اليوم الأول السبت 26 مارس2005

* يومي الأول هو اليوم الثاني في المهرجان. لماذا؟ السبب يرجع إلى عدم توفر أماكن شاغرة على الطائرات من أوروبا إلى طنجة بسبب عطلة عيد الفصح في أواخر مارس

* الطريق من مطار طنجة إلى تطوان يستغرق ساعة ونصف الساعة تقريبا. تعرفت في السيارة على المخرجة سيمون بيتون، وهي إسرائيلية- فرنسية هجرت إسرائيل ضيقا من عنصريتها، وتخصصت في إخراج أفلام تسجيلية عن الفلسطينيين، وقد حضرت إلى مهرجان تطوان للمشاركة بفيلمها الجديد "الجدار" عن الجدار الفاصل الذي شيدته إسرائيل في الضفة الغربية سيمون ودودة وتمتلك الكثير من روح المرح، والأهم أنها تفهم روح السخرية وبدون ذلك ليس من الممكن إجراء أي حوار حقيقي في رأيي مع أي إنسان متحضر

* عرفت من مرافقي أثناء الرحلة من مطار طنجة إلى تطوان أن أعضاء الوفد المصري وصلوا في اليوم السابق لكنهم فشلوا في اللحاق بحفل الافتتاح بسبب تأخرهم داخل مطار الدار البيضاء (قبل انتقالهم بالسيارات إلى تطوان) لعدة ساعات، ربما بسبب إنهاء مشاكل التأشيرات أو ما إلى ذلك من مظاهر التخلف العربي الضارب بأطنابه وصلنا إلى الفندق وهو حديث البناء ممتاز. إلا أنه بعيد جدا عن المدينة حيث يوجد المهرجان (حوالي 40 كيلومترا)، وهو خطأ سنظل جميعا ندفع ثمنه يوميا حتى النهاية. وأظن ان هذا أبعد فندق نزلت به في حياتي عن أي مهرجان حضرته، فهو في واد والمهرجان في واد ىخر تماما. وكانت ابعد نقطة اتصورها عن موقع مهرجان ما هي عندما نزلت خلال حضوري مهرجان فارنا في بلغاريا عام 1987 في فندق على شاطئ يدعى "الرمال الذهبية" (بالمناسبة كل بلد في العالم تطل على بحر لديها رمالها الذهبية!) كان يبعد عن وسط مدينة فارنا حيث "هيصة" المهرجان حوالي 22 كيلومترا. أما فندق مهرجان تطوان (ذو النجوم الخمس) فهو يبعد حوالي 40 كيلومترا

اليوم الثاني الأحد 27 مارس

* في مطعم الفندق ألتقي بالصديق القديم العتيد جدا.. "بريان دي بالما- مصر" كما أطلق عليه أو المخرج "الكبير جدا" محمد خان ومعه هذه المرة زوجته الجديدة الشابة كاتبة السيناريو الموهوبة وسام التي كتبت فيلم "أحلى الأوقات". إنسانة رقيقة عذبة وحالمة، لا أعرفها من قبل فهي تنتمي للأجيال الجديدة التي نشأت وترعرعت وأنا خارج مصر. مهرجان تطوان يكرم محمد خان وهو تكريم يستحقه بالتأكيد. لم يفكر فيها أصحابنا إياهم في مهرجانات مصر ربما لأنهم لا يعتبرونه مصريا أصلا حسب تصنيفهم العنصري المحدود

* الممثلة بوسي موجودة بحكم عضويتها في لجنة التحكيم. كنت قد التقيت بها من قبل مع نور الشريف في لندن قبل ستة عشر سنة. صعب أن تتذكر

* ألتقي أيضا بالصديق "التاريخي" محمد كامل القليوبي الذي تمتد معرفتي به إلى أكثر من 34 عاما.. هل هذا ممكن

* هناك كذلك الصحفي الموهوب وائل عبد الفتاح، والناقدة الصحفية علا الشافعي (من الأهرام العربي) التي كنت قد قابلتها مرات معدودة في مصر، والمذيعة بسنت حسن من التليفزيون المصري.. لا أدري ماذا تفعل هنا حيث لا كاميرا ولا فريق تصوير ولا يحزنون. وكان هناك أيضا المخرجة هالة خليل التي أسعدني التعرف عليها كثيرا بسبب حلاوة روحها وشخصيتها القوية الطبيعية دون افتعال أو ادعاءات. وقد حضر أيضا المخرج سعد هنداوي والمخرج أسامة فوزي ولهما فيلمان في المهرجان داخل وخارج المسابقة

* الموسيقار العراقي الموهوب نصير شمة موجود أيضا بدماثته وخلقه الرفيع ضمن أعضاء لجنة التحكيم الرسمية التي تضم اثنين من المغرب: ناقد ومخرج، جريا على عادة مهرجانات العالم العربي

* الوفد المصري أجمع على اختيار "الأستاذ" فوزي سليمان رئيسا له.. يالشجاعة فوزي وشبابه وقدرته العظيمة على أن يقطع أرجاء الأرض، لا يستسلم للتقدم في السن أبدا.. وهو دائما ذلك الإنسان الرائع المحب للسينما، المخلص لها دون طمع في جاه أو نفوذ أو شهرة تقوم على الأكاذيب والادعاءات

* في المقر الصحفي للمهرجان: أعرف من صديق مغربي بالخبر المأساوي: توفي أحمد زكي أخيرا فجر اليوم. مهرجان تطوان يبدأ وتنتهي حياة أحمد زكي كما كنا جميعا نتوقع لكن كنا نتشبث بالأمل. انتهت معاناته الآن مع المرض اللعين. خسارة فادحة للسينما المصرية والعربية دون أدنى شك.. هذا هو شعور كل الحاضرين هنا في تطوان

* أحمد حسني مدير المهرجان يطلب أن يتحدث معي على انفراد. يخبرني أن علي أبو شادي رئيس المركز القومي للسينما – طلب أن يدعى للمهرجان لمصاحبة الوفد المصري، فأرسلوا له الدعوة، لكنهم فوجئوا به يطالب بضرورة إرسال تذكرة الطائرة على الدرجة الأولى متذرعا بأنه وكيل وزارة، وقال أحمد حسني إن أبو شادي كان عنيفا في حديثه معه، فأضطر إلى تذكيره بأن المهرجان لا يرسل تذاكر على الدرجة الأولى. بعد ذلك عرف أحمد حسني أن أبو شادي أخذ يضغط على السينمائيين والنقاد المصريين لحثهم على إلغاء سفرهم، وقد وصل إلى المهرجان بالفعل اعتذار من ليلى علوي وكذلك من بوسي ومحمود حميدة بل ومحمد خان وغيره، إلا أن جماعة تطوان تمكنوا من شرح الأمر لهم وإقناعهم بالمشاركة في المهرجان، باستثناء حميدة الذي تعلل بأنه مشغول، كما علموا أن أبو شادي أرسل أيضا للسفارة المصرية في الرباط يتنصل من مسؤوليته عن الوفد المصري والأفلام، ودفع السفارة لإرسال "فاكس" تطالب بتذاكر درجة أولى لكل أعضاء الوفد وإلا قاطعت مصر المهرجان
أضاف أحمد حسني أنه اتصل غاضبا بعلي أبو شادي وقال له إنه إذا كان من حقه ألا يحضر إلا أنه ليس من حقه على الإطلاق تحريض الآخرين على مقاطعة المهرجان، وسأله: لماذا لا تدفع لك وزارتك فرق السعر

وقد انتهت الأزمة وأعلنت ليلى علوي أنها ستحضر غدا الاثنين، ثم سيحضر أيضا هاني سلامة ثم هند صبري في

* "فيلم "الجدار" تسجيلي كلاسيكي لكنه شديد التعاطف مع القضية الفلسطينية. لا بأس إذن

* سعدت جدا بوجود الناقد الصديق صلاح هاشم المقيم في باريس والذي لم أره منذ لقائنا في مهرجان كان 2003. صلاح لا يزال يحتفظ بحماسه للسينما الجميلة، وحرارته التي تجعلني أغفر له هفواته الصغيرة دائما، وهي بالفعل صغيرة، فهو يعدك بأمر ما ، ثم قد يختفي عنك سنوات، فتظن أنه يقاطعك لأمر ما، ثم تلتقيه، فتكتشف أنه كما هو ببراءة الأطفال.. فقط هذا تكوينه كفنان أصلا

* فيلم "الأمير" التونسي للمخرج محمد زرن فيلم جديد قديم. جديد بمعنى أنه يحاول "تطبيع" السينما التونسية مع الرومانسية، وقديم لأنه لا يضيف شيئا إلى التراث الرومانسي القديم

اليوم الثالث الاثنين 28 مارس

* في المكتب الصحفي: العادة العربية المزمنة واضحة.. إهمال تام للخدمات الصحافة والاتصالات لحساب حفلات الطعام

* مشوار طويل عريض من السينما إلى المطعم في الغذاء، ونذهب و"نعيش" في المطعم إلى أن تلقي بنا الحافلات مرة أخرى في وسط المدينة أمام السينما. وهكذا إلى ما بعد منتصف الليل

* أتذكر أنني أيضا عضو في لجنة تحكيم النقاد المكونة من خمسة نقاد من مصر والمغرب وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا. لكن الايطالي أمبرتو روسو لم يحضر بسبب إجراء عملية جراحية له، والناقدة الأسبانية لن تستمر حتى الختام، ومنسق اللجنة غير متفرغ، لذا فشلنا حتى الآن في عقد اجتماع تمهيدي، بل اكتفيت بتبادل الرأي مع الناقد المغربي طلب مني أحمد حسني قبل فترة طويلة من انعقاد المهرجان- تقديم ندوة عن المشهد الحالي للنقد السينمائي العربي، أقارن فيها بين ما عرضته قبل عشر سنوات في ندوة مشابهة، وما هو قائم اليوم. لكن المشكلة أنهم لم يعلنوا عن الندوة، لا في الكتالوج ولا في البرنامج

نبهت أحمد حسني لهذه المشكلة متسائلا عما إذا كانت قد ألغيت فربما يكون هذا أكثر وضوحا. أحمد - الذي يبدو كالمسحور - أصر على أن الندوة قائمة وأنهم سيخبروني بموعدها في أقرب وقت

* عرض فيلم "بحب السيما" في المساء بحضور بطلته ليلى علوي التي تستقبل استقبالا هائلا حقا مع المخرج أسامة فوزي. ترحيب علني قبل عرض الفيلم بمعظم أعضاء الوفد المصري نجح عرض الفيلم الذي يعتبر أحد أهم ما قدمته السينما المصرية في السنوات الأخيرة

اليوم الرابع الثلاثاء 29 مارس

* الناقد خليل الدمون رئيس جمعية نقاد السينما في المغرب وهو صديق قديم أيضا، موجود وحاضر من خلال مجلة "سينما" التي يصدرها مع الصديق أيت عمر المختار وآخرين عن الجمعية وبدعم من المركز المغربي للسينما باللغتين العربية والفرنسية. وهي مجلة ممتازة الطباعة وليست كراسة متواضعة مثل مجلة "السينما الجديدة" التي كنا نكافح لإصدارها وقت رئاستي لجميعة نقاد السينما المصريين

* الناقدة الأسبانية تقول لي أنها تفضل منح جائزة النقاد لفيلم عربي، تشجيعا لسينما في حاجة إلى تشجيع. نتفق معها على ذلك

* مناقشة فيلم "بحب السيما" في ندوة عامة تبدأ على استحياء كالعادة. يتكلم بعض الصحفيين من المغرب. يركزون على الطابع "المسيحي" للفيلم –كما يقولون- وعلى نقده للكنيسة. أسامة فوزي يحاول الرد. ليلى علوى تتكلم كلاما جميلا أيضا لكنها تشير إلى فكرة العالمية وإلى أننا لا نقل عالمية عن غيرنا. أقرر أن أتكلم فأقول إن الفيلم لا يتناول موضوعا دينيا بل فكرة القهر والحرية من خلال عدد من الثنائيات في بناء متعدد المستويات. أتحدث بانفعال حقيقي وأنفى المفهوم السائد للعالمية: تستطيع أن تكون عالميا إذا نجحت في غزو شبكات التوزيع في السوق الأمريكية (أكثر من 20 ألف دار للعرض)

* أحمد حسني مدير المهرجان يخبرني أن الندوة "الموعودة" ستنعقد غدا في الثانية عشرة وأنهم أعلنوا عنها

* فيلم "ليلة حب" لسعد هنداوي يثير الأسى والحسرة. هذا مخرج كان يبشر بتفجر موهبة لا تقبل المساومة لكنه يقبل صنع عمل أقرب إلى "الفيديو كليب" لكي يصبح مخرجا للأفلام الروائية الطويلة. فيلم من أفلام الوجبات السريعة "تيك أواي" بكل أسف، غير أنني لا أستطيع أن أمنع تعاطفي مع سعد. قسوة الظروف، والسينما ليست وحدها التي تدهورت. في مناخ آخر يمكن أن يجد سعد هنداوي نفسه بالتأكيد، أما المناخ الفاسد الحالي فنحن جميعا في انتظار أن يرحل الكابوس عن القصر

* حديث طويل عن السينما المصرية وأزماتها المزمنة مع ليلى علوي وسعد هنداوي في بهو الفندق. ليلى تقول إن كلامي في ندوة "بحب السيما" غير مسار الندوة بالكامل. أنجح في إثارة شهيتها لحضور ندوة النقد السينمائي غدا

اليوم الخامس: الأربعاء 30 مارس

* ندوة النقد تتأخر ساعة كاملة بسبب انشغال القاعة. أصعد إلى المنصة وأقول ساخرا إن العالم العربي يعيش "أزهى عصوره" ولذا فقد تأخرت الندوة ساعة فقط ولم تلغ تماما ويتم طردنا من هنا، وعلينا بالتالي أن نكون شاكرين. لست واثقا تماما أن السخرية التي تحملها الكلمات قد وصلت إلى الجميع حقا

لم يحضر أكثر من نصف الصحفيين والنقاد المصريين، بل ولا حتى محمد خان والقليوبي، وهو أمر لم يدهشني على الإطلاق فقد فضلوا الذهاب للتسوق. وهو أمر يحدث دائما في أحسن المهرجانات

* حضر - باهتمام شديد - فوزي سليمان وسعد هنداوي وصلاح هاشم، كما حضر الصحفي أشرف بيومي

فجأتني ليلى علوي وحضرت فعلا بعد بداية الندوة بقليل وظلت حتى النهاية. غريب أن النجمة تحضر ويغيب "المثقفون" أو ليس غريبا

خضت في قضايا النقد والصحافة والتوزيع وأكدت على أهمية دور مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، وأهمية التكنولوجيا الجديدة في تقدم السينما (الكاميرات الرقمية، والنقد عبر الانترنت)

* أكثر الأسئلة صعوبة سؤال يتعلق بسلطة الناقد. قلت إنني لا أحب كلمة سلطة. أفضل مسؤولية. ربما تكون السلطة في القدرة على دفع الناس لمشاهدة فيلم والاعراض عن فيلم آخر، وهو ما لا يتوفر لأي ناقد عربي حتى الآن.. ربما لحسن الحظ أيضا وإلا لأصبح البعض ممن يجيدون استغلال هذه "السلطة من أصحاب الملايين

* أثار ما أعلنته في الندوة من تحد للحكومات العربية أن تعلن عن خطة حقيقية لبناء "سينماتيك" دهشة الحاضرين

* فيلم "أحلى الأوقات" مصنوع برقة وبلمسة خاصة ومن خلال سيناريو محكم، إلا أنني كنت أتمنى أن تتمكن مخرجته الموهوبة هالة خليل من التوقف في لحظات للصمت لكي تتيح لنا بعض لحظات للتأمل خلال المتابعة اللاهثة لمصائر الشخصيات الثلاث الرئيسية

اليوم السادس: الخميس 31 مارس

* صلاح هاشم أصر على ضرورة إجراء مقابلة صحفية صاخبة وطويلة معي للمرة الأولى في تاريخ علاقتنا في ضوء تصريحاتي المدوية في ندوة النقد. صلاح يبدو شديد الحماس.. هل يستمر حماسه طويلا أم يفتر كعادته بعد أن نفترق

* تكريم المخرج محمد خان. محمد ينتهز الفرصة لكي يحول التكريم إلى تأبين لصديقه أحمد زكي بطل ستة من أفلامه. لمسة إنسانية جميلة ومؤثرة

* أتفق مع الناقد المغربي نجيب الرفايف على ترشيح "بحب السيما" و"طرفاية أو باب البحر" المغربي لجائزة النقاد. الاسبانية ماريا لوس رشحت "طرفاية" و"معارك حب". أما الناقد الفرنسي ميشيل سيرسو فقد رشح فيلمين أوروبيين وهجر الأفلام العربية. "طرفاية" يكسب بالأغلبية إذن وهو يستحق بالفعل

* أذهب لمشاهدة فيلم "كليفتي" لمحمد خان لكني أجده (أي خان طبعا وليس كليفتي) واقفا على باب دار الثقافة التي يفترض أن يعرض فيها الفيلم. لقد فشل المنظمون في العثور على جهاز عرض من نوع ديجيتال فيديو عرض الفيلم. محمد ليس ساخطا، بل هو قلق أكثر على زوجته التي تأخرت عن موعدها معه. أنتظر معه. ألتقي بمندوبة مهرجان مونبلييه الفرنسي. لقد جاءت أيضا لمشاهدة الفيلم. أسألها: هل يحدث لديكم أمر مشابه لما حدث الآن مع فيلم محمد خان؟ تنفي ببساطة. أعود لسؤالها: ولماذا؟ لا تعرف بم تجيب، ربما شعورا منها بالحرج. أقول لها إن السبب ربما يرجع إلى أنهم يعيشون في"شمال المتوسط" بينما نعيش نحن في جنوبه، العيب إذن في البحر المتوسط الذي يفرق بيننا وبينهم، واسألها ما رأيك في اختفاء المتوسط؟ ترد ضاحكة إنها تفضل بقاء المتوسط. لديها كل الحق بكل تأكيد

اليوم السابع: الجمعة 1 أبريل

* جولة مع القليوبي في الحي القديم من تطوان. نفس الأزقة والطرق الملتوية المبلطة والمنازل المتلاصقة والدكاكين الضيقة التي تستطيع أن تتكهن بأنها تؤدي إلى البيوت من الخلف. شاهدت نفس المعمار في أصفهان ودمشق وفي الجزائر وتونس والرباط. لم يشيد الأوروبيون شيئا مشابها إلا في فينيسيا. القليوبي رأيه أن هذا التصميم قصد منه تسهيل الدفاع عن المدن

*على طعام الغذاء تحضر الممثلة المتألقة هند صبري التي وصلت من القاهرة اليوم لحضور الختام

* حفل الختام: يتصف كالعادة بالطول والاستطرادات وكلمات المسؤولين الكثيرة المليئة بالشعارات. وزير الإعلام المغربي يتعهد في كلمته بتأسيس معهد للسينما في تطوان

يبدأ تقديم لجنة التحكيم على المسرح. أفاجا بأنهم ينزلون بسرعة. ومن سيوزع الجوائز؟ انتظر وسترى

ينادون على هاني سلامة الذي غادر تطوان عائدا للقاهرة لتقديم جائزة ما. وينادون على محمد خان مرتين. ولدهشتي ينادون علي للصعود إلى المنصة مع أعضاء لجنة تحكيم النقاد لا لتقديم جائزتنا بل للفرجة على الناس وإتاحة الفرصة للناس لكي يتفرجوا علينا

* نفس الأخطاء المعتادة في المهرجانات التي تقام في "جنوب المتوسط" (إذا استدعينا تعبير عبد الرحمن منيف): اعلان الجوائز كتب بالفرنسية دون العربية وتعلثمت ليلى علوي ومحمد خان في القراءة، والرقص البلدي الشعبي بدون داع في مهرجان سينما، وبينما يتعرف كل الحاضرين في المسرح الجميل على هند صبري التي تجلس أمامي ، لا يتعرف عليها مقدما الحفل ولا منظمو المهرجان، لذلك لا يطلب منها الصعود على المسرح لتحية الجمهور أو لتقديم إحدى الجوائز.. لماذا دعوها للحضور إذن؟

* المفاجأة فوز الفيلم المغربي "الذاكرة المعتقلة" بالجائزة الكبرى، وخروج "بحب السيما" من المولد بلا حمص رغم مستواه الفني الذي لا شك فيه

* المفاجأة الثانية هي أن لجنة التحكيم تمنح جائزة التمثيل النسائي لممثلة فرنسية بدلا من أن تحصل عليها ليلى علوي الحاضرة بقوة: في الفيلم وفي المهرجان، في حين تمنح اللجنة محمود حميدة جائزة أفضل ممثل عن دوره في "بحب السيما" وهو الذي غاب عن الحضور

* أشعر بالأسف لأسامة فوزي. لقد سبق أن خرج من قرطاج أيضا دون الجائزة التي يستحقها. وقد فاز "الذاكرة المعتقلة" أيضا بجائزتي الشباب ودون كيشوت، وهو ما جعلني أداعب أصدقاءنا المغاربة بقولي: جوائزنا عادت إلينا.. أليس كذلك

* أجمل ما في حفل الختام ذلك العرض الجميل الذي صاحبه العزف الحي الجميل من نصير شمة – لصور ولقطات من حياة وأعمال الراحل أحمد زكي، وكان ينبغي الاكتفاء بذلك وشطب كل الخطب الرنانة وتقديم المسؤولين وغير ذلك من تفاهات المهرجانات العربية "الفولكلورية"

* انتهى إذن المهرجان، وعلينا الآن أن نحتفل بالفائزين ونفرح معهم في قاعة حفل العشاء الكبير الذي أقيم في نهاية الليلة وامتد حتى الثانية صباحا أو بعد ذلك وعلينا أيضا أن نقنع أنفسنا بأن المهرجان نجح وأصبحت السينما العربية في طريقها إلى العالمية

* في اليوم التالي. معاناة ما بعدها معاناة في انتظار الحافلة التي ستقل الوفد المصري إلى مطار طنجة. لا تأتي إلا متأخرة كثيرا. طائرتي أنا بعدهم بثلاث ساعات تقريبا فلماذا اذهب معهم. أكدت على القائمين على المهرجان أكثر من مرة ضرورة ارسال سيارة (المطار على بعد ساعة ونصف من الفندق). غادرت حافلة الوفد المصري مكتظة لا مكان فيها لليلى علوي ولا لبوسي أو اسامة محمد فحملهم السفير المصري معه في سيارته وغامر في الطريق اسلحلي في صبيحة ممطرة

* السيارة التي يفترض أن تنقلني لم تأت. وبعد تحطيم أعصاب وعشرات المكالنات التليفونية التي لا يرد عليها أحد فأصحاب مهرجان تطوان أرهقهم التعب فاستغرقوا في نوم عميق ونسوا امر ضيوفهم

* وصل أخيرا الأخ محمد ضياء السوري مسؤول العلاقات العامة في المهرجان لاصطحابي بسيارته. أخبرني الخبر المشؤوم أن سيارة السفير سقطت في هوة جبلية وعرة وأصيبت بوسي اصابات شديدة وكذلك ليلى علوي واسامة فوزي إلا أنهم جميعا نجوا بأعجوبة من موت محقق

* نصل إلى المطار متأخرين بعد أن تكون الطائرة قد أقلعت إلى لندن. تكون النتيجة أن أعود لقضاء ليلة سيئة في طنجة ثم أستقل طائرة في الصباح الباكر إلى الدار البيضاء لاجلس لمدة 7 ساعات فوق مقعد في المطار حتى تقلع طائرة أخرى من الدار البيضاء إلى لندن. رحلة الأهوال التي لن تعود أبدا

ألم أقل لكم أن العالم العربي يعيش حقا أزهى عصوره؟

أمير العمري: emary20@hotmail.com

موقع "سينما إيزيس" في 27 أغسطس 2006

مكان في سوريا اسمه "حجر أسود"

بشار إبراهيم 

في سوريا، نادراً ما تتوجَّه الكاميرا السينمائية، (والتلفزيونية ضمناً)، باتجاهها الصحيح، أو تذهب إلى الأمكنة التي ينبغي عليها الذهاب إليها.. فمنذ أن تولّد تيار سينما المؤلف، وشاع اختراع الذاكرة الطفلية، لهذا المخرج أو ذاك. ومنذ أن تقدَّمت الفانتازيا، قبل أن تخلي المكان لصلاح الدين والحجّاج وملوك الطوائف.. أصبح من النادر الحديث عن فيلم سينمائي، أو عمل تلفزيوني، يقترب من الواقع الراهن، ويفتِّش في تلافيفه، ويفضُّ التباساته، ويدخل في تفاصيله الدقيقة، التي غالباً ما يكون من الصعب رؤيتها، إلا عبر الكاميرا.

صحيح أنه يمكن الحديث عن بعض الأعمال السينمائية والتلفزيونية السورية التي تقارب الواقع، أو تتناول بعض جوانبه، ولكنها تبقى محدودة العدد، ومحدودة الجرأة في الكشف أو الفضح، والتناول أو الاقتراب. فليس المطلوب من الكاميرا أن تمرَّ عابرة على سفوح الظواهر الاجتماعية، وحوافي القضايا الاقتصادية، وتمنحها البعض من الألوان، والقليل من الحضور.. بل نرى أن المطلوب منها أن تأخذ دور مشرط الجرَّاح، الذي يغوص في الأعماق، طلباً للشفاء، أو دور النور الكاشف الذي يضيء الجوانب المعتمة، ويضعها في بؤرة الرؤية.

في سوريا، ثمة مكان اسمه "حجر أسود"!.. ليس بعيداً عن قلب مدينة دمشق، ولا منقطع الاتصال المكاني بها.. مكان أصبح مدينة قامت في البداية على حضور النازحين من الجولان، ثم تحوّل مع تكرار السنوات إلى نموذج فذّ للسكن العشوائي، ولاستقبال القادمين من الأرياف القريبة والبعيدة، ومن الأقاصي المديدة، فصار فيه نازحون سوريون، ولاجئون فلسطينيون، وأكراد، وقرويون وريفيون من شتى أنحاء سوريا.. فضلاً عن عراقيين..

"حجر أسود".. لا علاقة له بالقداسة، بل بكل أنواع الفجاجة، من الفقر والجهل والأمية وقلة الحيلة، إلى الفوضى والضجيج والازحام المريع، وهو يضم قرابة المليون نسمة، لا يجمع بينهم إلا كونهم فائضاً اجتماعياً، غير قادر اقتصادياً، وغير فاعل ثقافياً، ويلقى الكثير من الإهمال والصدود، إلى الدرجة التي لا يعرف ساكنوه معرفة الخفايا والخبايا التي ينطوي عليها، على الرغم من حضوره المعتبر في سجلات "الأمن الجنائي"، ومخافر الشرطة، والأحداث..

في بادرة نادرة من نوعها، يجتمع الروائي خالد خليفة والمخرج نضال الدبس، بدعم من منظمة اليونيسيف، لتحقيق فيلم حمل اسم "حجر أسود"، وهو فيلم وثائقي طويل (مدته 45 دقيقة)، رُصد للدخول في عالم الحجر الأسود، الخفي والمعلن بآن، العالم الذي يمكن أن تمرَّ بقربه فلا تراه، ويمكن أن يمرّ أمامك فلا تنتبه له، فيقوم الفيلم بكشف المستور، والنطق بالمسكوت عنه، وربما هذا ما جعل فيلم "حجر أسود" قيد المنع، غير الرسمي، وغير المعلن، على عادة القرارات المفهومة والمُتوافق عليها شفاهاً، وغير المكتوبة على الورق، ولكنها قطعاً قيد التنفيذ، في كل حال!..

لا يقترب الفيلم من السياسة، ولا يأبه بالأحزاب وبرامجها، ولا ينتقد الجبهة الوطنية التقدمية، ولا يشكو من القوى القادرة سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً.. ولكنه يغوص في حارات الحجر الأسود، ليلتقط شخصياته التي تبدو منذ البدء باعتبارها نماذج ذات شيوع، لا تقتصر على نفسها، بل ناطقة بواقع حال يكاد يكون عاماً، على الأقل في هذا المكان، وأمثاله من أماكن السكن العشوائي، وضواحي المدن، التي ضاقت بما ومن فيها..

يخرج محمد (15 سنة)، من بيته، ويذهب إلى بيت صديقه مصطفى (14 سنة)، ليتصاحبا معاً في الطريق إلى حيث يستأجران طنبراً (عربة بدائية يجرها حصان)، ويذهبان إلى المزابل والنفايات، والحطام والردم، ويقومان بجمع قطع الحديد والنحاس والألمنيوم، وأكياس النايلون، وعلب الكرتون والقصدير الفارغة.. فهذه وسيلتهما في الحياة.

سنعرف أن محمداً لم يدخل المدرسة أبداً، في دولة واحد من أهم شعاراتها: "إلزامية التعليم". كما سنعرف أن مصطفى ترك المدرسة في الصف الرابع الإبتدائي، رغم أنف مقولات: "منع التسرُّب من المدارس"!.. ولقد تقلَّب كل منهما على أنواع من الأعمال الرخيصة، دون امتلاك حرفة، أو التمكُّن من مهنة.. وكان من الطبيعي أن يكونا دائماً على حافة الانحراف، بشتى أنواعه..

سيدخل محمد السجن، مدة شهرين ونصف، بعد أن ضرب بالسكين، ربما لأنه ثمة من حاول الاعتداء الجنسي عليه، بعد جلسة مشاهدة أفلام.. وكذلك سيدخل مصطفى السجن، إثر شجارات، كان الضرب بالسكاكين أحد مفرداتها. وسوف يتكرر دخولهما وخروجهما من سجن الأحداث القائم في "قدسيا"، دون أن يبدو عليهما أي أثر من "التهذيب والإصلاح"، المفترض أن يكون من مهمات هذا السجن!..

سيتمتع محمد ومصطفى بالكثير من الصراحة، وسيفتحان الباب أمام الكاميرا لتدخل في تفاصيل خاصة وحميمية من حياتيهما. فمحمد تحوَّل قبل الأوان إلى راعٍ لأسرته، فيما يغيب والده عاملاً في لبنان. ومصطفى صار المسؤول عن والدته التي لم تخرج من "العدة" إثر موت والده منذ شهرين فقط..

خلف كل منهما تقبع حكايات مليئة بالمرارة، والمعاناة، كما بالكفاح والجهد الدؤوب، لتحصيل لقمة العيش. أم محمد تتحدث عن الشجارات المتواصلة مع الأب، قبل أن يغادر الأسرة، تاركاً إياها في مهب رياح الفقر والعوز، بينما يستفيض مصطفى في وصف أشكال التعذيب التي كان والده يمارسها عليه، بما فيها التعذيب بالكهرباء..

من يصدق أن المجتمع السوري محشو بكل هذا الفقر والعوز، وبكل هذا العنف، وهذه الانحرافات التي تبدأ من شرب الكحول، وتعاطي المخدرات، ولا تنتهي عند أنواع مذهلة من الهلوسة، مثل شمِّ سائل التنر، أو لاصق "الشعلة"، الذي يستخدم في صناعة الأحذية، وما يرافق كل هذا من انحرافات سلوكية!..

يتمنى محمد لو أنه كبر، كما يتمنى، ويحلم لو أنه صار "دكتور"، وتمتع بالحياة.. وشقيقته الكبرى (16 سنة)، تحلم أن تدخل المدرسة، وتتمنى العمل في ما هو مفيد، مثل أن تتعلم مهنة كالخياطة، وليس العمل خادمة في البيوت، أو شاطفة أدراج.. ويبقى لها حلم أن تكون محامية أو قاضية، تدافع عن المظلومين..

ينتقل الفيلم إلى حالة أخرى، تبدأ من مسبح "الباسل"، القابض بجدرانه على شعار: "في الرياضة حياة".. ثمة صبية لا تحب اللعب مع البنات، بل مع الأولاد على الرغم من ضرب والدها لها.. وسوف تبلغ هذه الصبية بنا ذروة مؤثرة في إخبارنا بقصة شقيقها الرضيع، الذي مات اختناقاً بالحليب..

"هوياتنا أجانب.. أكراد أجانب".. يقول أحد الفتيان، ويوضح أنه يعيش من خلال البحث في النفايات على الحديد والكرتون.. و"شو الله بيسّرها". إنه لم يتلقَّ أي نوع من التعليم، وفاته هذا القطار تماماً، وسيبقى على أمّيته: "كبرنا.. وين بدنا نروح ع المدرسة"؟!.. ولا يبقى له إلا أن يحلم بتعلم مهنة: حداد، نجار، كومجي.. فالجوع كافر..

عبد الله، فتى آخر، لا يعرف كم عمره، ولم يدخل مدرسة، لا هو ولا أي من أخوته.. و"رامي" يتحدث بغمغمة مفهومة عما يحدث في البوائك: العرق، التنر، الشعلة، الحبوب، الحشيش.. اللواطة.. و"الله العليم شو بيساووا"!..

يسرى التي لم تبلغ العاشرة من عمرها، وحكايات بؤس لا تنتهي.. وتبدو جزءاً من النسيج الممتد في الفيلم، منذ بداياته، إلى قبيل نهاياته، عندما تذهب شخصيات الفيلم في رحلة إلى سوق الحميدية، والجامع الأموي.. وجلسة في مقهى، مع كاسات عصير، وأرجيلة.. ومحاولات شبه بائسة لكتابة الاسم، وكيفية التوقيع..

رامي يرفض بغضب أن يُسمَّوا "متشردين".. إنه يعتبرها إهانة، فيقول: "نحن نعمل.. صحيح نحن فقراء.. ولكننا لا نمدّ أيدينا إلى أحد".. ولكن رامي، لم ينتبه إلى أن لا أحد يمدُّ يده إليهم، ليخلِّصهم من هذا الواقع الفاجع، ولا أحد يمدّ يده إليهم، لينينير أمامهم الدروب، وهم يلجون القرن الحادي والعشرين.. لم ينتبه رامي لكل هذا.. ربما لأنه لا يعرف القراءة، وبالتالي لم يقرأ الخطط الحكومية، ولا الشعارات الاستراتيجية، ولا التصريحات المسؤولة "غير المسؤولة"..

في نهاية الرحلة، سوف يصعد الفتيان الذين عشنا معهم وقت الفيلم إلى جبل قاسيون.. من فوق سوف يطلون على دمشق، ويتقرُّون أمكنتها، ومعالمها، وتفاصيلها، ولكنهم سرعان ما يسألون بعضهم البعض: أين الحجر الأسود؟..

ينتهي الفيلم على هذا النحو الفني المعبِّر، وهو في الحقيقة فيلم جيد الصنعة، جميل على الرغم من كل الآلام التي تثيرها مشاهدته، وحكاياته، وقصصه، وشخصياته؛ شخصياته التي بدت كم هي جميلة على الرغم من بشاعة حالها، وبريئة على الرغم من تلوث سجلاتها.. هي شخصيات من دم ولحم، عامرة بالأحاسيس، وممتلئة بالأحلام، لا طموح لها إلا التمكُّن من العيش على حافة الكفاية، وبعيداً عن المذلة والمهانة، والتحقير الاجتماعي، والحرمان الاقتصادي، والنفي الثقافي.

فيلم "حجر أسود"، صوَّرته بمهارة بادية، مديرة التصوير جود كوراني، التي يمكن اعتبارها أول مديرة تصوير سينمائي في سوريا، درست التصوير في فرنسا، ونفذ المونتاج رؤوف ظاظا وشركة "بروأكشن"، الواعدة بدور هام في الانتاج الفني السوري، ووضع موسيقاه المؤثرة وسام العبنّي، وقاد المجموعة المخرج نضال الدبس بالتعاون مع الروائي خالد خليفة، ليكون هذا الفيلم نموذجاً للسينما التي ينبغي أن يحققها الشباب، وقد آن لشيوخ السينما السورية أن يتقاعدوا!..

"حجر أسود"، فيلم يليق أن يجتمع كل أصحاب الرأي والمشورة، وأصحاب السيادة والريادة، في سوريا، لمشاهدته، ولمعرفة "أي جحيم يعيش فيه الآخرون"!.. خاصة أن هؤلاء الآخرين، يكادون أن يكونوا عموم الشعب السوري..

المستقبل اللبنانية في 27 أغسطس 2006

 

ضوء ... هيمنة السينما الأمريكية

عدنان مدانات 

ثمانون بالمائة، على الأقل، من برامج دور العرض السينمائية في أوروبا وحدها، ناهيك عن القارات الأخرى التي تربو النسبة في بعض دولها على التسعين في المائة وأكثر، محتلة منذ عقود عديدة من الزمن وحتى الزمن الحاضر من قبل الأقلام التجارية الأمريكية. هذا الوضع مستمر منذ عشرات السنين وهو مرشح لأن يتفاقم أكثر فأكثر. ولا تستطيع كل خبرة السينمات الأوروبية، خاصة ذات التراث الإبداعي التاريخي والمتطورة اقتصاديا منها، مثل السينما البريطانية والإيطالية والألمانية والفرنسية فعل شيء إزاء ذلك على الرغم من كل حملات الاحتجاج التي قام ويقوم بها مثقفو أوروبا وسينمائيوها دفاعا عن ثقافتهم وتراثهم السينمائي وأفلامهم الوطنية. وعلى الرغم من تزويد الأفلام بسلاح جوائز المهرجانات السينمائية البراقة، والأهم من ذلك، على الرغم من محاولات عدة ناجحة لصنع أفلام جماهيرية أوروبية على غرار الأفلام الأمريكية، ومنها أفلام المخرج الفرنسي لوك بيسون، صاحب فيلم المغامرات الذي تجري وقائعه في أعماق البحر الأزرق الكبير وفيلم الخيال العلمي والمغامرات الغرائبية المثيرة الذي يستفيد من أحدث إمكانيات التقنيات الإلكترونية العنصر الخامس، فإنه لم يتم صنع أفلام يتوفر فيها ما يتوفر في الأفلام الأمريكية من عناصر الإثارة والتشويق والمؤثرات البصرية المتطورة والنجوم، أي أنه يوجد فيها كل ما يُعتقد أنه يجذب جماهير مشاهدي السينما في أرجاء العالم نحو الأفلام الأمريكية ويجعلها الأكثر رواجا من أفلام بقية دول العالم الطامحة إلى الحصول على انتشار جماهيري عالمي والأكثر قدرة على التأثير في الوعي العام وفي أنماط السلوك الحياتي.

وهذه القدرة التي تتمتع بها السينما الأمريكية والمستندة إلى أساس صناعي اقتصادي  قوي جدا، سبب رئيسي من الأسباب التي تمنع حتى الأفلام الأوروبية المصنوعة بنجاح على غرار الأفلام الأمريكية من أن تكون البديل الذي يساعد على تحقيق هدفها في غزو الصالات لا فقط ضمن حدود موطن إنتاجها بل أيضا خارج هذه الحدود ويفسر واقع تشكل واستمرارية نسبة الثمانين بالمائة لهيمنة السينما الأمريكية على برامج عروض صالات السينما، إذ يدل الواقع العملي على أنه لا يكفي أن يتمتع الفيلم بمواصفات تؤهله للنجاح التجاري كي يتم توزيعه وعرضه على نطاق واسع في أرجاء العالم إذا لم يكن منتجاً أمريكياً.

ومن ناحية ثانية، لا يقتصر هذا الوضع على عروض الأفلام في صالات السينما العامة بل يشمل عروض الأفلام عبر شاشات محطات التلفزيون العالمية، حيث تسيطر الأفلام الأمريكية على برامج المحطات التلفزيونية لا تترك إلا حيزا ضيقا لعروض الأفلام المحلية، وحيزا اكثر ضيقا بكثير لعروض أفلام من دول أخرى.

هكذا يبدو الوضع أشبه بمعضلة يحار في تفسيرها المحللون، ولكن ما يمكن استنتاجه بصورة رئيسية هو أن المعضلة لا تكمن فقط في القدرة أو عدم القدرة على إنتاج أفلام ناجحة، بل تكمن في القدرة على السيطرة على مقادير صالات العرض عن طريق التحكم بصناعة وتوزيع الأفلام ضمن شروط محددة. وهذه القدرة مقتصرة، للأسف الشديد، على شركات التوزيع الأمريكية الكبرى التي تأسست في وقت مبكر من القرن العشرين، معتمدة على قاعدة سينمائية صناعية ضخمة وأضحت منذ ذلك الزمن تحتكر وتبسط هيمنتها على أسواق العالم، عبر تحويل الموزعين المحليين في أرجاء العالم المختلفة إلى مجرد وكلاء لها.

يمكن قراءة هذه النسبة أيضا باعتبارها تمثل حجم تقدم أنماط السينما التجارية مقابل تراجع أنماط السينما التي يمكن أن نصفها مجازا بالسينما الفنية. وهذا ما يمكن التأكد منه بسهولة من خلال تتبع أحوال السينما الأوروبية تحديدا، التي تجاهد لتقليد الأفلام السينمائية التجارية الأمريكية في سبيل الانتشار في الأسواق السينمائية سواء منها المحلية أو الخارجية فتتخلى في سبيل ذلك عن إنجازاتها الإبداعية التي تمثلت في العقود السالفة في اكتشافات مهمة على صعيد وسائل التعبير السينمائية الفنية والتي أوجدت أرضية خصبة لنشوء أهم المدارس والاتجاهات السينمائية التي أثرت في تطور اتجاهات السينما في العالم كافة، وبروز مخرجين متميزين كبار، كل منهم مدرسة بحد ذاته، ويفاخر بالتأثر بهم مخرجون كبار في أمريكا، مثل المخرج المؤلف والممثل الكوميدي وودي الان، الذي يجاهر بتأثره بالمخرج السويدي انغمار بيرجمان وعشقه للمخرج الإيطالي فيديريكو فيلليني لدرجة إخراج فيلم بعنوان ذكريات النجوم اللامعين ستار دست ميموريز، مقلدا فيه بكل صراحة فيلم فيديريكو فيلليني الشهير ثمانية ونصف. ويمكن ملاحظة حجم التراجع السينمائي الفني الأوروبي، من خلال ملاحظة خفوت وتيرة نشوء التيارات السينمائية في أوروبا منذ خمسينات القرن العشرين وأن آخر المدارس السينمائية الأوروبية المجددة والباحثة عن الجوهر الحقيقي لفن السينما وقدراتها التعبيرية، هي الجماعة السينمائية الدنماركية التي أسسها المخرج لارس فون تريتر وأعلن عنها ببيان رسمي في منتصف تسعينات القرن العشرين التي عرفت باسم الدوغما 95 والتي نشأت للتعبير عن موقف مضاد كليا للسينما التجارية الأمريكية شكلا ومضمونا وحتى مضاد لإنجازاتها التقنية الرقمية. لم تستمر طويلا وتراجع أصحابها عن بيانهم الذي أعلنوه والذي ضمنوه مبادئهم ومفاهيم السينمائية الثورية وأرفقوه بميثاق شرف أقسموا بموجبه على الالتزام بما فيه من مبادئ.

ما يهم بالعلاقة مع نسبة الثمانين في المائة، وأزيد أحيانا، ليس مدى الأرباح الهائلة التي تجنيها صناعة السينما الأمريكية، بل فداحة التأثير السلبي الذي تحدثه في الوعي البشري، سواء كان التأثير السلبي يتعلق بوعي مضاد لجوهر ورسالة السينما كفن وحقل ثقافي معرفي وذوقي أم بوعي أمور الحياة وما فيها من قضايا فكرية وسياسية واجتماعية ضمن منظور ورؤية أمريكية، إضافة إلى التأثير السلبي في أنماط السلوك الإنساني بما يجعله يتخلى عما هو أصيل ومتأصل لمصلحة ما هو منسوخ ومقلد للنموذج الأمريكي تحديدا.

نسبة الثمانين بالمائة من هيمنة السينما الأمريكية على شاشات العرض السينمائية والتلفزيونية في العالم، هي التحدي الأكبر الذي يواجه مخرجي الأفلام التي يتم إنتاجها في دول العالم الثالث النامية ذات القدرات الإنتاجية الضعيفة، الطامحين إلى تأسيس سينما وطنية أو على أقل تقدير إلى صنع أفلام تنتمي إلى السينما كفن وكفكر.

الخليج الإماراتية في 28 أغسطس 2006

 

سينماتك

 

يوميات مهرجان تطوان السينمائي 2005

بقلم أمير العمري

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك