عالم القصة القصيرة، دونا عن أي عالم آخر متخيل، لا يقبل التجزؤ في نسقه السردي ولا في عطائه الانطباعي؛ فالقصة القصيرة، شأنها شأن أي عمل درامي آخر، إنشاء خاص لعالم ما، بل إنجاز لوحدة فنية متكاملة. ولئن قبلت الرواية بحكم إطارها، بتعدد المسارب من هذا العالم وإليه، فإن القصة القصيرة بحكم إطارها السردي المكثف، لا تقبل تعدد المسارب ولا تهضم تنوع التجارب، إلا ما اتسق مع سياقها الفني المتضافر بوحدة الصوت، وعطائها الانطباعي المتكامل بوحدة التجربة. تنجز قصة «الواحة» لصلاح دهني عالما خاصا يرتكز إلى المنظومة الكونية الثلاثية: الإنسان والحيوان والطبيعة. بداية، فإن القصة بل مراحلها السردية كافة تنتهج الأسلوب الطولي، تبدأ من لحظة تكون الحدث وتنتهي في نهايته، ضمن عدد من المشاهد المتتابعة زمنيا تقود إلى الموقف العام لشخوص القصة، أو لشخصيتها الواحدة المفترضة. إن الاستهلال السردي بداية فاعلة للحدث: عاد الأب سعيدا من عمله. ووشت ملامحه وحركاته بسر سعادته. قالت زوجته: هل حصلت إذن على الإجازة؟ أجل.. قال الزوج متوجها بابتسامة عريضة إلى الابن المستلقي باسترخاء فوق أريكة عريضة. افتر الوجه الطفولي الشاحب عن ابتسامة رضا: إذن سنسافر إلى هناك، يا بابا؟! - سنسافر. بمثل ذلك الحوار السريع القصير، ودون أية مقدمات وصفية، أو إرسائية للمشهد، يقدم صلاح دهني منظومته الإنسانية: الأب والأم والابن، كما يبين طبيعة الحدث القادم: السفر. ثم يروح يستكمل إنشاء عالمه الخاص هنا بأدوات مألوفة ولكنها تنجز الكثير، سرد زمني متسارع: «وفي اليومين التاليين انشغل الثلاثة بتجهيز ترتيبات السفر: الخيمة، والمعلبات، والفواكه، وفرش النوم». واضح هنا أن الراوي معني بإغناء مخيلة المتلقي ويسعى لجعله يعيش الحدث ويتمثل المناخ بوسيلة القص الأنجح والأروع على مدار تاريخ فنون الدراما: التفصيلات. وهكذا يستمر الراوي في استحضار مستلزمات الاستيلاء على مخيلة المتلقي: «واشترى الأب منصبا خاصا لظهر السيارة». ويبدو أن الراوي بعد استحضار هذا المستلزم الأخير أحس بضرورة الالتفات إلى عنصر آخر: الحالة النفسية والجسدية لأناس القصة: «وفي غضون ذلك بدا الابن مشرق الوجه كأنه زرقته السفرة حقنة العافية، الأمر الذي زاد الأبوين حماسة وسعادة». قلنا إن التقنيات في هذه القصة هي الأساليب المعتادة حتى لا نقول التقليدية، وهكذا يتحرك الزمن -بعد انقضاء يومي الاستعداد- وتتكفل العناصر البصرية الحسية بالوشاية عن حركة الزمن وتجلي الإحساس بها: «كانت مصابيح الشوارع تنافس ضوء الفجر في الإنارة، ولما يتغلب عليها الصبح بعد... مع ارتفاع الشمس المفاجئ تغير الجو في غضون دقائق جد مكثفة من خارج الزمن». إن حيزا كبيرا من المساحة النفسية في الرواية يمتح من وقائع الرحلة من المدينة إلى الواحة عبر الصحراء. إنها بنية نفسية تنجزها مفردات المكان (الصحراء) وهي ليست مفردات رملية فحسب: «صارت كثبان الرمل تحيط بالسيارة من كل الجهات. ولا دليل أمام الأب الذي يقود السيارة سوى بعض آثار الدرب التي خلفتها على مدى السنين عجلات السيارات التي سبقته على الطريق. أوتكون مغامرة غير مألوفة تلك التي ركبها الرجل وورط معه فيها زوجه وابنه؟ ومع أنها لم تكن ورطة ولا يحزنون، بل إن الأمر لا يعدو هاجسا عابرا، فإنه هاجس يحتشي بالإحساس يخترق به الراوي حالة صماء رملية، ما كانت تتحرك فنيا وإنسانيا لولا مثل هذا الهاجس. ويستمر المكان المجدب في سخائه الشعوري، بل الإنساني؛ فالسيارة تتقدم في اتجاه المجهول، لكنها وهي تغادر أرض البشر إلى قلب البادية كانت كأنها تتطهر، بل كأنها تخرج من مدار جاذبية الأرض وتدخل مدار جاذبية فضائية مجهولة وسحرية.. وتشهد الرحلة إلى واحة النعيم، وهو الموضع الذي تقصده الأسرة في رحلة استجمامها، حالة من التوحد العجيب بين المنظومتين الإنسانية والطبيعية، شعور بالوحشة حيث لا شجرة ولا إنسان -غير المسافرين- ولا حيوان ولا عرق أخضر ولا طير في السماء ولا حيوان يدب. إحساس يمتزج بقرص الشمس ويتماهى معها ليتحول الرمل إلى جمر، وليحضر الخوف بتواطؤ غريب بين الطبيعة والروح الشريرة، فما على هذه الروح إلا أن ترسل شرارة صغيرة ليلتهب الجو كله ويتحول إلى كتلة منصهرة، هذا ما يقوله الإحساس وما تقوله درجة الحرارة. ثم يحضر هاجس الرحلة كله، وهو الارتحال بالصبي إلى الواحة سعيا لهواء جاف يساعده في محنة المعاناة مع الربو، وينبعث صوت الأم في هذا التلاحم العجيب: «ألا ترى أن وجهه اليوم أفضل؟ فيرد الأب: بلى، إنه أفضل». ومع أن الجو بدا متشحا بالغبار والقيء، فإن حالة وجدانية جديدة بدأت بالتشكل أسهم فيها صوت مغنية ذات نبرة مغناج لتتحرك في الزوجين رغبات حسية وليفهم الواحد منهما الآخر بطريقة تلائم طبيعة جنسه؛ فالزوجة تتمطى لا من التعب حسب، بل بالاستجابة للإيماءات الجنسية في الأغنية مما يشجع الزوج على مد يده اليمنى لتحط على ركبة الزوجة وتعبث بلحمها الدبق. تلك الحركة تحتشد بالدلالات الفنية من عدة جوانب؛ لعل أهمها جانب قيمي؛ فهذه الحركة الحسية لا تنطوي بمقصدها الإنساني (ونحن لا نتحدث عن مقصد فني) على أية حال إيحاءات جنسية مطلوبة لهدف الإثارة، وهذا بدوره سعي ليس مطروقا على أية حال في أي عمل فني جاد، بل إن المسألة لا تتعدى إيماءة (وثمة فرق في الدرجة بين الإيماءة والإيحاء) تتوخى تعميق تمثل المتلقي للإحساس الذي يهيمن على الشخصية في هذا الموقف العابر، وهو الإحساس بالتحرر من قيود المدينة، بل من أية قيود يمكن أن تحد الإنسان عن القيام بأي عمل يريد. إنها حالة من الانطلاق النفسي المفعم بالحيوية والتفاؤل يبثها المكان، من خلاء (وليس خواء) وهواء نقي جاف إلى التحام مباشر بالعناصر الأساسية للمشهد الطبيعي كما خلقه الله. فالمشهد الحسي هو عتبة نحو دلالة روحية أوسع وأغنى. ولقد ظل التلابس في المشاهد الحسية بين العطاء الفني ومقصد الإثارة لذاتها قائما على الدوام، بل إن الإمساك بالشعرة التي تفصل بين المشهد الحسي بوصفه أداة للإثارة أو حتى غاية للمشهدية في ذاتها، وبين كون هذا المشهد مكونا من مكونات البنية الفنية أو حتى الموضوعية، ظل ميزانا ناجعا ودقيقا لقياس مدى جودة العمل الفني، ومدى انخراط الموقف من ثم في منظومة العمل لمخاطبة الجوانب الحسية بمعزل عن عالمه الداخلي وشروطه الخاصة. وعلى أية حال، فإن المسألة جزء من قضية أكبر، قضية التابو الثلاثي الذي ظل سيفا مصلتا على رقاب المبدعين وأعمالهم بدءا -في العصر الحديث- من فلوبير غربا، إلى نجيب محفوظ شرقا. إنها العلاقة بين البنية الفنية وكون المشهد الحسي أو الخلافي (الديني أو السياسي) جزءا أساسيا منها أم إنه مقحم عليها. ولا نظن أن من التبسيط المخل أن نزعم أن حل الإشكالية في التمييز بين الإبداع الحقيقي والسقوط الفكري أو التورط الموضوعي (بمنأى عن بنية النص) يكمن في الالتفات إلى وظيفة المشهد، والحكم عليها من ثم إن كانت داخلية أم خارجية. ولكن ماذا عن هذا الوصف (الدبق) الذي جاء حول ملمس ركبة الزوجة، إنه على الرغم من حسيته المفرطة إشارة فنية ملائمة إلى التوحد والانصهار التي تداخلت في بوتقتها المكونات البشرية للقصة من عرق وأحاسيس ورغبات... إلخ والعناصر الطبيعية فيها: الشمس، والحرارة، والغبار...إلخ. هذه البوتقة التي انصهرت فيها مكونات القصة تسلم شخصياتها إلى حالة من التحرر المطلقة من كل أثقال الحياة وأعباء المرض الذي يعاني منه الطفل، وهي بالتأكيد تسلم المتلقي إلى حالة أخرى، انطباعية هذه المرة، بل ثمرة تنضجها استحقاقات الحالة النفسية والوجدانية لأناس القصة. ويبدو أن انسيابية السرد قد بلغت بالشخصيات والحدث مرحلة كان لا بد أن تنعطف باتجاه مخالف حتى يستكمل النمو الدرامي مجراه الذي يقود إلى البؤرة الفكرية للقصة، وليس عيبا أن تقدم القصة أفكارا ما دامت هذه الأفكار تترى عن طريق التشكيل المنطقي للعمل، وليس عن طريق صوت المؤلف الذي يظهر قطعا إذا ما كان الخطاب خارج بنية التشكيل. ها نحن الآن في قلب الواحة لا بمكوناتها الطبيعية حسب، بل بالمجتمع الإنساني الصغير من زوارها الذين جاءوا للغاية نفسها: الهروب من المدينة، بضجيجها وملوثاتها المناخية، إلى الصحراء بنقائها وصفاتها؛ فبالإضافة إلى العائلة مركز الحدث كان ثمة جمهور كبير من الصغار والكبار، مما حدا بالأب إلى تشجيع ابنه على الانضمام لمجموعة من الصغار يتراكضون ومعهم كلب كبير... انطلق الصغير بعزيمة أكبر فيما كان الأبوان يلتفتان نحوه ويغمرانه بنظراتهما.. «لم يكن ذلك كلبا عاديا. نوع من الكلاب الذئبية البهية، سيقانه رفيعة وطويلة يحمل جثة كبيرة مخصورة، والشعر تتمازج فيه الألوان السوداء والبيضاء والصفراء بنحو متناغم». «كانت الرأس ضخمة مشعرة والفكان عظيمتين تنغرس فيهما أنياب هائلة، ومن وسط الشدق المتطاول يتدلى لسان أحمر ميال دوما سريع التقلص سريع التمدد لدى أقل إشارة من الصبي الفخور المنقط الوجه بالنمش صاحب الكلب. كانت الأذانان الصغيرتان تنتصبان وتتحركان مثل رادار والعينان الذكيتان تتألقان، فيما يصدر الأمر ويلقى الأولاد طاباتهم بعيدا بين الأعشاب العالية ثم يعود حاملا الطابة بين تهليل الأولاد وفرحهم وتصفيقهم». ولكن الأمور لا تمضي على هذا النحو من الوداعة؛ إذ تصدر عن الكلب البهي حركة ما تتسبب في ذعر أحد الصبيان، وكان هذا ابنا لأحد المستجمين من ذوي النفوذ مما حدا بهذا الأب الهمام لأن يستعرض نفوذه ويستقدم حارسين من خفر البادية، يعدمان الكلب بالرصاص أمام الجميع بطريقة سريعة وآلية محترفة، ثم يتركان المكان بالسرعة التي جاءا بها مخلفين وراءها صدمة للكبار وذعر للصغار. مما أفسد الرحلة على الجميع، فقطعوا إجازاتهم، وبدأوا يغادرون مكان الاستجمام تباعا. وهكذا قالت القصة كلمتها الرئيسية: إن ما يمنحه الله والطبيعة للإنسان من أسباب الراحة والسعادة لا يفسده سوى الإنسان نفسه. وربما انطوى الموقف الأخير في القصة، أو بكلمة أخرى الذروة التي انتهت إليها الأحداث ولملمت عندها خطوطها، على بعض الدلالات حول جدلية العلاقة بين عامة الناس والسلطة ممثلة بنموذج صاحب النفوذ الذي استعان بالحارسين، بل وبالحارسين ذاتهما. فالمشهد يستدعي قضية المؤسسية الغائبة حين جاء الحارسان وأقدما على ما أقدما عليه، لا عن طريق إجراءات قانونية متحضرة، بل بوشاية بلطجي تغيرت صورته واختلفت وسائله عما كان عليه "البلطجي» في العهد التركي مثلا. ومع أن بناء القصة تقليدي من حيث بنية السرد الطولية، أي تلك التي تبدأ من نقطة فتمضي زمنيا نحو نهاية الحدث واكتمال الموقف، فإن البناء عانى تحديدا من بعض التصدعات التي تسبب فيها موقع الراوي الذي بدا يتحرك في مساحة أوسع مما هو مألوف في الخطاب الدرامي المكثف للقصة القصيرة. نلحظ هذا في توزيع اهتمام الراوي بين الشخصيات توزعا بدا من الصعب معه تبين ملامح نموذج انسيابي متكامل؛ لقد تشتت هذه النموذج بين شخصيات عديدة: الأب، والأم، والابن، ثم الطفل ذي الوجه المنمش صاحب الكلب. ولو أن الراوي لازم إحدى الشخصيات الثلاث الأولى وبنى العملية السردية من خلال وعيها ومشاعرها لكان حضور وحدة الانطباع أقوى وأنجع وأشد تأثيرا. بل إن توزع الراوي وتخلخل موقعه قد امتد إلى الأرضية التي تقف عليها الشخصيات وتجري فوقها الأحداث، أعني أرضية الواحة، فما كان يجري مثلا في داخل الخيمة التي خلت فيها الأسرة، بدا بعيدا عما كان يجري في الملعب حيث يلتهي الأطفال مع الكرة والكلب. والابتعاد المعني هنا هز ذلك الافتراق بين بؤرة سردية وأخرى. أدى ذلك إلى المزيد من الخلل والتشتت مما انعكس سلبا على تجربة التلقي وتكاملها، الأمر الذي لا تحققه -في القصة القصيرة- سوى بؤرة سردية واحدة. التحميل الدرامي للغة بدا غير مقنع في بعض المواضع، وفي مواضع أخرى بدا مجاوزا لموقع الراوي؛ فالأب مثلا يسأل الابن: «هل نمت جيدا؟''، ويرد الابن: "نمت مثل القتيل''، ويبدو أن جواب الابن لم يكن جواب طفل، بل جواب رجل هده التعب وأبهظته أعباء الحياة بعد يوم من العمل الشاق. هذا الجواب، بعبارة أخرى، يحتاج إلى سياق ذهني آخر مختلف عن السياق الذهني المفترض لدى المتلقي في موقف كهذا، ومسؤولية «ذهنية السياق» مشتركة على أية حال بين أطراف العملية الثلاثة: المبدع والعمل والمتلقي. أما الراوي فإنه ينساح كثيرا لا بتنقلاته الموقعية حسب، بل بتعليقاته التي تتخطى أحيانا كل الحقوق المشروعة المتاحة لأي شكل من أشكال الرواة الأدبيين، إذ يبدو أن الراوي الغائب الموضوعي (أو هذا ما بدا عليه في معظم المواضع) لم يقتنع بكينونته الجوهرية بوصفه وعيا مفترضا؛ فراح يتخطى هذه الكينونة نحو أخرى: الكينونة الشخصية دون شرعية واضحة لهذه الكينونة، ومن ثم راح يجامل بعض الشخصيات، ويهاجم بعضها الآخر، منساقا بإملاءات ما ينطوي عليه المشهد من تأثيرات عاطفية، كان ينبغي أن تكون حكرا على المتلقي: «كان الكلب البهي ميتا حقا، بما لا يدع مجالا لشك، كما يمكن لأي حي أن يموت، وبكل المعنى الشنيع والقاسي للكلمة. مات غيلة ميتة حقيرة. وعلى الوجوه كلها مات الفرح وفي القلوب انطفأت الشموع. تداخلت الخيام، وفر الشجر، وبلل ماء البحيرة الغمام..». واضح هنا أن الراوي لم يستطع أن يضبط مشاعره، كما لم يستطع -فنيا- أن يضبط موقعه. ربما كان ثمة حضور للرؤية الإعلامية انعكس تعبيرا مباشرا، وربما كان ثمة حضور لتقنية سينمائية تفسر، بل تبرر، بعض التنقلات السريع للراوي بين موقع للحدث وآخر، إذا ما ربطنا بين الموقعين من خلال تقنية التزامن. أجل، تقنيتان للبناء السينمائي تحضران بقوة في هذه القصة: المونتاج والتزامن. ومن خلال هاتين التقنيتين نستطيع أن نفسر خلخلة موقع الراوي في بعض المواضع، ولكن هذا يتطلب قدرا من الافتراض ربما يجاوز القدر المسموح. حسنا، ماذا لو كانت تقنية المونتاج هي الراوي في المواضع التي يسود فيها تزامن الأحداث بين ما يجري داخل الخيمة وما يجري خارجها؟ ماذا لو كانت قوانين المونتاج هي التي تركب المشاهد وتنتقل بسيولة غير مبررة أحيانا (في النص القصصي المكتوب) بين مشهد وآخر؟ إن المونتاج هو الراوي في النص السينمائي، ولكنه راو من الرواة أن ينجز مهمته على خير ما يرام، لو أن الراوي الأدبي الآخر تركه وشأنه، لكن هذا لم يكتف بالتفريط في موقعه أحيانا، بل راح، انطلاقا من غير موضعه، يتحرش بالعناصر الأخرى في صياغة الخطاب القصصي ويزاحمها أدوارها، وأهمها أن تقول ما تريد دون تدخل أو وصاية. *أكاديمي أردني. الرأي الأردنية في 21 يوليو 2006
بطاقة حمراء لمخرج فيلم "تسلل" الايراني ايرانيات يرفعن صورا للاعبي كرة قدم ايرانيين اثناء متابعة تدريبات في معسكر تدريبي في طهران طهران (اف ب)- يتواجه المخرج الايراني جعفر بناهي مرة جديدة مع هيئة الرقابة في بلاده بسبب فيلم كوميدي ينتقد فيه منع النساء الايرانيات من حضور مباريات كرة القدم في الملاعب. ويحمل الفيلم عنوان "اوف سايد" (تسلل) ويروي مغامرة مجموعة من الشابات يتنكرن بزي رجال لمتابعة مباراة منتخب بلادهم لكرة القدم المؤهلة لكأس العالم 2006. واوضح بناهي في مقابلة مع وكالة فرانس برس "اخترت عنوان الفيلم لان هذه العبارة تشير الى الخطأ الذي يرتكبه اللاعبون عندما يحاولون تسجيل هدف بطريقة غير قانونية والشابات في فيلمي يحاولن التسلل الى الملعب بطريقة غير قانونية". ومنعت النساء تدريجا من الدخول الى المدرجات الرياضية بعد الثورة الاسلامية في 1979. وقد رفض المرشد الاعلى للجمهورية اية الله علي خامنئي اخيرا قرارا اتخذه الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد لازالة هذا المنع. ويؤكد رجال الدين المحافظون ان النساء لا يحق لهن رؤية اجساد الرجال بالسراويل القصيرة كما ان المدرجات الرياضية مكان لا ينصح بتواجد نساء فيها بسبب الشتائم التي يتلفظ بها الرجال. ورغم حصول بناهي على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين للفيلم في وقت سابق من هذه السنة لا تزال اعماله في كل مرة تواجه مقص الرقابة. ويوضح بناهي "لا ازال انتظر الاذن (.. ) لم يأتوني بجواب بعد لا ايجابي ولا سلبي حتى" مشيرا الى ان الاذن بعرض فيلم يعتبر حساسا جدا يعلق في متاهات نظام الرقابة البيروقراطية. ويقول المخرج البالغ من العمر السادسة والاربعين "غالبية افلامي تتحدث عن القيود المفروضة على البشر والنساء في ايران يخضعن لقيود اكثر من الرجال لذا استعنت بكرة القدم كوسيلة لاظهار هذه القيود". وفازت افلام سابقة اخرجها بناهي بجوائز في مهرجانات اجنبية منها جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان العام 1995 عن فيلم "الكرة البيضاء" وجائزة الاسد الذهبي في مهرجان البندقية العام 2000 عن فيلم "الدائرة" وجائزة لجنة التحكيم في كان 2003 عن فيلم "دم وذهب". وفيلم "الدائرة" الذي يرسم صورة قاتمة لوضع المرأة في ايران لم يحصل ابدا على اذن بعرضه من هيئة الرقابة الايرانية التي حذفت كذلك حوالى عشرة مشاهد من فيلم "دم وذهب". ويؤكد بناهي "اتمنى ان يسمح بعرض افلامي علنا هنا والا يكون مصيرها مثل مصير +الدائرة+" املا الا يقع فيلم "تسلل" في طي النسيان ايضا. وكان يأمل ان يعرض هذا الفيلم قبل انطلاق كأس العالم لكرة القدم مطلع حزيران/يونيو خصوصا وان المنتخب الايراني تأهل الى نهائيات المونديال. وقوبل قرار الرئيس الايراني السماح بوجود المرأة في المدرجات الرياضية بوابل من الادانات والمواقف المؤيدة. لكن فوز رجال الدين المحافظين في هذا المجال اظهر ان ارث الثورة لا يزال قويا. الا ان جعفر بناهي يرى رغم ذلك تغييرا بطيئا في موقف بعض المسؤولين في هذا الشأن. ويوضح "خلال تصوير الفيلم في ملعب ازادي في طهران شعرت ان مسؤولي الاتحاد الايراني لكرة القدم يميلون الى السماح بتواجد نساء في المدرجات لانهم يعتبرون ان القانون الحالي يسيء الى صورة كرة القدم الايرانية". ويؤكد المخرج انه في غياب النساء "تكون الاغاني التي يرددها المشجعون مليئة بالشتائم. لكن في حال سمح للنساء بدخول الملاعب ستخف حدة هذه الشتائم". موقع الـ msn في 22 يوليو 2006 |
«البشرة المالحة» للسوري نضال حسن... شعرية الحياة المملة حين تطفو على سطح البحر دمشق – فجر يعقوب يكاد فيلم «البشرة المالحة» للمخرج السوري الشاب نضال حسن يشكل مفاجأة من نوع خاص على رغم الطول المرهق (70 دقيقة) للمادة السينمائية (العادية) التي تتكون عناصره الفيلمية منها. أبرز ما في الفيلم تعبيره البصري عن الملح كقوة غامضة تفعل فعلها في الأجساد كما في المخلوقات البحرية نفسها، وبامتياز طالع من أدب جبران خليل جبران الذي يستفيد المخرج من قوله له يؤكد فيها «ان في الملح قوة مقدسة عجيبة، فهو كائن في دموعنا وفي البحر». وفي الفيلم تجدنا شاهدين على ظهور مخرج متمكن من أدواته على رغم «تناثرها» الجلي والواضح في فيلم يستلهم قصته من مفردات الحياة اليومية الرتيبة التي يعيشها اهل مدينة طرطوس البحرية السورية، مادة شعرية جوهرها الإفصاح عما أغمضت عنه الحياة نفسها في تعاطيها مع ما يشكل حكاية الفيلم: رحلة طفلين شقيين (احمد وهيثم) وقد غادرا مدرستهما الى ما هو مسكوت عنه في إيقاع ايامهما المملة، وعلى متن باخرة «تيتانيك» الرمزية المهملة، والصدئة كما هو خاطرهما في رحلة البحث عن «علي البحر». فيلم «البشرة المالحة» عرض اخيراً في تظاهرة «الوردة» للسينما المستقلة في دمشق في اول عرض جماهيري له، على رغم انه تحقق عام 2003. في حوار مع «الحياة» لم يتردد المخرج نضال حسن في القول انه اقدم فعلاً على اعادة توليف بعض مشاهد فيلمه بعد عرضه في التظاهرة... وهنا نص الحوار: · لماذا تأخر عرض الفيلم الى هذه الدرجة؟ - من الأمور التي حصلت مع هذا الفيلم انني دافعت في ربع ساعة منه، عن اطروحة تخرجي في معهد السينما في ارمينيا، عام 2002 ولم أتمكن من إكماله كما أريد إلا في العام التالي عندما أمنت له الدعم المالي اللازم. اما في دمشق فلم يتم عرضه في أي من مهرجاناتها بسبب غياب عروض الديجيتال المرافقة. وعندما أقيمت عام 2005 تظاهرة «نظرة على افلام الديجيتال» في مهرجان دمشق الفائت لم يعرض بسبب قدمه، وبالتالي لم يعد هناك مجال لعرضه إلا في تظاهرة الورد للسينما المستقلة، او في بعض العروض الشخصية. قصة حقيقية · بما ان الفيلم مزيج واضح بين الروائي والتسجيلي، فهل أنت من أعاد تمثيل الرواية وتدخل في السياق الدرامي له؟ - في واقع الحياة هؤلاء الأشخاص لم يكونوا كذلك. الذي أوجد هذا الشعور هو ان هؤلاء ليسوا ممثلين، فعفوية الأداء أعطت الانطباع بأن ليس هناك ممثلون، فيما يظهر امامنا ان الأب الذي فقد ساقه في حرب 1973 كان يروي قصة حقيقية تماماً. · طريقة تعاملك مع الكاميرا والشخصيات ساهمت في إعطاء الانطباع بأنك تعمل على مادة وثائقية صرفة؟ - كنت أوجه الأطفال بالعمل على تلقينهم النص على ان يعيدوا انتاجه بمفرداتهم بما يتناسب مع إمكاناتهم وحالاتهم النفسية. · من هو «علي البحر»؟ - اسأل أي شخص في مدينة طرطوس عن «علي البحر»، فتسمع آراء متضاربة بخصوصه، إذا ما أرادت امرأة ان تخيف ابنها تهدده بـ «علي البحر»، هو بالنسبة الى الأطفال شخصية مخيفة. · ولكنه ظهر في فيلمك مذعوراً تماماً؟! - مع السؤال عنه ستجد اجوبة متعددة فهناك امور اسطورية تتعلق به منها انه يمكنه ان يحقق الرغبات والأمنيات لمن يرغب ويشاء. · ما الذي حقق لك حضوره في الفيلم وهو تائه بهذا الشكل؟! - كان بوابة للولوج والغوص في عوالم هؤلاء الأطفال الداخلية في مدينة تعيش ظروفاً معيشية قاسية، هؤلاء الأطفال الذين لا يعرفون اللعب الحقيقي، وهم شبه مشردين لا يعيشون طفولة عادية ويتنقلون في اجواء بحرية ثقيلة وضاغطة، وبالتالي فإن ظهوره لهم على رغم انه هو نفسه يعيش ظروفاً قاسية يبرز الجانب الروحي المفقود عند هؤلاء الأطفال. · مـا الذي يـعـنـيـه ان يـكتـب احد الأطفـال على السفينة الضخمة المهجورة «تيتانيك»؟ - لا شيء سوى إبراز السخرية كمادة سينمائية طافية على السطح، كما هي السفينة بالضبط!! · يحضر الملح بقوة في فيلمك؟ - أعتقد ان للملح قوة عجيبة وسحرية يمكنها ان تحفظ الأجساد من الفساد. مقاطع من الحياة · ألا تعتقد ان هناك سرداً كثيراً في الفيلم كان يمكن الاستغناء عنه ببساطة؟ - السرد في الفيلم لا يتم وفق الخط الدرامي الذي أردته له، بل هو مقاطع من هذه الحياة، وجاء طويلاً لأنه يشبه ايقاع مدينة طرطوس نفسها، وهو إيقاع رتيب تتشكل منه حياة هؤلاء الناس. على أي حال كما هي حال كل فيلم اول بالنسبة الى أي مخرج، كانت تنقصني الشجاعة اللازمة لأتخلص من اشياء كثيرة تفسد ايقاع الفيلم نفسه. · أليس هناك شيء من طفولتك في الفيلم؟ - هناك ذاكرتي عن هذه المدينة. وأنا لا أخفي انني احب هذا الإيقاع وإن كان لا يمكنني العيش فيه، فما أن أذهب الى هناك، حتى أهرب ثانية. · البشرة المالحة لم تعد في فيلمك مجرد صفة... بل شخصية درامية؟ - بالطبع، هي ثقافة جسد نطلع عليها من خلال رحلة ولدين ينهمكان في البحث عن «علي البحر»، وفيما يظل احدهما على ايمان به يفقد الآخر هذا الإيمان. · ولكنها رحلة من دون مغامرات تذكر..؟! - لا توجد مغامرات ابداً. هي حكاية بسيطة عن ولدين محرومين شقيين يبحثان عن «سعادة» مفقودة في شوارع طرطوس وجزيرتها ومطاعمها وأزقتها وأسطحتها وإن تغلفت بمحاولة استنطاق «علي البحر». · هل يمكن للملح ان يحفظ هذه الأجساد الى ما لا نهاية؟ - عندما تحاول ان تسرق ميزات مدينة بحرية محاذية للشاطئ بجعلها مدينة سياحية، يحدث تغيير في علاقة المدينة بالشاطئ، فلا يظل كل شيء على حاله. الآن هناك مطاعم على طول الشاطئ لم يعد بوسعك ان تنظر من خلالها الى البحر. · هذا لم يكن من هموم الفيلم؟ - هذا صحيح من ناحية، ومن ناحية ثانية تظل علاقة الملح بالأجساد الطرية علاقة روحية ونفسية مع البحر نفسه الذي لم يعد في وسعك ان تهجع إليه بكل بساطة!! الحياة اللبنانية في 21 يوليو 2006
110 سنوات من تاريخ السينما في كتاب مصري... من ابتكارات لوميير الى شاشة هتلر ونازييه الاسكندرية – خالد عزب جراب سمير فريد كناقد سينمائي لا ينضب. فكل سنة يفاجئنا بالجديد في جعبته، ولعل كتابه الأخير «110 سينماتوجراف لوميير» هو مرجع لا غنى عنه للمهتمين بتاريخ وتطور فن السينما. الكتاب يضم سلسلة من الدرا سات التي جمعها سمير فريد من أرشيفه. ولعل الفارق بين عمل سمير فريد فيها، وبين تناثرها، هو الفرق بين عمل الناقد في الرواية الأدبية حين يكشف للقارئ عن مدلولات وأسرار البناء الروائي، وبين رؤية القارئ للعمل الأدبي. اتحفنا فريد بنشره ما كتبه الفريد فرج عن مرور مئة سنة على اختراع السينما. ففي عام 1995 كتب فرج مقالاً في المناسبة يقول فيه انه اذا كنت تؤرخ لميلاد السينما في السنة التي اخترع فيها الأخوان لوي وأوغيست لوميير آلة التصوير السينمائية وآلة العرض السينمائي، فإن عام 1895 هي عام المولد والنشأة والبداية لهذا الفن الجميل، أما اذا كنت تؤرخ لميلاد السينما في السنة التي اكتشف فيها رائد منسي (جورج ميلييه 1861 – 1938) امكانات استخدام هذه الآلة في ابتداع فن سابع وفي استخدامها إدارة للرواية والقصص وإنتاج الافلام والاستثمار، فإن 1896 هو عام المولد والنشأة والبداية لهذا الفن الساحر وعام 1996 هو العام المئة في عمر هذا الفن. وتسترسل المقالة في تبيان هذا التاريخ الفني، مشيرة الى أنه في عام 1895 اخترع الاخوان لوميير آلة التصوير وآلة العرض السينمائي. وهما كانا من صناع آلات التصوير وتجارها في مدينة ليون الفرنسية وفي كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه اجتمع عدد من هواة العلم والتقدم التكنولوجي ومن الفضوليين الذين اجتذبهم إعلان صغير أمام دار الاوبرا ليشاهدوا أول عرض سينمائي من بضعة أفلام قصيرة جداً. وكانت الأفلام صوراً متحركة من الواقع: كقطار يدخل المحطة، وطفل يأكل وتدشين سفينة وانزالها الى البحر ولقاء حبيبين. هذا كل ما في الأمر ولكن هذه الافلام القصيرة والصور العادية كانت مثيرة جداً لمن شاهدها وكان من بينهم فنان للالعاب السحرية اسمه جورج ميلييه اثارت الآلة الجديدة خواطره فقرر انشاء شركة لاستثمار امكانات هذه الآلة الرائعة. ويذكر التاريخ أن جورج ميلييه عكف على صنع آلة التصوير وكان يجربها في تصوير ألعابه السحرية وحيله المدهشة. فصور اختفاء فتاة في صندوق واشتعال شموع من دون كبريت. وكان ميلييه يقدم ألعابه على مسرح «هودان» فعرض أفلامه على المشاهدين في المسرح فأقبل الجمهور على المسرح وصفقوا لأفلامه طويلاً مما شجعه على مواصلة التجريب وتطوير هذا الفن الجديد. وكان ميلييه يصور الأفلام في الحديقة لأنه لم يكن يعرف مصدراً لإضاءة المشهد إلا الشمس. ولكن المطر كان يفاجئه أحياناً فأنشأ أول استديو في تاريخ السينما وهو بناء زجاجي الجدران والسقف. اكتشف ميلييه ببداهة الساحر معظم حيل التصوير السينمائي الاساسية والتي نقلتها عنه في ما بعد السينما في كل البلاد. ومن بين الحيل التي اكتشفها تجميد الصورة لاحداث تأثير معين والتصوير البطئ أو السريع أو التلاشي والمزج وتكبير الصورة، وكان في استطاعة ميلييه أن يقسم صورة الانسان نصفين أو يخفض الشخص فجأة في صورة ثابتة وكان أول من صور القصص والروايات في الأفلام وأول من وظف ممثلين لذلك. تطور الرقابة بعد الانتهاء من هذه المقالة التي سجلت التاريخ بحرفية، يقدم لنا الكتاب تحليلاً عرضه فيليب فرنش عن تطور الرقابة على السينما في العالم وكذلك ما كتبه دافيد شابارد عن توثيق الأفلام السينمائية معقباً بترجمة عربية دقيقة لوثيقة اليونسكو لإنشاء صندوق صون تراث الافلام. ونستطيع أن نتوقف قليلاً أمام ما كتبه ابراهيم العريس تحت عنوان «النازية في أسوأ تجلياتها... والسينما في أردأ أدوارها»، إذ عرض قدرات المخرجة الالمانية ليني ريفتشال التي قدمت فيلم «مؤتمر الانتصار» وفيه سجلت احتفال هتلر بفوز حزبه بعد الحرب العالمية الأولى، عرفت ريفتشال كيف تستخدم كل امكانات التصوير والهندسة لتحقيق عمل يمجد الشكل والجموع وعظمة ألمانيا. فالفيلم يؤله الجسد والعظمة الجسمانية، ويبين قدرة فائقة على استخدام الجماهير كأعداد تركب في اشكال هندسية. وأخيراً فإن مراجعة هذا الكتاب القيم لا تغني عن قراءته لأن ما أورده من تفاصيل يلفت الانتباه ويسد فراغاً كبيراً في مكتبة السينما العربية. الحياة اللبنانية في 21 يوليو 2006
|
بقلم أ.د نبيل حداد |