1
"
حوارات مع امرأة أخرى" لهانس كانوسا

(الولايات المتحدة)

يربح المونتير هانس كانوسا رهاناً اخراجياً صعباً في محاولته الاولى للوقوف وراء الكاميرا: عدم ادراج الشخصيتين الوحيدتين في فيلمه ضمن كادر واحد طوال الوقت، علماً انهما معاً منذ البداية حتى مشهد الختام. فكيف لذلك أن يكون جائزاً؟ في الواقع، يلجأ السينمائي الى تقنية الشاشة المنفصلة شقّين ("سبليت سكرين")، ليس لصيغة جمالية فحسب، انما لالغاء الحواجز الزمنية والمكانية بين الماضي والحاضر. اذاً، فكرة كانوسا سينمائية بامتياز رغم ارتكازها على ادوات المسرح كالحفاظ على وحدة المكان والزمان، والحوار الذي من خلاله نتخايل ونسافر و"نرى".

قد يكون تناهت الى مسامع البعض تلك الخبرية المتداولة والقائلة ان حفلات الزفاف هي أفضل الامكنة، بالنسبة الى الرجال المدعوين اليها، للتحرش بالعازبات ومغازلتهن وربما مطارحتهن الغرام، ولعل "حوارات مع امرأة أخرى" يؤكد هذه الفرضية، اذ انه يصوّر "ليلة حمراء" يعيشها رجل وامرأة يلتقيان في سهرة ستكون مصيرية بالنسبة اليهما ليعيدا النظر في شريط ذكرياتهما، وهما على مشارف الاربعين. في البدء، نجهل ما الذي يدفع رجلاً (ايرون اكهارت) جاء ليحضر زفاف شقيقته الى التقرب من امرأة (هيلينا بونهام كارتر) يراها وحيدة. وما يبدو للوهلة الاولى مشهداً للاغواء العادي، يتبين لاحقاً أنه ينطوي على قصة حب عاشها العشيقان في شبابهما، وها هما يلتقيان من جديد بعدما دارت الايام وفعلت ما فعلته. تصفية حساب، اعترافات...الخ. يهتك هذا الثنائي بالمسلّمات الزوجية والمسكوت عنه ويستعيد الماضي مبحراً في جنّة الذكريات المنعشة التي يكون الوقوع في احضانها احياناً أصعب من استعادة الذكريات الاليمة. بأسلوب حواري مرتكز على رد الصاع صاعين، يصوّر كانوسا آثار الوقت في عاشقين والتجاعيد التي يخلقها على سطح تفكيرهما والتي تسمّى "النضج". هل هما راضيان عن الخيارات التي قاما بها وهل كانت صائبة؟ كيف أغنت تجربة الحب وجدانهما؟ ولعل السؤال الاساسي هو: هل الوقت يدمّر ام يبني؟

مونتاجياً، يجوز اعتبار الفيلم درساً سينمائياً رفيعاً، بتقطيعه الانيق الذي لم يتدخل فيه المقص الا لظروف قاهرة، متيحاً للممثلين الاثنين مجد ان يسرحا ويمرحا في بلاتو يتحول مسرحاً للاستيهامات. لم يخطىء كانوسا في اعطاء الدورين لكارتر واكهارت، اذ يأخذان الشريط الى حيث لا نتوقعه، في حين تساعد تقنية الشاشة المقسومة في توريط المشاهد عاطفياً. وعليه، فان عملية الذهاب والاياب بين الزمنين ولقاءهما العابر في لقطة خاطفة، تجعل الفيلم عابقاً برومانسية فاتنة، من دون ان تجرده من ابعاده التأملية في معاني الحياة والحب والارتباط. من المؤسف ترتيب "حوارات..." في خانة السينما الاختبارية لجرأته الشكلية وللكلام العميق المضمون الذي اصبح عملة نادرة في زمن الاسفاف والعبارة السهلة. فثمة مسافة كبيرة بين ان ندمن "الاستمناء الفكري" العقيم وأن نضع مولوداً، ثمرة اللقاء بين الحب والسينما وتمجيداً لهما.

2
"
الطريق الى غوانتانامو" لمايكل وينتربوتوم

(بريطانيا)

مذهل كيف يستطيع وينتربوتوم ان يحبس انفاسنا، انطلاقاً من اختبار بصري يعتمد على توفير الموارد السينمائية وشحّ المؤثرات البصرية والصوتية والحركة. فيلمه هذا يكاد يكون وثائقياً عن اربعة اصدقاء بريطانيين من اصول باكستانية يزورون بلاد أجدادهم للمرة الاولى للاحتفال بعرس واحد منهم. في مجمل الاحوال، لنا انطباع بأننا امام ريبورتاج لصحافي كبير، قبل ان نكتشف ان وينتربوتوم يستعين بأدوات الفيلم التسجيلي لفبركة واقع يتعذر تقديمه والتحسس به خارج اطار ما هو خام ومباشر. فالقصة تتخطى ما يمكن تخيله في مجال الظلم والقمع والاستبداد والقهر، ويرويها مخرج "جيود" بلا عملية سيليكونية أو ماكياج. يصوّب كاميراته في اتجاه مأساة بشرية حصلت فعلاً مع مجموعة بشر، ويعاد تجسيدها بواقعية مربكة واحساس عال، الى حّد اننا ننتظر الجنريك بفارغ الصبر للتأكد من اننا "نتعاطى" مع ممثلين وليس مع الشخصيات التي عانت فعلاً الاعتقال التعسفي الاميركي، عقب اعلان حرب بوش على الارهاب، ومرض الهستيريا الذي ضرب خصوصاً الجسد العسكري الاميركي.

وكما يشير اليه العنوان، يأتي الشريط على شكل "رود موفي"، ينقلنا من بريطانيا الى باكستان ليحط بنا في نهاية الجولة في معتقل غوانتانامو الاميركي، حيث شتى وسائل التعذيب والاستجوابات الستالينية لدفع المعتقلين الثلاثة (الرابع يضل طريقه اثناء مرافقتهم)، للاعتراف بأنهم على علاقة بالهجمات الارهابية التي حصلت في الحادي عشر من ايلول، جاهلين ومتجاهلين ان المعتقلين الثلاثة لا شأن لهم بكل ما جرى ويجري. فثقافتهم غربية ويميلون الى سماع "الراب" أكثر من تلك الموسيقى التي تبث عبر الاثير الباكستاني، كذلك لا يرتاحون الى تناول الطعام في احد مطاعم عاصمة بلادهم الام. لكن يجري اعتقالهم اثناء دهم القوات الاميركية احد الامكنة، فيؤخذون في درب جلجلة قاسية واليمة وعنيفة ولاانسانية، ويُجرّون الى متاهات الارهاب الاميركي، واعمال الترهيب والتعذيب والابتزاز والذل لانتزاع اعتراف أو شهادة لا يهم اذا كانت حقيقية أو مختلقة، ما دامت ترضي السلطة وعنجهيتها.

لا يقل الفيلم قسوة وبطشاً وخراباً نفسياً وتدهوراً للقيم الانسانية عن "قطار منتصف الليل السريع" (آلان باركر، 1978)، الذي وصف أحوال السجون المنافية لحقوق الانسان في تركيا، كذلك يستحق ان يوضع على الرف الى جانب "بانيشمنت بارك"، شريط بيتر واتكينز الذي لا يزال ممنوعاً الى اليوم في الولايات المتحدة الاميركية. لكن نجاح الفيلم وقوته يكمنان في واقع انه يستطيع توليد بعض من العبثية المضحكة التي تثيرها مشاهد الاستجوابات الطويلة، بين قوة عظيمة تصبح مهزلة على مرأى من المشاهد - لكونه يعرف ما تبحث عنه السلطة (الحقيقة) -، وشلة من الشبان ذوي اللحى الطويلة التي تستحوذ على تعاطفنا ودعمنا المعنوي والانساني. وينتربوتوم، السينمائي ذو الانتاج الغزير (فيلم كل عام)، الذي لطالما كان ملتزماً وعبّر عن مواقفه السياسية، وخصوصاً في "أهلاً في ساراييفو" (1997)، يشاركنا في هذه المرافعة ضد العنصرية والقضايا التي تفقد شرعيتها المحقة، حول اقتناع مفاده ان بلاهة الادارة الاميركية واحكامها التعسفية الاعتباطية واساليبها، توازي الارهاب خطورة اذا لم تتجاوزه. في المحصلة، يأتينا وينتربوتوم بتحقيق صحافي عالي الشأن، مغلّف في شكل يستوفي شروط السينما الكبيرة (تقيد بوجهة نظر الراوي، متابعة دقيقة للتفاصيل، إحياء مذهل للواقع)، نأسف انه لا يشق طريقه الى الشاشات اللبنانية الغارقة حتى الاذنين في الاعمال الصبيانية. هذا من دون الاشارة الى ان المشاهد يتفاعل مع ما يعيشه من حوادث تهين كرامته وكبرياءه، وسرعان ما يصبح عذاب الاخرين عذابنا وينطبع فينا ألمهم وجروحهم واصواتهم التي تصدح عالياً في ذاكرتنا.

3
"
رومانزو كريمينالي" لميكيلي بلاشيدو

(ايطاليا)

في هذا الفيلم المافيوزي الرهيب ينضح ميكيلي بلاشيدو بما في جعبته من تأثيرات سينمائية متراكمة التقطها على مرّ الزمن. بفخر واعتزاز، يستعين بغموض "سكارفايس" (دو بالما)، وعنف "غودفيلاس" (سكورسيزي)، وطبعاً بأسطورة "العراب" (كوبولا)، في شبه نسخة مدوية لكل ما صنع مجد أفلام سبعينات القرن الماضي، حين اصبحت السينما ملمة بتصوير المافيا بعدما انتبهت الى انه لا يمكن مثل هذه الظاهرة ان تمرّ مرور الكرام.

يستعيد "رومانزو كريمينالي" زمناً ولّى. حقبة عفوية وساذجة اذ كان الخارجون على القانون يؤمنون بأنه يسهل الهرب من وجه العدالة الى الابد. كم يبدو مجرمو العصر الجديد تعساء في مقابل هؤلاء السلاطين البسطاء، الذين إن قتلوا قتلوا بأناقة، وإن سرقوا سرقوا بكرامة. اذاً، لا يجد بلاشيدو ما هو أكثر اهلاً للتصوير من زمن السبعينات هذا، العابق بالاحلام الكبيرة، قبل ان تأتي التسعينات وتساهم في انهيار ما تعالى على اكتاف الايديولوجيات الفخمة، وما شُيّد احياناً على الركام والجثث والدم.

لافت كيف انتقل بلاشيدو الى هذه السينما ذات التركيبة المعقدة، بعدما ضاقت امامه سبل الفيلم التجاري. الاهم، انه عرف كيف يخرج من دائرة الاستهلاك المغلقة، بحيث كان اختياره لهذا النهج في وصف تداخل المصائر المتشابهة صائباً، مولياً عناية فائقة لشخصياته، من المافيوزي الملقب بـ"اللبناني" الى "داندي" فـ"البارد". يذكّر بلاشيدو المشاهد، ليس من دون لوم، بأن المافيوزيين انطلقوا من هنا، ومارسوا "مهنتهم" في ازقة روما وتسلبطوا واحتلوا واغتصبوا الحقوق العامة، لكن هذا لم يمنع السينمائيين الكبار من تحويل هؤلاء الوحوش الى ايقونات، ربما لأن للفن حقيقة نجهلها نحن. شيء آخر يأتي المخرج على ذكره، مفاده ان السينما، وخصوصاً الايطالية، كانت دوماً متعاطفة مع الماكيافيليين اصحاب القضايا الخاسرة، وكثيراً ما فضحت ميولها الى ملامح الشخصية الكاريزماتية وأغفلت الافعال.

تتسلسل الحوادث، بإيقاع يحبس الانفاس، في مدينة الجريمة والفساد والضغينة، اذ ما يشدّ أعيننا الى الشاشة هو أكثر من حب متابعة تفاصيل من تجربة صقور الهيمنة، ورغبة في الاطلاع على "الطريقة" لا "الهدف". ففي اي حال، سقطة هذه المسرحية التراجيدية "تغمز" مسبقاً عبر رومانسية ما، فنعلم ان حمام دم في انتظار الجميع، مشاهدين وابطالاً. ببسط المدة الزمنية على حقبتين، كيف لنا الا نرى في هذا الشريط صلة ما مع "أفضل سنواتنا" (2003) لجيوردانا، علماً ان الفيلمين يختلفان كلياً. فهنا، ثمة مسعى جاد للتحليل والمعاينة والرصد وفهم حقبة السبعينات التي تعتبر "مختبر" ايطاليا الحديثة. مال، نساء وسيارات، يضع بلاشيدو هذا المثلث العجيب على طاولة السينما قبل ان يوجّه اليها ركلة قاضية.

النهار اللبنانية في 21 يوليو 2006

 

صوء.. "عناقيد الغضب" رواية حقبة تاريخية

عدنان مدانات 

قبل سبعين عاماً، أي في العام ،1936 ساد الكساد الاقتصادي المجتمع الأمريكي خاصة مجتمع المزارعين الصغار الذين هاموا في أرجاء البلاد بحثاً عن عمل. أحد الذين عايشوا هذه الفترة كان الكاتب جون شتاينبك الذي كتب روايته “عناقيد الغضب” انطلاقاً من تجربة شخصية عاشها في ذلك العام عندما كان يعمل مراسلاً صحافياً يجول في أرجاء أمريكا وشاهد بأم عينه هذه المآسي التي تعرض لها المزارعون وتابع الممارسات القمعية التي كان يلجأ إليها أصحاب البنوك وتتبع المزارعين على الطرق العامة وداخل مخيمات العمل.

بعد أربع سنوات من كتابة الرواية تحولت إلى السينما عبر فيلم “عناقيد الغضب” أحد أهم الأفلام المميزة في تاريخ السينما الأمريكية والمقتبسة عن عمل روائي شهير اعتمد بدوره على خبرة شخصية ترتبط بالتاريخ الأمريكي وتعرفنا إلى الوجه الآخر للمجتمع الأمريكي بعيدا عن الدعاية الرسمية التي تتبناها عادة السينما الهوليودية.

وكانت قد صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية في مستهل ستينات القرن العشرين ونالت شعبية واسعة في أوساط المثقفين العرب في ذلك الحين، مثلها مثل روايات جون شتاينبك الأخرى مثل “شارع السردين المعلب” و”رجال وفئران” و”اللؤلؤة” و”عندما فقدنا الرضا” حسب الترجمة العربية للعنوان.

مخرج الفيلم هو جون فورد أحد أعظم المخرجين في تاريخ السينما الأمريكية وبخاصة في مجال أفلام رعاة البقر ذات المضمون الاجتماعي والإنساني العميق.

واتسم إخراج جون فورد لهذا الفيلم بواقعية شديدة بحيث بدا وكأنه وثيقة حقيقية عن الواقع الذي يصوره. وكانت الرواية قد جوبهت بحرب شديدة من قبل أجهزة السلطة بسبب من عمق النقد الموجود فيها للنظام الاقتصادي والسياسي. وقد واجه فيلم “عناقيد الغضب” محاربة مماثلة لأنه كان أميناً للرواية وللنقد الموجود فيها. والفيلم حتى الآن يبقى من أكثر الأفلام الأمريكية التي وجهت نقداً جذرياً للنظام بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أبطال الفيلم هم من المزارعين الفقراء الذين طحنتهم الأزمة الاقتصادية ووقعوا تحت وطأة الديون فقامت البنوك بالاستيلاء على أراضيهم وأجبرتهم على الرحيل إلى كاليفورنيا ليعملوا بأجور لا تكفيهم للعيش في مجال قطف عناقيد العنب في مزارع كبار الإقطاعيين ويعيشون في مخيمات أقيمت على عجل وتفتقد الحد الأدنى من الخدمات. وهم يتعرضون للفصل من العمل وخصم الأجور لأقل سبب وللعقاب من قبل أجهزة الشرطة، وفي نفس الوقت يقاتلون للاحتفاظ بعملهم وسط منافسة متزايدة من قبل أعداد متتالية من مهاجرين جدد.

يؤكد المخرج جون فورد الواقعية والأسلوبية الوثائقية لفيلمه منذ البداية عندما يفتتحه بلوحة مكتوبة تقول: “في الجزء الأوسط من الولايات المتحدة الأمريكية توجد منطقة محددة تدعى “حوض الغبار” بسبب انعدام المطر فيها حيث أدى الجفاف والفقر إلى إجبار المزارعين على ترك أراضيهم. وهذه قصة عائلة أحد المزارعين ممن هجروا من أرضهم بسب الكوارث الطبيعية والتغيرات الاقتصادية فمضوا في رحلة للبحث عن السلام والأمن وموطن جديد”.

يبدأ الفيلم بوصول فلاح شاب يدعى توم جود، يلعب دوره الممثل هنري فوندا، خارج من السجن حديثا لمزرعة أهله فيجدها مهجورة خربة. وبصعوبة يتمكن من إقناع أحد سائقي الشاحنات لكي يصعد معه في رحلة البحث عن أهله. يعثر توم على أهله أخيرا وقد استقروا قرب إحدى البلدات الصغيرة وتحولوا إلى عمال. وهناك يكتشف مدى الاستغلال الذي يتعرض له المزارعون المهاجرون. ويحاول كاسي شقيق توم، وهو واعظ سابق، أن ينظم العمال لكي يقوموا بإضراب للدفاع عن حقوقهم لكنه يتعرض للقتل. ويحاول توم الدفاع عن شقيقه فيتسبب بدوره في قتل أحد الحراس مما يضطر الأهل جميعا للهرب والرحيل إلى منطقة آمنة حيث ينتهي بهم المطاف في مخيم للاجئين تابع للحكومة ولكن الشرطة تلاحقهم فيضطرون للرحيل إلى مكان آخر.

والفيلم لا يستمد فقط قيمته من الحكاية التي يرويها والمتعلقة بما جرى مع بطل الفيلم من وقائع مأساوية، بل إن قيمته تكمن أساساً في قوة الأفكار التي يطرحها في مواجهة الظلم الذي يتعرض له فقراء أمريكا وفي صدق تعبيره عن البيئة وفي براعته في تقديم الأجواء التي يصورها بتفصيل وبواقعية شديدة تنقل لنا أشكال المعاناة والحرمان التي يعيشها أولئك المزارعون المهاجرون وقد تحولوا إلى عمال مياومين في كروم العنب وفي تصويره للمآسي التي تصادف المهاجرين في طريقهم للبحث عن فرص للعمل وتصويره الصادق لظروف الحياة في مخيمات العمل.

وتشكل رحلة أبطال الفيلم عبر الطرق الخارجية محشورين مع أمتعتهم داخل شاحنة صغيرة المشهد المتكرر الذي يربط بين فصول الفيلم المختلفة. والقيمة الثانية للفيلم تتعلق بقوة المضمون الذي يكشف الوجه الآخر للولايات المتحدة الأمريكية المتمثل في الاستغلال الرأسمالي البشع المدعوم بقوى السلطة.

ويعود الفضل لفيلم “عناقيد الغضب” في إطلاق نجومية الممثل هنري فوندا حيث أبدع في تصوير شخصية الشاب العصبي الطباع المندفع للدفاع عن أهله. ومن الأمور الطريفة المتعلقة بالفيلم ودور هنري فوندا، أن الكاتب جون شتاينبك أعجب بالفيلم، وهذه حالة نادرة أن يعجب روائي بفيلم عن روايته واعترف بأن أداء هنري فوندا في الفيلم: “جعلني أصدق الكلمات التي كتبتها”. ومن الأمور الطريفة أيضا فيما يخص هنري فوندا انه كان في ذلك الحين ينتمي عقائدياً إلى اليمين الأمريكي، ومع ذلك شارك بحماس في فيلم يساري التوجه.

 فيلم “عناقيد الغضب” لا يزال يعتبر حتى الآن من كلاسيكيات السينما الأمريكية ومن أكثرها خروجاً على النمط الهوليودي الذي يروج للحلم الأمريكي ويحول السينما إلى وسيلة دعاية للنظام. وفي الحقيقة، وعلى الرغم من قيام السينما الأمريكية بإنتاج عدد كبير من الأفلام التي تطرح، جزئياً أو كلياً، نظرة نقدية للمجتمع الأمريكي وللسلطة وللنظام الرأسمالي في السنوات اللاحقة لهذا الفيلم، إلا أن فيلم “عناقيد الغضب” يظل، إن لم نقل أكثرها، جرأة وأعمقها طرحاً وأشدها أصالة في التعبير عن قضيته بوضوح.

النهار اللبنانية في 21 يوليو 2006

قراءة قبل العرض لشريط "سياسي بلا سياسة"

"ترايد وورلد سنتر" نقاش محتمل وانقسام لا بد منه

محمد رضا

أحد الأفلام التي سيباشر بعرضها خلال أسابيع قليلة، يتعرّض للحادثة التي بسببها يمر العالم اليوم بما يمر به من أزمات، الفيلم هو “ترايد وورلد سنتر” والمخرج يؤكد انه لم يرد فيلماً سياسياً بل سعى إلى فيلم إنساني، لنرى! بعض مواقع الإنترنت تحتوي من الآن على سجال بين أولئك الذين أعجبهم الفيلم وأولئك الذين لم يعجبهم. ولا يمكن من خلال كتابات موجزة، أحياناً مليئة بالشتائم ومحمّلة بالمواقف السياسية التي لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم لفيلم أو عليه، معرفة ما إذا كان هؤلاء الكتّاب، من قراء الإنترنت غالباً، شاهدوا الفيلم أم أنهم يتحدّثون عنه قبل مشاهدته وبناء على تلك المفاهيم الجامدة السابقة.

الواضح أن هذه العيّنة من ردات الفعل، المنقسمة حيال الفيلم، ستتسع حين يُباشر بعرض الفيلم تجارياً على الشاشات الأمريكية (ومن ثم خارج أمريكا حول العالم) وستنتشر ليس على المواقع الإلكترونية فقط بل في مختلف وسائل الإعلام الأخرى وسيشترك فيها نقاد سينمائيون خصوصاً من بين أولئك الذين يقدّمون الموضوع على الفيلم ويحكمون عليه من خلال المواقف الفكرية أو السياسية أولاً.

“ترايد وورلد سنتر” لأوليفر ستون يستدعي النقاش المحتمل والانقسام الذي لابد منه. والمحاور ستتشكل بناء على نزعات اليمين المتطرّف الذي يرى أن الفيلم يتّهم بوش بأنه لم يحسن إدارة الفترة التي وقعت فيها الكارثة وعلى اتهامات اليساريين الذين سيستنكرون أن فيلماً من توقيع المخرج المعروف بأعماله السياسية يجيء عارياً بلا سياسة. أيضاً سيكون من بين محاور الطرح وجهة النظر التي لا تزال تعارض قيام هوليوود بالتطرّق إلى الموضوع بأسره، وتتهمها بأنها تستغل الكارثة لأغراضها التجارية، وبين وجهة النظر التي تجد لزاماً على السينما طرح الموضوع برمّته.

هذا التكوين التشكيلي للآراء التي ستعصف بفيلم أوليفر ستون سيمنح المخرج مرة أخرى فرصة الظهور بمظهر مخرج المواضيع المثيرة للنقاش، على الرغم من أن فيلمه هذا مختلف تماماً عن “جون ف. كندي” و”نيكسون” و”مولود في الرابع من تموز” التي جعلته مطروحاً كصانع أفلام مثيرة سياسياً. لكنه فيلم يختلف أيضاً عن كل الأفلام السابقة لستون، وليست جميعها من لون الأفلام الثلاثة المذكورة. “بلاتون” فيلم حربي عن حرب الجنود الأمريكيين ضد الفييتناميين وضد بعضهم بعضاً. “سلفادور” تشويقي حول أمريكيين يعيشون أحداث الدولة اللاتينية العنيفة في مطلع الثمانينات. “ذ دورز” عن حياة فرقة الروك الشهيرة وقائدها بول موريسون وبالطبع “الإسكندر” سيرة تاريخية، ولا أعرف كيف أصف “استدارة” و”مولودون قتلة طبيعياً”. هو نفسه لا يجد مدخلاً لإدراج هذين الفيلمين في نوعية معيّنة.

 ما فعله ستون هو أنه خرج عن مألوفه فلم يكترث لتحميل فيلمه الجديد أي علامات تعجّب حول حقيقة ما حدث في ذلك اليوم، ولا حتى تكراراً لأي رواية رسمية كانت أو مستقلّة. في الحقيقة لم يكترث حتى للحديث عن الموضوع كوجهة نظر أو كقضية أو كموقف. ما فعله هو أنه انصرف تماماً لسرد قصّة إنسانية مشحونة عاطفياً بقوّة هائلة تتحدث عن رجلي شرطة من نيويورك وجدا نفسيهما تحت الركام الهائل الذي نتج عن انهيار المبنى الشمالي (الذي ضربته الطائرة الأولى).

يبدأ الفيلم بتقديم جون مكلولين (نيكولاس كايج). لقطة داكنة لفجر الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. يستيقظ جون عند الثالثة وتسع وعشرين دقيقة. يدخل الحمّام. يخرج. البيت هادئ جداً باستثناء حركاته البسيطة. يفتح باب غرفة نوم أخرى ويلقي نظرة على أولاده. يغلق الباب بهدوء. يرتدي باقي ثيابه ويعتمر سلاحه ويتوجه لباب الخروج من البيت. فقط حينها تشاهد زوجته نائمة في الصالون. هناك خلاف ما بينهما.

بمهارة وفطنة يتنفس الفيلم الصباح كما تتنفسه المدينة. هادئاً، صامتاً في البداية وهاهو جون مكلولين، الملازم في شرطة نيويورك، يشق طريقه صوب عمله والشوارع تمتلئ بالتدريج والفيلم ينتقل من الصمت إلى الصوت ومن الصوت إلى الضجيج. هذا هو العالم الذي يعيش فيه جون وسنعرف أهمية الصوت لاحقاً من حيث كونه الرابط شبه الوحيد بين الناس بعضها بعضاً.

هناك لقطات (تصوير سيموس ماكارفي الذي من أعماله الأخيرة “الساعات” و”صحراء”) جميلة وحميمة تعكس شغفاً بالمدينة ثم لقطتان لمركز التجارة العالمي منتصباً في مانهاتن. السارجنت مكلولين يجمع رجاله حين وصوله القسم الذي يعمل فيه ويوزّع عليهم قطاعاتهم وأعمالهم. الساعة ما زالت الثامنة. ينزل الجميع إلى الشوارع والميادين لمتابعة أعمالهم اليومية. بين هؤلاء وِل جيمينو (مايكل بيا) وحيري (براد ويليام هينيك) وثلاثة آخرون سنراهم في المحنة التي ستقع بعد قليل. ما ان يبدأ هؤلاء تجولهم في الشوارع المزدحمة ومحطّاتها المنشغلة بملايين المسافرين والعابرين، حتى يصدر استدعاء فوري لهم للعودة إلى مركز البوليس. مباشرة قبل ذلك، سمع الجميع صوتاً غريباً. لم يروا شيئاً. فقط الصوت الذي بدا للبعض كما لو كان انفجاراً. في المركز يدركون أن طائرة ضربت البرج الشمالي وعليهم التوجه إلى المكان.

يقود مكلولين سبعة من رجاله بينهم وِل وجيري في أرجاء البرج الذي يحاول سكّانه الخروج منه. من الخارج هناك مبنى يبدو مصاباً بشرخ في أعلاه. في الداخل، هناك حركة هروب من ناحية ومحاولات رجال الشرطة والاطفاء إنقاذ ومساعدة محتاجين ومصابين، فجأة، وبعد نحو ثلث ساعة من وصول مكلولين ورجاله تقع الكارثة، ينهار المبنى على الرجال جميعاً. طبعاً هناك غيرهم. معظمهم مات وانتهى. لكن الفيلم يتربّص برجال البوليس الثمانية الذين وجدوا أنفسهم تحت الركام. ثم بثلاثة منهم (جون وجيري ووِل) ثم باثنين منهم بعدما رفع جيري المسدس إلى صدغة وأطلق على نفسه رصاصة الرحمة.

الفيلم هو أكثر من هذا. النسيج الذي يبني عليه ستون حكايته بسيط في الظاهر وصعب في العمق والجوانب. المخرج ينتقل بين قصة الرجلين المحاصرين والساقطين تحت الحجارة ولا يزالان على قيد الحياة وبين عائلتيهما. عائلة وِل المتآلفة وعائلة جون التي كانت تعيش شرخاً عاطفياً (تفسير مشهد خروجه من البيت وزوجته نائمة في الصالون). المجال هنا لا يسمح بالكثير من التعاطي المفصّل في هذه الجوانب الأسرية، لكن الفيلم لا يكتفي بشرح حياة بل يعتمد على هذا الجانب في جانبين: تقوية الدراما التي يعايشها الشرطيان المذكوران تحت الأنقاض، وإشغال الفيلم حتى لا ينقضي والمشاهد منصبّ على متابعة وضع الرجلين غير المتحرّك.

حين يتحدّث الفيلم عن بطليه الساقطين عشرين وخمسة وعشرين متراً تحت الأنقاض (ليسا على مستوى واحد) يبرز عامل الصوت. كل منهما يعتمد على صوت الآخر لا ليعلم بأنه لا يزال حياً، بل ليبقى حيّاً بدوره. كل منهما استمد حياته من أن الآخر لم يمت قبله. والا لكان هو انتهى أيضاً.

إلمام ستون بهذه الحالات ليس تخيّلاً. كل من ول وجون شرطيان حقيقيان. الفيلم يقتبس قصّتهما مع ما حدث (وهذا الناقد تحدّث إليهما بالفعل حيث أكّدا أن الفيلم التزم بمجمل ما عاناه خلال نحو 24 ساعة من الحياة في الظلام).

المفكرة ... الكذب غربي والجهل عربي

كان هناك زمن ليس ببعيد لم يكن مسموحاً فيه على مذيع نشرة الأخبار، أو على المخبر الذي يبعث بالأخبار التدخّل برأيه في المادة. هذا وقت انتهى بعدما اكتشف الغربيّون في نهاية الأمر أن تدجين الرأي العام مفيد إعلانياً. محطة “فوكس” الأمريكية سبّاقة إلى اتخاذ المواقف المعادية لكل ما هو عربي، وفي ظل ظروف وأوضاع ما بعد 11/9 فإن نسبة كبيرة من الأمريكيين تحلّقت، خلال الغزو الأمريكي، حول هذه المحطّة قابلين سمومها على أساس أنها “أكثر وطنية” من سواها.

هذا أمر لن تسمح به المحطات الإخبارية الأخرى التي وجدت أن بعض ما بقي لديها من أخلاقيات المهنة ومن موضوعية بات يضرّ بها شعبياً. هي أيضاً أدركت أن نجاحها في اللعبة هو أن تصطف إلى يمين اليمين وتبدأ ببث سمومها والمشاركة في الكذبة الكبرى.

الأيام التي تلت بداية الحرب القائمة خير برهان. وداعاً للتغطية الإعلامية التي تتوخى عدم الحياد وتنشد الحقيقة وتسعى للتحقيق فيما هو مطروح لمنح المشاهد كل أطراف الصورة. الآن تتسابق ال”سي إن إن” و”إم إس إن بي سي” مع محطة “فوكس” للعبة إعلامية قذرة مبدؤها “لا خيار لنا ولا خيار لمشاهدينا: علينا أن نقف إلى جانب إسرائيل”.

وهذا يعني الكثير جداً من الوقوف مع “إسرائيل”. يعني “إسرائيل” ذاتها في عقر دار البيت الأمريكي. حين تذرف صحافية تلفزيونية الدمع على رجل “إسرائيلي” قُتل في قصف حزب الله لمدينة حيفا فهذا ليس تغطية إخبارية. هذا عهر إخباري. وعندما يشدد المذيع على ولدين قُتلا حين كانا “يلعبان في الشارع” حين سقط صاروخ آخر، ولا يقول شيئاً حيال كل الأولاد وكل النساء وكل الرجال الذين سقطوا في لبنان، ومن قبل في فلسطين، فهذا المذيع عاهر.

المسألة التي هي عقر دار العملية الإعلامية في المحطات التلفزيونية الرئيسية هي التبنّي الكامل للبوق الدعائي “الإسرائيلي”، وهذا يأتي كجزء من الموقف السياسي الرسمي الأمريكي عوض أن يكون مستقلاً عنه. في بلادنا العربية نعرف الفرق بين صحافة وإعلام مستقلّين وصحافة وإعلام تابعين للمؤسسة الحكومية. ومعظمنا لا يطيق أن يقرأ أو يشاهد صحيفة أو محطة تلفزيونية تابعة للدولة ويفضّل عليها المؤسسة المستقلّة التي تتقدّم صوب القارئ بالحقيقة. كيف جرى أننا نعرف ذلك، وأن الإعلام الأمريكي فقد البوصلة؟

العملية الإعلامية خلال الحرب الحاضرة في المحطات الأمريكية الرئيسية معجونة بالكذب والرياء وتكرار الحجج ذاتها. وحين النظر إلى خسائر لبنان فإن الإعلام مستعد لأن يقبل وجهة نظر “إسرائيل” التي تقول: “الحق على الحكومة اللبنانية التي سمحت لحزب الله البقاء في الجنوب ولم تردعه”. انتهى الموضوع. أصبح مقبولاً ومن التحصيل الحاصل قيام “إسرائيل” بقصف لبنان وكل عائلة فيه وهي التي لو كانت تستطيع دخوله واحتلاله ودخول كافة الدول العربية الأخرى واحتلالها ووضع يدها على مصادر الثروات العربية المختلفة لما تأخّرت.

وفي النهاية هو جهلنا، جبننا، وعدم التفافنا حول منهج سياسي واحد ذي خطاب قومي فاعل الذي يجعلنا اليوم بين نار الغرب ونار الشرق القريب.

وهكذا في الوقت الذي يواجه المرء كذب الإعلام الأمريكي ودخوله حلبة سباق من الدعم السياسي لدولة زرعت الشقاق وقتلت مئات ألوف العرب منذ قيامها سنة 1948 ولا تزال، يجد نفسه يواجه أيضاً قصور معظم المحطات الفضائية العربية في التعامل مع ما يدور.

وفي وسط كل ذلك، هناك حقيقة أن السينما هي الشارع العربي والتلفزيون هو السلطة. السينما- القضية طُمرت، بينما لا تزال ومعظم محطاتنا تعبّر عما تريده السلطة من الناس حتى ولو كانت مستقلّة. ليس عجيباً أنه من من بين كل المحطات العربية القائمة (بالمئات) لا تستطيع أن تنتخب أكثر من خمس محطات تلعب الدور الصحيح في تنشئة العربي المثقف والمجتمع المتلاحم المفيد. العربي الذي يستطيع فعلاً الانتصار في الحروب المتوالية ومتعددة الميادين التي تشن عليه.

بالتالي، كذب الغرب وجهل العرب يجتمعان والضحية هو أنا وأنت وال 95 في المائة من أبناء الأمّة العربية. صحيح أن الجلاّد “إسرائيلي” والأداة أمريكية، لكن الحرس الذي يوفر للجلاد وللأداة الضحايا هو عربي تجده في الإعلام وفي الشقاق وفي الخلاف وفي تغليب المصلحة الذاتية. تجده في شخصية العربي الخائف من أن تقطع المقصلة عنقه هو عوض أن تقطع عنق أخيه العربي.

م.ر: merci4404@earthlink.net

الخليج الإماراتية في 23 يوليو 2006

 

سينماتك

 

أفلام لن تُعرض في الصالات اللبنانية [ 1]

الزمن يدمّر وأمـيركا تعـتـقل والمافيا تـقتل بأناقة

باريس - من هوفيك حبشيان:

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك