بعض المتطفلين عديمي الموهبة والثقافة انقضوا علي السينما ليهبطوا بها إلي أسفل السافلين ساعد علي انتشار الأعمال المتخبطة زيادة دور العرض وظهور طبقة جديدة من محدثي النعمة لم أفكر في مشاهدة «عودة الندلة» لأن عبلة كامل ألقت بنفسها في مستنقع التفاهة

هناك مثل شعبي يقول: «برد الصيف أحد من السيف» أي أنه قاتل، ولكن ظهر في الأعوام الأخيرة وباء أكثر خطورة من هذا البرد وهو ما يعرف بأفلام الصيف، وهي لعنة للأسف حلت بنا إلي جوار اللعنات السياسية التي لم نستطع أن نتخلص منها حتي الآن.

وهناك حقيقة غريبة لاحظتها وهي أن معظم المصائب الكبري لا تنهال علينا سوي في فصل الصيف، فقد هزمتنا إسرائيل شر هزيمة في صيف 1967، واجتاح صدام العراق دولة الكويت في صيف 1991، وفوجئنا بالعدوان الإسرائيلي الغاشم علي لبنان في هذا الصيف. ومما زاد المصيبة فجعلها مصيبتين هو تخاذل وتواطؤ الملوك والرؤساء العرب جميعاً بلا استثناء مع العدو الإسرائيلي وحليفته الكبري أمريكا، وإذا أضفنا إلي ذلك هطول سيل أفلام الصيف علينا آسف أن أصف معظمها بأنها أفلام- عندئذ تصبح المصائب هذا الصيف ثلاثا.

وفي اعتقادي أنه ليس هناك تشابه بين المصائب السياسية ومصائب هذه الهلاميات السينمائية التي يسمونها أفلام الصيف، فعندما يتوافق وجود هذا النوع من الصور المتحركة مع وجود الكوارث والمصائب السياسية فهو أمر طبيعي أو رد فعل منطقي لما يحدث علي الساحة السياسية فنحن نعلم أن الفن العظيم لا يولد إلا في مناخ عظيم وهناك ماتسمي بعصور الانحلال والاضمحلال في السياسة ومن ثم في الفن فقد بلغ الأدب الإنجليزي علي سبيل المثال مرتبة عالية من الازدهار والنضج في عصر الملكة اليزابيث الأولي حيث كانت إنجلترا من أقوي الدول ولذا خرج إلينا شيكسبير وفرانسيس بيكون و مارلو وسبنسر وبن جونسون وكذلك بلغ الأدب الفرنسي أسمي مرتبة للمذهب الكلاسيكي في عصر لويس الرابع وهو عصر كورني وراسين وموليير، ونستطيع أيضاً أن نذكر عصوراً سابقة علي هذين العصرين وذلك مثل عصر بير بيركليس اليوناني وعصر الامبراطور أغسطس الروماني، ولا ننسي العصور الإسلامية التي أزدهرت فيها العلوم والآداب والفلسفة خاصة عصر هارون الرشيد وأولاده الأمين والمأمون والمعتصم والمتوكل، أما عصرنا هذا في مصر فقد اتفق الأغلبون علي أنه عصر الاضمحلال أو عصر السقوط في كل شيء، ولذلك كان من الطبيعي جداً أن ينقض بعض المتطفلين عديمي الموهبة والثقافة علي صناعة السينما في لحظة من لحظات ضعفها ويسيطرون علي مقاليدها وبدلاً من أن يرتفعوا بها يهبطون بها أسفل السافلين، وأخذوا يقدمون إلي الناس إفرازاتهم المقززة والمدمرة للأذواق السليمة تحت ما يعرف بالسينما الجديدة أو السينما الشبابية، وقد شجعهم علي ذلك مجموعة من المنتجين الذين لا يبغون سوي المال فقط فقدموا أعمالاً لا علاقة لها بفن السينما ولا ترقي حتي إلي ما كانوا يسمونه بأفلام المقاولات.

كيف انتشرت؟

وقد ساعد علي انتشار هذه الأعمال المنحطة ازدياد أعداد دور العرض وظهور طبقة جديدة تكسب الأموال من حيث لا يدري أحد. فكم من رجال أعمال يعملون فيما لا يعلم به أحد وكم من أطباء يتاجرون في صحة البشر وكم آلاف من المدرسين يكسبون مئات الآلاف من وراء الدروس الخصوصية بعد انهيار التعليم في مصر ووقوف الدولة موقف المتفرج، وكم من تجار مخدرات اتسع نطاق تجارتهم حتي شمل المدارس والجامعات والنوادي وكم من القوادين الذين ازداد عددهم بشكل ملحوظ في ظل هذا النظام وكم من المرتشين الكبار ولا أقصد الصغار الغلابة من موظفي الدولة، وكم من أصحاب العقول الفارغة الذين لا يهتمون بأي شيء سوي التفاهة.

أقول إن أولاد هذه الفئات أصبحت تشكل معظم طبقة الزبائن الدائمين علي هذه النوعية المبتذلة من الهلاميات السينمائية التي يقوم بالتمثيل فيها مجموعة من الأراجوزات، أسف لأنني هكذا أهين الأراجواز رغم أن الأراجوز لا يتطاول ويتجاوز حدوده ويظن نفسه أكثر من أراجوز ولكن الأراجوز في النهاية كان يضحك الناس ضحكاً من القلب بقروش زهيدة.

إن من ينتقدون النظام الحالي من الكتاب والمثقفين ويداومون علي الهجوم بشراسة علي فساد هذا النظام ويعقدون المؤتمرات ويقيمون المظاهرات أقول لهم بكل بساطة انهم ينفخون في قربه مقطوعة أقول لهم انهم يحاربون طواحين الهواء.

أقول لهم إنهم يحرثون في البحر ولكن من يسمع ومن يقرأ؟ هل يعتقدون أن مثل هؤلاء الملايين من الناس المصريين الذين يقبلون علي مشاهدة هذه الهلاميات السخيفة ويضحكون في سذاجة أن توثر فيهم المقاولات أو تحركهم الهتافات الملتهبة؟

أفلام ملاكي

والشيء الغريب الذي يمكن أن نرصده ونحدد ملامحه أن هؤلاء المهرجين قد تمكنوا بعد فترة وجيزة أن يكون لهم وجود راسخ في الحقل السينمائي المصري، والشيء الأغرب والأخطر أن الأفلام أصبحت تنسب إليهم فقط فأصبحنا نسمع هذه الجمل «فيلم هنيدي.. فيلم محمد سعد.. فيلم أحمد حلمي.. فيلم أحمد ادم.. فيلم هاني رمزي» وهذا لم يحدث من قبل سوي لفاتن حمامة في أفلامها الأخيرة وسعاد حسني بعد أن قامت بتمثيل ما يقرب من أربعين فيلماً وكذلك عادل إمام ونادية الجندي بعد عناء وشقاء.

قد تكون هذه المقدمة طويلة في نظر البعض ولكني أري أن الأمر في حاجة إلي الدراسة والتحليل من المهتمين بالفن السينمائي المصري خاصة والفن السينمائي علي وجه العموم فإن ما يحدث حالياً للسينما المصرية لم يحدث مثله من قبل في تاريخها الذي يعرفه معظمنا وحتي الذين لم يعاصروه فإنهم يشاهدون إنتاج السينما المصرية من خلال قنوات محطات التليفزيون الأرضية والفضائية فهم بالطبع يلاحظون من خلال الأفلام القديمة أن السينما لم تنحدر في فترة من فترات ضعفها إلي هذا المستوي المتدني.

ماء آسن

والحقيقة أنني كنت أتمني أن تخرج إلينا الأفلام الجادة القليلة التي خرجت إلينا بالشكل الفني المتميز الذي يستطيع أن يجذب إليها الجمهور ويبعده عن التفكير في التزاحم علي رؤية هذه الأعمال المبتذلة ولكنها خرجت إليها كالمريض الذي استرد صحته حديثاً ولم يعد قادراً علي الدخول إلي حلبة المنافسة. ولكن يحدوني الأمل في قدوم أفلام أخري ربما تستطيع أن تغير من ماء البركة الآسن وتغرقه بمياه جارية عذبة أو أنها تضخ الدماء مرة أخري في عروق السينما المصرية.

المهم فلنتحدث عن الأعمال التي شاهدتها في هذا الصيف والتي أثارت في داخلي ما كتبته رغم أنه أكثر من ذلك ولكن المجال لا يتسع.

لقد تعودت علي مشاهدة كل عام عندما أذهب إلي الإسكندرية مع أفراد أسرتي لقضاء بعض الأيام بعيداً عن حر القاهرة ومن أجل التغيير عدداً من هذه الأعمال التي يطلقون عليها أفلام الصيف.

تجنبت في البداية مشاهدة بعض هذه الأعمال من مجرد قراءة عناوينها وأسماء العاملين بها مثل «الفرقة 16 إجرام» و«العيال هربت» و«لخمة راس»، وتجنبت مجرد التفكير في مشاهدة «عودة الندلة» بعد أن ألقت عبلة كامل بنفسها في مستنقع مجموعة من الأعمال السينمائية التافهة طمست أعمالها السابقة التي كانت قد وصفتها في مكانة بارزة، وأذكر أنني تحدثت معها في هذا الأمر وفوجئت أنها سعيدة بما تفعله وتطلب المزيد فتركتها وشأنها حرة تفعل ما تريد وعليها أن تتحمل النتائج.

كانت البداية التعسة دون قصد أو اختيار ولكن فقط الصدفة البحتة أوقعتني في براثن مشاهدة «وش إجرام».

جريدة القاهرة في 22 أغسطس 2006

 

مصطفي محرم يكتب عن أفلام الصيف (2):

«وش إجرام».. «شيء» لا تعريف له إلا «النحتة» !  

> مشاهدة أفلام هنيدي مثل السير في أمان الله ثم السقوط في بالوعة مجاري!

> تصريحات منتجة الفيلم وكاتبه مضحكة.. وأقول للمخرج: ماذا كان يستحق تصويره من أربع زوايا؟

> لا يمكن أن تتذكر شيئا من الفيلم.. ولا أن تعرف لماذا أقحم خالد زكي ولبلبة نفسيهما فيه 

أذكر في العام الماضي أنني شاهدت لمحمد هنيدي «يا أنا ياخالتي» وأذكر أنه صرح أكثر من مرة أنه وقع علي السيناريو الذي كان يتمناه وأنه سوف يأتي بجديد في هذا الفيلم الذي اختاره من بين عشرات السيناريوهات، وأن الفيلم سوف يكون مفاجأة الصيف وأنه.. وأنه. وبعد كل هذا الحماس وكل هذه التصاريح شاهدنا في النهاية كارثة من كوارث الابتذال والاسفاف. ولم أصدق عند مشاهدتي للفيلم أن يصل الإسفاف إلي درجة أن الأب يريد أن يتزوج من ابنه المتنكر في هيئة إمرأة لعوب.

وفي هذا العام اختار محمد هنيدي كاتب سيناريو لم يعمل معه من قبل.. وأخذ كالعادة يدلي بالتصريحات مثل تلك التصريحات التي يدلي بها بطل الملاكمة قبل نزوله إلي الحلبة. وجعلنا هنيدي نعتقد أنه هذه المرة بذل جهدا كبيرا هو والسيناريست والمخرج وأن الفيلم سوف يكون مفاجأة الصيف. وفي الحقيقة لم يكن مفاجأة لي فقد جاء علي حسب ما كنت أتوقع.

ليست أفلاما

إن من يشاهد أعمال هذا المضحك التي يتجاوز البعض ويسمونها أفلاما يشعر كمن يسير في أمان الله في أحد الشوارع ثم يسقط فجأة في بالوعة مجاري طافحة. فلم يتغير الحال بهذا المضحك هذا الصيف سوي أنه لم يقم في الفيلم بدوره المحبب وهو دور المرأة. ولست أقول بأنه قد تغير إلي الأسوأ فإن أفلام محمد هنيدي تتساوي في درجة السوء ماعدا فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» وفيلم «همام في إمستردام» فهما في درجة المتوسط.

وفيلم «وش إجرام» الذي كتبه بلال فضل وأخرجه وائل إحسان استطيع بنصف ضمير أن أبرئهما منه. ففي إعتقادي أن السيناريست لم يكتب وأن المخرج لم يخرج. أما الشيء المؤسف في هذا الأمر أن التي قامت بإنتاج هذا الفيلم هي الفنانة إسعاد يونس وهي ممثلة وكاتبة سيناريو وتبدو أنها علي درجة من الثقافة. فعندما أجلس إليها وأتحدث فإن معظم حديثها اصطلاحات باللغة الانجليزية توحي بأنها قارئة جيدة ولها الكثير من الآراء الصائبة في الدراما ودراية كبيرة بعلم النفس. فهل قرأت الصديقة إسعاد سيناريو «وش إجرام» وهل آتتها الجرأة بأن توافق عليه؟.

أنا أعلم أنها تعمل بنظام النجم وهذا ليس بجديد علي السينما المصرية فمعظم الأفلام الجيدة تمت بهذه الطريقة ولكن لم يكن للنجم الرأي الأوحد خاصة عندما يكون هذا النجم جاهلا أو ساذجا. أما الشيء المضحك أن المنتجة إسعاد يونس ـ حسب ماكتب في بعض الصفحات الفنية ـ وقع خلاف حاد بينها وبين المخرج وائل إحسان وأن سبب الخلاف هو بطء المخرج في إنجاز الفيلم فإذا بالمخرج الحريص علي عمله يدافع عن نفسه بأنه يقوم بتصوير كل لقطة مع أربع زوايا تشبها بالمخرجين الكبار في هوليوود، وذلك من أجل أن يختار اللقطة الأفضل أثناء عملية المونتاج. والسؤال الذي أود أن أطرحه علي هذا المخرج الطموح هو: ماذا كان يقوم بتصويره؟ هل كان هناك شيء يستحق تصويره من أربع زوايا؟. وهل بحق الله أن المونتير قام بالفعل بعمل مونتاج أم أنه اكتفي بالتخلص من «دوبلات» اللقطات وقام بلصق اللقطات الأخري إلي جوار بعضها دون تفكير أو إحساس وإنما وفقا لأوامر العبقري هنيدي؟.

السيناريست المضحك

والشيء الأكثر إضحاكا أن السيناريست الذي وضع اسمه في عناوين الفيلم يقول في حديث صحفي له بأن هذا الفيلم ليس «نحتة» ولكنه إنجاز فني. هل هذا هو الفن في رأيه؟ هل أصبح الاسفاف هو المرادف للفن مادام يحقق إيرادات كبيرة؟

فإذا لم يكن هذا الشيء المسمي «وش إجرام» نحتة فماذا تكون النحتة؟ هل هناك إسفاف أكثر من هذا الذي شاهدناه؟ آسف لهذا التساؤل لأن هناك فعلا ما هو أكثر إسفافا وسوف يأتي ذكره فيما بعد.

لم أقرأ نقدا لمجموعة الاسكتشات التي لا رابط لها باسم «وش إجرام» إلا وشعرت أن كاتبه يكاد ينفجر من شدة الغيظ. كنت أجد العذر للناقد خالد منتصر في عصبيته الواضحة في كلماته وهو يتحدث عن هذا الفيلم في جريدة «الدستور» معقل كاتب سيناريو هذا الشيء. وكذلك الناقد الجاد الدكتور وليد سيف الذي وضحت حجم الصدمة التي أصابته بعد مشاهدته لهذه الكارثة فيما كتبه في هذه الجريدة. ولذلك أرجو من القارئ أن يلتمس العذر لي أنا الآخر فيما أقوله خاصة وأن السينما هي عشقي الأول والأخير وأراها تذبح وتهان كرامتها أمامي علي أيدي هؤلاء العابثين.

لا أتذكر منه شيئا

لو سألني أحد عن أحداث هذا الفيلم وعما كان يدور لوجدت صعوبة قصوي في أن أتذكر حتي ولو الخط الرفيع الذي كانت تدور في إطاره الأحداث، كانت مجرد صور متحركة تدور أمامي وممثل لا يفارق اي لقطة بحيث يصعب علي المرء أن يتذكر بقية الممثلين. ولكني استطعت أن ألتقط الممثل المبدع خالد زكي وكم تضايقت كثيرا لأنه أقحم نفسه في هذه المهازل. وعندما قابلته بطريق الصدفة لم أملك نفسي ووجهت إليه اللوم الشديد علي قبوله بأن يشترك في هذا الإسفاف أما الممثلة لبلبة فكنت أرثي لها وأنا أشاهدها وقد أخذت الأمر مأخذ الجد وحاولت أن تمثل.

كان يجب أن تعلم أن هذا العمل يخلو تماما من حرفية السيناريو بحيث جاءت كل الشخصيات باهتة ليس هناك ملامح تميز كل شخصية عن الأخري.

الشيء الغريب أيضا أن كل ما قرأته من نقد علي هذا الشيء يدل علي أن النقاد أخذوه مأخذ الجد وحاولوا تلخيص أحداثه وارتفع ضغطهم وهم يكتبون ولذلك أشفقت عليهم فان الأمر لم يكن يحتاج إلي كل ذلك. فليس هناك فيلم أصلا لأنه ليس هناك سيناريو ولا إخراج ولا مونتاج هناك مضحك يذهب كل يوم إلي الاستوديو ويلقي أوامره علي من يعملون معه بأن يقوموا بتصويره وهو يأتي بحركات سخيفة ولا يتوقف عن الثرثرة حتي لا يعطي فرصة لغيره في أن يفتح فمه ولو بكلمة.

أقول قولي هذا وأنا أعلم تماما أنه رغم الهجوم الشديد علي الشيء المسمي «وش إجرام» من كافة النقاد ومن يحملون أقلاما إلا أن ذلك لن يغير من الأمر شيئا وأننا سوف نشاهد هذا المضحك في الصيف القادم في كارثة أخري بعد أن يتنافس المنتجون عليه. أقول ذلك لأن الناس تتزاحم علي دور العرض لمشاهدته ولأني رأيت بعيني اللتين سوف يأكلهما الدود الجمهور الجالس حولي في دار العرض يكاد أن يفطس من الضحك.

جريدة القاهرة في 29 أغسطس 2006

د.رفيق الصبان يكتب عن فنانين مختلفين

حسن حسني وأحمد حلمي .. الفارق بين إهدار الموهبة والحفاظ عليها 

> حلمي أكد تفوقه واستطاع أن يطور نفسه وينطلق كجواد أصيل في صحراء السينما

> حسني ممثل عبقري ألقي بموهبته في الوحل ولا أدري متي سيفيق إلي نفسه 

منذ أكثر من سنة.. ومن لحظة اكتشافي بحر «مطروح» ذي الألوان البنفسجية والزرقاء.. وامتدادات الرمل الأبيض الذي يحيط به كهالة صفراء من الجمال والإثارة.. وأنا خاضع لسحره وندائه السنوي أقضي أمامه إجازتي الصيفية وأغرق في امواجه الزرقاء اللامتناهية.. حاملا ففي كتبي وأوراقي وشرائطي الموسيقية التي أعجز عن التخلي عنها.. مهما كانت مدة إقامتي الصيفية.

هذه المرة كانت ترافقني كتب ثلاثة، كتاب عاطفي قديم كتبته كوليت خوري في الخمسينات وروت فيه قصة أول حب عاشته .. الكتاب أثار عند نشره ضجة كبيرة ربطت الاشاعات بين بطل القصة المكتوبة وبين شاعر كبير راحل كانت تربطه بالكاتبة صلة وثيقة.

ولكن الأيام مضت والاشاعات تبخرت ولم يبق إلا الكتاب نفسه يحاول أن يتحدي الزمن بما فيه من عفوية وثورة ورقة نسائية مصحوبة باحتجاج اجتماعي صارخ.

إعادة قراءة

أعدت قراءة هذه الرواية التي أثارت اعجابي «قبل خمسين عاما أو يزيد» لأن فكرة تقديمها للسينما في السبعينات والثمانينات رغم الأسماء الفنية الكبيرة التي كانت وراءها.

غرقت أياما مع سطور كوليت خوري واحسست بعمق أن فكرة تقديمها للشاشة مازالت تحمل الكثير من المعطيات والرموز بالإضافة إلي الشحنة الشعرية الكبيرة التي تملأ سطورها والمزيج من الثورة والاستسلام التي تميز بعض شخوصها.

انتقلت بعدها إلي قراءة كتاب دومنيك فرنانديز «بين يدي الملاك» والذي فاز بجائزة أمير موناكو للقصة وهي جائزة أدبية مرموقة حصل عليها قبله كُتاب كبار من أمثال جوليان جرين، ومرجريت يورسونا، ولويس دي فيلجوران وفرانسوا زماجا، وباتريك موديافو وغيرهم من كبار الكتاب الأوروبيين.

«بين يدي الملاك» يروي بصيغة المتكلم حياة الشاعر والسينمائي الكبير بيير باولو بازولين منذ طفولته المبكرة وحتي موته الفاجع علي أحد الشواطئ الشعبية قرب روما.

الكتاب يدل علي الدراسة العميقة والمتعمقة التي قام بها الروائي يحلل شخصية بازولين وأفكاره وفلسفته وأقلامه واتجاهاته السياسية وثوراته المتدفقة وشاعريته السيالة. كما يكشف رؤية شعرية مليئة بالشجن لعذابات بازولين وعواطفه الجامحة.. وعشقه للموت الذي كان يبحث عنه حتي وجده في ليلة سوداء علي شاطئ بحر متوحش.

آراء الشاعر ومواقفه وحسه النقدي والثوري وتفاصيل ومدهشة حول قصصه وأفلامه وحواراته مع كبار الكتاب والفنانين وتأملاته حول روما وابنتيها وحضارتها ولوحات رساميها.. كل ذلك كتبه الكاتب بطريقة شعرية ملأها بشاعرية بازولين نفسه.. وتجعلنا نعيش من خلال هذا الكتاب الملحمي الذي تتجاوز صفحاته الثمانمائة.. أياما تاريخية وعاطفية وفنية عاشها الشاعر القتيل بكل جمالها وعنفوانها.

البحث عن الزمن المفقود

أما الكتاب الثالث الذي غرقت في صفحاته معجبا.. مفتونا فهو الترجمة العربية الناجحة لكتاب مارسيل بروسنت البحث عن الزمن المفقود التي قام بها بجهد واخلاص وجمال جدير بالذكر، هنا جزء الزمن المستعاد الذي كان مادة لفيلم سينمائي أخرجه «راؤول روبز» وسبب انقساماً كبيراً بين النقاد عند عرضه في مهرجان كان قبل سنوات.

ترجمة كنت اعتبرها من المستحيلات.. نظرا لصعوبة أسلوب بروست وتعقد جملة والتي استطاع المترجم أن يعبر صعوباتها بسهولة ويسر.. تجعل من قراءتها بالعربية متعة حقيقية.

قراءات ممتعة.. زادها بحر مطروح الأزرق.. رقة وعمقا وأسبغ عليها هالة من الجمال والكبرياء.. كانت بحاجة إليها لكي يتناسب الاطار مع المضمون.

وفي خلال فترات الراحة.. والقيلولة كانت الأفلام القديمة التي تعرضها قنوات التليفزيون الفضائية هي الوسيلة التي أقطع بها ساعات القيلولة والتي جعلتني أعيد النظر في بعض الأفلام.. ورؤية ماذا فعل الزمن بها والعودة إلي أنفسنا أيضا لرؤية ما الذي تغير في وجهات نظرنا ماذا بقي منها وما الذي راح في غياهب المجهول.

فنان .. ونجم

شخصيتان فنيتان استوقفاني بشدة في زخم هذه الأفلام التي لا ينقطع سيلها، شخصية الفنان «حسن حسني» والنجم أحمد حلمي.

كل منهما اطلا علينا من خلال أفلام حديثة وقديمة تسجل تطور فنهما وتنوع الشخصيات التي يلعبانها وقدرتهما علي التميز أو السقوط في نمطية مؤسفة لا تليق أحيانا بفنهما.

حسن حسني الذي فاجئني بدورين مدهشين لعبهما في فيلمين للراحل عاطف الطيب، الأول دماء علي الأسفلت الذي لعب فيه دورا نفسيا معقدا ومليئا بإنسانية مرهفة .. وعواطف متقلبة.. قدرة خارقة علي الأداء الداخلي جعلني ازداد إعجابا به وتقديرا لفنه وموهبته التي لا تدع أي مجال للشك في قيمتها أو جوهرها.

أما «في الهروب» ورغم الدور الثانوي الذي لعبه حسن حسني إذا قورن بدوره في دماء علي الأسفلت فإنه يظل عملاقاً شامخا قادرا علي التواجد بين عمالقة أمثال أحمد زكي أو ممثلين علي درجة كبيرة من الكفاءة كأبو بكر عزت وعبدالعزيز مخيون ومحمد وفيق. ورغم هذه الكوكبة من النجوم بقيت الشخصية التي يلعبها حسن حسني في الفيلم ماثلة بقوة وشديدة التأثير.

هذان الفيلمان القديمان اللذان أتقن فيهما حسني أدواره تحت إشراف مخرج يعرف كيف يظهر اللؤلؤ من المحار.. جعلاني رغما عني أعود إلي أفلامه الأخيرة الكثيرة التي يظهر فيها ليلعب دورا نمطيا لا يتغير وليرمي جواهره الثمينة في الوحل .. بلا مبالاة ولا شفقة علي نفسه أو علي المعجبين بفنه وعبقريته.

قدرات خارقة

إنه يكتفي أحيانا بأن يرمي إلينا بين حين وآخر دوراً خاصاً به يذكرنا بقدرته التمثيلية الخارقة ووجوده المار اللاهي.. كما في شخصية الثمل في «فرحان ملازم آدم» شخصية لا تنسي لممثل ذي قدرة استثنائية خارقة، أو قدرته علي التعبير عن الشجن الداخلي المحروق في قلبه في «حب البنات» عندما يلتقي بابنته التي لا يذكرها علي شاطئ إسكندرية الهائج الأمواج. دوران أعادا لنا حسن حسني الذي أحببناه واللذان أكثرا من أسفنا وحسرتنا علي ممثل ضاع في ثنايا شهرة زائفة وأدوار نمطية قد تؤكد تواجده السينمائي ولكنها تغلق أمامه كافة الامكانيات والفرص التي تتيح له إظهار مواهبه العملاقة. تري هل سيفيق حسن حسني يوما إلي نفسه ويعود إلينا شامخا رائعا كما أحببناه وأن يقدم لنا وجهه الإنساني القادر علي أن يكون من أكثر الوجوه التمثيلية المعاصرة قربا إلينا وإلي وجداننا.

أمر مختلف

أما بالنسبة لأحمد حلمي فالأمر مختلف تماما فهذه الفنان الشاب الذي أطلقه التليفزيون لأول مرة في برنامج خفيف مع الأطفال أثبت فيه قدرته علي التواصل وما أصعبها من مهمة مهمة التواصل مع الأطفال.. وكم أخفق فيها الكثيرون وكم نجح فيها القلائل .. والقلائل جدا، والتي ساعدته بعد ذلك علي أن ينتقل إلي أداء أدوار ثانوية مع نجوم شبان آخرين انطلقوا قبله في سباق النجومية.

في أدواره الثانوية العديدة استطاع أحمد حلمي أن يثبت قدمه وشخصيته وأن يسيطر أحيانا كثيرة علي النجم الشاب الذي يقف أمامه.. وأن يجعل منه مساعدا له في مشاهده عوضا عن أن يلعب هو الدور المساعد الذي كتبه له.

وكان لابد لهذه الشخصية المؤثرة التي تعرف كيف تغزو قلب المتفرج منذ أول لحظة أن تخرج من نطاق «المساعدة» إلي نطاق النجومية الحقة.

خطوات أحمد حلمي كانت خطوات ممهورة بذكاء وحسابات دقيقة ومتميزة عرف كيف يضع شخصيته ومواهبه في أدوار متنوعة وتكاد تصل إلي درجة التناقض.. كي يصل أخيراً إلي التركيبة الصحيحة التي تلائمه .. والتي يمكنه بواسطتها أن يصبح نجما كبيرا من نجوم الكوميديا المصرية المعاصرة.

أحمد حلمي لا يتمتع بوسامة أحمد عز أو فروسية أحمد السقا أو حتي رومانسية هاني سلامة، ولكنه يفوقهم جميعا في أنه يمتلك سحرا خفيا في شخصيته تجعله يبدو أكثر وسامة وأشد جاذبية وأعمق تأثيرا من كافة زملائه.

إلي جانب هذه الجاذبية الخفية يملك أحمد حلمي عفوية وبساطة في الأداء وخفة دم كوميدية إلي جانب رومانسية شاحبة.. مختفية وراء قناع من الهزل يعرف حلمي كيف ينسجه وكيف يبعث خيوطه بذكاء ومقدرة وفهم.

مشاهد الشجن

ما علينا إلا أن نذكر مشاهد الشجن العاطفية التي عبر عنها بشاعرية خاصة به في «السلم والثعبان» ومقارنتها بالشحنة العاطفية الشعبية التي عرف كيف يضفيها علي شخصية «صايع بحر» التي لعبها باقتدار مدهش واعتبرها واحدة من أكثر الشخصيات ثراء وتنوعا في سجله الفني.

أحمد حلمي قادر بمهارة أن يذكرنا كما كتبت في مقال سابق بيتر سيدز خصوصا بفيلمه «ميدو مشاكل» وقادر في أخري علي أن يذكرنا بوودي آلان في تعبيرات عينيه وفي كمية الثورة الكامنة وراء الضحك السريع الذي ينثره يمينا يسارا.

أحمد حلمي بذكاء فني خاص عرف ما هو دور الكوميديا السينمائية وما هو دور الكوميديان وكيف يمكنه أن يوازن بين الاثنين ليحقق نصرا مضاعفا في أفلامه.. دون أن يسيطر علي موهبة غيره أو يمحوها «كما يقلد مع الأسف غيره من الكوميديانات الجدد» بل إنه أدرك تماما أن نجاحه كنجم يتوقف علي مقدره من يقف إلي جانبه سواء أمام الكاميرا أو خلفها وربما كان هذا هو سبب نجاحه وتألقه المستمر.

أحمد حلمي.. طاقة.. تنفجر أمامنا يوما بعد يوما وفيلما بعد فيلم تتعلم من كل تجربة سابقة كيف يمكن لها أن تجدد نفسها وأن تنطلق كجواد بري أصيل في صحراء السينما المصرية وتخومها علي العكس من فنان عبقري كحسن حسني.. لا يجد أمامه إلا اقتطاع الأوراق الحلوة في زهرة فنه ورقة بعد ورقة دون أن يدرك أن الزمن السينمائي لا يرحم أحدا.

جريدة القاهرة في 29 أغسطس 2006

 

سينماتك

 

مصطفي محرم يكتب عن أفلام الصيف «1»:

المصائب الكبري- ومنها الأفلام- لا تنهال علينا إلا في الصيف!

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك