كانت زوجتك تردد دائماً أنك سوف تتأخر دائماً عن حضور جنازتك. هل تذكر هذه الكلمات؟ كانت تقول ذلك على سبيل المزاح لأنك كنت دائماً شخصاً كسولاً وغير منتظم، تتأخر عن مواعيدك وتنسى الأشياء حتى قبل الحادث. والآن أنت تتساءل: إذا كنت قد تأخرت عن حضور جنازتها هي. أؤكد لك أنك كنت هناك بالفعل. وهذا هو ما توضِّحه الصورةُ المثبتةُ على الحائطِ عند الباب، ليس من المفترض أن يتم التقاط الصورة في الجنازات، ولكني أعتقد أن أطباءك هم الذين أشاروا بضرورةِ ذلك لأنهم عرفوا أنك لن تتذكر الحدث. لقد حرصوا على تكبير حجم الصورةِ قدر الحدث. ووضعوها هناك إلى جانب الباب بحيث تتمكن من رؤيتها في أي وقت تستيقظ فيه من النوم. جوناثان نولان إذا كان علم النفس الحديث (الحداثة) يرمي إلى دراسة ورصد ظواهر وتراكيب نفسية تتخطى حدود الزمان والمكان مدعياً وجود نظرية شمولية للوصول إلى الشخصية اللاتاريخية ليعمم نتائجه على أُناس أسوياء تحت علم نفس الحداثة تطلق عليه (النظام) والتي تدعي بأن دراسة حيثيات وتفصيلات أية ظاهرة أو تركيبة نفسية سوف تؤدي في نهاية الأمر إلى صياغة نظريات ومبادئ ذات طابع شمولي وسرمدي، لذا فهو علم يستند في أغلب المقولات على المفهوم الخطي الزاعم بأن ''الكل يساوي مجموع أجزائه'' وأن التكهن بسلوك الكل يمكن التوصل إليه عن طريق دراسة حيثيات ومكونات هذا الكل، وهذا مفهوم اختزالي بشكل مفرط للغاية بسبب مسحية إلى اختزال التراكيب والظواهر النفسية إلى مفردات فيزياوية، أو كيماوية، وهو مناقض أيضاً لمفاهيم الرياضيات الحديثة. بالأخص نظرية (التشويش) التي تؤكد بأن الكل أكبر وأعقد من مجموع أجزائه، ولذلك لا يمكن التكهّن بسلوك وخواص التركيبات اللاخطية والتي هي علم نفس ما بعد حداثية ما يطلق عليها علم نفس (العملية). وتعتبر الظواهر والعمليات النفسية مثالاً لها عن طريق دراسة ما يدخل في تركيب هذه التكوينات اللاخطية، فالماء مثلاً لا يمكن التكهن برطوبته من خلال دراسة مكوناته من الهيدروجين والأوكسجين، وهذا يصح بشكل أكبر على النفس البشرية والتي هي أعقد وأكبر من أن تختزل إلى المكونات الفرويدية الثلاثة. علم نفس ما بعد الحداثة ترفض النظريات الشمولية أو الكلية فتعتبر كل نظرية هي وجهة نظر تعبر عن واقع معقد، لا يمكن لنظرية واحدة مهما بلغت شموليتها فهمه وإدراكه، هذا ما نجده في متابعة تذكار الأرق، وكلها عناوين لأفلام أحد المخرجين المهمين كريستوفر نولان الذي ترى في أفلامه تأثراً واضحاً بفيلم نوار. إلا أن هذا التأثير ليس مجرد تقليد إنما إضافة وتجديد بأصالة بالغة الإبداع. فيلم نوار يعتبر مجالاً للدراسات الحداثية والتي يمكن أن تجد فيها الكثير من الأفكار الفلسفية والمزاجات النفسية حين تعكس رفضاً اجتماعياً وسياسياً من خلال رسم الشخصية الرئيسية، وعلى هذا المنوال في بناء الشخصية والسيناريو تذهب أفلام كريستوفر نولان، على نوع من الأفلام يطلق عليه ''الفيلم المظلم'' الذي ظهر في ثلاثينات القرن الماضي في فرنسا، وكان مرتبطاً بالأفكار الوجودية العدمية ثم انتقل إلى الولايات المتحدة في الأربعينات ليتزاوج مع الأفكار العدمية، التي نتجت عن الأزمة الاقتصادية والحرب العالمية الثانية، واختراع القنبلة النووية وتحرير المرأة. فالمخرج يشك من خلال أفلامه بالثنائيات الأبيض والأسود، الخير والشر التي تفرضها المؤسسات الاجتماعية، ولهذا يختار لفيلمه (الأرق) موقع أحداث ليس له ضوء أو ظل أو نهار أو ليل، مدينة بعيدة في الشمال تشرق فيها الشمس لعدة أيام متتالية - هي زمن أحداث الفيلم ليؤكد على توهّم هذه الثنائيات، ويجعل فيلمه في منتهى الغموض والإرعاب بالرغم من الإضاءة المبهرة. طوال الوقت، فالنهار قادر على إرعابنا والضوء ذاته قادر على إخفاء الحقائق كما يظهر ذلك في قتل المتحري لزميله تحت الإضاءة البيضاء الناصعة كالضباب، فالمتحري المختص في جرائم القتل (آل باتشينو) يصاب بحالة أرق دائم تمنعه من النوم على مدار أيام وتسبب في قيامه بقتل زميله بطريق الخطأ وتشوش ذهني مما يؤدي إلى شكه في أنه قام بقتل الزميل عامداً، هنا أيضاً نرى تلك الثنائية المتحري والمجرم شخص واحد على عكس الأفلام البوليسية، وهو ترسيخ النظام الاجتماعي واحترام القانون والأعراف والمؤسسات الأخلاقية المتعارف عليها كما سبق أن رأينا ذلك في فيلمه الأول ''المتابعة'' حيث نرى رجلاً مهووساً بمراقبة ومتابعة الآخرين في الشوارع ليعرف أين يذهبون؟ وماذا يفعلون؟ إلى أن يكتشف أحدهم أن هناك شخصاً يراقبه. وكريستوفر نولان من خلال أفلامه يلجأ إلى أسلوب مختلف لسرد يفتت فيه التعاقب الزمني، حيث يحكي الفيلم في ثلاثة أزمنة متباعدة لا يكشفها لنا سوى بعض التفاصيل غير المباشرة مثل: شكل قصة شعر البطل وملابسه. في فيلمه الثاني ''تذكار'' المأخوذ من قصة أخي جوناثان نولان. يطرح سؤالاً فلسفياً في غاية التعقيد: ماذا يمكن أن نجده ويمكننا أن نفقده في لحظة؟ ماذا يبقى إذا كان منطق السرد الذي تعمل له عقولنا نوعاً من التلفيق الذي تقوم به الأحداث والتجارب ليسبغ عليها سياقاً ومعنى لا وجود لهما؟ ماذا يبقى لنا إذا كان التاريخ مجرد ربط مصطنع بين شعوب لأناس لا رابط بينهم وحوادث لا تترتب على بعضها البعض؟ ماذا يبقى لنا إذا كانت الثنائيات التي يعتمد عليها عقلنا لفهم الأشياء في التناقض بين نحر الخير والشر، النور والظلمة الأبيض والأسود، الرجل والمرأة هي مجرد مسميات خاطئة لصفات لا وجود لها خارج عقلنا؟ فكل شخصيات الفيلم. ليونارد، تيدي، ناتالي، دود، موظف الفندق، جيمي، تتبدى في أقنعة متناقضة ومتعاقبة على مدار الفيلم في البراءة إلى منتهى الخبث وبالعكس، ولا يقصد المخرج من وراء ذلك أن الإنسان يجمع بين المتناقضات، إنما هو التشكيك في تناقض هذه الثنائيات في الأساس. وهذا ما تشعر به في النهاية. من خلال اهتزاز إحساسنا الداخلي بما لا يدع مجالاً للشك، فهو يشكك في هذه الحدود المصطنعة بين الشرطي والمجرم والعدالة والظلم والحق والباطل والحقيقة والكذب، ويؤكد ذلك في فيلم ''الأرق'' حيث نكشف أن المجرم القاتل ''روبين ويليامز'' له مبرراته المنطقية التي تصل إلى حد الإغواء والخطر للمشاهد عندما يحكي عن مشاعره للتحرّي بعد القتل والتي اكتشف أنها شيء مختلف تماماً لما تصوِّرُه المؤسسة الاجتماعية الحاكمة. في تذكار نحن أمام شخص مصاب بمرض عقلي غريب هو فقدان الذاكرة قصيرة الأمد، حيث تبين خريطة المخ أن هناك مناطق مختلفة مسئولة عن حفظ وبث الأنواع المختلفة للذاكرة، ويحدث أحياناً أن يُصاب أحد هذه المناطق بالعطب دون بقية المخ وهو ما يحدث للشخصية الرئيسية لليونارد الذي تتعرض شقته للاقتحام من قبل اللصوص، وتغتصب زوجته وتقتل بينما يصاب هو بضربة على رأسه تؤدِّي إلى عجز ذاكرته لأكثر من دقائق. فالزوجة التي كان بإمكانها تحويل هذه الذكريات القصيرة إلى ذاكرة بدنية غير واعية كما لدى الحيوان، وليونارد محروم من ذاكرة بدنية غير واعية فحياته مجرد لحظات قصيرة من التجارب لا تستغرق سوى ثوانٍ، يعود بعدها إلى حياته السابقة على الحادث، وهذا الإحساس بعدم ترابط الزمن ولا منطقيته بعدم وجود سياق له، يعبر عنه كأفضل ما يكون هو السرد الذي يختاره المخرج ''السرد العكس'' الذي يُبعد عن الزمن الرداء الزائف من المنطقية والتماسك والسببية التي يضيفها العقل البشري على الأشياء، والحوادث حتى يمكن استيعابها، وطريقة السرد العكس ليست هي (الفلاش باك) التقليدية التي قد تصل إلى سرد الفيلم بالكامل عن طريق مجموعة من فلاش باك. المشاهد في فيلم التذكار لا يفقد إحساسه بالزمن أو إحساسه بالفارق بين الماضي والحاضر على العكس في فيلم تذكار الذي تخلخل إحساسنا بالزمن وبالمنطق السردي الخطي الذي يتقدم من مقدمات معروفة إلى نتائج محتومة. الوطن البحرينية في 30 أغسطس 2006
فيلم يسميلا زبانس الأول يعرض بعد نيله الدب الذهبي... مدينة حولتها الحرب معسكراً للاغتصاب لاهاي – صلاح حسن على رغم أن فيلم المخرجة البوسنية يسميلا زبانس «غربافيتسا» هو أول أفلامها حتى الآن، فإن هذا الفيلم الذي يعرض خصيصاً في قاعة «الفيلم هاوس» في لاهاي، نال قبل أشهر جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي 2006. يتحدث الفيلم عن ظاهرة الاغتصاب أثناء الحرب بين الصرب والبوسنة والتي أصبحت معروفة بفضل الحديث عنها الكثيف بعد توقف الحرب. في فيلمها هذا تتناول المخرجة الموضوع من جانب مختلف ومن زاوية نظر شديدة الخصوصية وبمعالجات وتقنيات أقرب الى العمل الشعري منه الى العمل السينمائي. يتحدث الفيلم عن «اسما» وهي امرأة اغتصبت (جسدت الدور الممثلة المدهشة ماريانا كارانوفيج) على يد مجموعة في أحد المعسكرات الصربية ونتج عن هذا الاغتصاب صبية صارت الآن في سن المراهقة غير طبيعية وعدوانية وذات شخصية معقدة. تعتقد الفتاة (سارة) أن أباها شهيد. وهذا ما عرفته من والدتها التي ستصدمها في نهاية الفيلم حين تضطر الى قول الحقيقة تحت تهديد الفتاة التي نجحت في الحصول على مسدس من صديقها في المدرسة وكان هو بدوره فقد والده أثناء الحرب. المشاهد الأولى من الفيلم قصيرة، تنتقل الكاميرا فيها من مشهد الى آخر خارج إطار الزمان والمكان، ومن مكان مغلق الى مكان مفتوح أو بالعكس بحيث بدت أشبه بالجمل الشعرية القصيرة الموحية. وسيكون تأثير هذه المشاهد لاحقاً حين تقوم المخرجة ببناء بعض المشاهد الطويلة على الشذرات الصغيرة التي رأيناها في المشاهد القصيرة. أرادت المخرجة كما يخيل لنا لمفرداتها السينمائية ان تكون مشذبة، حتى ان بعض اللقطات بدت وثائقية كما سنلاحظ ذلك في أداء الممثلين العفوي المدهش. تضطر السيدة المغتصبة الى العمل في أحد الملاهي الليلية بعد أن عجزت عن الحصول على عمل في أية مؤسسة، وهنا تكمن القيمة الفكرية والجمالية في هذا الفيلم. فقد حولت المخرجة البلد الى ملهى يلتقي فيه طرفا الصراع، الضحية وجلادوها وجهاً لوجه صاحب الملهى وضيوفه الذين اغتصبوا المرأة، هم الجلاد، أما الضحية فهي المرأة التي تعمل في البار وبعض الشبان الذين يعملون حراساً في حماية صاحب الملهى. تكمن الفجيعة حين ينسى الجلاد وجه ضحيته التي اغتصبها في حين تتذكر الضحية أصغر التفاصيل والأصح أن نقول (تعيش) أصغر التفاصيل، لأن المخرجة استبعدت الفلاش باك ولم تلجأ اليه ولا مرة واحدة وهو أمر نادر في السينما. (لجأت المخرجة الى معالجة ناجحة حين جعلت المرأة تتناول الحبوب المهدئة في كل مرة تتذكر مأساتها). لقد أرادت المخرجة أن تقول ان كل شيء ثابت حتى الزمن وإن الحرب ما زالت قائمة، ولكن على مستوى آخر وبطريقة مختلفة. فالمشاهد الخارجية هيمن عليها الضوء الباهت والثلج الذي تكدس في كل مكان والملابس الثقيلة التي يرتديها الممثلون وكأنهم لا يستطيعون التخلص من أعباء ماضيهم المملوء بالندوب. والمشهدان القصيران اللذان يظهر فيهما الجامع الكبير وقت الآذان وسط الضباب الكثيف لا يشيران الى زمن محدد، ما جعل إيقاع الفيلم بطيئاً الى حد ما وكأنه خارج الوقت. والأرجح ان هذا الإيقاع جاء انعكاساً لحياة البطلة الرتيبة الخالية من أي أمل في المستقبل ومن الإرث المأسوي الذي يلاحقها. غير ان هذا الإيقاع سيتغير في الدقائق العشر الأخيرة من الفيلم حينما تبدأ ذروته الأولى بمشهد التهديد والاعتراف. الصبية المراهقة تريد أن تضع حداً لأسئلتها حول حقيقة والدها الشهيد بعد أن تسمع في المدرسة من زميلاتها أقاويل تشكك بوجود أكثر من والد في حياتها فتقوم بإشهار المسدس في وجه والدتها تطالبها الاعتراف بالحقيقة. تقوم الأم تحت هذه الضغوط الهائلة بالهجوم على ابنتها وتوسعها ضرباً بقسوة غير مسبوقة وكأنها تنتقم من مغتصبها (لقد اغتصبوني في المعسكر وكنت أنت نتيجة هذا الاغتصاب). الذروة الأخرى في الفيلم تحدث في مركز النساء المغتصبات الصامتات حيث يتكدسن أشبه ببضاعة كاسدة ومن أعمار مختلفة في هذا المكان الغاص بهن وكأنهن مدعوات للاعتراف في كنيسة. تظهر بطلة الفيلم وهي تعيد قصة اغتصابها بالتفاصيل الصغيرة بينما تنتقل الكاميرا بين الوجوه الحزينة التي هشمها الألم المقيم في أقصى أعماق الروح المعذبة. نهاية الفيلم المؤثرة للغاية تحاول أن تضع حداً لمعاناة الأم وابنتها حين تحين لحظة توديع الأم لابنتها التي تذهب في رحلة مدرسية تستمر أسبوعاً. في هذه النهاية تقوم المخرجة، كما نقول في أمثالنا العربية، بضرب عصفورين بحجر واحد حين تتحول هذه اللحظة الى بداية حياة جديدة أو مستقبل جديد للفتاة المراهقة من طريق مواصلة العيش والدراسة والانتقال في المكان والى لحظة مصالحة في الوقت نفسه. فبعد أن ينطلق الباص الذي يقل التلاميذ وقبل ان يبتعد، تلوح الفتاة الى أمها التي تقوم بالركض خلف الباص وكأنها تريد ان تؤبد هذه اللحظة في مخيلتها المثقلة بالحزن. نجحت المخرجة في تخليص فيلمها المؤثر من التراجيديا باعتمادها على سيناريو شعري، إذا صح القول، فهي كانت توحي بالمشهد كإيحاء الصورة الشعرية وكان تركيزها على الحياة الداخلية أكثر تعبيراً عن الانفعالات التي بدت عميقة تضطرم في الداخل من دون إضافات عديمة الفائدة. أما أداء الممثلين العفوي المتدفق فكان متوهجاً الى أعلى درجات الصدق الفني حتى يخيل للمشاهد ان ما جرى ليس سوى شهادات لشهود شهدوا الواقعة. والصبية التي أدت دور المراهقة جسدت الدور بروح من الارتجال والامتلاء وهي موهبة كبيرة حقاً ولها مستقبل حافل. الحياة اللبنانية في 1 سبتمبر 2006 |
فيلم محمد بكري «من يوم ما رحت»... صورة الفنان وأهله وصديقه إميل حبيبي داخل الوطن المغتصب محمد موسى من ضمن الأحداث التي مرت بسرعة وخجل ولم تجد لها في نشرات الأخبار او حتى شرائط اخبار الفضائيات العربية الدوارة تدمير مبنى جريدة «الاتحاد» الفلسطينية في مدينة حيفا بصواريخ حزب الله في الحرب الأخيرة مع اسرائيل. الجريدة، التي يتجاوز عمرها اكثر من خمسين سنة، ضم أرشيفها الكثير من تاريخ فلسطين والمنطقة وشهدت بدايات ادباء فلسطينيين من امثال محمود درويش وتوفيق زياد وإميل حبيبي. صواريخ حزب الله التي اصابت خطأ الجريدة وقتلت بعض الفلسطينيين ودمرت منازل ومصالح لعرب 48 في اسرائيل، ذكّرت مجدداً بهؤلاء الناس المنسيين، ومأزق حياتهم الدامي الذي بدأ مع تاريخ تأسيس دولة اسرائيل عام 1948. قليلة هي الأعمال السينمائية التي تغوص في حيوات وعذابات فلسطينيي 48، من هنا تبدو اهمية فيلم محمد بكري الأخير «من يوم ما رحت» الذي نقل بصدق متفرد حكاية ايام ليست عادية أبداً لفلسطينيي 48 دون ان يتورط بأية خطابية او عاطفية زائدة. الفيلم الذي حاز الجائزة الكبرى، لمهرجان روتردام للسينما العربية فئة الأفلام التسجيلية الطويلة، يتنقل الآن بين المهرجانات السينمائية العربية والدولية مع حظوظ قليلة بعرضه على شاشات التلفزة العربية، لأسباب ترتبط بموقف الكثير من الإعلام العربي المرتبك امام وجود وإبداع فلسطينيي 48. الإعلام العربي، بخلفيات القومجية، صورة اخرى للموقف الرسمي السياسي العربي الذي اختار منذ «النكبة» وبدايات دولة اسرائيل عام 1948 عزل وتهميش مئات الألوف من الفلسطينيين ممن رفضوا لسبب او لآخر ترك فلسطين عام 1948 والاتجاه شرقاً الى الدول العربية المجاورة او الأراضي التي بقيت آنذاك تحت الحكم الفلسطيني العربي. لعقود كاملة كان هناك ما يشبه الحصار شبه الكامل فرضته الدول العربية على تنقل فلسطينيي 48 في اراضيها. كان هناك حصار ثقافي آخر لا يقل شدة فرض على ابداعات الفلسطينيين هناك وعزلهم في شكل كبير عن ثقافات المنطقة. حيرة ما... فيلم محمد بكري «من يوم ما رحت» هو إذاً، فيلم عن حياة فلسطينيي 48 وظروف حياتهم المعقدة والهشة وإشكالية العيش في بلد في حالة حرب متواصلة مع ما تبقى من ابناء بلدهم ولغتهم وثقافتهم. صحيح ان الفيلم يسجل حواراً بين مثقفين أحدهما ميت والآخر حي، لكن هناك إشارات كثيرة وعميقة عن الصعوبات الكبيرة التي يعيشها الأحياء الباقين من الناس البسطاء من فلسطيني عام 1948 وحيرتهم امام ما يجري في العالم وفي محيطهم المشتعل دائماً! الفيلم الذي اراده مخرجه الممثل المسرحي والمخرج محمد بكري ان يكون نوعاً من التحية والشكوى لصديقه ومعلمه الكاتب الكبير اميل حبيبي، الذي رحل في منتصف الثمانينات، تحول بعد دقائق من بدايته الى الموضوع والهم الكبير: فلسطين. مشاهد البداية صورت لمحمد بكري وحيداً عند قبر اميل حبيبي، ومهدت لفيلم تسجيلي غير مسبوق عربياً، هذا الحوار بين الممثل وصديقه ومؤلف روايته «المتشائل» هو شيء لم تعتده الشاشات العربية او على الأقل لم تعتده بهذا القدر الكبير من الصدق والسخرية في آن واحد. استعان المخرج محمد بكري بمشاهد ارشيفية جمعته بالراحل اميل حبيبي قبل رحيله بفترة قصيرة وقبل بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. هناك ألفة محببة غلفت تلك المشاهد الأرشيفية التي كان اميل حبيبي هو المتكلم الأكثر فيها، الألفة هي ألفة الزمن الفائت. حديث اميل حبيبي الساخر والذي كان معظمه بالإنكليزية هو خطاب سياسي متوازن وسابق لزمنه أنتجته تجربة حياتية مختلفة قاسية لا يعرف العرب الكثير عنها بسبب القطيعة مع فلسطينيي 48 والتي دامت الى بدايات التسعينات عندما عقد الفلسطينيون وبعض الدول العربية اتفاقات سلام مع اسرائيل. العزلة فككها قليلاً ايضاً انتشار البث الفضائي، عندها بدأ الكثيرون منا بالاطلاع على حياة فلسطينيي 48 وصراعاتهم الكبيرة مع السلطات الإسرائيلية المتعاقبة لتأكيد هويتهم وانتماءاتهم الوطنية والعربية. بعد ظهور قليل متقطع للراحل اميل حبيبي يأخذ الفيلم منحى آخر، إذ يبدأ محمد بكري بسرد احداث السنوات الفائتة منذ رحيل حبيبي. ويا لها من احداث! هموم محمد بكري، والتي يبوح بها الى صديقه، هي بالكامل هموم سياسية تدور في الفلك نفسه، فلك الصراع العربي – الإسرائيلي والصراع اليومي لفلسطينيي 48 مع النظام السياسي والاجتماعي والثقافي الإسرائيلي القائم ما يجعل الفيلم فيلماً سياسياً بامتياز، حتى التفاصيل الصغيرة عن البيت الجديد لمحمد بكري الذي بُني في 12 سنة هو تفصيل له علاقة بالوضع المضطرب للفنان والإنسان الفلسطيني. اما الحديث عن شخصية سعيد ابو النحس بطل «المتشائل» لإميل حبيبي فهو ليس شأناً فنياً بالكامل، فسعيد الذي مثل الشخصية الفلسطينية المسحوقة لفلسطينيي 48 هو ايضاً شخصية سياسية صار تقديمها او استحضارها جزءاً من الوعي الخاص بثقافة فلسطينيي 48. محمد بكري في النهاية ممثل مسرحي كان يمكن ان يقضي سنوات عمله كلها متنقلاً بين خشبات المسرح مؤدياً أدوار مختلفة ممتعاً جمهوراً كبيراً أو أفراداً معدودين، ما شهدناه في الفيلم هو سيناريو آخر لم يسع إليه بكري و لم يحلم يوماً بتمثيله. الأحداث المتعاقبة التي رواها محمد بكري هي في جزء كبير منها كابوسية. طبعاً لا يعلم الكثير منا نحن الجمهور عن ارتباط أولاد اخوة لمحمد بكري في مساعدة فلسطينيين من غزة في تنفيذ عمليات انتحارية في اسرائيل في بدايات سنة 2001! الحدث الذي استحوذ على افتتاحيات الصحف العبرية لأيام يبدو انه مر علينا بلا إشارة في ايام يبدو انها تهمش احداثاً لا تنتهي بالموت أو القتل. مأساة شخصية هذه المأساة الشخصية لمحمد بكري كانت إحدى اكثر قصص الفيلم تأثيراً. هناك مشاهد لأخ محمد بكري (والد الشباب) قبل وبعد حدوث الاعتقال وإصدار الأحكام عليهم (400 سنة سجن) التغيير على هيئة الرجل واضح في شكل كبير جداً بين تلك المشاهد، الكلمات القليلة التي رد بها على أسئلة محمد بكري وصمته الكبير من الأشياء المؤثرة جداً، ففي النهاية 400 سنة وقت طويل للانتظار لأب مشتاق! من قصص الفيلم الأخرى قصة فيلم «جنين»، فمحمد بكري الذي كان صنع فيلماً مؤثراً آخراً عما حدث في مخيم اللاجئين في جنين عام 2002، تعرض الى أقسى حملة ممكنة من المتشددين الإسرائيليين في مدينته وأينما عرض الفيلم في إسرائيل بحجة ان محمد بكري صنع فيلماً تحريضياً على دولة اسرائيل. الاحتجاجات لم تتوقف بل تطورت الى منع عرض الفيلم في صالات العرض في اسرائيل ومن ثم محاولات، محمد بكري مع محاميه الإسرائيلي اليهودي النبيل، الطعن في قرار المحكمة. هذه التفاصيل أخذت وقتاً طويلاً لكنها مهمة جداً لفهم المناخ النفسي والاجتماعي الذي يعيش فيه مثقف فلسطيني عربي مثل محمد بكري والضغوط الهائلة التي تواجهه من بعض الجماعات اليهودية المتشددة عندما يقرر مثلاً ان يصنع فيلماً عن المخيم المنكوب جنين. اللافت انه على رغم كل الشتائم والكلمات القاسية التي حاصرت محمد بكري اثناء عروض فيلمه «جنين» القليلة في اسرائيل بقي هادئاً لطيفاً جاهزاً دوماً للحوار وتوضيح دوافعه لصنع فيلم كجنين. وحتى عندما أخذت هتافات المتشددين تتخذ طابعاً قاسياً بتذكيرها بأولاد أخ المخرج المسجونين بقضايا تخص أمن الدولة، اكتفى محمد بكري بإشاحة وجهه والمشي بعيداً عن مجموعات المتشددين التي تقف خارج صالات السينما اينما ذهب. محمد بكري اضطر مع ولده الى بيع اسطوانات «الدي في دي» الخاصة بفيلم «جنين» بنفسه في الشوارع الفلسطينية بعد ان رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا الموافقة على عرض الفيلم في إسرائيل. في احد مشاهد النهاية للفيلم نرى محمد بكري في احدى صالات العرض المسرحية يقدم نصاً اجنبياً مع فرقة مسرحية إسرائيلية غربية مشتركة ليذكرنا بمحمد بكري الممثل وحضوره الكبير على خشبة المسرح او في الحياة. في نهاية الفيلم نعرف ان الفرقة المسرحية اضطرت الى التوقف عن عروضها المسرحية، بسبب وجود محمد بكري الذي هيّج مجدداً الجمعيات المتشددة نفسها. محمد بكري من يومها عاطل عن مهنته الأساسية: التمثيل المسرحي إلا انه موجود بقوة في تراجيديا مؤلمة ما زالت تسرق فرح الناس وحياتهم هناك في فلسطين. الحياة اللبنانية في 1 سبتمبر 2006
«سنترال» روائي قصير يُعرِّي بعض الواقع المصري القاهرة - علا الشافعي لا يمكن للمرء أن ينسى المرة الأولى التي يلتقي فيها محمد حماد كاتب السيناريو والمخرج الشاب، أثناء أزمة فيلمه الروائي القصير الأول «الجنيه الخامس» الذي صاغ له السيناريو والحوار وأخرجه أحمد خالد. كان ذلك عندما رفض المركز الثقافي الفرنسي عرض الفيلم، ثم رفضته «ساقية الصاوي» خوفاً من ردود الفعل نظراً الى أن البطلة محجبة. وقتها كان من غير الممكن تصديق أن الشاب «الخجول» قليل الكلام والذي يستمع أكثر مما يتحدث هو صاحب السيناريو، الذي ناقش من خلاله وبجرأة شديدة قضية الحريات الشخصية، وأزمة المجتمع المصري الذي يعاني من ازدواجية مرعبة فيما يتعلق بالأخلاقيات، وانعكاس كل ذلك على شباب يضطرون إلى التحايل والتواطئ لتلبية رغباتهم الطبيعية في «الأتوبيس المكيف» الذي يطلق عليه الـ «I.C.A.A». ولكن مع مشاهدة ثاني أفلامه «السنترال» والذي صاغ له السيناريو والحوار وقام بإخراجه وانتاجه مع مجموعة من زملائه شكلوا معاً شركة أطلقوا عليها «مولوتوف» تستبد الدهشة للمرة الثانية أمام قدرة هذا الشاب على الغوص في قضايا اجتماعية شائكة، وتعريته للمجتمع، انه فيلم ينتمي الى «الواقعية» خصوصاً في زمن لا نشاهد فيه سوى الأفلام التجارية. أمام هذا يتذكر المرء ما رواه المخرج القدير صلاح أبو سيف عن الرائع عاطف الطيب قائلاً: إن الطيب الذي كان أحد طلابه في المعهد العالي للسينما، كان شديد الخجل ودائماً ما يجلس في آخر الصفوف، ولا يتكلم إلا في أضيق الحدود، ومن فرط خجله لم يتوقع له صلاح أبو سيف الكثير، «إلا أنه وبعد تخرجه وعمله في السينما أنجز أفلاماً أدهشتني بحق». طبعاً أقصد هنا المبالغة في تشبيه محمد حماد بعاطف الطيب على رغم أن هناك سمات تجمعهما، منها الخجل، والاهتمام بالقضايا الاجتماعية، التي تحمل بالضرورة هماً سياسياً، وهذا على الأقل ما يشعر به المرء أمام «سنترال». بطلة الفيلم فتاة فقيرة تعمل في سنترال خاص يقع في احدى المناطق الشعبية في القاهرة، وهي تلجأ إلى التنصت على مكالمات الزبائن كي تملأ أوقات فراغها لتكشف هي، ونعرف معها، ومن خلال مكالمات الزبائن، تفسخ المجتمع وانهياره واستشراء الكبت الجنسي والخيانات الزوجية وعمليات «القوادة» والنصب، وكل تلك الظواهر تبدو متخفية تحت أقنعة الورع والفضيلة الكاذبة. وهكذا يُعري حماد في فيلمه الروائي الذي تصل مدته إلى 18 دقيقة ما آل إليه حال المجتمع المصري. ومن خلال البطلة وبتعليقها الصوتي وتثبيت اللقطة نتعرف على تلك النماذج الإنسانية المشوهة والمتواطئة والتي تلجأ إلى إجراء مكالماتها من السنترال خوفاً من افتضاح أمرها. فهناك الشاب المكبوت الذي يعاكس الفتيات من السنترال، ويستثار من خلال صوتهن ما يشكل متعته في الحياة، وهناك شقيق فتاة السنترال صاحب اللحية الذي يضطهدها في المنزل لأنه «الذكر»، ويلجأ إلى السنترال إمعاناً في استغلال شقيقته ويجري المكالمات من دون أن يدفع ثمنها ومن خلال المكالمات تعرف مشاركته في عمليات النصب والمتاجرة حتى بزوجته، وبصوت الفتاة وتعليقها، تؤكد على كراهيتها لشقيقها وزوجته التي كانت في الأصل فتاة سيئة السمعة، وتلجأ إلى السنترال هي الأخرى لمحادثة عشيقها. وهناك المرأة الشعبية الممتلئة التي يعاني زوجها المرض فتلجأ إلى جارها سائق التاكسي، إلى آخر تلك النماذج المشوهة نفسياً. ومن خلال تقنية السرد والتي لجأ فيها الكاتب والمخرج إلى صوت البطلة قادماً من خارج الكادر لتقدم لنا شخصيتها، وكأنها تعري نفسها مع الآخرين، فهؤلاء أصبحوا يشكلون الجزء الأكبر من حياتها المشوهة، التي تشبه إلى حد كبير وجهها المليء بالحبوب والبثور التي وضحت من خلال اللقطات المقربة والتي لا يتضح فيها لون بشرتها وكأنه يقدم لنا كل معاناتها من دون «حديث» أو استرسال، وهي فتاة محجبة لأن الجميع من حولها كذلك، فالحجاب هنا زي اجتماعي وليس دينياً، لذلك فجزء من خصلات شعرها يتدلى على جبينها، ومن خلال تداخل عوالم تلك الشخصيات مع عالم الفتاة، وتشابك العلاقات لا نعرف هل المقصود هو تعرية الفتاة أم محيطها التي لا تتورع عن النظر إلى شخوصه بقرف واشمئزاز شديدين الى درجة أنها تمضي وقتها بين الحكي عنها أو «قزقزة اللب» وإلقاء «القشر» عليهم أو قيامها بجمع «مخلفاتهم» من الكبائن وإلقائها في الخارج. لغة الشارع اللافت في الفيلم هو لغة الحوار التي استخدمها المخرج والكاتب - لغة الشارع - بكل مفرداتها من شتائم وسباب من دون تهذيب أو تجمل وكأنه بهذه اللغة يؤكد على الفصام الذي تعيشه الشخصيات والتي تكون على طبيعتها وتتعرى في مكالماتها الهاتفية. ينهي حماد فيلمه والفتاة تلجأ إلى أحد تليفونات الشارع و «تدس» كارت اتصال ونسمع صوتها يقول «آلو، أنت متعرفنيش لكن أنا عَرفاك». وهي بذلك تدخل لعبة جديدة، ستبدأ في لعبها على زبائنها أو على نفسها! شارك في بطولة الفيلم نهى فؤاد، وتامر عبدالحميد ودعاء طعيمة، وصوت الراوية وليد فواز، وقام بتصويره ثابت مدكور، ابن الدكتور مدكور ثابت ومونتاج محمد الشرقاوي والموسيقى لأحمد حجازي، يؤكد أن هناك حركة سينما مستقلة في مصر بدأت ملامحها في التشكل بعيداً من المؤسسات أو الشركات الكبرى التي تعمل بمقاييس مختلفة، وتماماً كما تمرد حماد على دراسته في معهد السينما ولم يستطع استكمالها بسبب النظام العقيم، جاء فيلمه يحمل حالاً من التمرد ويبشر بشيء مختلف. الحياة اللبنانية في 1 سبتمبر 2006
|
سينما المخرج كرستوفر نولان حينما تكون السينما فلسفة ما بعد الحداثة كتب - عبدالله السعداوي |