحياة عموما. كذلك كانت الأمسية رهاناً بالنسبة إلى كثيرين وفي مقدمهم منظمو المهرجان. رهان على قدرة الحياة في وجه الموت والفن في وجه قسوة الواقع والسينما في وجه الصور المكرورة فاقدة المعنى. كل شيء تخطى معناه إلى ما هو أبعد وأعمق، حتى ذلك الحضور المعتاد لوزير الثقافة طارق متري في افتتاحيات المهرجانات السينمائية ظل لصيقاً بصورة المحاور والمدافع والمحارب أمام مجلس الأمن ابان الحرب الأخيرة.

كلمة الافتتاح ألقتها مديرة المهرجان هانية مروة مستعيدة الشهر الأخير من التحضيرات الذي رافقته رسائل دعم من أصدقاء واستغراب من آخرين حيال امكانية اقامة مهرجان سينمائي في الظرف الحالي، مروة التي عبرت عن دهشتها من "استغرابهم" أشارت إلى ان العمل الثقافي في العالم العربي لم يتم يوماً في ظروف مريحة أو بدعم وافر وإلى ان الحرب الأخيرة على قساوتها وشراستها فإنها لا تقل قسوة وشراسة عن تلك التي شهدها لبنان ويشهدها منذ سنتين. "برغم كل ذلك لم تتوقف الحياة الثقافية في لبنان" قالت مروة مشيدة بمبادرات كثيرين للاستمرار. بعد جولة على أبرز ما يتضمنه برنامج الدورة الحالية التي ستستمر حتى الثالث والعشرين من أيلول الجاري ركزت فيها على عرض الفيلمين اللبنانيين "فلافل" لميشال كمون في عرضه العالمي الأول و"أطلال" لغسان سلهب في عرضه العربي الأول، دعت وزير الثقافة لإلقاء كلمته التي كانت ضمنها مجموعة من كلمات الاعجاب إلى الضيوف العرب والأجانب الذين "حمّلوا مشاركتهم في المهرجان معنى أبعد من حبهم للسينما وهو تضامنهم مع لبنان وشعبه وشهادتهم على قيامة البلد"، واعجاب بمنظمي المهرجان على إصرارهم برغم من كل الصعاب على اقامة المهرجان الذي اعتبره اشارة قوية إلى ارادة الحياة والاستمرار وأخيراً إعجابه بالسينمائيين الشباب على عشقهم للسينما.

ركزت كلمة المديرة الفنية للمهرجان ايليان راهب على دور الفن في أن يكون ابداعاً وصموداً واحتفالاً بالحياة مدركة ان لبنان قبل 12 تموز ليس نفسه بعد ذلك التاريخ. ولكنها اعتبرت ان حاله في ذلك هي حال فلسطين والعراق مشيرة إلى تفاقم النزاعات في المنطقة ولكن أيضاً إلى تكاثر الأفلام. "في هذا الواقع السياسي والاعلامي يحاول السينمائي العربي أن يستقل برأيه ورؤيته" فيشيد واقعه السينمائي، واشارت راهب إلى ان الدورة الحالية للمهرجان تحمل أسئلة وجدانية ووجودية عن معنى الانتماء إلى هذا المكان في هذا الزمن. وتساءلت في نهاية كلمتها عن سبب غياب الفن السينمائي عن سياسات حكوماتنا على الرغم من كونه الفن الذي يرسم صورتنا وهويتنا، مشددة على ضرورة الدعم المحلي لصنع ثقافة وسينما ابنتي بيئتهما "غير مضطرتين للتبرير أو لمخاطبة الخارج".

لعل هذا الكلام يوضح أكثر أسباب اختيار شريط ميشال كمون الروائي الأول "فلافل" للافتتاح. فهو شريط عانى الكثير ليبصر النور وأنجز بجهود ومواهب لبنانية صرفة "وهو فيلم طالع من الداخل وبيشبه الناس اللي بيشوفوه" كما وصفه مخرجه الذي دعا فريق العمل والممثلين لمشاركته فرحة العرض العالمي الأول للفيلم على أن يطلق في الصالات اللبنانية في وقت لاحق من هذا العام. إنه شريط عن جيل الشباب في بيروت اليوم، عن أحلامهم وآلامهم وتفاصيلهم الصغرى، يلتقط إرهاصات نائمة في الحياة اليومية بحب كبير للمدينة وأهلها ومزيج من الحلاوة والمرارة، يجمعهما في ثنائية تنطبق على المدينة وعلاقة ناسها بها.

المستقبل اللبنانية في 17 سبتمبر 2006

سينماتك

 

الأشرطة السياسية تحجز مكاناً متقدماً:

سيرك الكوميديا المصري يغلق أبوابه بعد عقد من الضحك المتواصل

القاهرة ـ حمدي رزق

 

 

 

 

سينماتك

 

حضور السيناريست في فيلمه

سينما ... تشارلي كوفمان في "تكيف" ممثلاً

علي مدن

أصبح ظهور المخرجين في أفلامهم أمراً معتاداً، سواء الظهور العرضي أو قيامهم بإحدى الشخصيات أو ظهورهم بشخصياتهم الحقيقية. وقد بدأ هذا التقليد المخرج ألفرد هيتشكوك، بإصراره على الظهور في المشاهد الأولى من أفلامه بقامته القصيرة وبنيته الضخمة منذ الأربعينات، جالسا على طاولة في مكان عام أو وهو يترجل من حافلة حاملا دوما نظرة غامضة وغير مفسرة في اتجاه أحد أبطال الفيلم. حيث أصبح وجوده كأحد عناصر الكادر في أفلام التشويق التي تطورت بناها بين يديه. وقام الإيطالي فيلليني كذلك بالظهور كثيرا في أفلامه، قبل أن يخص نفسه بفيلم يشبه السيرة التي تتقاطع مع سيرة روما مدينته الأم. غير أن تشارلي كوفمان قد يكون أول سيناريست يقوم بالظهور في أحد أفلامه. حيث يلعب نيكولاس كيج دور الكاتب وشقيقه التوأم في فيلم “تكيف” الفيلم الذي أطلق في نهاية عام ،2002 هو التعاون الثاني بين المخرج سبايك جونز  وتشارلي كوفمان بعد فيلم “أن تكون جون ميلوكفيتش” في عام ،1999 ويمثل فيه إلى جانب نيكولاس كيج كل من ميريل ستريب وكريس كوبر.

يبدأ الفيلم بمونولوج ذهني للكاتب، لا يرافقه سوى شاشة سوداء. يبدأ تشارلي- كيج بالحديث “أنا فعلا سمين، أصلع ومثير للشفقة، يجدر بي معاودة ممارسة الرياضة.. نعم أربع كيلومترات كل يوم تفي بالغرض، ربما زرع للشعر أيضا.. لا، فكرة مثير للشفقة، مثلي تماما.. ربما يجب أن أفعل شيئا جديدا، أتعلم الروسية، أو الصينية.. سيكون ذلك رائعاً.. الكاتب الذي يتكلم الصينية..”.

ينتقل الفيلم إلى موقع تصوير “أن تكون جون ميلوكفيتش” ويظهر تشارلي للمرة الأولى، فإذا هو بصدد تنفيذ الفيلم الذي عرف العالم به ككاتب سيناريو موهوب، وفي الوقت نفسه يطلب منه كتابة نص فيلم مقتبس عن نص لكاتب قامت به محررة من نيويورك عن زهور الأوركيد، ويفتتن بالكتب لدرجة أنه يفقد الرغبة في تغيير أي جزء فيه، يزيد الوضع تعقيدا انتقال شقيقه التوأم للسكن معه، ورغبة الأخير في أن يصبح كاتباً سينمائياً بدوره، ولجوؤه له عند كل صعوبة تعترض قلمه. يبدأ  تشارلي بقراءة الكتاب وتدوين الملاحظات.

في اللحظة التي يفتح فيها الكتاب  يتفرع الفيلم إلى خيطين، أحدهما مع تشارلي  ومحاولته لكتابة النص والتكيف مع  التغيرات التي تحيط به، والثاني مع المحررة التي تزور فلوريدا في قصة موازية تجري أحداثها قبل عامين من أحداث الخيط الأول، لتغطية محاكمة خبير في النباتات استعان بمجموعة من السكان الأصليين المحميين قانونيا، لانتزاع نوع نادر من زهور الأوركيد من محمية الولاية. الخبير، الذي يوضح للمحررة بكل جدية “أنا أذكى شخص أعرفه”، يثبت لها صحة كلامه عندما يسرد لها تاريخه المليء بالاهتمامات التي مهما بلغ تعلقه بها ونفاذ بصيرته في ممارستها تغادره في لحظات مع بدء شغفه بأشياء جديدة. في المقعد المجاور لمقعد سائق الشاحنة التي يقودها الخبير، تستغرق المحررة في تدوين الملاحظات التي ندرك مع الوقت أنها مجرد ستار تكمن خلفه تأملات في الحياة، واعترافات حذرة لامرأة تشعر بفراغ رهيب. تقول المحررة ميريل ستريب في أحد هذه التأملات “إن الوظيفة الأساسية لشعورنا بالشغف نحو الأشياء، هي أن هذا الشعور يحول مقاييس العالم إلى حجم يمكن التحكم به”.

تستمر المحررة بافتتانها الخجول بالخبير (كريس كوبر) والنباتات، الكائنات الموهوبة بالتكيف، إلى أن ترغب في رؤية الزهرة التي كانت سبب تعرفها به “الأوركيدة الشبح”. تنهي نصها بوصف زيارتها للمستنقع دون التمكن من رؤية الزهرة. في اللقطة التالية والجانب الآخر من القارة يتخبط تشارلي في كتابة النص، في الوقت الذي يكمل شقيقه كتابة نصه دون مصاعب تذكر، فيقوم بإدخال شخصه في النص لينعطف إلى شكل آخر للنص، غير أنه يظل عاجزاً عن إكماله. يلتقط شقيقه دونالد الكتاب المستقر على طاولة المطبخ بعفوية، وفي المساء أصبح مدركا لسبب تخبط شقيقه، المحررة لا تقول كل الحقيقة، لقد رأت الزهرة، دونالد تمكن بشكل ما من رؤية الخيبة التي تلت ذلك بكل وضوح، شعور يشبه فتح علبة مغلفة بغطاء زاهي لتجد أنها خاوية. يقرر الخبير إعادة اهتمام المحررة الذي بدأ يفتقد حضوره، فيخبرها كيف أنه رأى عماله يصنعون مسحوقاً له تأثير يجعل المتعاطي له مفتوناً بكل ما يراه وأنه الرجل الأبيض الوحيد القادر على صنع هذا المسحوق،  فتطول زيارة المحررة زمناً أطول.

يذهب التوأمان إلى نيويورك لمقابلة الكاتبة ومن ثم التجسس عليها، ليجدا أن علاقتها بالخبير مازالت مستمرة، عكس ما تدعي، وعندما تسافر إليه فإنهما يقومان بملاحقتها. ويتبعها تشارلي إلى منزل الخبير حيث يراها خلسة تتعاطى المادة، وتستقر الصدمة على قسماته عند رؤيته مشتلاً لزراعة الزهرة الشبح. تكتشف المحررة وجوده وهو يتجسس عليها وتقرر قتله. يحاول هو الهرب مع توأمه. تتبعه المحررة مع الخبير إلى المستنفع حيث رأت الزهرة للمرة الأولى. يخوض التوأمان في المستنقع ويختبئان خلف جذع شجرة، بينما تظل المحررة في الشارع الملاصق متربصة بهما. وهناك يخبر تشارلي توأمه كيف أنه رآه مرة يتودد لفتاة وبعدما بدأ بالابتعاد عنها شرعت هي بالسخرية منه، يخبره أنه سمع كل ذلك، فيتساءل تشارلي ألم تخش أن تكون مثيرا للشفقة؟ يرد عليه بأنها ستكون مشكلة الفتاة لا مشكلته. وهنا يتغير أمر ما في تشارلي، يكسر الحصار الذي يفرضه على نفسه خوفاً من رأي الآخرين به. يتصالح مع شقيقه التوأم. يأتي الصباح ويشرعان في الهرب، لكن الشقيق يصاب بطلقة من بندقية المحررة فيفارق الحياة وتلتهم الخبير تماسيح المستنقع. ينتهي الفيلم  بلقاء تشارلي بصديقته التي هجرته وتقبيله لها رغم أنه يعرف أنها لن تعود إليه. يرجع إلى المنزل لإكمال نصه، وتستقر الكاميرا أسفل حوض للزهور يطل على شارع تعبر عليه السيارات.

الفيلم الذي يعتبر تكملة لما بدأه كل من  المخرج والكاتب في تعاونهما السابق  يأتي على مستوى مماثل من الإتقان، بأسلوب الكاتب البارع في الرسم الدقيق للشخصيات والحوار الاستثنائي الذي يظل مركزاً على الفكرة المركزية دون إدخال المشاهد في حالة من الضجر. المخرج من جهة أخرى يستمر في اللجوء إلى حلول مبتكرة ووضع الملامح الكاريكاتورية الدقيقة للشخصيات وخوض التحديات في اختيار ممثليه: ميريل ستريب المذهلة دوماً تقوم للمرة الأولى بأداء بشخصية مهزوزة في العمق، رغم تأديتها للكثير من الشخصيات الضعيفة أحيانا والمغرقة في البؤس في أحيان أخرى إلا أن هذه الشخصيات تحتفظ بنوع من التوازن والقدرة على حماية الذات، بالإضافة إلى موهبة ستريب في إدخال شعاع من البهجة على شخصياتها مهما بلغت تعاستها، كل هذه الصفات يجردها منها المخرج. كريس كوبر، الممثل الجاد الذي برع في أعمال تراجيدية تنتمي عادة إلى الثوب الكلاسيكي، يواجه تحدياً كبيراً في تأدية شخصية الخبير، التي لها - بالإضافة إلى المتطلبات النفسية - الكثير من المتطلبات الحسية التي تتجاوز الماكياج إلى سلوك عام شديد الخصوصية. بينما يظهر نيكولاس كيج بحلة جديدة، بقيامه بشخصيتين متناقضتين تماماً. فتشارلي كوفمان هو من الأشخاص دائمي الانشغال بأنفسهم، ليس بشكل ينم عن الأنانية بل رغبة في أن يكونوا أشخاصا أفضل من أجل الآخرين وأنفسهم وبشكل أعمق وأكثر إلحاحاً في إدراك ذاتهم، وهم على جهل تام بأنفسهم، مما يجعلهم متخبطين وينظرون إلى العالم بوصفه كتلة هائلة من الفوضى. في الوقت الذي تمتاز فيه شخصية دونالد كوفمان بروح سوية ورغبة في الحياة بكل ما تحمله من ألوان. ولهذا التناقض بعد رمزي جميل، حيث إن الشخصيتين بتناقضهما التام تفضيان إلى شخصية واحدة غير متصالحة مع نفسها، ليس قبل نهاية الفيلم على الأقل.

الخليج الإماراتية في 18 سبتمبر 2006

 

ضوء ... عبرة من تاريخ السينما

عدنان مدانات 

من المفيد أحيانا الرجوع إلى تاريخ السينما لاستخلاص بعض العبر التي قد تكون ذات فائدة في الحاضر. يكتسب هذا الأمر أهمية خاصة بالنسبة للسينما العربية التي لا تزال تبحث عن هويتها وللسينمائيين العرب الذين يبحثون عن فرص لتحقيق أفلامهم بما يرضي طموحاتهم الفنية وقناعاتهم الفكرية، في وقت يجدون أنفسهم فيه عاجزين عن تمويل أفلامهم بأنفسهم وفاقدين لأي دعم أو مساعدات أو مساهمات مالية من مؤسسات رسمية وطنية، مما يضطرهم إلى الاعتماد على الدعم الخارجي الأجنبي والارتهان لشروطه واستحقاقاته، فيخرجون أفلاماً، قد تلاقى صدى في بعض المهرجانات السينمائية تنعكس تردداته في كتابات نقاد وصحافيين لبعض الوقت قبل أن يخفت صداها وتدخل في غياهب النسيان دون أن تترك أثراً إلا في نفوس مخرجيها.

والرجوع إلى التاريخ هنا يتعلق بواقعة، بدت غير ذات أهمية خاصة في حينها، ترتبط بتفصيل يتعلق بظروف إنتاج فيلم إيطالي أنتج في العام ،1945 أي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها إيطاليا مهزومة عسكرياً ومدمرة اقتصادياً، الأمر الذي عكس نفسه على صناعة السينما في إيطاليا، وتسبب في ضعف قدرة السينمائيين على تمويل أفلامهم.

ارتبطت الواقعة بمشروع فيلم هذا ملخص حكايته: رب عائلة عاطل عن العمل يعيش في مدينة تعاني معالم الحياة فيها نتائج الحرب العالمية الثانية. يعثر على العمل كملصق إعلانات على جدران المدينة. وهذا العمل يتطلب منه امتلاك دراجة، لهذا يرهن فراش بيته ويشتري دراجة. في اليوم الأول لمباشرته عمله يسرق لص دراجته فيما هو يعلق ملصقا إعلانيا للفيلم الأمريكي “جيلدا”. وفي قسم الشرطة يبلغونه بأنهم غير مستعدين لبذل الجهد من أجل سرقة تافهة كهذه. بعد أن ييأس من العثور على دراجته يقرر فجأة أن يسرق دراجة وجدها مركونة في الطريق ولكن محاولته تبوء بالفشل إذ يلقي المارة القبض عليه ثم يفرجون عنه متأثرين بتوسلات ابنه الصغير الذي كان برفقته.

يتضح من هذا الملخص أن المشروع لا يتضمن ما تحتاجه الأفلام، قصد النجاح الجماهيري، من عناصر الإثارة فلا توجد فيه قصة حب مؤثرة ولا صراعات مثيرة ولا مغامرات يقوم بها بطل كما لا تجري أحداثه في أماكن جذابة أو وسط طبيعة خلابة تبهر أنظار المشاهدين.

إضافة إلى بساطة الحكاية، كان المشروع مدرجا تحت عنوان “سارق الدراجة”، والعنوان، بطبيعة الحال، غير مثير ولا تتوافر فيه متطلبات العنونة المشوقة المتعارف على وجودها كشرط مساعد على تسويق المنتج، لكن مع ذلك، أثار مشروع الفيلم، اهتمام واحد من كبار منتجي الأفلام الأمريكية في هوليود، فأعلن عن استعداده لإنتاج الفيلم. غير أن شرطا واحدا اشترطه المنتج الأمريكي على كاتب السيناريو والمخرج الإيطاليين كان كافيا لرفض هذا العرض المغري. والشرط يتعلق بإعطاء دور البطولة في الفيلم للنجم السينمائي الأمريكي كاري جرانت، الذي كان نجم نمط من الأفلام يصفها النقاد بأفلام “الهواتف البيضاء” التي تروي قصص حب ويجري تصويرها داخل الأستوديو وضمن ديكورات المنازل الثرية، ويرتدي أبطالها الملابس الأنيقة، أي أنه كان نجماً ينتمي لنمط من السينما مغاير كلياً، شكلاً ومضموناً، لنمط الأفلام التي يطمح لتحقيقها صاحبا المشروع الإيطاليان.

تمتع المنتج الأمريكي الذي تحمس بداية لمشروع فيلم “سارق الدراجة” بخبرة سينما ناجحة تجاريا وتقف على قاعدة صناعية متطورة وضخمة وكان، على الأغلب، سينتج الفيلم بشروط مجربة من واقع خبرته، ومن هذه الشروط وجود نجم سينمائي في دور البطولة يضمن للفيلم النجاح والانتشار.

بالمقابل، كان الهدف الذي سعى وراءه السينمائيان الإيطاليان، كاتب السيناريو سيزاري زافاتيني والمخرج فيتوريو دي سيكا، مختلفاً كلياً وذا منطلق أيديولوجي سياسي يساري، ويتعلق بالرغبة في صنع فيلم يعبّر بصدق عن الواقع وقضاياه وبالذات واقع الفقر الذي وقع تحت وطأته غالبية الشعب آنذاك.

حقق فيلم “سارق الدراجة” بعد عرضه نجاحاً كبيراً سواء داخل إيطاليا أم خارجها ومنح مخرجه فيتوريو دي سيكا سمعة عالمية. والأهم من ذلك، أن الفيلم الذي اتسم بهوية وطنية إيطالية واضحة أصبح بداية لمدرسة سينمائية سيكون لها تأثير كبير ليس فقط على مسيرة السينما الإيطالية في حينه، بل ستضع بصماتها على مسيرة وتطور السينما في العالم.

من إنجازات الفيلم على صعيد الإخراج نقل الأحداث من داخل الاستوديوهات أو الغرف المغلقة إلى فضاء الخارج والأحياء الفقيرة وشوارع المدينة، أما على صعيد اختيار الممثلين، فلم يكتف باختيار أشخاص من عامة الناس للأدوار الثانوية بل امتلك الجرأة غير المسبوقة على إعطاء دور البطولة لشخص من عامة الناس وليس ممثلاً أصلاً، إذ قام بالدور عامل ذاق مرارة البطالة وقاده دي سيكا ببراعة وجدية، مما شجع السينمائيين في العالم لاحقاً على استخدام ما صار يسمى بالممثل غير المحترف في أدوار البطولة خاصة إن كان الدور قريبا من واقع حياته ومعاناته.

ومن طرائف الأمور أن هذا الشخص العادي الذي لعب دور البطولة في “سارق الدراجة” واسمه لامبرتو ماجيوراني، والذي بدا في الفيلم مقنعاً ومؤثراً إلى حد كبير، ظن أنه أصبح نجماً، مما شجعه على خوض مجال التمثيل في السينما لاحقاً، لكن مجموعة الأدوار التي حصل عليها على مدى يقارب العشر سنوات لم تحقق له أي نجاح. وهو في الواقع لم ينجح في “سارق الدراجة” نتيجة موهبة خاصة يتمتع بها، بل نتيجة ملاءمته لدور اختير له انطلاقا من منهج سينمائي متكامل اعتمده كاتب سيناريو ومخرج يتمتعان برؤية فنية إبداعية وموقف فكري.

الخليج الإماراتية في 18 سبتمبر 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك