جوني ديب هو رمز الجيل الناضج من نجوم السينما الهوليوودية الحالية، فهو يثير إعجاب الجمهور النسائي ويتميز بحس فني فريد يسمح له بمواجهة أصعب الأدوار أمام الكاميرا ويدفع به إلى خوض تجارب جانبية، مثل الكتابة والإخراج. وحاز ديب جائزة «سيزار» الفرنسية التقديرية عن مجمل أعماله وشكر الجمهور الفرنسي بطريقة طريفة جداً وهي تسجيل كلماته فوق جهاز وبث الشريط في قاعة الاحتفال، نظراً الى عدم إجادته الفرنسية في ذلك الوقت، أي قبل عامين. وعلى العموم، فإن جوني ديب يعشق فرنسا جداً في هذه الأيام من خلال حبه لسواد عيني شريكة حياته وأم طفليه المغنية والممثلة فانيسا بارادي التي وقع في غرامها بعدما انفصل في ظروف صعبة عن نجمة عرض الأزياء التوب موديل البريطانية كيت موس التي حاولت الانتحار بعدما تناولت كمية من المسكنات مع جرعة كبيرة جداً من الكحول ثم أشعلت النار في فراشها في المصحة حيث كانت تعالج، لكن تم إنقاذها في اللحظة الأخيرة. لمع ديب منذ السبعينات في أفلام مختلفة، مثل «إدوارد والمقص الذهبي» و «إيد وود» و «حلم أريزونا» و «الخوف في لاس فيغاس» و «دوني براسكو» و «دون جوان دي ماركو» متنقلاً بين الفكاهة والدراما والمغامرات والعاطفة تاركاً العنان لقدراته التمثيلية تحت إدارة أشهر المخرجين مثل أمير كوستوريتسا وجيم جرموش وتيم بورتون وتيري غيليام وجون واترز، غير أنه وقف وراء الكاميرا وأدار أحد ألمع عمالقة السينما العالمية، مارلون براندو، في الفيلم الأول الذي أخرجه بنفسه تحت عنوان «الشجاع». ومن أفلام ديب المميزة، كممثل، «الباب التاسع» من إخراج السينمائي الكبير رومان بولانسكي، وهو عمل خيالي مثير مأخوذ عن رواية تدور أحداثها بين الماضي القديم جداً والمستقبل البعيد، ولاقى الفيلم رواجاً كبيراً عند نزوله إلى الصالات في العام 1999. ومن الواضح لمن يتابع مشوار ديب السينمائي، ان النجم الشاب لا يعمل إلا مع مخرجين عمالقة أو على الأقل من الذين هم على وشك اقتحام أبواب النجومية المطلقة على مستوى الإخراج العالمي. ويبرر ديب اختيار هؤلاء المخرجين له لبطولة أفلامهم بأن هناك جيلاً جديداً من السينمائيين يعبر عن حياة الشبان ومشكلاتهم من خلال الكاميرا، ومن الطبيعي أن يختار هؤلاء ممثلين يلائمون شخصيات السيناريوات من حيث العمر والشكل، فهذه هي الموجة الحالية التي تأثرت بموجة منتصف القرن العشرين التي لجأت في حينه إلى خدمات مارلون براندو مثلاً. وعن موضوع زواجه من النجمة الفرنسية فانيسا بارادي، يردد ديب باستمرار أنه أسعد رجل في الدنيا بصحبتها ولا يقدر على فراقها أبداً، والدليل على ذلك انه أهداها منزلاً فخماً في الجنوب الفرنسي كي يقضي فيه معها ومع طفليهما أوقات فراغه. وشارك ديب قبل خمس سنوات في فيلم «دون كيشوتي» مع زوجته بارادي وتحت إدارة المخرج تيري غيليام، إلا أن الممثل الفرنسي جان روشفور الذي تولى أداء الدور الأول فيه أصيب بوعكة صحية منعته من استكمال عمله، غير أن الظروف الجوية تدخلت وهدمت كل ديكور الفيلم المبني خصيصاً في إسبانيا قبل التصوير ما أدى إلى توقف العمل وعدم إتمام الشريط. لكن الشركة المنتجة ركّبت الأجزاء المصورة وأكملتها بتحقيق تسجيلي عن المخرج والممثلين والفيلم «الملعون» في شكل عام ووزعت الشريط الجديد في الصالات في 2005 تحت عنوان «ضياع في لا مانشا». وآخر أفلام ديب المعروضة حالياً في الصالات عنوانه «قراصنة جزر الكارايبي: سر الخزانة الملعونة» وهو فيلم مكمل لجزء أول نزل إلى الأسواق قبل عامين، ويمكن وصفه بعمل جميل خلاب ومثير يؤدي فيه ديب شخصية قرصان طيب القلب يكافح الأشرار من أجل التخلص من لعنة أصابته في الماضي. ولمناسبة الحفل الافتتاحي لهذا الشريط في سينما «مارينيان» الضخمة في جادة الشانزيلزيه الباريسية بحضور فانيسا بارادي، إلتقت «الحياة» جوني ديب في كواليس الصالة وحاورته. · أنت دون جوان السينما الهوليوودية الحديثة، ولا شك في أن أفلامك تعتمد إلى حد كبير على وسامتك وجاذبيتك، غير موهبتك الفذة بطبيعة الحال التي تسمح لك بالتنويع في أدوارك، فما رأيك في موضوع قدرة مظهرك على جلب أجمل الأفلام إليك؟ - لم أقرر التمتع بمظهر وسيم، وهذا كلام منطقي سهل طبعاً، أما نجاحي في العمل السينمائي فيعود في رأيي إلى وقوعي في غرام مهنة التمثيل ورغبتي في ممارستها كوني تعلمتها طبقاً لأصولها مثل أي ممثل آخر، بصرف النظر عن قدرة ملامحي على فتح الأبواب أمامي. ولكن من ناحية ثانية فالجميع يعرف أن مهنة التمثيل مبنية أيضاً على الشكل الخارجي للفنان، إلا أن هذا الأخير من دون عنصر القدرة على الأداء لا يتمتع بأدنى قيمة، والدليل هو وجود عشرات بل مئات الممثلين والممثلات أو الذين يدّعون أنهم كذلك لمجرد أنهم من أرباب الملامح الجذابة، يسقطون في بحر النسيان بعد ظهورهم في فيلم واحد أو فيلمين على الأكثر أو يتجهون نحو لون المغامرات أو الإثارة الرخيصة حيث يعثرون على إمكانات للعمل إلى حد بلوغهم سن الثلاثين أو أقل من ذلك في بعض الحالات. إن جاذبية المظهر لا بد من أن ترافقها شخصية قوية وإلا باتت فارغة وسطحية ومع ذلك كله أعرف انني مدين لملامحي بأدواري، لكنني أيضاً مدين بها لطاقتي الفنية. · أنت عينت مارلون براندو الرجل الأكثر وسامة والأكثر موهبة في هوليوود ليؤدي بطولة الفيلم الذي أخرجته بنفسك تحت عنوان «الشجاع»، فكيف نجحت في تحقيق ذلك؟ - طالما تمنيت الاستعانة بمارلون براندو كممثل في أول أفلامي كمخرج، ولكنني لم أجرؤ أبداً على توجيه عرض العمل عليه، إذ كنت أخاف غضبه واعتقاده انني أنوي استغلال صداقتنا التي نشأت في ظروف سينمائية سابقة والاستفادة منها على الصعيد المهني. · كيف حدث اللقاء إذاً؟ - عملت كممثل إلى جوار براندو في فيلم «دون جوان دي ماركو» واكتشفت نقطة مشتركة بيني وبينه هي حبنا للهنود الحمر ودفاعنا، كل من جانبه في الماضي، عن قضية هؤلاء. وبالتالي نشأت بيننا صداقة فورية وقوية، وعندما سمع براندو عن مشروعي الخاص بكتابة سيناريو فيلم «الشجاع» حول مأساة الهنود الحمر وعلم بنيتي في إخراجه أيضاً، عرض علي خدماته من دون أن أطلب منه أي شيء، وأتركك تتخيل فرحتي في تلك اللحظة وكيف آمنت على الفور بأن الأحلام قادرة على التحول إلى واقع في حالات معينة، وأعترف بأنني مدين إلى حد كبير أيضاً للحظ في مشواري الفني وفي الحياة بصورة عامة. · كيف نجحت في إدارة مارلون براندو أمام الكاميرا في أول فيلم أخرجته؟ - فكرت في طلب النصيحة منه بدلاً من إدارته حقيقة، فهو لم يكن في حاجة طبعاً إلى توجيه من أي نوع. ثم ترددت كثيراً ولم أخضع لرغبتي حتى لا أثير القيل والقال من جانب أفراد الفريق العامل في الفيلم الذين كانوا يعتبرونني رئيسهم ورئيس براندو، بما أن المخرج يرمز في السينما إلى قبطان السفينة. ورحت أشعر بأن براندو كان يراقب تصرفاتي عن بعد ثم حدث في أكثر من مرة ان همس في أذني نصيحة صغيرة في شأن موقف أو آخر. وأعترف الآن من دون أدنى خجل بأن مجرد وجود مارلون العملاق إلى جواري هو في حد ذاته شيء ساعدني في شكل لا شعوري على مواجهة الكثير من مشقات الإخراج. · هل وقعت في غرام باريس بعد تعرفك إلى فانيسا بارادي؟ - نعم ولا، فأنا كنت أعرف باريس وفرنسا جيداً في الماضي وكنت أعشق القدوم إلى باريس وقضاء وقتي بين متاحفها ومطاعمها وساحاتها الفريدة من نوعها في العالم كله، ولكن هذا الحب «السياحي» (يضحك) شبه العادي تحول لهفة عقب تعرفي إلى فانيسا ومجاورتي لها وزواجنا. فقد أصبحت فرنسا وباريس في شكل خاص، وطني مثل الولايات المتحدة تماماً وأنا أقضي كل وقتي هنا إلا عندما أضطر إلى السفر للعمل في فيلم ما. · وهل تعشق فانيسا بارادي الولايات المتحدة؟ - اسألها بنفسك في ما بعد، فهي موجودة هنا، لكنني أعرف أنها تحب أميركا بالفعل ولكن ربما أقل مما أحب أنا فرنسا. · هل أنت مولع بأدوار المغامرات مثل الدور الذي تؤديه في «قراصنة جزر الكاريبي» بجزءيه الأول والثاني؟ - نعم، فهذا اللون من الأفلام هو الذي علمني وغرس في نفسي حب السينما في طفولتي، حالي حال كل الصغار تقريباً. أليس كذلك؟ وأنا عندما أجد نفسي الآن أمام الكاميرا أؤدي شخصية قرصان أو مغامر أو شرير أو عميل سري شجاع أتذكر أيام الصبا وأعتبر نفسي في حلم أو على الأقل في حلم تحول إلى واقع مثل حكاية مارلون براندو بالتحديد. ومرة أخرى أقول ان الحظ حليفي في هذه الدنيا. · هل يعني كلامك أنك تلعب أمام الكاميرا مثل الطفل الذي يلعب مع أصدقائه؟ - (يضحك بصوت عال) هذه هي الحال تماماً، إلا أنني أضع بعض الجدية والروح المهنية في الموضوع، ما لم أكن أفعله في صباي طبعاً. · ماذا عن الأدوار الأخرى؟ - كل الأدوار تحتاج إلى لعب، لكن بعضها لا يمكن مقارنته بألعاب الصغار ما لا يمنعني من تقديرها، وأيضاً أكثر من ذلك فأنا أشترط التنويع المستمر في أفلامي وأفضل البقاء فترات طويلة بلا عمل، على الظهور في أدوار تشبه بعضها بعضاً وتمنح جمهوري الانطباع بأنه يراني في شخصيات تكرر نفسها. الحياة اللبنانية في 28 يوليو 2006
«السمفونية المغربية» لكمال كمال... الموسيقي قادم من صبرا وشاتيلا والجمهور والعازفون من مهمشي البؤس الدار البيضاء - مبارك حسني لم يختر كمال كمال، المخرج القادم من مدينة بركان المغربية الشرقية، السهولة بالنسبة الى فيلمه المطول الثاني «السمفونية المغربية». فلقد اختار أن يتبع حلمه إلى نهايته ويحاول تحقيقه، الأمر الذي ليس يسيراً لكون الحلم هو إخراج فني كبير لـ «سمفونية فيلهارمونية» وذلك عبر قناة الفن السابع. في الحقيقة كمال كمال هو مؤلف موسيقي قبل أن يلج عالم الإخراج، وسبق له أن أخرج الكثير من المقطوعات الموسيقية، وأخرج الكثير من الفيديو كليبات في بدايات تعامله مع الصورة، وبالتالي فقد اجتمع لدى الفنان (الصورة والنغمة)، وها هو يجرب فيلماً سينمائياً تطغى فيه الموسيقى من البداية حتى النهاية، وتشكل الخلفية الدرامية ومحرك الحكي في الوقت ذاته. لكننا لسنا أمام فيلم غنائي بالمعنى المتعارف عليه كلاسيكياً، ولكن إزاء فيلم يجاور ويحاور الموسيقى في شكل فني وإبداعي. والسؤال الذي يطرح عندها هو: من يمتح من الآخر، السينما أم الموسيقى؟ أي بمعنى آخر هل: اغتنت السينما بالموسيقى وتم إنقاذها في أجواء الفيلم؟ للإجابة لا بد من دراسة ما قدمه كمال كمال من دراما سينمائية في هذا الشريط وما طرحه من أفكار سينمائية، والكيفية التي نصب بها «سمفونيته» ليسرد حكايته. لكن يمكن القول بداية إن المخرج تخير موضوعاً أصيلاً وغير مسبوق، لكن هل نجح في المحاولة؟ حكاية «مشردين» رائعين لنرَ القصة. يتعلق الأمر بمجموعة من الأشخاص الهامشيين الذين يعيشون في مقبرة للقطارات المتهالكة. يقطنون في عربات قديمة ومهترئة تحيط بها جبال من الحديد الصدئ المتراكم. وتوجد في ضاحية الدار البيضاء بالقرب من أحد شواطئ المحيط الأطلسي. وهم ليسوا مجرد «شمكارا» أي مهمشين يعيشون على إدمان المخدرات أو المسكرات. نعم فيهم السكير والعربيد والمومس واللص والمهووس، يبدون مثل حثالات بشرية من دون أوهام ولا طموحات، لكن في الوقت ذاته يظهرون كأفراد عائلة واحدة يجمعهم حب الموسيقى. تشكل الموسيقى العنصر اللاحم بينهم كما تشكل الأمل الوحيد الذي فضل لهم لكي يحققوا شيئاً ذا بال بعد أن ضاعت منهم الحياة ولكي ينسوا جراحاتهم الدفينة السابقة. فالمهمش لا يكون كذلك من دون ماض مؤلم وقاسي. وهي حال بطل الفيلم. أستاذ الموسيقى والمناضل الثوري السابق الذي فقد ذراعه والذي لم يستطع التخلص من ذاكرته الثورية المدماة كفدائي في الفصيل الفلسطيني بلبنان إبان مجزرة صبرا وشاتيلا. فمخياله ومنامه ومعيشه تملأه صور وكوابيس العنف والقتل والدم والمجزرة. والى جانبه يقف المؤلف الموسيقي والمايسترو السابق والذي لم يتمكن من تحمل فقدان حياة دعة وألق سابقة. فكل واحد يعيش في مقبرة القطارات على ذكرى حدث أو شخص ما في زمن آخر يبدو أفضل وأحسن. وسيجدون خلاصهم لما سيتم اقتراح لعب سمفونية موسيقية حقيقية في قاعة «ألبرت هال» الشهيرة بلندن. ستكون فاتحة أمل وكوة ضوء يتلقفونها بحب وسيعملون على إنجاحها وسيراسلون مديرها. وبفضل الأمر سيتحولون من مجرد مهمشين إلى أشخاص عاديين يعملون على تحقيق تحدٍ حياتي مجدٍ وحقيقي، يصير مسألة موت أو حياة حتى. وحتى لما قوبل الطلب اللندني بالرفض استمر الحلم واستمرت الرغبة. فالفرصة أتيحت لكي يرفعوا من قيمة حياتهم ويرون في التحدي فرصة للثأر من البؤس والضياع، فالعجيب أنهم كلهم تلاميذ قدامى في المعهد الموسيقي بالدار البيضاء، هذا الصرح الفني العتيق الذي يطاوله النسيان. والمثير أن الوقائع تحصل في ديكور غير معهود تمت صيغ وبني في مقبرة كبيرة ومملوءة للقطارات التي تمت إعادة توظيفها واستغلالها فنياً. وهكذا نرى أن المخرج لم يوظف ويؤلف الموسيقى فقط بل قام بعمل تشكيلي من خلال توظيفه للمقبرة ومحتوياتها وإعادة ترتيبها وبنائها بحسب تصور شخصي، أي أنه قام بإعادة تشكيل للمادة الموجودة المتروكة والمهملة كما قد يفعل أي فنان تشكيلي. المهمشون يعيشون في مقطورات صارت مساكن ومنازل أعيد توظيفها. فعندما ستأتي مثلاً الفتاة الوحيدة الضائعة إلى عربة المناضل الثوري لتقطن برفقته ستقوم بترتيب محتوياتها محولة إياها من أنواع الحديد الصدئ إلى نوع من صالة عرض فنية. وهكذا تباعاً يمنح المخرج لهؤلاء المهمشين المتألقين حياة أخرى معادلة وثانية ما يجعلهم يعانقون مذاق الحياة من جديد. أي أنهم يبعثون من جديد. والحقيقة إن التشكيلية هنا تساهم إلى جانب المعطى الموسيقي كمتوازية حكائية ثانية. فالفيلم في آخر المطاف يبدو كما لو أن مخرجه كانت له نية خلق قطعة فنية حية متعددة وأصيلة. وقد أخذ مساحة كبيرة من الحرية في اختراقاته الفنية وهو أمر لا يمنحه سوى الفن السابع. وللتدليل على هذا نسوق مثالاً واحداً غنياً بالدلالات. ويتعلق بإعادة التوزيع الناجحة والقوية التي قام بها للأغاني الكلاسيكية المغربية المعروفة وخصوصاً مقطوعة فرقة جيل جيلالة الشهيرة « دارت بنا الدورة». وقد شكلت عند العرض في القاعات السينمائية مفاجأة جميلة، الشيء الذي أدى إلى نشر قرص خاص بها وتسويقه بنجاح. وجاء توظيف الموسيقى في قوالب صورية مبتدعة كلقطة صفحة النوتات الموسيقية التي تمت كتابتها بالشموع المضيئة ليلاً والموزعة على مساحة أرضية كبيرة. ولقطة الحلقات الدائرية الكبيرة لنيران يشعلها ممثل ليلاً، وهو يعدو راقصاً رقصة هندي أميركي، تباعاً في توازٍ مع موسيقى قوية وموحية. الحدوتة الدرامية أما «الحدوتة» فموجودة. وهذا هو المهم. فكمال كمال حاول إقحام تعابير فنية مختلفة لخلق مسار فيلمي ذي أهداف متعددة ومختلفة. وهو نجح في تأليفه الموسيقي وفي توظيفه التشكيلي للفضاء وفي التوزيع الجديد لأغانٍ قديمة، لكن هل نجح سينمائياً، أي هل وفق في تحقيق الأثر الدرامي للفيلم؟ الفيلم في حكايته يسرد علينا قصة مناضل بُترت يده في الحرب، لكنه سجين ذاكرته المؤلمة والهزيمة التي كسرت حياته (الكثير من لقطات الفلاش باك تظهر أجواء حرب فدائية عنيفة وظلال الخروج من بيروت...). لكنه في الوقت نفسه يعيش صراعات يومية مع رفاقه في الهامش وفي الفرقة الموسيقية كالعازفة اليهودية على سبيل المثال والتي جعلت المخرج يقحم كلمة «التسامح» الواجب بين المسلمين واليهود(!) فخلال حوار حار بينهما يتم اعتبار الميت ميتاً ولا يحمل دينه في جثمانه عندما يقتل أو يموت(!!) لكن الحدوتة تقوم في الأصل في العلاقات الموجودة بينه وبين المؤلف الموسيقي والمايسترو (ألا يمكن أن يكونا في الأصل شخصاً واحداً؟ لقد لاحظنا الثنائية الازدواجية نفسها في فيلم كمال كمال الأول الناطق باللغة العربية الفصحى «طيف نزار»). العلاقة هذه هي التي تسير بالحكي وتطوره من خلال حلها لكل المشكلات التي تنشب ما بين أعضاء الفرقة والمشردين، وهما اللذان يقومان بتهييئ الأجواء لعزف السمفونية الكبرى المرتقبة. وهنا يقحم كمال كمال حدثاً جريئاً وغير مسبوق البتة. فقد جعل شخصية أميرة من الأسرة الحاكمة ترعى السمفونية وتحضر الحفل الأخير، فيظهرها آتية في موكب رسمي تحف به الدراجات النارية للمرافقين وارتدت لباساً تقليدياً متألقاً كما هو مألوف لدى الأميرات، وتستقبل في مدخل مقبرة القطارات التي تحولت إلى قاعة أوبرا مفتوحة في الهواء الطلق، بجوقة الشرف الموسيقية الرسمية! لكن الأحداث تتوالى طيلة زمن الفيلم أحياناً في الشكل الواقعي المقبول وأحياناً أخرى بغير ذلك. ففي البداية التقديمية للشخوص تم التعرف إليهم كمشردين من خلال لباسهم ومظهرهم الخارجي وليس بتقديم الفضاء العام، وهو ما حدث في ما بعد فقط. كما أن وقائع معينة فقدت شيئاً من حدتها المرجوة كهرب الراقصة المومس الفاتنة ومحاولتها الانتحار من على الصخر عند البحر، أو وقيعة سرقة الأكورديون من محل آلات موسيقية (إشارة ذكية تجاه أحد المحلات النادرة لهذا النوع من التجارة الفنية النقية والتي تنقرض تدريجاً من الدار البيضاء...). لكن هذا لا ينقص من قوة وقيمة الشريط الذي بدا جليا أنه عانى من نقص الإمكانات ومن قلة الوقت اللازم للتصوير المكتمل. وقد أنقذه في الحقيقية الأداء المتميز المحترف الذي قدمه عدد من الممثلين المعروفين المخضرمين منهم والجدد على حد سواء: مولاي عبدالله العمراني برصيده الفني الكبير، والنجوم حقاً: يونس ميكري صاحب رائعة الأغاني «ليلي طويل» بقدرته على حمل مأساة مناضل سابق وعكسها صورياً، وخالد بنشكرة بلعبه الجدي والمتأني والمعبر، والشابين المقتدرين رفيق بوبكر وعزيز حطاب، والمتألقة ماجدولين... فقد قدموا لعباً حيوياً ومنخرطاً في شكل كبير في الأجواء التي خلقها المخرج كمال كمال. وكان واضحاً أنه استطاع تطويع إمكاناتهم التشخيصية لكي يلينوا لحلمه السينمائي الموسيقي التشكيلي. الحياة اللبنانية في 28 يوليو 2006
فيلم يعرض وجها انسانيا للاعتداء على برجي مركز التجارة العالمي ويتوقع له النقاد ان يفوز بجائزة الاوسكار. لوس انجليس – من تانغي كيمينير قبل عشرة ايام من عرض فيلم "وورلد تريد سنتر" (مركز التجارة العالمي) للجمهور اغدقت اقلام النقاد الثناء على هذه الفيلم الذي اخرجه اوليفر ستون عن احداث 11 ايلول/سبتمبر في نيويورك رغم ما اثارته في البداية "المعالجة القاسية" التي اشتهر بها مخرجه من شكوك. يروي الفيلم الذي يعرض في دور السينما في اميركا الشمالية في التاسع من اب/اغسطس المقبل قبل شهر من الذكرى الخامسة لهذه الاعتداءات قصة حقيقية لشرطيين حوصرا بين انقاض برجي نيويورك التوأمين. وكان اوليفر ستون اوضح لدى اعلان شركة باراماونت المنتجة عن المشروع في تموز/يوليو 2005 "مع ان الفيلم يتناول قصة بطولة في بلدنا الا انها عالمية في بعدها الانساني. انه عمل جماعي مفعم العواطف وتأمل جاد لما حدث يحمل في طياته تعاطفا يتيح الشفاء". ويبدو ان اختيار ستون لتسجيل وقائع حادث جلل في تاريخ الولايات المتحدة جاء في محله حيث سبق لهذا المخرج ان عالج حرب فيتنام في "بلاتون" (كتيبة) واغتيال جون كينيدي في "جاي.اف.كي" واستقالة ريتشارد نيكسون في "نيكسون" او موجة ثورة الشباب من خلال الموسيقى في نهاية الستينات مع "ذي دورز" على اسم الفرقة الموسيقية الشهيرة انذاك. لكن ستون البالغ التاسعة والخمسين من العمر والحاصل على ثلاث جوائز اوسكار من بينها جائزتا افضل مخرج عن "بلاتون" عام 1987 و"بورن اون ذي فورث اوف جولاي" (مولود في الرابع من تموز/يوليو) عام 1990 تعرض ايضا للنقد بسبب القسوة الشديدة التي اتسمت بها بعض اعماله مثل "ناتشرل بورن كيلرز" (قتلة بالفطرة) المفرط في العنف. ويوضح ناقد الافلام لوي هاريس المسؤول التحريري عن موقع "موفيز.كوم" الالكتروني ان ستون "معروف بانه مخرج جيد جدا لكنه ايضا يتعمد صدم مشاعر المشاهد لتمرير رسالته" مشيرا ايضا الى ان ستون معروف انه مهووس بـ"نظريات المؤامرة". لكن هاريس الذي كان من النقاد القلائل الذين شاهدوا العمل في عرض خاص اول يقول ان "وورلد تريد سنتر" تجنب الوقوع في هذا الفخ. واوضح "انه فيلم يحكي عن ابطال ويثير حقا مشاعرنا... ستون يروي قصة مثيرة يؤدي فيها نيكولاس كيج دوره ببراعة لا مثيل لها". ويضيف "يظهر كيج نصف الفيلم مطمورا تحت الانقاض ويكاد لا يستطيع النطق .. نرى فقط عينيه تعبران باقتدار فريد يستحق عليه الاوسكار وستكون صدمة لي ان لم يرشح" لهذه الجائزة معتبرا ان "وورلد تريد سنتر" يمكن ان يكون الفيلم الذي سيخلد ستون. هذا الرأي يشاركه فيه ايضا الناقد رودجير فريدمان في شبكة فوكس نيوز التلفزيونية المحافظة المتشددة التي لا يفترض ان تظهر تعاطفا مع مخرج يصنف كيساري اذ يقول "ستون اخرج فيلما راقيا وقويا ومؤثرا وشخصيا حقا". من جانبه يقول الناقد ديفيد بولاند في نشرته الالكترونية ان "الفيلم كان على حد سيف. والسؤال لم يكن ما اذا كان سيفشل بل متى سيحصل ذلك. لكن ولسعادتي الكبرى تمكن ستون وفريقه من النجاح وارى ان الفيلم هو اول منافس جدي على اوسكار افضل فيلم لهذا العام". ومن اسرار نجاح هذا العمل كما يرى هاريس هو ان ستون تفادى لمرة واحدة اي تلميحات سياسية "ما عدا في البداية عندما عرض مشاهد نشرات اخبارية (اخذها من ارشيف التلفزيونات) تظهر اناسا في جميع العالم يشاهدون الهجوم على البرجين وهم يبكون". واعتبر انه من الواضح ان الرسالة هي ان "العالم لم يعد ينظر الينا الان بهذه النظرة". الحياة اللبنانية في 28 يوليو 2006 |
أخرجه مخرج "الحاسة السادسة" و"غير قابل للكسر" "السيدة في الماء" سقوط سينمائي وأخطاء بالجملة محمد رضا الدقائق العشر الأولى من فيلم شيامالان الجديد “سيدة في الماء” تعلمنا أن هناك شيئاً خطأ في تركيبة هذا الفيلم اللغوية والمنطقية. الفيلم يبدأ بكليفلاند هيب (بول جياماتي) وهو المشرف على مجمع سكني وهو يستقبل ساكناً جديداً هو هاري فاربر (بوب بالابان) الذي يعمل ناقداً سينمائياً. من تلك اللحظة الى اللحظة التي يقفل فيها هاري باب شقّته الجديدة في وجه كليفلاند (نحو ثماني دقائق)، هناك خلط في ترتيب المشاهد يثير التعجّب. منها، أن المشرف يترك الساكن الجديد واقفاً في الممر وينصرف الى بحث حالة غريبة تقع في حوض السباحة التابع للمجمّع. ومنها رغبة المخرج في توظيف المسافة بين مكتب المشرف حيث ترك الساكن الجديد والشقّة التي سيشغلها هذا الساكن للتعريف ببعض ساكني المجمّع. اختياران غير صائبين من ناحية التوالي الطبيعي للأحداث، كما من ناحية تدخّل المخرج في سرد الحدث الى درجة عرقلته. هذا التدخّل سيستمر طوال الفيلم وسيعرقل العمل بأسره. “سيدة في الماء” الفيلم الخامس للمخرج شيامالان منذ أن طفا على وجه الماء بدوره في “الحاسة السادسة”، هو أسوأ ما حققه الى اليوم. هذا لا يعني أن “الحاسة السادسة” و”غير قابل للكسر” كانا رديئين، لكنهما بالتأكيد مثّلا وضعاً يشبه من ينطلق من أعلى نقطة في الجبل ثم ينحدر عنها فيلماً وراء آخر. “الحاسة السادسة”، على عيوب فيه، كان أفضل من “غير قابل للكسر”، هذا كان أفضل من “إشارات” وذلك أفضل من “القرية” و”القرية” أفضل من “سيدة في الماء”. ومع هذا الانحدار كانت هناك جرعة إضافية في كل مرة من التباهي بالذات تستطيع أن تشعر بها مثل سهم يخترق الشاشة ويحرق المسافة القصيرة بين ما كان مأمولاً من هذا المخرج وبين ما انتهى إليه. إنه عن كليفلاند الذي كان ذات مرة طبيباً متزوّجاً ثم خسر زوجته وابنته ووظيفته وانتهى مسؤولاً عن خدمات هذه البناية السكنية المؤلّفة من أربعة أدوار. إنه يتلعثم حين يتكلم ويعيش منفرداً حاملاً أعباء عاطفية داخلية لا يستطيع التخلص منها. حتى ظهور إمرأة عارية تماماً في شقّته ذات ليلة، وبقاؤها عنده ليالي عدة من دون أن يفعل شيئاً لكي يستعيد تلك الرجولة المتأرجحة بين ذكرياته. وتلك المرأة هي ستوري (برايس دالاس هوارد) الحورية التي تسللت الى هذا العالم من أعماق المحيط عن طريق المسبح. لقد لاحظ المسؤول ومنظّف المسبح أن الماء تعتريه رغوة غريبة ولزجة. هذا قبل أن يكتشف كليفلاند وجود ستوري فيه ويأخذها الى شقّته قريباً من المسبح فترتدي قميصاً لا تغيّره طوال الفيلم. وهي تحكي قصّتها خائفة، ثم تنام ليلتها الأولى بين ذراعيه ومن اليوم الثاني يسعى كليفلاند، وقد صدّق كل كلمة قالتها الحورية له، الى محاولة معرفة السبيل لإعادتها الى حيث جاءت، كما رغبتها، وتجنيبها وحوشاً ضارية هبطت الى المكان على حين غرّة تريد أن تقضي عليها. وهو لا يستطيع إيجاد السبيل وحده. عدد كبير من سكّان العمارة، بينهم الكورية يونغ سون (سيندي تشونغ) وأمها، ومستر دوري (جفري رايت) وابنه والكاتب فيك (شيامالان نفسه) وشقيقته (ساريتا شودهوري) وكل أفراد عائلة مكسيكية وكل مجموعة من الرجال يسكنون شقّة واحدة ويمضون الوقت في الثرثرة والشرب والتدخين. هل نسيت أحداً؟ نعم هناك مستر ليدز (بل إروين) ومسز بل (ماري بث هارت) يتدخلان أيضاً وكل هذه المجموعة للمساعدة على إرجاع ستوري الى عالمها. ما ينتج عنه كل هذا هو رطل من الحوارات الطويلة. واحد من كل هؤلاء سيكون الحارس الذي سيهزم الوحش الضاري بمجرد النظر الى عينيه! لكن أي منهم هو هذا الحارس؟ الكاتب شيامالان يمضي وقتاً طويلاً في رصف مفارقات باهتة التأثير بغية تعميق فكرة غرائبية ترفض أن تحتل مكانها في بال المشاهد أو في حسّه من فرط افتقارها الى الزاوية الصحيحة التي يمكن للمشاهد دخول الفيلم عبرها. شيامالان في السابق كان قادراً على إيجاد هذه الزاوية وسرد فيلم قائم على مفاجأة كبيرة تقع في نهاية العمل. في هذا الفيلم، كما في “القرية”، بات يتّكل على الفكرة وحدها كما لو كانت كافية لإنجاح فيلم، فما البال إذا كانت الفكرة، كما الحال هنا، هلامية، مستفيضة في شرح ما لا يثري بل يزيد المشاهد ثرثرة حوارية لا تنتهي. وفي حين أن “القرية” حمل مفاجأة في النهاية، بصرف النظر عن نجاحها أو عدمه، فإن “سيدة في الماء” لا يحمل أي مفاجأة. قبل ذلك، كلما اجتمع سكّان العمارة ليتداولوا أمر ستوري، تم الاجتماع في الحمّام. لسبب غير مفهوم، تلجأ ستوري، ربما بعدما ملّت الجلوس في غرفة كليفلاند، الى حمّام شقّة فيك وشقيقته أنا فتجلس على أرضه يتبعها السكّان مشكّلين جمهرة تطلق النظريات وتتبادل النظرات ولا يتحرّك الفيلم الى الأمام في نهاية كل جلسة (او وقفة) بل يبقى في مكانه. ولماذا كل ذلك الكم من الحوار الذي ما أن يسبر طريقاً ليبلور موقفاً حتى يتبيّن أن الطريق مسدود تماماً كحال مستر دوري هاوي الكلمات المتقاطعة وهو يحاول النفاذ من مربّع الى آخر. شيامالان (الذي يظهر ممثلاً أيضاً في هذا الفيلم) أصبح عنوان العمل وليس مخرجه. بهذا أعني أن تراجعه من المقدّمة التي احتلّها بفيلم “الحاسة السادسة” له علاقة بكم أصبح يبلور المشروع بناء على اسمه وفكره وموهبته. ما عدنا الآن نرى فيلماً من إخراج شيامالان بقدر ما أصبحنا نرى شيامالان. مثل عديدين قبله في السنوات العشرين الماضية، أصبح هو كل الصورة عوضاً أن يبقى جزءاً من الصورة العامة المنضوية تحت الفيلم نفسه. الحال هنا هو أن هذا الفيلم فكرة جيّدة تبحث عن قصة، والقصة تبحث عن كاتب والكاتب يبحث عن مخرج. هناك عثرات وأخطاء في المفردات كما في المعالجة في الكتابة كما في الإخراج وهذا مكشوف في برودة العلاقة التي تنتج سريعاً بين الفيلم والمشاهد وفي ذلك الضحك الذي ينتاب البعض من المشاهدين في مشاهد من المفترض أن تكون جادة ومشوّقة أو متوتّرة. شيامالان يضع عوائق تحول دون سلاسة الفيلم. بطله يتأتىء. هذه عثرة يوظّفها المخرج قليلاً (من حيث أن تأتأة الشخصية تختفي بسبب تلك الحورية التي تستطيع قراءة الماضي والمستقبل معاً) لكنها تتحوّل الى عائق. حاجز إضافي بين الشخصية وبين قبولها. عليك أن تستمع أولاً الى تأتأته ثم الى كلامه. وهكذا الحال مع الشخصيات الأخرى، وكلها مقصودة لذاتها، لكنها تبقى في مكانها من دون أن تتبلور. شيامالان في الأساس ليس تائهاً عما يريد إنجازه (الساكن مستر ليدز الذي يقوم به بل إروين يتابع مشاهدة المجازر في فلسطين على التلفزيون- انما عليك الإمعان في بعد الشاشة داخل الشاشة والاستماع الى شكواه من “العنف في هذا العالم” لكي تدرك ذلك). الناقد السينمائي فاربر (بوب بالابان) لابد يرمز الى شيء أعمق من الصورة النمطية التي اختيرت له. إنه رجل مبتعد عن الواقع غائص في فهمه هو للأمور. لا عجب أنه الشخصية الوحيدة التي تلقى حتفها. قبل موته بأنياب الوحش (لا نرى ذلك بل نسمعه ثم يغفل الفيلم العودة الى الواقعة) يقول لكليفلاند المتعَب: “لم يعد هناك فكرة أصيلة في العالم”. وسواء أهذا هو نوع من تبرير المخرج للفيلم أو مجرد مزحة كاريكاتورية لناقد سينمائي يرى نفسه أكثر فهماً بتميّزه عن الآخرين، الا أن مفاد ذلك لا يترك تأثيراً على الفيلم بقدر ما تبدو الشخصية طفرة إضافية خُلقت في الفيلم لكي تموت. المفكرة .... مهرجان تحت نجمة داوود تم افتتاح مهرجان العالم العربي في باريس ربما تماشياً مع أن قسماً كبيراً من هذا العالم العربي أصبح ذيلاً لذلك الرمز الصهيوني. لكن إذا كنت تعتقد أن هذا الخطأ المرتكب في دورة هذه الأيام العصيبة يشغل بال القائمين على المهرجان أو على الجهة المنظّمة وهي “معهد العالم العربي” فإن الحقيقة مخالفة، فهناك مشكلة “أعوص” بكثير يوفرها لي أحد المتعاونين القريبين من المهرجان حين سألته عن السبب الذي لا تغطي فيه الصحافة العربية -حسب متابعتي لها- المهرجان، إذ قال: “السبب بسيط: لا يوجد نقاد وصحافيون سينمائيون كثيرون ولا حتى عدد كبير من السينمائيين”. إزاء ذلك من الممكن لنا أن نعتقد أن السبب هو إلغاء هؤلاء أسفارهم الى العاصمة الباريسية لأن الفيلم الكبير هو ذلك الذي يحدث على جبهة القتال العربية- “الإسرائيلية” في لبنان، لكن المتحدّث أضاف: “لا، قلة الحضور ناتجة عن عدم توفّر دعم مادي يمكّن المهرجان من توجيه الدعوات للاشتراك به. الميزانية شحيحة الى حد أن الدعوات حُدّدت بثلاثة أيام، طبعاً مسألة يجد كثيرون أنها لا تستحق الحضور لمثل هذه الفترة المحدودة”. صندوق من أفلام همفري بوغارت ولورين باكول تم إطلاقه يحتوي على أربعة أفلام مثلاها معاً هي “لكي تملك أو لا” [إخراج هوارد هوكس-1945] “النوم الكبير” [هوارد هوكس- 1946]، “الممر المعتم” [دلمر دافز- 1947] و”كي لارغو” [جون هوستون- 1948]. همفري بوغارت في مطلع الأربعينات كان انتقل من أدوار الشر الصغيرة في أفلام العصابات الى أدوار البطولة الخيّرة. والأفلام المذكورة لديها ما ترويه في نطاق استعراض مرحلة مهمة من مراحل مهنته التقى فيها بلورين باكول خلال تصوير “لكي تملك أو لا” (المشهد الشهير الذي تسأله فيه “تستطيع أن تصفّر، الا تستطيع؟ تضع شفتيك على بعضهما وتنفخ”) وتزوّج منها قبل دخول “النوم الكبير” في العام التالي. “تملك أو لا تملك” عن بحّار مهدد في بلد أجنبي، “النوم الكبير” بوليسي من كتابة الروائي الأشهر في المجال رايموند شاندلر، “الممر المعتم” عن متهم بريء يهرب من السجن ليثبت براءته أما “كي لارغو” فعن عصابة تقتحم يختاً وتحتجز من فيه. “الملك والمهرّج” فيلم كوري لا يملك مزايا فنيّة كبيرة ولا حتى يشبه تلك الأفلام الكورية التي تقتحم معاقل المهرجانات وتترك فازت أو لم تفز أثراً كبيراً. لذلك كان نجاحه في السوق الكورية (المستمر الى اليوم منذ مطلع السنة) مفاجأة كبيرة دلّ عليها إقبال 12 مليون مشاهد دفعوا نحو 70 مليون دولار الى الآن. تستطيع أن تسمّيه ب “بروكباك ماونتن” الكوري. فيلم آنغ لي الأمريكي استخدم الوسترن لسرد قصّة حول حب مثلي. “الملك والمهرّج” يستخدم التاريخ والفولكلور ليحكي عن مهرّجين أحدهما وسيم يلعب الأدوار النسائية يقع الملك في حبّه. هل يكون هذا هو السبب الذي من أجله أقبل الكوريون على الفيلم؟ لا أعتقد ولو أنه عنصر ما كون السينما الكورية لم يسبق لها أن طرحت مثل هذه المفاهيم في أفلام رئيسية من قبل. حين يبدأ “الملك والمهرّج” تتوقّع أن يوظّف المخرج لي دجون- إك الشاشة لسبر غور الحكاية التي يُقال أنها وقعت في القرن السادس عشر. لكنه لا يفعل. بعد ربع ساعة تكتشف أنك في حضور أول فيلم كوري ممل شاهدته في حياتك، الا إذا كان هذا الفيلم هو أولها على الإطلاق. م. ر: merci4404@earthl الخليج الإماراتية في 30 يوليو 2006
كتاب «هتشكوك / تروفو»: درس في الفن والنقد و...التواضع إبراهيم العريس «عزيزي السيد هتشكوك. اسمح لي أولاً أن أذكرك بمن أكون. فقبل بضع سنوات، أواخر العام 1954، حين كنت لا أزال في الصحافة السينمائية، جئت مع صديقي كلود شابرول لنجري معك حواراً في استوديو سان موريس، حيث كنتَ تشتغل على تقنيات مزج الصوت لفيلمك «امسك حرامي». يومها طلبت منا أن ننتظرك بعض الوقت في بار الاستوديو ريثما تنجز عملك. وهناك، من جراء الإثارة التي أحدثتها لدينا مراقبتك وأنت تراقب ما يزيد عن 15 مرة المشهد نفسه من الفيلم يمر أمام ناظريك وفيه كاري غرانت وبريجيت أوبير، حدث أن سقطنا شابرول وأنا، في غفلة منا، في حوض مملوء بالماء المجمد موجود وسط البار. عندها وافقت أنت، وبكل كرم، أن تؤجل الحوار بعض الوقت، ما مكننا من أن نجفف ثيابنا، ونلتقيك ذاك المساء في فندقك. لاحقاً، في كل مرة كنت تأتي فيها الى باريس، كنتُ أجد متعة خالصة في لقائك. بل حدث مرة، بعد عام من ذلك أن قلت لي: «كلما شاهدت وعاء فيه مكعبات من الثلج أفكر فيك»... أرجوك أن تقبل، عزيزي السيد هتشكوك، عميق تحياتي وإعجابي... المخلص فرانسوا تروفو». هذا المقطع هو، كما يخمن القارئ بسرعة، جزء من رسالة طويلة بعث بها المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الى زميله الأميركي – الانكليزي الأصل – ألفريد هتشكوك أوائل شهر حزيران (يونيو) 1962. في ذلك الحين كان تروفو قد أضحى مخرجاً كبيراً معروفاً، وكان الحوار الآنف الذكر قد نشر منذ زمن بعيد وأثار ضجة، بل كان أول اعتراف قوي بمعلمية هتشكوك في النقد الأوروبي. ولعل هذا، ولطف معلم سينما التشويق، زائداً، ذكريات حكاية الماء المجلد، ما دفع تروفو الى أن يحاول، من جديد، محاورة هتشكوك... ولكن، الى حد ما، محاورة الند للند هذه المرة. وإذ استجاب المعلم، كانت النتيجة واحداً من أهم الكتب السينمائية في تاريخ هذا النوع من الأدب: أدب الحوار الشامل بين مخرج عريق ومخرج يضع قدميه على سلم المجد، من دون أن ينسى أنه، في الأصل، ناقد سينمائي، وقبل هذا وذاك هاوي سينما. > هذا الكتاب، ويعرف عادة باسم «هتشكوك/ تروفو» صدر للمرة الأولى في العام 1966، وهو منذ ذلك الحين يعتبر مرجعاً أساسياً في تاريخ أدبيات السينما، والعمل الذي يسعى كثر الى محاكاته، من دون أن يتمكن أحد من ذلك، إذا استثنيا الكتاب الذي وضعه المخرج بيتر بوغدانوفتش، مع أورسون ويلز، ومع هذا من يقرأ الكتابين يدرك بسرعة تفوق كتاب هتشكوك على كتاب ويلز. والى هذا يعتبر الأول المرجع الأساس أيضاً للتبحر في سينما هتشكوك، ومن ثم لإدراك الأسباب التي جعلت النقد الأوروبي يخص هتشكوك بمكانة كبرى، لم يكن النقد الأميركي متنبهاً اليها أول الأمر. مهما يكن، فإن ما لا بد من الإشارة إليه هنا هو أن مجلة «كراسات السينما» التي كان تروفو بدأ الكتابة فيها باكراً وقبل سنوات من تحوله الى الإخراج، كانت من أولى المطبوعات السينمائية التي كشفت عمق سينما هتشكوك. وكان ذلك بدفع من أندريه بازان، مؤسس المجلة وأحد أئمة النقد السينمائي الفرنسي والأوروبي، والذي كان بمثابة الأب الروحي لتروفو كناقد ثم كمخرج أسس «الموجة الجديدة» مع غودار وشابرول وريفيت وغيرهم. ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون طيف بازان محلقاً فوق مئات الصفحات التي يضمها الكتاب. > في البداية كان الكتاب يتوقف عند العام 1966 شاملاً في الحديث المتشعب كل الأفلام التي حققها هتشكوك حتى ذلك الحين. ولكن فرانسوا تروفو أضاف اليه، للطبعات اللاحقة، فصولاً أخرى في بعضها تحدث بنفسه عن مسار المعلم منذ العام 1966، وحتى لحظة صدور الطبعة، مازجاً حديثه ببعض الحوارات القصيرة اللاحقة التي قيّض له أن يجريها بين الحين والآخر. ثم في طبعة لاحقة، سيطلق عليها تروفو نفسه صفة «الطبعة النهائية» لأنها صدرت سنوات بعد موت هتشكوك في العام 1980، وقبل رحيل تروفو نفسه بعام واحد، أي في العام 1983، أضاف المخرج الفرنسي فصلاً عابقاً بالحب والحنين، تحدث فيه عن «آخر سنوات هتشكوك». وبهذا اكتمل الكتاب نهائياً ليصبح، ليس فقط نصاً عن واحد من عمالقة فن السينما، بل شهادة على كيف يمكن فنانين كبيرين أن يتشاركا في عمل واحد، ناهيك بأن المرء يمكنه إن حلل أسئلة تروفو نفسه، بصرف النظر عن إجابات محدثه عليها، يمكنه ان يرسم كذلك سيرة فكرية لتروفو، تساعد أكثر وأكثر في فهم جوهر سينما هذا الأخير. ومن هنا يبدو واضحاً انه إذا كان يمكننا ان نقول ان هتشكوك كله، هنا، في إجاباته، يمكننا أيضاً أن نؤكد أن في ثنايا الكتاب كل تروفو أيضاً. ذلك ان اسئلة تروفو ليست فقط استفهامية غايتها دفع المعلم الى ان يتحدث أكثر وأكثر ويغني النص كله أكثر وأكثر، بل هي أسئلة تحليلية نجدها، في مرات عدة، تحير المعلم بـ «غرابتها» وما يختبئ وراءها من استكشاف لأمور رآها تروفو في أفلام هتشكوك لم تكن لتخطر لهذا الأخير في بال. إذ هنا، بعبقريته التحليلية ونظرته الثاقبة أعطى تروفو، مثالاً حيوياً، على ما ينبغي أن يكون عليه النقد: إعادة قراءة للعمل موضع النقد تخص من ينتقد بقدر ما تخص صاحب العمل. النقد نص على النص. تماماً كما ان النص – أعني السينما هنا – هو نص يسبر الواقع أو الخيال الذي سيصبح واقعاً فنياً منذ تجسده عملاً يُقرأ أو يشاهد، كاشفاً من خلال شفافية العمل، تلقائية أداء صاحبه فيه. تلك التلقائية التي تقول، في الأعمال الإبداعية الكبيرة، ما يعتمل في الوعي الباطن للفنان، فيضعه في قلب عمله من دون حتى ان يتنبه الى وجوده. انه، بالنسبة الى تروفو، نوع من الفرويدية. والطريف ان هتشكوك الذي لم يكن، في ذلك الحين على الأقل، يؤمن بذلك النوع من التحليل المبطن – على رغم فرويدية بعض أعماله – قابل أسئلة تروفو التحليلية بشيء من السخرية، التي اعتقدها لتهذيبه، مبطنة أول الأمر، من دون أن يتنبه الى ان تروفو كان واعياً بها... ثم بالتدريج، وأمام صبر تروفو الأسطوري ومعرفة هذا الأخير بأين يريد أن يصل، وجد هتشكوك نفسه يغوص في اللعبة ويتخلى عن حسّه الساخر مدركاً ان ما يحاول تروفو ان يفعله انما هو إعادة إحياء فكرية – توحيدية، لعمله السينمائي كله، وكشف العلاقة الوثيقة بين مهنية المعلم وفكره، متلمساً لحظات ومشاهد، وضعها هتشكوك في داخل أفلامه ربما على شكل مزحة، أو ربما لغرابتها، من دون أن يدرك هو انها ترتبط بجوانيته وذاتيته ارتباطاً وثيقاً من منطلق ان المبدع، حتى ولو في تلقائيته السوريالية، لا يضع شيئاً بمحض الصدفة داخل عمل فكر فيه كثيراً، وجعله جزءاً من مساره الإبداعي، أي مساره الحياتي. > على هذا النحو إذاً، أنجز هذا الكتاب، الذي علم كثراً كيف ينظرون مذّاك وصاعداً من ناحية الى سينما ألفريد هتشكوك ( - 1980) الممتدة من مرحلة إنكليزية مبكرة، الى مرحلة أميركية شغلت العقود الستة الأخيرة من حياته، وكان من علاماتها أفلام رائعة مثل: «فرتيغو» و «النافذة الخلفية» و «الطيور» و «بسايكو» و «الحبل»، ومن ناحية ثانية الى سينما فرانسوا تروفو ( - 1984)، أحد كبار السينمائيين الفرنسيين منذ «الضربات الأربعمئة» وحتى «يا حبذا يوم الأحد!» مروراً برباعية انطوان دوانيل و «المترو الأخير» و «الليل الأميركي»، هذه السينما التي تطل برأسها من خلال الكتاب، حتى وإن كان تروفو قد بذل أقصى جهده ليمحو نفسه تماماً أمام المعلم الكبير الذي بدأت حكايته معه بسقطة مدوية في ماء جامد. الحياة اللبنانية في 30 يوليو 2006
|
فتى هوليوود الوسيم عاشق فرنسا... جوني ديب لـ «الحياة»: الحظ حليفي في هذه الدنيا باريس - نبيل مسعد |