روتردام ـ القدس العربي : ينحدر المخرج الإيراني محمد شيرواني من عائلة دينية محافظة، تتميّز بنظامها الحياتي الصارم. فأبوه كان رجلاً عسكرياً متشدداً في حياته برمتها. وحينما إندلعت الحرب العراقية ـ الإيرانية كان عمر محمد سبع سنوات لا غير، فهو من مواليد طهران عام 1973. وكان والده يدرك جيداً أن يد المنون تختطف الآلاف المؤلفة من الرجال وهم في ريعان شبابهم في جبهات القتال، لذلك سارع إلي تسجيله في مدرسة التصنيع العسكري العليا علّه ينقذه من المصير الغامض الذي ينتظره في المناطق الحدودية المُلتهبة شرط أن يخدم في هذا الصنف مدة عشر سنوات! ولأن محمد شيرواني كائن مطيع وخجول فقد رضخ لرغبة أبيه، وتطوّع في هذه المدرسة العسكرية، وبقي في طهران، المدينة الأكثر أمناً من كل المدن الإيرانية الغربية المحاذية للحدود العراقية.

ولم تتوقف صرامة أسرته عند هذا الحد حسب، بل أجبروه علي زواج تقليدي يرضي رغبة الوالدين فقط من دون أية مراعاة لمشاعره الداخلية، وقلبه الذي قد ينبض لفتاة أخري صادفها هنا أو هناك. غير أن هذه الضغوط القاسية قد فجّرت في أعماقه ما لم يتوقعه الأب الذي يريد أن يرسم خارطة لمستقبل ابنه علي هواه ومزاجه، فقد هرب الإبن بعد سبع سنوات من الخدمة العسكرية المتواصلة، وتوجه إلي دراسة الفن التشكيلي في أكاديمية الفنون الجميلة، وإنغمس في التشكيل لمدة من الزمن، لكنه إكتشف أن فضاء اللوحة التشكيلية ضيّق، وأن جمهور الفن التشكيلي محدود عموماً، ومقتصراً علي النخبة، بينما كان همّه الداخلي مخاطبة جمهور أكبر حجماً وأوسع إنتشاراً، لذلك فكّر في السينما بوصفها فناً بصرياً واسع الإنتشار، وقد يفتح له كوّة إلي العالم الخارجي حيث تنتظره الجوائز العالمية، وتترقبه السجّادة الحمراء.

جائزة كان أنقذته من عقوبة الهروب من الخدمة العسكرية

في عام 1988 كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية قد وضعت أوزارها، لكن الأجهزة الأمنية ظلت يقظة تحاسب الناس علي هفواتهم وأخطائهم، وترسم لهم مصائرهم أيضاً. ولأنه هارب من خدمة الوطن فلابد للأجهزة الأمنية أن تقبض عليه، وتودعه في سجونها الإصلاحية! . كان محمد شيرواني في عام 1999 بالذات منهمكاً في إنجاز فيلمه الأول الدائرة ، وحينما وضع لمساته الأخيرة عليه بعثه إلي باريس بهدف المشاركة في مهرجان كان السينمائي، وظل ينتظر ساعي البريد لكي يحمل له الخبر المفاجئ الذي سيقلب حياته رأساً علي عقب.

وفعلاً جاء منْ يطرق علي الباب، لكنه لم يكن ساعي البريد، بل كانوا زمرة من العناصر الأمنية التي كبّلت أحلام محمد أو يديه، وإقتادته إلي أقرب مركز بوليسي للتحقيق في جريمة هروبه من خدمة العلم . وضمن مراحل سير التحقيق صادف أن تظهر الموافقة الرسمية علي مشاركة فيلمه التسجيلي القصير الدائرة في مهرجان كان ذائع الصيت، وخشية من فضائح الصحافة العالمية التي قد تنشر غسيل المخابرات الإيرانية في وسائل الميديا العالمية، أطلقوا سراحه، ومنحوه إذناً بالسفر إلي باريس شرط أن يتحدث عن الدائرة وألا يخرج عن مساحتها الضيقة المرسومة بالخط الأحمر.

لم يُدهش محمد شيرواني حينما إنتزع فيلمه الأول جائزة النقاد فيبريسي فهو الأدري بإمكانياته الفنية التي تؤرقه ليل نهار، ويعرف أن منجم أعماقه غزير بالعطاءات القادمة. فواصل مسيرته الإخراجية بأفلام تنتمي إلي المجازفة والتجريب والعالم الجوّني إن صح التعبير، ملامساً المناطق المحرّمة أو المحجوبة أو المسكوت عنها فأنجز في عام 2000 فيلم المرشح ، وفي عام 2001 أنجز فيلمي الموافقة و هدية تذكارية وفي عام 2002 أثار فيلمه الكرز المعلّب ضجة في المشهد الثقافي السينمائي. وفي عام 2004 تبعه بفيلم Conserve Iranian وفي العام ذاته أنجز شيرواني فيلمه الروائي الأول السرّة والذي ينطوي علي جرأة نادرة بحيث تلقفته المهرجانات العالمية ومن بينها مهرجان الفيلم العالمي في روتردام الذي إحتفي بعرضه عرضاً عالمياً أول مرة لافتاً إليه إهتمام النقاد والجمهور متعدد الجنسيات بحيث صار محبوه ومؤازره يترقبون عروضه القادمة.

السخرية المرّة وروح الدعابة

في عام 2005 أنجز شيرواني فيلمه التسجيلي الطويل الأول، والذي إنضوي تحت عنوان الرئيس مير قنبر وقد بلغ شيرواني في هذا الفيلم بالسخرية إلي أقصاها حينما تناول شخصية موظف حكومي متقاعد، طاعن في السن، يرشح نفسه للإنتخابات الرئاسية لإيران من قريته النائية في إقليم أذربيجان، يساعده فريق عمل مؤلف من رجل واحد يدعي سيف الله، معوّق يمتطي حماراً يجر وراءه عربة بدائية جداً، ويوزع منشوراته الدعائية المستنسخة علي الرعاة والفلاحين. وقد وعده الرئيس المرتقب بإسناد وزارة الصحة إليه في حال فوزه بالحملة الإنتخابية. ويذكر أن مير قنبر حيدري قد رشح نفسه سابقاً للإنتخابات البرلمانية خمس مرات، وللإنتخابات الرئاسية ثلاث مرات، لكنه لم يحصد من كل مشاركاته السابقة إلا بضع مئات من الاصوات التي لم توصله إلي سدة الحكم.

والمفارقة الكبري أن هذا الرئيس المرتقب ينوي تنظيف شوارع إيران برمتها في حال وصوله إلي السلطة لإستقبال المهدي المنتظر الذي سيقضي علي الظلم والجور، ويملأ الدنيا عدلاً وإحساناً. وقد فاز هذا الفيلم مؤخراً بجائزة ياماغاتا التي يمنحها مهرجان ياماغاتا للفيلم التسجيلي العالمي في اليابان. يمكن القول إن السيرة الإبداعية للمخرج الإيراني محمد شيرواني لن تقتصر علي الأفلام العشرة التي أنجزها بين عام 1999 وحتي الآن، وإنما ستتوسع بالتأكيد، وتتطور لمصلحة تجربته الإخراجية التي تدور في فلك التجريب، وخرق المألوف، والتحرّش بالمناطق المختفية. وخلال هذه المدة القصيرة زمنياً اشترك شيرواني في سبعين مهرجاناً محلياً وعالمياً، ونال 26 جائزة وطنية، و 6 جوائز عالمية.

الذاكرة المرئية

وفي أثناء مشاركته في مهرجان الفيلم العالمي في روتردام وللمرة الثانية إلتقيته لأثير في أعماقه بعض الأسئلة التي تتعلق بتجربته الفنية. وقد ساهم في ترجمة هذا الحوار مشكوراً المترجم العراقي محمد الأمين وهو من أصل إيراني ويتقن اللغة الفارسية جيداً، الأمر الذي ساعدنا في الكشف عن المناطق الغامضة في حياة هذا المخرج السينمائي الذي سيحقق حضوراً كبيراً وفاعلاً في السنوات القادمة. وحينما بادرته بالسؤال عن مدي إقتناعة بمقولة غودار التي تؤكد علي أن السينما هي الذاكرة، والتفزيون هو النسيان. أجاب إجابة ذكية تنطبق علي الكثير من دول العالم الثالث الشمولية حيث قال صحيح أن السينما هي الذاكرة، ولكن التلفاز هو السلطة!" في البلدان التي لا تحترم الذاكرة المرئية. وقبل أن نمضي في نثر أسئلتنا في فضاء ذاكرته قال إنه يفضل الحديث عن الأفلام الإيرانية التي عالجت الحرب العراقية- الإيرانية من منظور إنساني سواء له أو لغيره من المخرجين الإيرانيين وخصوصاً أولئك الذين إكتووا بنارها، أو عانوا منها بشكل غير مباشر. وعندما سألناه عن السبب الذي دفعه لإنجاز فيلم عن الأسري العراقيين الذين ظلوا محتجزين في إيران لعقدين من الزمان أجاب: في أحد أفلامي المعروفة وهو الكرز المعلّب حاولت أن أقدّم رؤية إنسانية شاملة للأسري العراقيين في إيران من خلال رسالة يكتبها أسير عراقي لمولوده الذي بلغ من العمر 18 عاما من دون أن يعرف الأب الأسير إن كان المولود ذكراً أو أنثي، وقد شارك هذا الفيلم في عشرات المهرجانات العالمية، ونال إستحسان النقاد والمشاهدين علي حد سواء. كما توقف عند فيلم الأسير والإنتظار للمخرج الإيراني محمد الأحمدي والذي ساهم شيرواني في مَنْْتجته حيث قال إن هذا الفيلم يتحدث عن مجموعة كبيرة من الأسري العراقيين المُحتجزين في أحد معسكرات الأسر في إيران حيث أمضوا فيه نحو عشرين عاماً، وكانوا خلال هذه المدة الطويلة يتوقون للحظة التي يتحررون فيها من قيود الأسر الثقيلة. ويبدو من خلال هذا الفيلم أن العالم برمته قد نسي هؤلاء الأسري، وأن الطيور هي الكائنات الوحيدة التي لم تنسَهم، بل كانت تبدد وحشتهم في ظلمة الأسر، وتخفف عنهم وطأة الأجواء الكابوسية المريرة. . وطالما أن المخرج ينتمي إلي الموجة الجديدة في إيران، هذه الموجة التي لم تنسجم مع أطاريح النظام الإسلامي الذي لا يترك للسينمائيين الحرية في العمل الفني سألناه عن الجهات الداعمة لأفلامه، خصوصاً وأن فيلمي السرّة و الرئيس مير قنبر قد حصلا علي دعم من صندوق هوبيرت بالس الهولندي، فأجاب: أنا مخرج مستقل، وأحاول جهد الإمكان أن أعبّر عن وجهة نظري الشخصية كفنان، وقد واجهت خلال السنوات السبع الماضية صعوبات كبيرة سبّبتها لي الجهات الرسمية، لذلك لم أحصل علي دعم رسمي من إيران، وقد حصلت علي دعم لفيلمين من أفلامي القصيرة من مؤسسات شبه حكومية، أما بقية أفلامي فقد حصلت علي تمويل داخلي مستقل، وتمويل خارجي هولندي، كما ورد في متن سؤالك. وأكثر من ذلك فلم أحصل علي ترخيص لعرض بعض أفلامي داخل إيران، ومن المؤسف أن اعرض أفلامي خارج إيران ولا أتمكن من عرضها للجمهور الإيراني .. ومن المعروف أن محمد شيرواني مولع بالعمل السينمائي الروائي والتسجيلي، ولكنه يسعي لترسيخ نوع جديد من السينما التي تمزج بين الفيلم الروائي والتسجيلي في آنٍ معاً، وقد سبق له أن حدّد هدف هذا النوع الهجين وهو البحث عن الحقيقة الثانية حيث قال: إن الفيلم التسجيلي يحّد من قدرتي علي التخيّل، وأن الفيلم الروائي يقلل من إمكانية التوثيق. ما أبحث عنه هو الإمساك بـ الحقيقة الثانية التي أشار إليها تاركوفسكي ذات مرة. وبوصفنا متابعين للمشهد السينمائي الإيراني فقد طلبنا منه أن يحدد طبيعة العلاقة بينه وبين المخرجين الكبار أمثال عباس كياروستمي ومحسن مخملباف وغيرهما فأجاب: أغلب المخرجين الإيرانيين الكبار ينتمون إلي تيارات ومدارس سينمائية مختلفة، خلافاً لي ولأقراني من تيار الموجة الجديدة الذي لم ينسجم مع الرؤي والتوجهات السياسية للبلد بعد الثورة الإسلامية عام 1979. ولا بد من الإشارة إلي أن هؤلاء المخرجين الكبار أمثال كياروستمي ومخملباف، وبهرام بيضائي، وشوهراب شهيد ساليس، كانوا شجعاناً بما فيه الكفاية، لأنهم كسروا الحواجز التي كانت تقف بوجه السينما الإيرانية، وخصوصاً تلك القيود التي فرضتها هيمنة نظام ديني له شروطه، وقناعاته الفكرية التي أوجدت مقص الرقيب الذي لا يمرّر افلاماً تتنافي مع القيم الإسلامية. لذلك يجب التنوية دائماً إلي أهمية الدور الذي لعبه المخرجون الأسبقون الذين مهّدوا الطريق للموجة الجديدة والتي ننسبها لهم، لكننا ننسب إلينا فكرة الذهاب بالمغامرة إلي أقصاها، ومن هنا فقد تكون موضوعاتنا أكثر جرأة من موضوعاتهم، ولهذا السبب أقول إننا لم نكن محافظين بالقدر الذي كانوا هم عليه. نحن لم ننشغل بالكليشهات القديمة، بل ذهبنا إلي الأمكنة الجديدة التي أفرزت بالضرورة إبداعات جديدة ممتعة وغير مكررة كما هو حال أفلامي الجريئة السرّة أو المرشح أو الكرز المعلّب أو الرئيس مير قنبر أو أي فيلم آخر من أفلامي التي تعالج عوالم جوّانية أو سرّية إن شئت لم يتعاطَ معها المخرجون المحافظون. ربما لدي ملاحظة سلبية واحدة وخطيرة علي بعض الأسماء الفنية الجديدة وهي أنهم يسعون وبلا هوادة لإتباع خطوات الاستاذة الكبار الذين أشرنا لهم آنفاً، فلو ذهب كياروستمي إلي كردستان وصوّر فيلماً عن المنطقة الساخنة هناك فأن أغلب المخرجين الشباب يذهبون إلي هناك، ويفعلون مثلما فعل مستوحين الروح الإيقاعية للفيلم، أو لو ذهب مخملباف إلي أفغانستان فأنه سيغري الشباب بالذهاب إلي هناك ويحفزّهم لتصوير أفلام مماثلة لا تنجو من بصماته أو تاثيره الفني بشكل عام .. وعن حجم المشاركة الإيرانية في مهرجان الفيلم العالمي في روتردام سألنا المخرج محمد شيرواني عن الأسباب الكامنة وراء الحضور الطاغي للفيلم الإيراني، ومبررات وجوده القوي علي الرغم من خروجه من رحم نظام ديني أقل ما يقال عنه أنه متشدد أو أصولي، فأجاب: إن السينما الإيرانية لم تتوقف بعد مجيء الثورة الإسلامية، وربما يعود الفضل الأكبر إلي المخرجين الأكبر سناً منا، والذين رفضوا أي شكل من أشكال القيود علي الإنتاج السينمائي. وهذا لا يعني أنه ليست هناك رقابة علي الفيلم الإيراني، بل أوكد لك بأن الرقابة كانت سابقاً موجودة علي الفيلم الروائي بقوة لأنه يتعاطي مع موضوعات من قبيل الحياة والحب وما إلي ذلك، أما الآن فإن هناك رقابة حتي علي الفيلم التسجيلي، ولكن الصراع بين السلطة من جهة، والسينمائيين من جهة أخري ما يزال موجوداً وقائماً علي اشده، وكل يشد الحبل بإتجاهه، غير أن بلداً كبيراً مثل إيران فيه طاقات سينمائية كبيرة. وأستطيع القول إن هناك نحو 5000 شخص في إيران يعملون في مجال إنتاج الفيلم الوثائقي، كما أن هناك الجامعات والمعاهد الفنية المتخصصة في مختلف الحقول السينمائية، لذلك فإن نسبة إنتاجنا للأفلام الوثائقية والروائية تفوق بلداناً كثيرة في العالم، فلا غرابة أن نشترك في هذا المهرجان بسبعة أفلام روائية ووثائقية. كما ساهمت الكاميرا الرقمية في توسيع التصوير السينمائي، وإنتاج ما يسمي بالأفلام المنزلية التي تصور مباشرة بواسطة الكاميرا الديجيتال، وتمنتج علي شاشة الكومبيوتر بكلف مادية ضئيلة جداً. ولك أن تتصور أنا من عائلة دينية محافظة، هربت من الخدمة العسكرية لألتحق بالحقل السينمائي الذي شفع لي وأنقذني من عقوبة قاسية لأنني أنجزت فيلم الدائرة الذي فاز بجائزة النقاد في مهرجان كان وقد ألغت السلطات الإيرانية العقوبة التي كانت مترتبة علي هروبي من أداء الخدمة العسكرية بسبب هذه الجائزة العالمية .

فرض الحجاب، وتنظيف شوارع إيران لإستقبال المهدي المنتظر

وعن فيلمه الرئيس مير قنبر المثير للجدل والسخرية في آن معاً سألناه عن السبب الذي دفعه لتبني هذا الحجم الكبير من الدعابة، والتهكم، والسخرية، والكوميديا السوداء فأجاب: يتناول فيلمي الجديد الرئيس مير قنبر والذي حصل علي دعم هولندي، شخصية دونكيشوتية، وهو مير قنبر حيدري الذي تمكن بعد خمس وعشرين عاماً من إجتياز إمتحان الكونكر الذي يؤهله للدخول إلي الجامعة، وقد دخل إليها وهو الآن أكبر طالب جامعي سناً. وقد خاض عدداً من الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية ولم يحصل إلا علي نسبة ضئيلة من الأصوات، ولكنه يعتقد أن العناية الإلهية ستشمله ليتولي منصب رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران. وقد قدّم تصوراته وآراءه عن مهامه القادمة كرئيس للدولة في مجمل الشؤون الأساسية مثل حقوق الإنسان، وطبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، مع التأكيد علي العلاقة بين الشعبين الأمريكي والإيراني لا تشوبها أية شائبة، والإشكال قائم مع الإدارة الأمريكية فقط، كما بيّن وجهة نظره بحقوق المرأة الإيرانية. وقد آزره في هذه الحملة الإنتخابية لرئاسة الجمهورية شخص معاق وعده المرشح قنبر بمنصب وزير الصحة في حال فوزه في الحملة الإنتخابية. ولا تخفي علي المشاهد أوجه المقارنة بين مير قنبر ومساعده سيف الله، ودون كيشوت ومرافقه سانشو بانزا. ولا شك في أنني أريد القول بأن هناك شخصيات غير طبيعية تسعي للوصول إلي أعلي المناصب الحكومية. وقد حظي هذا الفيلم بإعجاب الكثير من المشاهدين في العديد من بلدان العالم التي عرض فيها هذا الفيلم." وحينما سألناه عن سبب إختياره لشخوص غير محترفين في فن التمثيل سواء في هذا الفيلم أو أفلام سابقة له فأجاب: أنا أحب العمل مع الشخصيات غير المحترفة، فهي طريفة في كل شيء، وتستطيع أن تتلمس الحقيقة من آرائها، وتوجهاتها، فهم يظهرون حقيقة ما في أعماقهم. وفي فيلم الرئيس مير قنبر هناك الكثير من الحقائق التي لا يجرؤ البعض علي التصريح بها، بينما الناس البسطاء لا يضمرون شيئاً من هذا القبيل. فحينما سألته في جينيف عن رأيه في الفيلم قال بصراحة متناهية: أن إعتراضي الوحيد علي مدة الفيلم الذي كنت أتمني أن يستمر عرضه لمدة ثلاث أو أربع ساعات، لأنه كان يعتقد أن مدة التصوير الطويلة التي إستغرقها الفيلم ستعرض كلها علي الشاشة الكبيرة . وحينما سألوه عن الإجراءات التي سيتخذها عندما يصبح رئيساً للجمهورية أجاب بوضوح قائلاً: سافرض الحجاب الإسلامي علي المرأة، وسأصدر أوامر للمواطنين بتنظيف شوارع إيران تمهيداً لظهور المهدي المنتظر بعد غيبته الطويلة..

رفض القوالب والصيغ الجامدة

ولكون التجريب صفة مميزة في المنجز الفني لشيرواني فقد سألناه عن قدرته في إحتواء المتغيرات الكثيرة التي تطرأ علي عالم السينما فأجاب: إن معركة التجديد بين القديم والجديد في السينما وفي اي عمل إبداعي مستمرة، ولا أعتقد أنها ستتوقف ذات يوم. كل ما في الأمر أنا لا أحب الصيغ والقوالب الجامدة، لأن الصيغة تجعل الفن يشبه سندويجة الماكدونالد المتشابهة التي تجبر الشخص علي أن يأكلها وهي ساخنة، ثم تنتهي بسرعة من دون أن تخلّف طعماً أو نكهة مستديمة. الفن السينمائي الراقي من وجهة نظري ليس صحيفة تولد اليوم لتموت غداً، وأنا أريد أن أصنع أفلاماً سينمائية تبقي لمدة طويلة من الزمن، وتتعاطي مع القضايا الإنسانية التي تصمد كلما تقادمت الأيام والسنوات. أنا اشعر بأن بعض الأفلام تغيّرت وراثياً، وأصبحت خفيفة لا وزن لها، تماماً كما الصحيفة اليومية التي تولد وتموت بعد ليلة واحدة من الحياة. أريد أن اصنع وأري أيضاً أفلاماً منبثقة من أعماق الإنسان، جديدة، ومحرّكة للمشاعر، ومتمردة علي الصيغ الثابتة .

القدس العربي في 19 يوليو 2006

 

عن الكاميرا وحركتها الديناميكية: روابـط اللعنة

عبدالله السعداوي  

إذا كان الياباني - أوزو باريسجيرو مبتكر الإشارات الدلالية (البصرية والصوتية) والذي كانت موضوع أفلامه هو اليوميات العادية المبتذلة، التي تعيشها أسرة داخل المنزل الياباني - مثل رحلة قصيرة - سفر بالقطار - سباق بالتاكسي، نزهة في الباص - مسيرة على الدراجة أو على الأرجل ذهاب الجدين وعودتهما في الريف إلى طوكيو، العطلات الأخيرة لفتاة مع أمها، مغامرة طائشة لرجل عجوز من خلال حركة كاميرا تغدو شيئاً فشيئاً نادرة - وللقطات مصاحبة والتي تمثل (كتلاً من الحركة) البطيئة ومنخفضة، الكاميرا المنخفضة دوماً، ويختفي تدخل اللقطات، لصالح قطع بسيط في أسلوب حديث غاية في التقشف، المونتاج الذي يسود السينما الحديثة هو انتقال في لقطة إلى أخرى.

وتسجيل لحظات وقف بصرية صرفة، بين الصور فاعلاً بنحو مباشر، كما أن الأصوات مأخوذة بالاعتبار - أيضاً وقد عدل ''أوزو'' الأسلوب الذي استخدمه (لوبيتش) الذي كان صالحاً لصورة - فعل، والتي تعمل كإشارة دالة على نقص أو إبهام في الموقف بينما الأسلوب لدى أوزو كشف عن غياب الحبكة إذ تختفي الصورة - الفعل لصالح الصورة البصرية الصرف لشخصية من شخصيات الفيلم الطبيعية والحوار المبتذل، فالحياة اليومية ليست سوى حسية - محركة واهية يستعاض بها عن الصورة الفعل بصور بصرية وصوتية صرف، ليس هناك خط كوني لدى ''أوزو'' حسب نقاد السينما، يعيد ربط اللحظات الحاسمة - ربط الأحياء بالأموات كما لدى ''ميزو غوشي'' فخط الكون أو وتر الكون هو الخط الذي ينطلق من كائن إلى آخر منكسراً أو متموجاً ويربط بين المرأة والرجل بين السمكة والبحر، بين الأغنياء والفقراء والذي هو فلسفة ''ميزو غوشي'' حسب ''دولوز'' في السينما.

وليس لدى ''أوزو'' فضاء موقف جامع الذي هو فلسفة (كوروساوا) يخفي بداخله مسألة أساسية عميقة يعتمد دائماً على الإنسان حلها حتى ينجو.

هذه السينما اليابانية اتجهت في فترات ناحية الاقتصاد لتضع فيلماً عملياً اقتصادياً مع المخرج (مورنيا بوشيميتو) وفي ذات الطريق ذهب المخرج الياباني ''ايكيهادا'' من خلال فلمه ''زهور الخريف'' محققاً فيلماً من منطلق اجتماعي إنساني يحرص من خلاله آثار الأزمة الاقتصادية من بطالة وإحباط - وكذلك فعل المخرج صاحب الصورة البصرية القوية 11 هارادا ماساتو) في فيلم (رعب عالم الأعمال) أو (الروابط الملعونة) والذي يتناول فيه الأزمة الاقتصادية وجذورها بشكل مباشر ليدين أساليب الملتوية الفاسدة التي سادت سياسات البنوك الكبرى في اليابان - تلك الفضيحة الحقيقية التي حدثت عام 1997م داخل أحد البنوك اليابانية (بنك داي ايتس كانجيو) والذي دفع الكاتب ''ريو تا كاسوجي'' بكتابة رواية عن تلك الحادثة الخطيرة، والتي اعتمد عليها سيناريو الفيلم كما كتبه ''هارادا ماساتو'' و(ريوتا كاسوجي) تحت عنان ''جزر الأسواق المالية الفاسدة'' و''الروابط والملعونة'' فالجزر تشير إلى اليابان والروابط الملعونة تذهب بنا إلى تلك الروابط التي تربط بين البنوك ووزارة المالية اليابانية ومجموعة ''الياكوزا - المافيا اليابانية).

ملوك الكواليس الخلفية الذين يخططون لكل شيء من دون الظهور في الواجهة.

ومن خلال فيلم قوي ذي تأثير كبير، اعتمد فيه المخرج (هارادا ما ساتو) على الكاميرا وحركتها الديناميكية في ملاحقتها للشخصيات داخل ممرات البنك في إيقاع سريع ولاهث ومن خلال مواجهتها بين الفساد والأمين خلال مشاهد مليئة بعشرات الشخصيات الرئيسية والهامشية والكومبارس، يظهر قدرة المخرج الفائقة في تقديم الفيلم بشكل واقعي مثل مشاهد الاجتماعات، ويصل بالكاميرا من خلال الأحداث إلى الإحساس الحي وكأنه يحدث أمامك على مستوى الأداء أو تبادل الحوار أو انتقال الكاميرا من شخص إلى آخر، وكعادة هارادا الذي يعتمد في معالجة موضوعاته بشكل سطحي تجارى أنها يتعمق في طرح القضية ومن خلال طرح واعٍ واجتماعي يفضح سياسية البنوك والفساد في اليابان، يكشف أسواق المال والاقتصاد ذلك القاتل المأجور كما جاء في اعترافات ''جون بيركنز'' الذي قال : ''إن القتلة المأجورين من النوع الاقتصادي هم أخصائيون يجنون المبالغ الضخمة، ويخدعون دولاً حول العالم بآلاف المليارات من الدولارات، يحولون المال من البنك الدولي ووكالة التنمية الأمريكية، ومنظمات مانحة أخرى إلى خزانات شركات ضخمة وجيوب بعض العائلات الغنية التي تتحكم بالموارد الطبيعية، لهذا الكوكب تتضمن وسائلهم تقارير مالية فاسدة التلاعب بنتائج انتخابية - الرشاوى - الجنس وارتكاب الجرائم، يقومون بلعبة قديمة قدم الإمبراطوريات، لكنها لعبة اتخذت أبعاداً جديدة ومرعبة في زمن العولمة. يرصد الفيلم جذور الأزمة الاقتصادية قبل ظهور عناوين الفيلم نرى مشاهد مصورة بالأبيض والأسود على شكل جريدة سينمائية ليابان، ما بعد الحرب تشرح بصمت الجذور الحقيقية اللازمة اليابانية، نرى في المشاهد شخصيات أمريكية ويابانية، فازدهار الاقتصاد الياباني بعد الحرب كان نتيجة لحربين في آسيا تسببت فيهما أمريكا هما الحرب الكورية وحرب فيتنام، لكن المخرج لا يزج في تلك المشاهد بالشخصية الفاسدة والتي يطلق عليها ''إمبراطور سياسة الكواليس الخلفية'' والذي كان يلعب دور المفاوض بين القيادات السياسية الأمريكية العليا بما فيهم ''نيكسون'' وبين وزارة المالية اليابانية والبنك الياباني، والسواق المالية اليابانية، فقد تلاعب هذا الرجل بمصير اليابان، وكان في إمكانه بكل سهولة تغيير رئيس وزرائه. يفتتح الفيلم بمشاهد لأحد محلات التفتيش المفاجئة التي يقوم بها أفراد من مكتب المدعي العام، لمدينة طوكيو على أحد البنوك المشتبه في تعاملاته غير القانونية مع إحدى مؤسسات الأمن الكبرى - يتم القبض على رؤسائه ومصادرة أوراقه وملفاته، يتجمع أمام البنك عشرات الصحافيين يتابعون الحدث الكبير، حيث تعم الفوضى خارج البنك ويتظاهر مالكو الأسهم ثم يطلق أحد المدعوين الشباب الرصاص عشوائياً، على من يخرج من البنك ويدخله، في حالة كبيرة من اليأس، ينتحر الرجل الثاني في البنك رغم أنه كان يحاول مقاومة الفساد الذي يعرف بوجوده، لا يستطيع المدعي العام التحقق على وجه اليقين من ماهية المتسبب في الفساد، لما يمتلك في المهارة في إخفاء الحقائق، لكننا نعرف من خلال الفيلم - أنه رئيس مجلس إدارة البنك. فهو على علاقة بإمبراطور سياسة الكواليس الخلفية. الذي يقوم بدوره الممثل الفذ تانسويا ناكاداي، الذي مثل في أفلام ''كوروساوا'' (ظل المحارب) و''الجنة والجحيم'' و''ران'' و''يوجيمبو'' يشاركه في التمثيل ''ياكو شوكوجي'' بطل فيلم ''لنرقص معاً'' في دور زوج ابنته رئيس مجلس الإدارة.

والذي يكشف في النهاية تلاعباته وفساده.

الوطن البحرينية في 19 يوليو 2006

الفيلم الأمريكي 8 في خطر: صراع بركان النار فوق جبال الثلج!

د. نهاد إبراهيم  

بكل ما يمتلكون من إخلاص وقوة وصبر استطاعوا إنقاذ أصحابهم مهما كانت الأهوال التي لاقوها ، والآن جاء الدور علي الأصحاب ليردوا الجميل إلي منقذيهم بكل وفاء وعزيمة وحب مهما كانت الأهوال التي سيلاقونها ..

معادلة جميلة لو تحققت في المطلق لانقلبت الدنيا إلي الجنة بعينها ، لكن حتي نتابع مدي جدية الالتزام بحفظ المعروف والإعلاء من قيمة الحب واحترام الوعود علي الأقل في لحظة بعينها ، سنتوقف أمام الفيلم الأمريكي " 8 في خطرEight Below " إنتاج عام 2006 من إخراج الفنان الأمريكي فرانك مارشال ، وهو المعروف بوصفه منتجا لأعمال متميزة مثل الفيلم الأمريكي الشهير " الحاسة السادسة " إخراج نايت شامالان . وقد سبق لمارشال ممارسة الإخراج علي مستوي الأفلام التليفزيونية في التسعينيات من القرن الماضي وكان آخرها عام 1998 ، لكنه عاد هذه المرة ليقدم نفسه لأول مرة كمخرج سينمائي بعد كل خبراته الكبيرة التي اكتسبها من خلال عمله في الحقل السينمائي منذ سبعينيات القرن الماضي. نعود مرة أخري إلي عملية الإنقاذ المتبادل التي تمت بمنطق " الإرسال/ الاستقبال " المتعادل والمتكافيء ليس بين إنسان وآخر ، بل بين إنسان وبين مجموعة من كلاب الحراسة والاستكشاف يبلغ عددهم ثمانية ، وقد وقعت كل أحداث الفيلم حسب سيناريو المؤلف ديفيد ديجيليو في منطقة أنتاركتيكا الثلجية الرهيبة التي ستستمر معنا من البداية إلي النهاية باستثناء مرات قليلة تعود فيها المشاهد إلي المدينة الأمريكية ، حيث يلعب المكان في هذا العمل دور البطولة الحقيقية. لكن قبل تقديم القراءة التحليلية لهذا العمل ، تجدر الإشارة إلي أن هذا الفيلم مأخوذ من الفيلم الياباني الشهير " أنتركتيكا " كما يعرف أيضا باسم " نانكويوكو مونوجاتاري" إنتاج عام 1984 إنتاج وسيناريو ومونتاج وإخراج كوريوشي كوراهارا ، وهو في الحقيقة مستلهم من حادثة حقيقية وقعت لبعثة استكشاف علمية يابانية في منطقة أنتركتيكا عام 1957. وقد حقق هذا الفيلم في اليابان معدلات نجاح رفيعة المستوي فنيا وجماهيريا ، حتي استلفت أنظار المنتجين الأمريكيين الذي أعادوا نفس إطار القصة مع استبدال جنسية فريق البحث العلمي الياباني بجنسية أمريكية ، وما يتبعها من متغيرات في السلوكيات والطبائع والعلامات المصاحبة لمدلولات الهوية الموروثة والمكتسبة عند المواطن الأمريكي.

نستطيع الآن التعمق داخل تفصيلات الإطار العام الذي وضعناه لعملية الإنقاذ المتبادل ، وبدون تضييع أي لحظة وجدنا أنفسنا علي الفور في منطقة العمل في قلب أنتركتيكا حيث يعسكر فريق البحث العلمي الأمريكي ، ومن بينهم الشابة الجميلة المتعقلة كاتي " مون بلادجود" ، ومعها مرشد المنطقة الماهر جيري سيبرد ( بول ووكر) وصديقه شارلي كوبر ( جيسون بيجز) . هذا إلي جانب ثمانية من أفضل وأجود أنواع كلاب الحراسة المدربين علي يد جيري شيبرد علي القيام بالمهمات الصعبة ، في الصعود والهبوط والإنقاذ والتنقل والبحث والإرشاد والإبلاغ والتصرف في الكثير من المواقف المعقدة . وقد حذر دليل المنطقة عالم الجيولوجيا الأمريكي الزائر ديفيز ماك كلارين (بروس جينوود) من أن الطقس غاية في السوء ، وأن عملية الاستكشاف التي سيقوم بها معه ومع الكلاب الثمانية ستكون غاية في الخطورة ! لكن فضول العلماء وروح المغامرة المخلوقة داخل العباقرة صمّت آذان عالم الجيولوجيا عن بديهيات التفكير المنطقي في التصرف ، ولولا الكلاب الثمانية لاختفي العالم الذي تعرض لحادث خطير بالفعل كما توقع الدليل إلي الأبد .. بسبب هذا الحادث ومع تزايد سوء الحالة الجوية بعنف ، استحالت عودة فريق الاستكشاف مرة أخري إلي نفس مكان المعسكر بعدما أقلعوا لعلاج المصاب وحتي يهدأ الجو ، بعدما وعد الصديق الوفي والدليل الماهر جيري سيبرد كلابه بالعودة إليهم مرة أخري في أقرب فرصة لإنقاذهم من هذا المصير المجهول وهم وحدهم تماما في قلب الجليد الهائل ، ليرد لهم الجميل الغالي أضعافا مضاعفة. لكن تضاعف سوء أحوال الطقس حالت دون تنفيذ الوعد وإنقاذ الكلاب الثمانية المنعزلين وحدهم في عالم آخر ، ليبدأ الصراع التصاعدي مرة أخري في كيفية اختراق المستحيل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه رغم مرور شهور طويلة علي فراق الأصدقاء ..

من هنا نري أننا إذا بحثنا عن أحداث بعينها فلن نجد إلا فعل إرسال يبحث عن فعل استقبال ، وحوارات أغلبها بين الدليل وكلابه أو بين الدليل ونفسه والقليلين جدا ممن حوله ، وكالعادة تنصب علي الكلاب أيضا دون غيرهم ؛ فلا شيء يعلو علي صوت المعركة .. عدة تحديات بصرية سمعية جمالية إيقاعية قابلت مخرج العمل فرانك مارشال وفريق عمله ، المكون من مديري التصوير سي. ميتشل أماندسن ودون بورجس والمونتير كريسوفر راوز والمؤلف الموسيقي مارك إيشام .. نبدأها بأكبر التحديات وهي حصار الصورة طوال الوقت داخل مكان ضخم ظاهريا لكنه في الحقيقة فارغ تماما لأنه مفلس من أي لمحة حية تستوقف النظر ، باستثناء وجود الإنسان نفسه أي أفراد البعثة العلمية مع الكلاب الثمانية . كما أن هذا العالم الفارغ جعل الصورة وكأنها سقطت بالإكراه في بحر من القطن الأبيض ، وهو ما قد يؤدي إلي نتيجة عكسية دراميا وجماليا بعكس ما قد يعتقد البعض .. فمن المتعارف عليه أن الدلالة التقليدية للون الأبيض تحيل إلي السكينة والسلام وراحة النظر والعين والنفس ، لكن اللون الأبيض إذا طغي بهذا الشكل الكاسح واحتل الصورة تماما علي مستوي التشكيل البصري مثلما حدث ، فقد يتسبب في ضياع المنظور وانفلات العثور علي نقطة تثبت العين علي لحظة أو نقطة بعينها ، وهو ما يعني بالتبعية فقدان التركيز والتشتيت وموت الصورة السينمائية إلي الأبد لأنها بلا دافع أو أساس بنائي متين . كما أن طغيان لون واحد مهما كان علي كل شيء بهذا الشكل والقبض علي جهات الصورة الأربعة ، يمكن أن يتسبب في ملل شديد للمتلقي لعدم تجدد الصورة بما تحمله من الإحالات والدلالات أمام العين ، كما قد يؤدي أيضا إلي الضيق ثم التوتر ثم العصبية ثم الغضب ثم النفور والانصراف ، بفعل قهر اللون المسيطر والمتحكم في مقاليد الأمور علي قنوات الاستقبال ليصبغها بلونه... أما من الناحية السمعية فقد انعدمت أي مصادر للصوت في هذا المكان السحيق ، باستثناء صوت الكلاب وبعض حوارات أفراد البعثة العلمية القليلة كمّاً ، أولا لأنهم منقسمين بين من يقوم بالمغامرة ومن يقوم بالانتظار، ثانيا لأن طبيعة العلماء هي قلة الكلام وإعمال العقل صمتا أكثر ، وثالثا لأن طبيعة مغامرة الإنقاذ ذهابا وإيابا فرضت علي الجميع حالة سكات طويلة ممتدة بين الترقب والإحساس بالخطر ووقوع الحوادث وعملية الإنقاذ البطيئة علي عدة مراحل ، بالإضافة إلي حالة الحزن العميق التي سيطرت علي الدليل جيري سيبرد عندما تحول كل لسانه إلي آلة تعذيب لضميره داخليا علي تركه أصدقائه الثمانية الشجعان وحدهم وإخلاله بوعده الثمين ولو رغما عنه. كل هذا كان يدور تحت وطأة إيقاع بطيء إلي حد ما بفعل جمود الثلج وفروغ الحياة من محتوياتها ، لكن المخرج حاول التغلب علي هذه العقبة وغيرها من خلال التركيز أولا وأخيرا علي المشاعر الإنسانية التي أحيت اللحظة الدافئة وأذابت بعضا من الجليد ، لتوازن الصورة بين الإنسان ورفيقه الكلب وبطولة المكان ، مع ملء الفراغات الصوتية بضجيج بعض الطيور عابرة السبيل ، وبجمل موسيقية حزينة لكن محلاة بروح الكفاح لتعميق الحالة النفسية وزيادة شحنة المشاعر بين الدليل وأصدقائه الكلاب ، حتي أن صمتهم التام انتظارا لصاحبهم الوفي كان أبلغ من صياحهم ويحرك الحجر.. وبقدر تنوع المخرج مع مدير التصوير في أحجام وزوايا اللقطات للهروب من فخ اللون الواحد ، حاول أيضا تغيير الجو العام بالانتقال إلي مشاهد المدينة ، لكن سيطرة حالة الحزن الشديد علي البطل وغضبه العارم جعلنا نتناسي كل المظاهر المزيفة أمامنا ونتعايش مع مشاهد الثلج البعيدة بالتركيز والبصيرة أكثر من الإبصار المباشر ، وهو ما ساعد عليه أيضا منهج المونتاج المتوازي المتنقل بين هنا وهناك في التوقيت المناسب ومراقبة عداد الزمن علي مرور الأيام والليالي بلا هوادة. والغريب أن المخرج فرانك مارشال نجح في رؤيته وتنفيذه للمشاهد الصعبة بين الثلوج مع الممثلين من البشر والكلاب المدربين أكثر من مشاهد المدينة الباهتة التي تنقصها قوة التوظيف وثراء الدلالات .

بعد رحلة عذاب طويلة استطاع البطل المرشد بمعاونة أصدقائه إنقاذ معظم الكلاب الباقية علي قيد الحياة رغم كل الأهوال . أنقذته مرة فأنقذها مرة وأخيرا هدأ الصديق وضحك بعدما تمت عملية الإرسال والاستقبال بنجاح قدر المستطاع وأصبح الطرفان خالصين.

جريدة القاهرة في 18 يوليو 2006

 

د. وليد سيف يكتب عن غياب نجمة

عفريت محمد سعد يطارد عبلة كامل في «عودة الندلة»

علي الرغم من التأثير السلبي التي تحققه دعاية فيلم «عودة الندلة» التي تجعلك تتوقع أن تجد فيه الكثير من العيوب والسقطات إلا أن هناك ثلاثة اسماء يتضمنها الأفيش تجبرك علي أن تشاهده وأنت علي ثقة تامة من أنك سوف تجد ما يثير إعجابك، وقد أصبحت هذه الأسماء ترتبط في ذهن المشاهد بالمتعة الفنية سواء من خلال الأداء التمثيلي الراقي والمتميز والطبيعي إلي حد غير عادي لعبلة كامل أو الإخراج الرائع للمشاهد للمشاهد الكوميدية والغنائية للمخرج حامد سعيد أو الدراما الصادقة القريبة جداً من القلب سواء كانت كوميدية أو تراجيدية، ومن واقع ومفردات مصر اليوم للكاتب المتمكن بلال فضل.

من البداية تصدمك اللقطات المصاحبة لعناوين الفيلم فهي عبارة عن صور فوتوغرافية متنوعة لمعالم القاهرة تتداخل بفجاجة وفي تكوينات رديئة مؤذية للعين وبتنفيذ شديد الرداءة إلي حد يجعلك تسأل نفسك هل الفيلم بالفعل من إخراج سعيد حامد أم أنه مجرد تشابه في الاسماء.. ولكن من المشاهد الأولي تدب حالة من الحيوية وسرعة الإيقاع وتتبدي لك الطرافة في رسم الشخصيات وجمل الحوار وتفاصيل السيناريو لتتحقق بالفعل من أنه للكاتب المتميز بلال فضل الذي لا يترك لك سوي لحظات قليلة للتعرف علي الشخصيات ليدخل بك إلي الموضوع في حركة مفاجئة ومدهشة ومثيرة، فالزوجة استفتاح تخرج من السجن بعد قضاء تأبيدة علي أمل أن تنعم باقتسام غنائم السرقة مع زوجها وحياة مستقرة مع ابنهما، وعبر رحلتها بسيارة التاكسي من السجن إلي بيتها في عزب القرود تتوالي اللقطات شبه التسجيلية مع تعليقات معبرة ومتسقة مع شخصية استفتاح وكاشفة عن جاونب مهمة من التغييرات التي طرأت علي العاصمة في العقدين الأخيرين «البلد ما بقاش فيها فيلل خالص.. بقي كلها عمارات.. ودي حانط عليها إزاي» ثم لتمثال رمسيس «لو كنت في فيللا ما كنتش عتقتك» ثم وهي تري الأغلبية من السيدات المحجبات يعبرن الشارع «كل الستات دي رايحة تصلي؟!».

رحلة لم تكتمل

وبعد بضعة مشاهد هزلية وركيكة سواء بسبب الاعتماد علي سوء التفاهم المفتعل مثل مشهد لقاء استفتاح بحماتها مع زوجها الجديد التي تعتقد استفتاح انه ابنها رويعي في إصرار غريب لاتهام الجدة بأنها في علاقة غرامية مع حفيدها لتعبر عبلة عن حالة الاستياء الممزوجة بالدهشة التي تؤدي بها معظم لقطاتها منذ عدة أفلام «بتضرب أمك عشان بتحب ستك.. لا يابني كله إلا عقوم الوالدين» ولكن سرعان ما ينفض السيناريو عنه غباره عندما تنجح استفتاح في الوصول إلي زوجها لتعرف أنه أصبح من كبار رجال الأعمال وتزوج من سيدة مجتمعات وكتب ابنهما باسمها.. وهنا تعتقد أن رحلة الفيلم الحقيقية سوف تبدز وأن الصراع الهزلي من أجل استرداد الابن والمال سوف يشتعل بين الصعلوكة الضائعة الخارجة من السجن لتوها من ناحية ورجل الأعمال المليونير صاحب النفوذ والعلاقات من الجانب الآخر.. ولكن شيئاً من هذا لا يحدث ويدب الفتور القاتل في أوصال الفيلم. تقبل استفتاح بمحض إرادتها واختيارها أن تزعم أنها عمة إبنها لتنعم بصحبته وتعيش في فيللا الأب وتتقبل الزوجة -غادة عبد الرازق- الأمر وبراءة الأطفال في عينيها، وتصحب استفتاح ابنها في مختلف أنشطة حياته من دروس خصوصية إلي لعب في النادي إلي حفلات موسيقية إلي رحلة لمارينا -من بابت تغيير المناظر- فتستغرق هذه المشاهد التي تخلو من أي دراما معظم مساحة الفيلم.. وقبل النهاية بقليل تعاود استفتاح فكرة إثبات نسب إبنها لها وتنجح في الوصول إلي المستند ولكنها تتراجع عن الإعلان عنه عندما تعتقد أن ذلك سيؤذي الابن وهنا يتدخل سكرتير زوجها- قام بالدور الفنان المتميز محمد شومان- ليطلع ابنها علي الحقيقة فيعترف الجميع بالأم الحقيقية التي لا تنسي أن تشكر الأم التي ربت لأنها أحسنت تربية الابن. تتخلل هذه الحبكة الملفقة مجموعة من المشاهد الهزلية الفجة والشخصيات المثيرة للاشمئزاز مثل العجوز الشمطاء التي تتزوج شباباً في سن أحفادها والعاهرة التي أصبحت معوقة ولكنها مازلت تمارس الرذيلة من خلال التليفون أو سيدة الأعمال التي تفخر بأنها أنقذت كلب شوارع من الضياع.. والشتائم المباشرة الموجهة من نوعية «علمتي الزايدة يا بنت الناقصة» و«ياكهين يالئيم يا جعر يابيه».

علي أي حال من الوارد طبعاً أن يتضمن أي فيلم كوميدي حالياً مواقف ومشاهد وتفاصيل من هذا النوع من باب إرضاء الجمهور الذي أقبل من قبل علي أفلام من نوعية «كلم ماما وحاحا وتفاحة» وغيرهما ولكن المشكلة أن المشكلة أن فيلم عودة الندلة يتم تفريغه من موضوعة تماماً لتحل محله مثل هذه الأشياء، ليس هناك أي ضرورة للاهتمام بخلفيات الشخصيات أو تطور علاقاتها ببعضها.. ولا داعي لأن تشغل بالك لتتسائل متي تتحرك الأحداث للأمام.. المسألة باختصار أن هناك مجموعة من المشاهد تم تصويرها خصيصاً لشريط الدعاية عن الفيلم مثل المشهد الوحيد لطلعت زكريا ومشاهد فتحي عبد الوهاب القليلة التي أداها بجدية كشفت عن أداء عبلة المصطنع.. كما أن هناك أيضاً أغنية سوف تذاع علي قنوات الأغاني والأفلام لابد أن تكون جذابة ومثيرة نري فيها أهل الحارة الغلابة وهم يلعبون في بيسين فيللا البيه ويقيمون مولد في مشهد فانتازي غريب مع الاعتذار للفانتازيا لا يثير الدهشة بقر ما يثير الضجر بينما نستمع إلي صوت عبلة كامل «الصبر طيب ع الخسيس ابن الـ.......».

فن إفساد الأفلام

المؤسف أن كل هذه الأشياء أفسدت فيلماً كان يمكن أن يتميز بالقوة والأحكام والتأثير والجاذبية في نفس الوقت، بل وكان من الممكن بالفعل أن ينضم إلي قائمة أفلامنا الكلاسيكية التي لا تنسي إذا ما سارت الأمور علي طبيعتها وفقاً لمقدماتها فيصبح عملاً تمتزج فيه الكوميديا بالتراجيديا ويختلط فيه الشعور بالتعاطف مع الزوجة الأم ضد ندالة زوجها مع الضحك علي المقالب والصفعات التي توجهها له علي طريقة علي الزيبق أو شمشون ولبلب.. ومن الواضح أن بلال فضل قد استلهم في صياغته الأصلية لهذا العمل من التراث المحلي والعالمي ومن دراما الانتقام مثل الكونت دي مونت كريستو أو الأدب الاجتماعي السياسي مثل اللص والكلاب وغيرهما.. وأقول الصياغة الأصلية لأن ما رأيته علي الشاشة لا يمت بصلة لبلال فضل ولا سعيد حامد ولا عبلة كامل ولا حتي منتج الفيلم الذي يدرك جيداً كيف يثير إعجاب الجمهور وكيف يضمن لفيلمه النجاح.. ولكن المسئول عن فشل هذا الفيلم والعقل المدبر لإفساده هو الفنان محمد سعد الحاضر الغائب كنموذج للنجاح الغير مسبوق للأفلام الهزلية.

عفريت محمد سعد يطارد عبلة كامل

عفريبت محمد سعد يخيم علي أحداث الفيلم وصورة محمد سعد كممثل وأفلامه كنموذج تلوح في معظم مشاهد هذا الفيلم.. فمادام محمد سعد يوظف قدراته البدنية في أداء حركي ورقصات غير عادية فما المانع أن تجتهد عبلة في ذلك بإمكاناتها المحدودة وحجمها الثقيل فتقفز علي طريقة الدببة أو الغوريللا بمناسبة وبدون مناسبة لعل هذا يثير الضحك.. وإذا كان محمد سعد يؤدي بعض المشاهد التراجيدية بقدرة خارقة ويصل إلي حالة من الانفعال غير العادية حتي يحمر وجهه ويتحول إلي بركان من الغضب فما المناع في أن تلطم عبلة خدودها وتقطعها بأظافرها ثم تقرب وجهها من الكاميرا ليتأكد المشاهد أن خدودها أصبحت حمراء بلون الدم.. وإذا كان محمد سعد يسخر من الأغنياء كثيراً ومن عدم إدراكهم لأوضاع الفقراء فما المانع من أن تروي السيدة عبلة حكاية الموظف الذي قتل ولم يجدوا في جيوبه سوي ثلاث جنيهات.. أنا لا أزعم بالطبع أن محمد سعد يقدم تحفاً أو روائع سينمائية ولكنه علي الأقل يقدم ما يؤمن به هو شخصياً من خلال ما يراه توظيفاً جيداً لإمكاناته التعبيرة وقدراته الحركية.

شومان يصعد نحو القمة ببطء ولكن بثقة

وعلي نفس المستوي من الرداءة يكون أداء عزت أبو عوف فلم تكن التصرفات المقرفة والمقززة كفيلة بإقناعنا بأنه حرامي كما لم يكن أسلوبه واختياره لملابسه وعباراته مناسباً لإقناعنا بأنه بيه من أصول وضيعة، أما محمد شومان فكان مفاجأة الفيلم الحقيقة فعلي الرغم من عدم وضوح شخصيته وعدم وضوح موقفها ولا مشاعرها في معظم أحداث الفيلم إلا أنه ينجح في المشاهد الأخيرة حيث تتضح معالم الشخصية ويتمكن من الإمساك بها وينجح في أن يجعلنا نصدقه ونتعاطف معه بل إنه هو الذي ينجح في إقناعنا بالتعاطف مع البطلة التي فشلت هي نفسها في تحقيق ذلك بالبكاء والعويل ولكنه يتمكن من ذلك في مشهد قصير وسريع ومن خلال زاوية جانبية وذلك ببساطة لأنه أدي بصدق وحرارة وتعايش دون انفعال أو مبالغة.

كان من الواضح أن الآداد التمثيلي في هذا الفيلم مسئولية كل ممثل فالمخرج لم يجد ما يفعله في مواجهة شبح محمد سعد الذي خيم علي معظم مشاهد الفيلم ولم تكن محاولات سعيد حامد موفقة في التعبير بالفلاش باك عن أحداث مناقضة للصورة أو استخدام المزج في اللقطة الفوتوغرافية للأم كما لم يكن هناك مجال للتعبير الدرامي بالمونتاج أو الإضاءة أو الموسيقي التصويرية لأن حركة الدراما كانت ساكنة في معظم مشاهد الفيلم إلي حد الركود اللهم إلا مشهد المواجهة في الحفل قبل النهاية الذي طغت عليه العشوائية وسيطرت عليه حالة من الارتباك وكان كل ممثل يؤدي في واد والمخرج في واد آخر وقررت عبلة كامل أن تختلي بقطعة تورتة لتلتهمها وسط المشهد العاصف ربما بهدف إيجاد وسيلة جديدة لإظهار انفعالها بعد فاصل من البكاء والعويل أو ربما بهدف انتزاع الضحكات التي بخل الجمهور عليها بها طوال الفيلم بصورة غير مسبوقة وفي عناد وإصرار غريب.. أدعوا معي أن ينصرف عفريت محمد سعد بصورة غير مسبوقة وفي عناد وإصرار غريب.. أدعوا معي أن ينصرف عفريت محمد سعد لتعود إلينا عبلة الجميلة المتألقة بفنها واحساسها وصدقها وأدائها الهادئ الأقرب للقلوب.

جريدة القاهرة في 18 يوليو 2006

 

سينماتك

 

المخرج الإيراني محمد شيرواني:

السينما هي الذاكرة والتلفزيون هو السلطة في البلدان التي لا تحترم الذاكرة!

عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك