تنطلق غداً فاعليات مهرجان "ايام بيروت السينمائية" في دورته الرابعة التي شاءت ظروف الحرب المفاجئة ان تقلص ايامها وتحصر برنامج عروضها في سبعة ايام (بين سينما سيكس في امبير صوفيل ومتروبوليس في الحمرا)، بعد ان امتدت الدورة الفائتة في العام 2004 الى عشرة ايام. برنامج متنوع من الافلام الروائية والوثائقية الطويلة والقصيرة التي تتناول العالم العربي بتشعباته السياسية والاجتماعية والانسانية وتتخذ من رؤية صناعها تفرد النظرة وحدتها. هنا جولة على ابرز الموضوعات التي تجمعها.

بيروت

رغب المنظمون في ان تتخطى "الايام" هذه السنة كونها مهرجاناً سينمائياً صرفاً، يدعو ضيوفه الى مشاهدة افلامه والمشاركة في فعالياته. انها أقرب الى اجتماع يراد منه الحديث والنقاش وتبادل الافكار. تلك الافكار التي ماجت بالألوف في الرؤوس خلال الفترة الماضية والاسئلة المعلقة التي زادت من عزلة أصحابها وتركت للذهول او للصدمة ان تكون الموقف الوحيد المتاح أحياناً. سينمائيون شباب يجتمعون في "الايام"، يرغبون في معرفة ما جرى خلال الفترة الماضية ومشاهدة آثارها بأم العين. على ان تلك الأسئلة غير بعيدة في الواقع عن مناخ الاعمال السينمائية التي يستضيفها المهرجان. المدينة/المكان محور اساسي في عدد من الافلام الروائية الطويلة. كأن بيروت التي تحتضن على خلفية دمارها وهشاشتها هذه الصور المدينية انما هي تحضر في غير شكل وصورة. هي بيروت المكان الجامع بذاكرة حرب ماضية وحاضرة وقلق دائم. ولكنها ايضاً بيروت غسان سلهب في "أطلال" وبيروت ميشال كمون في "فلافل". والأخير فيلم الافتتاح الذي اكتمل قبل فترة وجيزة بعد عمل استغرق أكثر من عامين منذ بدء التصوير. انه الشريط الروائي الطويل الاول لمخرجه وان لم يكن الاول في محاولة رسم علاقة ما بين المخرج ومدينته إذ سبقه "ظلال" القصير قبل سنوات الذي صور مطاردة بين رجل وشبح في خراب وسط بيروت قبل اعماره. يجوز القول ان كمون يزور بفيلمه الجديد بيروت اليوم فيختار ليلها لأنه عالم شبابها منطلقاً في رحلة مع بطله "توفيق"، سيواجه الاخير خلالها اسئلة مصيرية.

في بيروت اليوم ايضاً، كتب سلهب أحداث شريطه الروائي الطويل الثالث "أطلال"، مستكملاً من خلاله محاولة رسم بورتريه لهذه المدينة المتحولة بسرعة تفوق تقلب الزمن والتي لا تستقر على وجه او حال. فمنذ "اشباح بيروت"، آل المخرج على نفسه ان تكون المدينة بطلة افلامه في زمان ومكان محددين من تاريخها. فكان الأخيرعودة الى المرحلة التي تلت نهاية الحرب بينما ذهب فيلمه الثاني "أرض مجهولة" الى تخوم الحاضر الملتبس. في بيروت اليوم ولكن خارج الزمن العادي، يعيش "خليل" الطبيب الاربعيني في "أطلال" حالة طارئة عليه من الاضطرابات والتحولات الغريبة التي تتزامن مع وقوع جرائم ليلية في بيروت ذات طبيعة غير مألوفة.

بمحاذاة الجهد الابداعي لكل من العملين في إعادة خلق المدينة والواقع، فرضت الحرب الأخيرة واقعها كما هو على الصورة ليس على التلفزيون فقط وانما ايضاً في افلام قصيرة صُنعت بما يشبه رد الفعل على فظاعة الحدث. فإذا كان صنع "أطلال" قد استغرق من مخرجه الوقت والجهد والمسافة عن المدينة وتحولاتها، فإن "وقت ميت" كان بالنسبة الى سلهب رسالة بعث بها الى مهرجان "لوكارنو" حيث قدم "أطلال" في عرضه الاول اوائل آب الفائت من دون ان يتمكن مخرجه من السفر. "وقت ميت" كان شهادة منه على الحرب وهي واحدة من بين أكثر من عشر شهادات او رسائل بصرية أنجزها مخرجون خلال الحرب وسوف تعرض في المهرجان تحت عنوان "فيديو تحت الحصار". تتضمن المجموعة افلاماً لرانية استيفان وخليل جريج وجوانا حاجي توما وأحمد ياسين وروي سماحة وباسم فياض (بمشاركة ايليان راهب وجاد ابي خليل) وآخرين.

أفلام روائية

يُعرض شريطا "فلافل" و"أطلال" (في عرضهما الاول) مع ستة افلام أخرى في فئة الافلام الروائية الطويلة. وتلك تتشارك على أرضية بحثها في علاقة الفرد بمحيطه وبنفسه في ظل ظروف الحرب والازمات والتطرف. انها أفلام تنتمي الى اماكنها بامتياز بحيث يتخذ توصيف "فيلم عراقي" مثلاً بعداً يتخطى الجنسية الى الهوية. انه فيلم عراقي بروحه ومناخه وربما معاناته. ينطبق ذلك على شريط عدي رشيد "غير صالح" الذي كان اول فيلم يُنجز بعد سقوط نظام صدام حسين. تدور أحداث الفيلم بتماس مع الواقع اليومي. لا يعيد الفيلم صوغ الواقع بل يمشي بمحاذاته محاولاً خلق نفسه من رحم الاحداث اليومية. هكذا ترتسم صورة بغداد على وقع الخراب اليومي وتُنحت صورة الفرد في مشهدية الالم والامل.

"التلفزة جاية" هو عنوان الشريط التونسي بتوقيع منصف ذويب الذي يرصد تحولات قرية صغيرة بعدما يأتيها نبأ وصول فريق تلفزيوني الماني لتصوير تحقيق عنها. كيف تتعاطى المجموعة مع صورتها واية صورة تريد ان تصدر؟ عن تلك الأسئلة وغيرها يتحدث الفيلم. اما المغربي اسماعيل فروخي فيتخذ من فيلمه "الرحلة الكبرى" رحلة انسانية حيث تصبح الجغرافيا باعثة على التأمل والاكتشاف والتحولات. غير بعيد من الفيلمين المذكورين، يقف الجزائري "بلاد رقم واحد" لرباح زيماش الذي يرصد بعيني جزائري مهاجر التجاذبات التي يعيشها المجتمع الجزائري القروي والمديني على خلفية التطرف الاسلامي الآخذ بالتوسع.

من ذلك الخيط الأخير، يسحب سمير نصر (المخرج المصري المقيم في المانيا) حكاية فيلمه "أضرار لاحقة" متناولاً حكاية عائلة مختلطة الجنسية بعد أحداث 11 أيلول. كيف يمكن صورة الاعلام والاحكام المسبقة ان تقود الى سلسلة من الافعال الاستباقية والشكوك وإطلاق الاحكام الى حد هدم عائلة وقصة حب؟

خارج هواجس الارهاب والتطرف والحرب، يقدم الموريتاني عبد الرحمن سيساكو فيلمه "باماكو" (المحكمة) بعد فيلميه "الحياة على الارض" و"في انتظار السعادة". بحساسيته المعهودة وقدرته على التقاط الحياة على هامش الحياة، يعمد سيساكو هذه المرة الى خليط مختلف من حكاية زوجين مختلفين ومحكمة افتراضية باسم المجتمع الاهلي الافريقي لمحاكمة المصرف العالمي وصندوق النقد الدولي بتهمة مسؤوليتها عن المصائب اللاحقة بافريقيا.

المكان­الانتماء

يمكن القول ان التلاقي بين الوثائقي والروائي في هذه الدورة واضح خلا ان الوثائقي يطرح هواجسه ويلاحقها لتصبح تلك العملية جزءاً من الفيلم نفسه. اذا استعدنا عناوين الافلام الروائية، سنجد صداها في الوثائقي: بيروت الحاضر والحلم المتخيل ومدينة الوجع هي محور شريط وائل نور الدين "من بيروت، مع أطيب التمنيات" حيث يدور المخرج على مجموعة من الأحداث الأخيرة التي اصابتها بمحاذاة عالمها السفلي الذي ينتمي هو اليه كأنما كخيار ثالث لا غير مطروح بين خياري "الجيش والدين". تداخل الشخصي والسياسي عنوان شريط لميا جريج "سفر" المنجز بما يشبه الفيديو المنزلي متابعاً مقتطفات من سيرة عائلتها التي تتلاقى مع التحولات الكبرى في الشرق الاوسط بدءاً بانتقالها من "يافا" في 1948. فيلم جريج غير بعيد من أسئلة المكان ومعنى الانتماء اليه التي نقع عليها في معظم الافلام الوثائقية الاخرى. "السطح" لكمال جعفري هو عودة شاب فلسطيني الى عائلته ومرتع طفولته في محاولة لاعادة بناء صورة المكان واحساسه به بين ذكريات الطفولة وتحولات الحاضر. كذلك يبحي "أمينة او المشاعر الملتبسة" في معنى الوطن والانتماء والهوية من خلال المراهقة الجزائرية التي انتقلت الى باريس. وفي قرية حدودية يضع نسيم عمواش وآن ماري جاسر الكاميرا لتصوير الزمن في "فتات خيز للعصافير". كيف يكون المكان منسياً وكيف يمكن ان يختفي؟ انها الامكنة المعلقة التي ترتزق الحياة ولا تعيشها.

على صعيد آخر، يبحث "مكان اسمه الوطن" للمصري تامر عزت و"بشوف النجوم بعز الظهر" لسعيد تاجي فاروقي في حيوات افراد وفي علاقتهم بأوطانهم وبانتمائهم اليها. ما معنى ان يكون المكان وطنك؟ وهل الوطن هو مكانك؟

من تلك الاسئلة تخرج حكاية "ميادة" في "انت عارف ليه" لسلمى الطرزي. انها المراهقة الباحثة عن مكان لها في محيط لا يعبر عنها ولا يمنحها بدائل. الاسهل اذاً بالنسبة اليها اختيار صورة جاهزة او "موديل" للدخول فيه. انها تحلم بالنجومية.

في المقابل، تتنوع الافلام الروائية القصيرة بين أفلمة الواقع المعيش كما في "أصمت" للفلسطيني سامح زعبي و"اتمنى" لشيرين دابيس وبين سعي مخرجيها الى استخراج صورة مكثفة ومجردة منه كما في "المرحوم" لرشيد العوالي و"كادر" لوحيد المثنيو"جبل طارق" لغسان حاواني. اما الخلط بين الواقعي والفانتازي فنعثر عليه في "الى اللقاء" لفؤاد عليوان عن واقعة في حياة عائلة لبنانية في "سويسرا".

السياسة

في فئة "إطلالة على العالم العربي"، تعرض افلام أجنبية عن العالم العربي لتبرز السياسة والاحداث الساخنة الموضوع الاكثر تناولاً ومقاربة. ثلاث لوحات عن عراق اليوم في شريط "العراق في أجزاء" لجايمس لونغلي تتجاور من دون شخصيات مشتركة او عنصر درامي جامع. ولكنها ترسم في النهاية صورة ما لواقع يحمل نقيضي الحرب وامكانية الحلم. في "17 اوكتوبر 1961"، يتناول آلان تاسما واقعة تاريخية عندما نظمت جبهة التحرير الوطني الجزائرية مسيرة سلمية في التاريخ الذي يحمله العنوان لتواجه بقمع وحشي من قبل الجيش الفرنسي المحتل وقتذاك. وفي عرض خاص، يقدم المهرجان عرضاً لفيلم جيلو بونتيكورفو الشهير "معركة الجزائر" ليشكل مع سابقه و"أمينة مشاعر ملتبسة" و"بلاد رقم واحد" ما يشبه بقعة الضوء على الجزائر ماضياً وحاضراً.

بعيداً من السياسة، يقدم "ليندا وعلي" للوت فانديكيبوس مقاربة مختلفة لعلاقة بين رجل قطري وزوجته الاميركية المسلمة ملقياً الضوء على موضوع الزواج المختلط من مسافة قريبة جداً وبدون أحكام. رويداً يتكشف ذلك العالم الداخلي للزوجين واولادهما السبعة ليتضح انه أكثر من عالم واحد.

لعل اللافت في أفلام الدورة الحالية للمهرجان انها بصرف النظر عن نوعها ترسم مجتمعة بورتريه لمدنها، فنرى بيروت في ثلاثة افلام او اكثر وكذلك العراق والجزائر وفلسطين.

المستقبل اللبنانية في 15 سبتمبر 2006

 

«مهرجان بيروت السينمائي» على رغم أنف الحرب!

بيروت - فيكي حبيب 

يأتي افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان «أيام بيروت السينمائية» غداً مفاجئاً بالنسبة الى كثر من أهل المهنة. فبعد حرب تموز (يوليو) 2006 لم يتوقع أحد أن تستعيد الحياة السينمائية اللبنانية نشاطها بهذه السرعة... ولم يتخيل محبو الفن السابع إمكانية تنظيم مهرجان سينمائي في هذا الوقت بالذات، خصوصاً ان تنظيم أي مهرجان، مهما بلغ حجمه، يستلزم شهوراً من التحضيرات والاستعدادات.

لكن يبدو ان شباب «بيروت دي سي» لا يوقفهم عائق... خصوصاً ان الإرادة القوية بعودة الحياة الطبيعية الى المدينة الطالعة من الحرب لا تنقصهم. كما لا ينقصهم التصميمم والتحدي... وبالتالي تنظيم مهرجانهم السينمائي في موعده، من دون تعديل. وليأتي عملهم على مستوى التحدي ما كان من هؤلاء الشبان إلا أن حوّلوا ليلهم الى نهار طوال الشهر الماضي، مضاعفين جهودهم، يعملون مثل خلية النحل.

وبنظرة بانورامية موضوعية على برنامج الدورة الرابعة التي تقام بدعم من الإتحاد الأوروبي ضمن إطار برنامج «اليوروميد السمعي البصري»، يمكن القول منذ الآن إن منظمي «أيام بيروت السينمائية» نجحوا في مسعاهم، إذ تتضمن قائمة العروض مجموعة مميزة من الأفلام، تحمل تواقيع ميشال كمون وعدي رشيد واسماعيل فروخي وسواهم من أسماء السينما العربية.

ولعل أبرز هذه العروض هو فيلم الافتتاح للبناني ميشال كمون، الذي يقدم هنا فيلمه الروائي الطويل الأول «فلافل». ولا شك في ان كثراً ينتظرون تجربة كمون الجديدة هذه، خصوصاً انه يعتبر واحداً من أبرز سينمائيي الجيل الجديد في لبنان، بعدما حصدت أعماله القصيرة النجاح، وحازت على الإعجاب في الغرب وفي لبنان.

طبعاً لم يكن سهلاً على كمون إنجاز هذا الفيلم، خصوصاً في ظل الإمكانات المادية المتواضعة المتاحة للسينمائيين اللبنانيين الشباب... لكن الفيلم أنجز اخيراً، بجهود فريق لبناني بحت من عشاق الفن السابع، وبإنتاج متواضع. وكما يبدو من سيناريو هذا العمل الذي صوّر قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، شبح الحرب لم يغب عن الأحداث... حتى ولو لم يشكل الموضوع الرئيس فيه. فماذا عنه؟

في «فلافل» يصور كمون لبنان الحاضر، بعد 15 سنة من انتهاء الحرب، من خلال نظرة شاب مراهق يريد أن يحيا الحياة للنهاية، من دون أن يضيع ثانية واحدة... ثم سرعان ما يجد نفسه أمام الحقيقة المرة، التي تقول ان العيش في هذا الوطن بصورة طبيعية هو قمة الترف... فبعد سنوات من الحرب، هناك دوماً بركان قابل للانفجار في أي لحظة.

فيلم كمون ليس الفيلم اللبناني الوحيد المشارك في المهرجان البيروتي، إذ هناك ايضاً فيلم غسان سلهب «أطلال» وهو الفيلم الروائي الطويل الثالث لصاحبه. اما الأفلام الطويلة الاخرى المشاركة في المهرجان فتأتي من العراق («غير صالح» لعدي رشيد») والمغرب («الرحلة الطويلة» للمخرج اسماعيل فروخي) وتونس («التلفزة جاية» للمخرج منصف دويب) وموريتانيا («المحكمة» لعبدالرحمن سيساكو) وألمانيا («أضرار لاحقة» للمخرج المصري سمير نصر).

وتحلّ الجزائر ضيفة على المهرجان البيروتي من خلال أربعة أفلام. أهمها فيلم رباح عمر زيمش «بلاد رقم واحد» الذي شارك في الدورة الأخيرة من مهرجان «كان» السينمائي ضمن فئة «نظرة ما»، ولفت الأنظار هناك من خلال حكاية «كمال» الشخصية المحورية في فيلم زيمش الأول «وش وش»، الذي يعود في الفيلم الجديد الى وطنه الاول، الجزائر، ليرصد المتغيرات والحياة الاجتماعية بعيني من تربى وعاش في الخارج. اما الأفلام الباقية فأبرزها تحفة المخرج الإيطالي جيللو بورتيكورفو «معركة الجزائر» (1966) الذي أعيد الاعتبار اليه قبل سنوات، ليعتبر ليس فقط أحد افضل الأفلام عن حرب الجزائر، بل أيضاً من أبرز ما حقق في السينما العالمية عن حق الإنسان في النضال والتحرر. وكان هذا الفيلم منع طويلاً في فرنسا. ومن الأفلام أيضاً، «17 أكتوبر 1961» للمخرج الفرنسي آلان تسما، وهو بدوره عن الجزائر يكشف مجزرة كان مسكوتاً عنها في حق الجزائريين في فرنسا. واخيراً الفيلم الوثائقي «أمينة أو المشاعر الملتبسة».

ويتضمن برنامج العروض أيضاً مجموعة من الأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية، إضافة الى أفلام تدخل ضمن فئة «نظرة غريبة على العالم العربي».

أياً يكن الأمر، الواضح أن هذه الدورة من المهرجان الذي يقام مرة كل عامين، تحمل في جعبتها الكثير لمحبي الفن السابع. وفي انتظار المهرجانات اللبنانية الأخرى التي ستقام في الأسابيع المقبلة، سيعيش الجمهور اللبناني أسبوعاً فنياً غنياً بالأفلام التي لا تقل قيمتها ربما عن أفلام المهرجانات الكبرى.

الحياة اللبنانية في 15 سبتمبر 2006

سينماتك

 

الدورة الرابعة لمهرجان "أيام بيروت السينمائية" تنطلق غداً بفيلم "فلافل"

بيروت وبغداد ترتسمان في عدد من الأفلام والبحث في المكان والإنتماء إليه عنوان جامع

ريما المسمار

 

 

 

 

سينماتك

 

فيلم يدين عالم الحرب اللاانساني...

«النمر والجليد».. الهزلي الايطالي في بغداد لا ينظر إلى الأشياء لكنه يراها

أمل الجمل 

فيلم «النمر والجليد» - الذي شارك في كتابته وأخرجه وقام ببطولته الإيطالي روبرتو بنيني الحائز (3 جوائز أوسكار عن فيلمه «الحياة جميلة» 1998) هو وثيقة فنية معارضة للغزو الأميركي للعراق، وإدانة قوية لعالم الحرب اللاإنساني. مع ذلك لا يُعتبر فيلماً عن الحرب بقدر ما هو شريط سينمائي كوميدي عن جنون الحب والعشق، عن هوس الإبداع، عن حب الحياة والتمسك بها حتى بين حقول الموت، وفي أشد لحظات اليأس. فهل ثمة علاقة بين الحب والحياة والإبداع؟ ربما كانت الإرادة في مواجهة المعاناة، وربما كانت صعوبة الاختيار وحسم القرار هما ما يربط بينها. لكن الأرجح أنها المتعة والسعادة المتحققة عنها جميعاً.

يدور الخط الرئيسي للأحداث حول الحب بين الشاعر الرومانسي الإيطالي «جيوفاني» وزوجته السابقة «فيتوريا». فهي حب حياته، يحلم بها كل ليلة، يسمعها طوال حياته كلها، ويراها في كل مكان يذهب إليه. لكنها - بسبب تعدد علاقاته - ترفض العودة إليه على رغم أنها هي الأخرى مجنونة بحبه. يسألها: لماذا لا نعيش معاً بقية حياتنا؟! إنه أمر سهل. فتُجيبه وهي مُمسكة بأحدث ديوان شعري له يحمل عنوان «النمر والجليد»: «إن هذا الأمر في سهولة رؤية النمر بين الجليد».

قبل أيام من الغزو الأميركي للعراق في نيسان (أبريل) 2003 تسافر البطلة إلى «بغداد» لاستكمال كتابها عن الشاعر العراقي «فؤاد» الذي قرر العودة إلى وطنه بعد غياب 18 سنة قضاها في باريس، والذي يراه «جيوفاني» شاعراً عربياً عظيماً مثل «دانتي» ويتنبأ بحصوله على جائزة نوبل في غضون خمس سنوات على الأكثر. من جراء القصف الأميركي تُصاب «فيتوريا» بصدمة دماغية وتُصبح في عداد الموتى عيادياًً. فيُقرر الحبيب السفر إليها. لكن كيف ونيران الحرب قد اشتعلت، وحركة الطائرات متوقفة. يدّعي الشاعر أنه طبيب جراح ليتمكن من مرافقة الصليب الأحمر إلى بغداد... نراه يقول لحبيبته الغائبة عن الوعي، أثناء بحثه عن أنبوبة أوكسجين لها، «إنه إذا أراد تحقيق شيء سيُحققه»... إنه ببساطة شديدة يُعلن عن الوجود الإلهي الكامن في أعماق كل البشر، عن إرادة الإنسان القادرة على صنع المعجزات.

سلبيات حرب مجنونة

ينتقد الفيلم في صورة غير مباشرة ـ أثناء محاولات «جيوفاني» إنقاذ «فيتوريا» - سلبيات تلك الحرب المجنونة، فينزع القناع عن الكابوس الذي عاشته بغداد، عن حقول الألغام والدمار الذي لحق بها، عن انتحار «فؤاد» «أعظم شعراء العراق»، عن المباني التي تهدمت على رؤوس أصحابها، عن مذبحة تعرض لها شعب لا حول له ولا قوة، عن الجرحى الذين ماتوا لعدم توافر الأدوية اللازمة، عن عدم السماح للفرق الطبية ومنها الصليب الأحمر بدخول بغداد، عن الجنود الأميركان وهم يملأون الأسواق والميادين، عن حالات النهب والسرقة التي تفشت بين أفراد الشعب المطحون في أعقاب سقوط نظام صدام حسين، عن انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود على رغم وفرته أكثر من اللازم. ألم يكن البترول هو السبب الحقيقي والخفي وراء هذه الحرب التي قامت تحت دعاوى وجود أسلحة للدمار للشامل يُخبئها النظام الحاكم. في لقطة، رمزية، تكتنفها السخرية اللاذعة، يهمس البطل إلى حبيبته أنه عثر على أسلحة الدمار الشامل، فقد وجد مذبّة الذباب!

على رغم كل ما سبق لا يوجد في الفيلم مشهد واحد مُؤذ على مستوى الرؤية البصرية، حتى مشهد انتحار «فؤاد» كان في قمة الرومانسية والشاعرية. لا نرى قتيلاً واحداً تنزف دماؤه، لا تقشعر أبداننا من رؤية آلام وجراح الآخرين، فمخرج الفيلم لم يُتاجر بأشلاء ضحايا الحروب وجثثها من أطفال وشباب وشيوخ، من نساء ورجال. «النمر والجليد» فيلم لا يبتزنا عاطفياً، لكنه إبداع فني راق يُخاطب العقول، فيجعلنا نستغرق في البحث عن لغة للحوار. تُسيطر علينا لحظات التوتر والقلق يُخفف من حدتها جرعات أخرى من السعادة والبهجة ترسمها بعض المواقف الكوميدية ذات المغزى العميق. هل هذه الحروب دليل قوة؟ وفق ما يشي به الفيلم إنها دليل على الضعف وعلى فقدان العقل، فبعد سنوات طويلة من الحكمة لم يتعلم البشر شيئاً، وتحول العالم إلى سيرك كبير، وهو ما يُعلنه المؤلف في رمزية شديدة الوضوح عندما اعترف رجل البوليس أن النيران اشتعلت في السيرك فخرجت الحيوانات إلى الشارع.

نمر وجليد

قرب نهاية الفيلم يستكمل المخرج إيضاح إشارات طرحها في بداية الأحداث فيُؤكد على ماهية العلاقة بين النمر والجليد، على العلاقة بين النقاء والقوة، على قدرة الجليد - رمز الرقة والنقاء - على إخفاء النمر - رمز القوة.

في مشهد بديع تتساقط شظايا الجليد مثل ريش الحمام، فيتراكم في الجو وعلى زجاج السيارات مثل تلال من القطن الأبيض ناصعة البياض، عندئذ لا تستطيع «فيتوريا» رؤية النمر وهو يجتاز الشارع أمامها، لا ترى إلا ظله وبصعوبة شديدة. قبل أن تصدمه تتوقف وتمحو الجليد عن زجاجها، فتتلاقى العيون مقيمة حواراً من نوع آخر، حواراً بين إنسان وحيوان، وهو ما يُعيدنا إلى حديث الشاعر مع ابنتيه عن قدرة الطيور والحيوانات مثل الخفاش والعنكبوت والفأر على فهم لغة الإنسان، وعلى التفاعل معه، وهو ما أكده مشهده مع الجمل الذي يقول له «إبرك، قوم» فينفذ الأخير الأمر. ليستحضر بذلك جدلية العلاقة بين صراع الثقافات وإشكالية حوار الحضارات. فإذا كانت إقامة حوار بين عالم الإنسان وعالم الحيوان من الأمور القابلة للتحقق، فمن باب أولى أن يُقيم بنو البشر في ما بينهم حواراً يتخطوا به حواجز الهوية الدينية والثقافية واللغوية.

في الفيلم مشاهد متنوعة تُؤكد أهمية الحوار بين الثقافات، وتلك اللحظات التي تذوب فيها الفوارق بين البشر، ولا يبقى سوى حوار إنسان لإنسان أمام تلك الهموم والآلام. من بين تلك المشاهد لقطة للعيون المبتسمة الخالية من أي عدوان بين الجندي الأميركي الشاب والشاعر العاشق عندما خرج مبكراً وجلس أمام المستشفى مُصاباً باليأس من وضع حبيبته المتدهور. ولقطة ثانية تجمع بين ذروة الكوميديا والمأساة يظهر فيها «جيوفاني» وهو مُلغم بالأدوية الطبية أحضرها من البصرة إلى بغداد من أجل حبيبته، وأثناء مروره على حاجز يحرسه الجنود الأميركيون يُصابون بالفزع إذ توهموا أنه إرهابي يحمل المتفجرات. لكن عندما يعرفون أنه شاعر مثل «وايتمان» يزول التوتر ويسمحون له بالمرور. ولقطات متبادلة بين عيني «جيوفاني» وهو يرجو بإحساس قوي عيني «الجميلي» الصيدلي أن يجد وصفة طبية تنقذ حبيبته. كان الجميلي شاعراً عربياً مرهف الإحساس ادعى أنه أُصيب بالعمى على مدار 12 سنة حتى لا يجرح مشاعر زوجته عندما أصابها الجدري فتشوهت ملامحها. وبعد موتها قال إن بصره ارتد إليه. كما أنه عاش تجربة الفقدان عندما قُتل ابنه «علي» على يد صدام حسين الذي كان يكره النفوس الحرة الأبية. كان كل من الشاعرين لا يعرف لغة الآخر، لكن التواصل عبر العيون والإحساس اختصر المسافات وحطم قيود اللغة.

السماء / الوسادة

جاء الفيلم بمثابة أنشودة حب وتقدير واحترام للثقافة العربية، فوصف سماء بغداد بأنها كانت وسادة العالم، ورفع من شأن شعرائها، أشار إلى تقدم العرب في الطب، إلى أنهم كانوا يُبدعون وصفات طبية لعلاج الصدمات الدماغية قبل اكتشاف الأدوية الحديثة. لذلك لم يكن غريباً عندما أعلن روبرتو بنيني في حواراته بوضوح أنه ضد موقف الغرب من الحرب على العراق قال:» لقد صنع الحرب غربيون تعلموا في الغرب... إنهم يدمرون شرقاً نُحبه وندين له بالكثير».

الأفلام التي تنجح فنياً وتجارياً تكاد تتسم بالندرة.. حقق «بنيني» هذه المعادلة الصعبة بنجاح لافت، لكن كيف؟! لم يكتف بالنظر إلى الأشياء لكنه استطاع رؤيتها. تعامل مع السينما مثل الشعراء. إنهم لا ينظرون... بل يرون». والفارق بين الاثنين كبير وعميق. وهل تختلف السينما عن الشعر؟ ألا يُعتبر مبدعو الأفلام شعراءً وربما فلاسفة الفن السابع؟ يُطلعنا «بنيني» على سره الجميل، يكشف عن أسباب تفرده، فيقول على لسان شاعره «دي جيوفاني»:

«بدأ الجمال عندما بدأ الناس يُتقنون الاختيار... انتقي كلماتك بعناية... فلو أن الكلمات غير صحيحة فلا شيء صحيحاً... حتى تنتقي فإن بعض الأشياء تحتاج إلى ثمانية أشهر لإيجاد كلمة واحدة مناسبة... البس قصائدك عليك... اجعل الكلمات تُطيعك».

لكن هل توجد علاقة بين السلام والحرب من ناحية وبين الحب والإبداع من ناحية أخرى؟ يقول البطل: «لو أنك لا تحب فجميعنا موتى... فلتقع في الحب وكل شيء سيأتي إلى الحياة. لا تكن حزيناً وصامتاً... انثر البهجة. اقذف سعادتك إلى وجوه الناس... لكي تحمل السعادة يجب أن تكون سعيداً. لكي تكون سعيداً يجب أن تعاني، وأن تتحمل الألم... لا تخشى المعاناة فالعالم بأسره يعاني».

فيلم «النمر والجليد» - الذي لعبت بطولته نيكوليتا براشي زوجة المخرج في الحياة، وجسد دور «فؤاد» فيه جان رينو صاحب الملامح «الأوروبية العربية» - هو أحد أهم وأجمل الأفلام المعروضة في مهرجان «حوار الثقافات» الذي تنظمه مؤسسة «كادر» السينمائية ضمن أحد عشر فيلماً تُنادي بتفعيل الحوار بين الثقافات. وهي أفلام يصعب مشاهدتها بعيداً من أي مهرجان سينمائي دولي... بالطبع شراؤها ممكن على اسطوانات، بأسعارها المرتفعة - التي أصبحت تمتلك وسائل حماية قوية فلا يُمكن نسخها على شرائط فيديو بأسعار خفيضة - كما يُمكن الانتظار حتى عرضها على الفضائيات المشفرة... وربما تستطيع قلة نادرة الحصول عليها عبر مواقع معينة على الإنترنت، لكنها حتماً لن تُعرض في دور العرض المصرية، والعربية خصوصاً في ظل هيمنة الفيلم الهوليوودي، ومافيا التوزيع الذين لا يسمحون إلا بعرض الأفلام مضمونة المكسب المادي.

الحياة اللبنانية في 15 سبتمبر 2006

 

«سيناريو» لقصي خولي: يوم في حياة حافلة سورية

دمشق – فجر يعقوب 

يفاجئ الممثل السوري قصي خولي بصفته مخرجاً لفيلم روائي قصير حمل اسم «سيناريو». المفاجأة طيبة بطبيعة الحال، فالفيلم يحمل شحنة تعبيرية قوية ومبشرة، وان بدت بعضها زائداً، فإن هذا لا يضيرها كتجربة أولى.

تتحرك الكاميرا من فوق بقعة ماء صغيرة في حارة شعبية صعوداً الى الأعلى، وكأنها تواكب صعود الروح منذ البداية على وقع أغنية «أسامينا» للسيدة فيروز. الكاميرا بفعلها الواعي تكشف مصير البطل (النحات في الحياة الواقعية عيسى ديب)، والذي يستعير هنا في الفيلم دور سيناريست كبير يعمل على التفاصيل الصغيرة بدأب نحات لا علاقة له بمنحوتات من أي نوع: (الاستماع الى الرسائل الهاتفية المسجلة، وهو الشيء الوحيد الذي يقودنا الى التعرف الى مهنته - تناول قرص فيتامين c – تسجيل ملاحظة ابنة شقيقته بخصوص «البونبون» – مداعبة القفص الذي يحوي داخله طيراً - النزول على الأدراج في رحلته الأخيرة المعلومة).

يمشي «الكاتب الكبير» في زقاق ضيق حيث يلتقي وجهاً لوجه بطفل صغير له سحنة غريبة. تلتقي نظراتهما ويقرر هو بعد تحية الطفل له بـ «صباح الخير عمو» أن يثبت وجهه في الصورة حيث تأخذ طبيعة لونية أخرى . هذا التثبيت سيكون سلاح الكاتب في معركته النهارية الأخيرة مع التفاصيل الكثيرة التي ستصادفه في طريقه. سيلتقي بأناس تحولوا الى جماد، وبدوا كما لو أنهم غادرونا منطفئين الى أزمنة أخرى. شيء يذكر ببعض مشاهد فيلم «الخالدة» لآلن روب غرييه (1963). المتسكع في الحديقة. بعض وجوه السوق الشعبية التي يمر فيها. ماسح الأحذية الماكر... الخ.

على أن الفيلم لن يمتلك قوته الا بصعود البطل الى حافلة عمومية (فان). وفيها التجمع البشري الأخير الذي سيشهد على حريته التي يبحث عنها، ففي هذه اللحظة تتجمع دقائقه الأخيرة في الحافلة البيضاء. وعادة تبدأ الأمور هكذا، وقد لا تنتهي الا الى مشهد يحمل قيمة تجريدية أكثر مما نفترض في مثل هذه الحالة، اذ تنقلب الحافلة نتيجة رعونة السائق. ربما هي السرعة التي أرادت لركاب هذه الحافلة بالتحديد أن يلاقوا ما لاقوه، فيما هم يتنافسون على مضايقة صبية حلوة (تاج حيدر) بغية التحرش فيها، ان لم يكن الاحتكاك فالنظرات، باستثناء الكاتب الكبير الذي لم يكن يملك سوى سكينة تراجيدية تسمح لها هي الأخرى بالانشغال بنظراته التي لا تكتمل الا مع انقلاب الحافلة. أو هي درجة ميل الكاميرا ،لأن سقوط حبات البرتقال وبقائها على الأرضية (لفضح زيف الحادثة ربما) وخروج الركاب ركضاً لا يوحيان بأن هنالك انقلاباً حقيقياً، فما يريده البطل هو الانعتاق الذي يخصه هو ولا يخص الآخرين، اذ يغمض عينيه الى الأبد.

وهنا تعود الكاميرا وحدها من دون اضطراب يذكر الى منزل الكاتب الكبير وقد فتح الباب على مصراعيه بما يشبه بروفة لخروج الطير من القفص، ولتتوقف ثانية أمام آلة التسجيل التي ستدور من تلقاء نفسها من أجل مواصلة أغنية «أسامينا» ثم تتجه نحو بورتريه للكاتب نفسه وضعت عليه شارة سوداء ربما بدت غريبة وفضحت لحظ الانعتاق كما أرادها صاحبها.

على أي حال يظل فيلم «سيناريو» للمخرج السوري الشاب قصي خولي، وكان قد شارك به في الدورة الأخيرة لمعهد العالم العربي بباريس يحمل تباشير سينما سورية جديدة، وان بدا في بعض نتاجاتها أنها تخالف قوانين السينما المستقلة باعتمادها على امكانات الشركات الكبيرة، فما من استقلالية تكون ناجزة دوماً.

الحياة اللبنانية في 15 سبتمبر 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك