في مذكراته التي نشرت القدس العربي اجزاء منها اشار الاكاديمي والباحث الفلسطيني انيس صايغ الي مصير الكتب والدراسات التي نشرها مركز الابحاث الفلسطيني، بعد اجتياح لبنان، حيث اخذ الجيش الاسرائيلي اطناناً من الاوراق والكتب والدراسات التي انتجها المركز علي مدار عقدين من الزمان اما ما بقي منها فقد نقل الي قبرص ومن هناك بدأت رحلة التشتت في الكتب والابحاث وضاعت ذاكرة فلسطينية مهمة، اشكالية الفلسطيني في تعامله مع العدو انه امام خصم لا يرغب فقط من تجريده من ارضه بل من ذاكرته، ولهذا السبب تفسر مشاهد الدمار والتشويه التي يقوم بها جنود موتورون واغرار في المؤسسات الفلسطيينة في الضفة الغربية، واستهداف اسرائيل الاحياء القديمة في نابلس وانتهاك حرمة الجامعات. والقائمة طويلة من الاعتداءات الاسرائيلية علي الذاكرة الفلسطيينة. ومع ذلك فالفلسطيني يظل موجودا متربصا، يحضر ويلاحق الاسرائيلي، فهو موجود امامه في الذاكرة التي تستعصي علي الاقتلاع، في القري المدمرة في البيوت التي هجرها سكانها، والرواية الاسرائيلية عبرت عن ملامح هذا القلق. وحديث صايغ عن ضياع التراث الثقافي الذي راكمه مركز الابحاث الفلسطيني، يصدق علي الصورة السينمائية، التي ضاعت ايضا بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، ومركز الابحاث كانت لديه شعبة خاصة بالسينما. ومن هنا تبدو اهمية جمع وتوثيق الذاكرة السينمائية عن فلسطين مهمة قومية ووطنية، وانسانية خاصة ان العين السينمائية هي من اكثر الوسائط الاعلامية التي سجلت معاناة والق الشعب الفلسطيني، والفلسطينيون كانوا من اول من تعامل مع هذا الاختراع الجديد. وتعود السينما الفلسطينية الاولي الي الثلاثنيات حيث شهدت هذه المرحلة انشاء عدد من دور السينما التي كانت تعرض الافلام العربية والاجنبية. والجدل تاريخيا حول اول فيلم انتج في فلسطين او انتجه فلسطيني معروف في عدد من الكتب التي كرست للسينما الفلسطينية، ولكن اول فيلم فلسطيني كان من انتاج ابراهيم حسن سرحان وكان تسجيليا عن رحلة الملك عبدالعزيز بن سعود الي فلسطين وقد تعلم سرحان حرفة السينما بنفسه كما حقق فيلم احلام تحققت (1935)، وانتهي سرحان بعد نكبة فلسطين لاجئا واضطر لكي يعمل سمكريا. وبنفس السياق يذكر دارسو السينما الفلسطينية دور الاخوين ابراهيم وبدرلاما في هذا المجال القادمين من امريكا اللاتينية واللذين بدءا العمل في مصر. وابراهيم لاما اخرج في عام 1941 فيلم صلاح الدين في مصر . بعد النكبة في عام 1948 لم تظهر السينما الفلسطينية بشكل ممأسس وله حضور الا في نهاية الستينات اي بعد صعود الحركة الوطنية الفلسطينية وانشاء وحدة التصوير الفوتوغرافي، وكان لمعركة الكرامة اثر كبير في الدفع باتجاه انتاج وتصوير افلام، فصمود المقاومة الفلسطينية لمدة 19 ساعة ادت الي تدفق مئات الصحافيين الاجانب وعدسات التلفزيون، ومن هنا يمكن اعتبار الفترة التي تبعت الكرامة هي البداية او الولادة الثانية للسينما الفلسطينية، ولكن هذه السينما ظلت تسجيلية، وتشارك في المهرجانات، ويحضر في هذا السياق اسماء مثل لا للحل السلمي (1968)و بالروح بالدم . وفي السبعينات بدأ مصطفي ابو علي باخراج عدد من الافلام الجادة اضافة الي فيلمه الاول بالروح بالدم (1971) وفيلم العرقوب ( (1974 و نهر البارد (وبنفس الفترة او بعدها اخرج قيس الزبيدي بعيدا عن الوطن (1969)، الزيارة (1970) وغيرها.. وسمير نمر ليلة فلسطينية (1973) و حرب الايام الاربعة (1973).. وغيرهم. وشهدت فترة السبعينات ولادة عدد من الوحدات السينمائية التي قامت بانتاج عدد من الافلام وصلت الي خمسين فيلما، وبعضها وزع علي مستوي واسع. السينما الفلسطينية سواء الرسمية منها او الخاصة/ المستقلة موجودة وحاضرة والسينمائيون الفلسطينيون سواء في الداخل او المنفي او في داخل اسرائيل اغنوا العدسة بالكثير من الافلام، ومنذ التسعينات حضرت السينما الروائية والتي جاءت من داخل فلسطين. وكان حضور فيلم هاني ابو اسعد الجنة الان (2005) في ترشيحات اوسكار العام الحالي لجائزة الفيلم الاجنبي، والجوائز الكثيرة التي حصل عليها دليل علي نضج هذه السينما التي قطعت طريقا طويلا. السينما كاداة نضالية وكوثيقة لصيقة بالذاكرة الفلسطينية مهمة للفلسطييين. وكما تعددت الهوية الفلسطينة تعددت هوية الافلام التي صنعوها، فهي وان تشاركت في الهم الذي يتحدث عن المخيم، وصورة العدو، والمقاومة، وذكريات الجنة الا انه تلونت بصورة الفلسطينيين المتوزعين بين المنافي وما تبقي من الوطن او الذين ظلوا فلسطينيي الهوية في داخل الدولة الجديدة.

وقد كتب الناقد السينمائي الفرنسي سيرج لوبيرون قائلا ان السينما الفلسطينية جزء لا يتجزأ من الذاكرة الفلسطينية، ذاكرة انفجرت في الزمان والمكان، شظايا صغيرة، قطعا من افلام وصور واصوات محفوظة في علب يصعب التعرف عليها، وضع عناوينها اناس اخرون، نتف من حكايات التقطتها اشرطة، يجب اعادة تجميعها وتصنيفها وحفظها لانها برهان علي وجود له ماض وعلامة هوية وتاريخ بحد ذاته.

بعد سبعة اعوام من كتابة هذه الشهادة عن السينما الفلسطينية والذاكرة، ضاعت الافلام التي انتجت في الفترة ما بين 1969 ـ 1982 فبعضها تلف او سرق. والمهمة التي قام بها قيس الزبيدي في كتابه فلسطين في السينما الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية تستحق التقدير والثناء فهذا العراقي الذي انتمي لفلسطين ويواصل الانتماء لها في زمن عراقي اصبح فيه الانتماء للعروبة سبة فما بالك عن الفلسطيني الذي يتجمع الان، اشلاء وحكايات في ملعب بلدي في عراق ما بعد التحرير . قيس الزبيدي واكب مسيرة العمل الفلسطيني منذ البداية وانتج ذاكرة فلسطينية، ذاكرة هي بالضرورة تاريخ شخصي وعام لفلسطين والفلسطينيين. ومع ان المشروع في حد ذاته هو للبحث عن الافلام السينمائية التي اتخذت فلسطين موضوعا لها بعيدا عن توجههاتها وتصنيفاتها بين التسجيلي والروائي والقصير او الطويل الا ان ما يقدمه لنا الزبيدي هو بمثابة الدليل او الموسوعة التي تتحدث عن 800 فيلم انتجها واخرجها فلسطينيون وعرب واجانب وفي اماكن مختلفة من العالم. وثراء فلسطين في العين السينمائية ـ صورة وذاكرة ومبني ومعني لا يدل الا علي شيء واحد وهو عدالة القضية الفلسطينية، والمثير للسخرية ان الفلسطينيين لا يزالون اخر الشعوب التي تخضع لنير الاحتلال. فكل العالم شارك في الحديث او التوثيق لفلسطين. وقائمة الزبيدي هي عن الافلام التي قدمت فلسطين بنوع من التعاطف او الرؤية الشخصية وتستبعد الافلام الصهيونية، او المتعاطفة معها، وما تقدمه هنا هو محاولات الاسرائيليين الذين تعاطفوا مع القضية او الذين اصابهم احباط من المشروع الصهيوني.

ومن هنا يبدو دور الصورة السينمائية لتذكير العالم بوجود هذا الفلسطيني وتواصل رحلته نحو الحرية والخروج. كان الفن والادب واحدا من تجليات الحضور الفلسطيني في الوقت الذي اراد فيه الصهيوني والاسرائيلي انكار وجود لهذا الشعب او تجاهله وتجاوزه، ووضعه في الزاوية تماما كما حدث مع الهندي الاحمر في امريكا.

اهمية هذا الكتاب تنبع من تعدد الاصوات والصور وزوايا الكاميرا وتعدد ملامح الهوية الفلسطينية، فالكاميرا لم تسجل فقط الفدائي في حياته اليومية واطفال المخيمات وعمليات المقاومة بل سجلت رؤية العائد لبلده الذي كان والباحث عن هويته. فلسطين في السينما هي اكثر من هوية واكثر من وعد، فهي فلسطين الموزعة بين الحلم والجنة الموعودة، فلسطين الموزعة في ذكريات الاباء والاجداد الذي توزعتهم المنافي والخيام وفلسطين الشابة في عيون الذين ولدوا علي وعد العودة والق الرحيل باتجاه معاكس للوطن. ومن هنا تبدو اهمية الصورة الفلسطينية الشرط التي اصبحت هويات مزدوجة، ولكنها تتعاون من اجل تأكيد الوطن الموعود. في هذا الارشيف الجديد/ الموسوعة/ الدليل تتعاون افلام علي تأكيد الذاكرة بكل تجلياتها الادبية والابداعية في الرواية مثلا فيلم عائد إلي حيفا (1982) للمخرج قاسم حول، الي الشعر في فيلم سرحان والماسورة (1973) جماعي، والفن التشكيلي كما في فيلم رؤي فلسطينية (1978) لعدنان مدانات . الي الفولكور الفلسطيني في كرنفاليته وتنوعه الشعبي: الغناء الشعبي والدبكة والموسيقي، كما في فيلم سمير نمر ليلة فلسطينية 1973، و صوت من القدس (1977) لقيس الزبيدي، و عرس الجليل (1987) لميشيل خليفي. وهناك افلام عن السجون والمعتقلات الضوء في آخر النفق لصبحي الزبيدي 2000.. والمجازر كما في فيلمي بالروح بالدم 1971، و عدوان صهيوني (1972) لمصطفي أبو علي 1972، و الإرهاب الصهيوني (1973) لنمر، و جنين (2002) لإياد الداوود، و جنين.. جنين ، (2002) لمحمد بكري، وفيلم اجتياح (2002) لنزار حسن. ويلاحظ ان الاجتياح الكبير الذي قامت به اسرائيل علي الضفة الغربية في عام 2002 وما بعده حظي بالكثير من التوثيق السينمائي والافلام في اشارة لتعدد الاصوات السينمائية، وانتشار الاعتماد في التصوير السينمائي علي كاميرا بيتام كام وقائمة الزبيدي تضم كل الافلام الجديدة التي صورت من خلال هذه الكاميرا.

فلسطين في السينما هو بالضرورة سرد بصري للمعاناة والمأساة الفلسطينية التي مضي عليها قرن، وهو كما اشرنا سرد متعدد الطبقات والاتجاهات، وسرد يجمع ما بين الشخصي والعام، وما بين التاريخي والابداعي، وسرد يعتمد علي الوثيقة او الرواية الشفهية كما في فيلم الزبيدي فلسطين سجل شعب (1984) للزبيدي والذي اعتمد فيه علي ذاكرة مجاهدين فلسطينيين مثل محمد عزة دروزة، واميل الغوري وبهجت ابو غربية. وهذا الاسلوب سيتطور فيما بعد الي افلام تتحدث عن شخصيات بعينها وترسم لها بروفايل او بورتريه كما في حالة مي مصري مع حنان عشراوي، او ليانة بدر مع الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوي طوقان. او فيلم يحيي بركات ابو سلمي (1982)

وهذا السرد البصري ابرز المكان بصورته القديمة وما حصل عليه من اهمال او تطور كما في اعمال ميشيل خليفي الاولي، وجورج خليفي ونزار حسن. فصور المدن الفلسطينية في تجلياتها الجمالية او ما بعد الدمار سجلتها العين السينمائية بقدر ما سجلت حياة الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، ومثلما حظي الفدائيون بافلام حظي اطفال الحرب باهتمام عدسة مي مصري التي سجلت توقهم للحياة والحرية في لبنان ونابلس.

ويبدو اهتمام الفلسطينيين بذاكرتهم المصورة او بالبحث عن سرد بصري مضاد للسرد الصهيوني وفي ثرائه بعدا واحدا من ابعاد الصورة عن فلسطين وهذا البعد متعدد كما اشرنا، ولكنه ايضا يسهم مع السرد العربي الذي كان في تجلياته رسميا يبحث عن تبرير للموقف الرسمي من فلسطين منذ بدايات الغزو والاحتلال الي الموقف التجاري الذي ظهر في بعض افلام المقاولات الي الفن المستقل الخاص الذي انتج افلاما متميزة مثل المخدعون (1970) لتوفيق صالح، وافلام محمد ملص، ومروان حداد.
كما ان فلسطين في العين السينمائية العالمية تقدم سردا مختلفا، متعاطفا، او يحاول البحث عن توازن، وفي البداية وجدت فلسطين تعاطفا من اليساريين في فرنسا او بريطانيا، ولكنها في مرحلة ما بعد الانتفاضة الاولي واثناءها جلبت انتباه العديد من المخرجين، فاضافة لجون لوك غودارد الذي حاول انتاج فيلم في السبعينات لم يظهر الا بعد 15 عاما، كان فيلم الفلسطيني الذي انتجته الممثلة البريطانية المعروفة فانيسا رديغريف من الافلام المهمة علي الساحة العالمية، وهي افلام تظل خارج المنظومة التي نشأت في هوليوود او عبر عنها مخرجون يهود عاشوا في اوروبا وتماهوا مع الرواية الصهيونية عن ارض الميعاد وعن فكرة الرواد الصهاينة الذين جاؤوا لفلسطين لكش الذبان باعتبار الارض غابة استوائية بهدف اقامة دولة حضارية.

محاولة الزبيدي التي اسميناها موسوعة تجاوزا تظهر الكيفية التي تعاملت فيها السينما مع فلسطين فنحن هنا بازاء 800 عين سينمائية، تسجيلية، وروائية، ابداعية وبدائية في فهمها لفكر السينما ودور الفنان والمخرج، وتتراوح في رصانتها وقدرتها علي تجاوز الايديولوجيا في البحث عن ما هو فني وانساني وابداعي في القضية الفلسطينية، الا انها تظل شهادات سردية كل منها تكتسب شرعيتها من الارضية التي انطلقت منها ومن الطريقة او اللغة السينمائية التي قدمها الفنان او المخرج. ولكنها تشترك في المبني العام علي عدالة فلسطين كقضية وكشعب وتؤكد علي وجود هذا الشعب. فهي في النهاية شهادات عن الوجود الفلسطيني، وعن تجذره في الارض والمكان والذاكرة. وفلسطين هنا متعددة الامكنة والازمنة، متعددة الوجوه، عمرها مئة عام، منذ وعد بلفور ان لم تكن قبله وحتي مجزرة جنين في بداية القرن الحالي. وبهذه المثابة فرواية العين السينمائية تكتسب مشروعيتها الخاص في التأريخ والتوثيق لفلسطين الذاكرة والارض. وفي النهاية فالسينما الفلسطينية في صعودها وانتشارها لها اليوم اسماء معروفة، تقوم بمواصلة التوثيق، فهناك رشيد مشهراوي، وايليا سليمان.. الذين يواصلون رحلة السمكري ابراهيم حسن سرحان، وللسينما الفلسطينية ايضا شهداؤها، هاني جوهرية (1939 ـ 1979) الذي حمل كاميرته وصور حياة الفدائيين والاطفال والمخيمات وهناك ايضا مطيع ابراهيم وعمر المختار اللذان قتلهما الاسرائيليون عام 1978.

يقدم الزبيدي الافلام في مداخل تتبع الترتيب الابجدي، حيث يذكر افلام المخرج في مدخل واحد، مع شرح بسيط للفيلم ومحتوياته اضافة الي معلومات ببليوغرافية عن الفيلم، تاريخ انتاجه، جنسيته، مخرجه.. وفي النهاية ملاحق للاسماء، الافلام والمخرجين.

ينتمي قيس الزبيدي، المولود في بغداد، الي جيل السبعينيات من المخرجين، درس في اوروبا، درس التصوير والمونتاج في مدرسة الفيلم والتلفزيون في بوتسدام بابلسبورغ في ما كان يعرف بجمهورية المانيا الديمقراطية وحصل علي دبلوم في المونتاج ( 1964) ، ودبلوم في التصوير ( 1969)، وعمل مصوراً، ومونتيراً، ومخرجاً، وكاتبا في الصحافة والنقد السينمائي والترجمة، في سورية ولبنان والمانيا، وله العديد من الافلام وكتابات في الفن السينمائي. وكتاب فلسطين في السينما هو جزء من مشروع تقوم به مؤسسة المانية لحفظ وبناء ارشيف لسينما فلسطين.

ناقد من اسرة القدس العربي

القدس العربي في 10 يوليو 2006

 

أزمة السينما العربية المعقدة

عدنان مدانات  

تفاخر الشاعر أدونيس في مقابلة ذات يوم بأن الشعراء العرب أهم بكثير شعريا من الشعراء الغربيين. وهذا التصريح ينطبق في الواقع على الشعراء العرب المجددين، المرتبطين بمجتمعهم، ولكن الأصيلين المتكئين على تراث عريق من الثقافة العربية، وبالذات الثقافة الشعرية، والذين تتشبع إبداعاتهم بروح هويتهم الحضارية، وليس على الشعراء المقلدين واللاهثين وراء صرعات التحديث في العالم الغربي.

وللأسف، لا يجرؤ أي سينمائي عربي على أن يقول عن السينما العربية والسينمائيين العرب ما قاله الشاعر أدونيس عن الشعر العربي والشعراء العرب المعاصرين.

قد يجادل البعض مؤكدين أن مثل هذه المقارنة تبدو في غير محلها، خاصة منهم الذين يعتبرون، انطلاقا من واقع أن السينما ليست الشعر، أن شروط تحقيق الأفلام تختلف اختلافا جذريا عن شروط كتابة القصائد، كما انه من المتيسر ربط أواصر الشعر العربي المعاصر بتاريخ ثقافي شعري عربي، في حين يصعب إيجاد مثل هذه الأواصر بالنسبة للسينما، التي هي من نتاج العصور الحديثة وانتمت جغرافيا منذ ولادتها، على الأقل، للعالم الرأسمالي المتطور تقنيا واقتصاديا.

غير أن هذه المقارنة يمكن أن تكون مفهومة ومبررة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن السينما ليست مجرد تطبيق عملي لإمكانيات تقنية تستفيد منها الكاميرا السينمائية، بل هي فن، وهي فن، على الرغم من توفر خصائص تخصه وحده، إلا أنها في محصلتها النهائية فن تركيبي، يستند إلى تراث من فنون سابقة موغلة في التاريخ ومشبعة بالخبرات الحضارية، أي أن له أصولا فنية سابقة على تقنياته، وهي أصول تتوفر في معظمها في تاريخ الحضارة العربية.

يهتم الشعراء العرب المعاصرون كثيرا بتراث الشعراء الأقدمين ويتكئون عليه في نتاجهم الشعري المعاصر، وهم لا يجدون غضاضة في إعادة استخدام أبيات أو صور من شعر الأقدمين الموروث في القصائد الحديثة وتطويعها للفكرة الجديدة الراهنة بل يعتبرون الأمر ميزة، فنقرأ لشاعر معاصر في أحدث ديوان له استعارة من امرئ القيس، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقرأ في ديوان الشاعر عمر شبانة الأخير “الطفل إذ يمضي”، ومن ضمن استعارات كثيرة، استعارة من امرئ القيس (نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا)، موظفة في سياق جديد مغاير: “نحاول ملكا.. ولسنا نموت ولا نعذر..” أو من أبي الطيب المتنبي (تكسرت النصال على النصال): “وانكسرت خطاي على خطاي... كما تكسرت الرماح على الرماح”.

لا تتاح مثل هذه الفرصة كثيرا للسينمائيين العرب المعاصرين، فهم مكبلو الأيدي وهم لا يتنعمون بذلك القدر من الحرية في التعبير الذاتي التي يتنعم بها الشعراء، وهم مضطرون لأن ينشغلوا بمشاغل لا يختارونها في غالبية الأحوال.

ينشغل السينمائيون العرب بتلبية استحقاقات أخرى تفرضها صناعة السينما بصورة أساسية، وذلك بغض النظر عن أصل المواضيع التي يعالجونها وطبيعة البيئة التي يصورونها والأفكار التي ينوون أن يطرحوها: فمعظمهم، مع استثناءات قليلة، من حيث الواقع العملي، إما يطلبون ود جمهور مفترض، أو يلبون ويستجيبون لرغبات منتج وممول سواء كان محليا أو أجنبيا. والجمهور المفترض قد يكون محليا عربيا يبحث عن أفلام مشوقة، وقد يكون جمهور مهرجانات سينمائية دولية، والحال نفسه بالنسبة لنيل رضى المنتجين والممولين. والذين منهم من يصر مع ذلك، وضمن هذه الشروط التي لا يستطيع منها فكاكا إلا جزئيا، على البرهنة على مقدرته الحرفية وإمكانياته الإبداعية أو حتى طموحاته “التجريبية” وعلى التعبير عن فكره وموقفه الخاص من العالم والحياة، يضع نصب عينيه في سعيه هذا تحقيق إنجاز يرقى تقنيا وفنيا، أو يصل إلى مستوى الأفلام التي يصنعها مخرجون ممن اكتسبوا شهرة عالمية، فلا تخفى على العين الخبيرة ملاحظة مدى تأثرهم بهذا المخرج أو ذاك أو بهذا التيار أو ذاك في السينما العالمية.

من ناحية ثانية، سمح تطور إمكانيات السينما نتيجة التقنيات الإلكترونية الرقمية، للعديد من المخرجين السينمائيين العرب بالإعلان عن أنفسهم باعتبارهم سينمائيين مستقلين، خاصة في مجال إنتاج الأفلام القصيرة. غير أن هذه التقنيات التي سمحت لهم بالإعلان عن أنفسهم كسينمائيين مستقلين فرضت عليهم نوعا من التبعية لها إذ جعلتهم تحت سيطرة إغواء تجربة استكشاف واستخدام ما يتيسر من قدراتها في مجال المؤثرات البصرية أو بكلمات أخرى، تجربة “ألعابها”.

في المحصلة النهائية، وفي الغالب الأعم يمكن ملاحظة أن النجاحات القليلة التي حققها بعض المخرجين العرب المعاصرين يمكن تصنيفها في خانة الأفلام الجيدة، ولكن ليس المتميزة، لا على المستوى الشخصي، ولا على مستوى الهوية والخصوصية الثقافية.

هذا في حين أن المأمول من السينمائيين العرب، اسوة ببعض أقرانهم من السينمائيين الآسيويين أو الأمريكيين اللاتينيين وغيرهم من سينمائيي دول العالم الثالث النامية أو غير الصناعية، والذين نجحوا في صنع أفلام متميزة وأسسوا لسينما وطنية، أن يحققوا بدورهم، سينما عربية متميزة، ليس فقط على المستوى الإبداعي الشخصي لأفلام مفردة، بل على نحو خاص، سينما متميزة تضم أفلاما مختلفة لمخرجين مختلفين، تتميز بهوية فنية وحضارية ذات خصوصية.

بدأنا المقدمة بتصريح ادونيس ونختم الحديث ببقيته: يعلل ادونيس سبب تميز الشعراء العرب عن الشعراء الغربيين بالقول إن لدى الشعراء العرب الروح، في حين أن لدى الشعراء الغربيين التكنولوجيا. وانطلاقا من أهمية الروح بالنسبة للفن، يمكن أن نفترض أن ثمة حاجة لرد الروح للسينما العربية.

الخليج الإماراتية في 10 يوليو 2006

سينماتك

 

فلسطين في السينما:

800 فيلم وسرد عن التاريخ والذاكرة: قيس الزبيدي يقدم بانوراما فلسطين كما قدمها مخرجون فلسطينيون وعرب واجانب

ابراهيم درويش 

 

 

 

 

سينماتك

 

«دم الغزال».. السينما الكاملة

واقع اجتماعي عربي بائس يشكل إدانة لكل الأطراف

أبوظبي ـــ محمد الأنصاري:  

حين يدور الحديث عن السينما العربية؛ فإن الذهن يسير بصورة تلقائية نحو بديهيات فرضتها الأفلام السطحية التي تنتجها شركات الإنتاج السينمائي العربية، والهاوية المتردية التي وصلتها هذه السينما في السنوات الأخيرة، وربما بات الحكم المسبق على فشل وسطحية وتردي الإنتاج السينمائي العربي، أمراً مفروغاً منه لدى تناول ونقد الأفلام العربية المعروضة على الشاشة.

ويبدو من العسير تماماً أن تحب شيئاً إن كان لك حكم مسبق عليه، والعكس يحدث تماماً، وبعيداً عن الأحكام المسبقة وفي محاولة لإنصاف بعض الأفلام العربية المعروضة حالياً، وبعيداً عن العاطفة تجاهها سلباً أو إيجاباً، يمكن القول ان الفيلم العربي »دم الغزال« الذي يعرض حالياً في صالات السينما بالدولة.

يعتبر طفرة غير تقليدية في عالم السينما المصرية، وتعتبر عوامله الفنية وأجواؤه »جين« طبيعياً غير معدل وراثياً، بل إبداعا حقيقيا يمثل »السينما الكاملة« بكل ما للكلمة من معنى، وهو يستحق الجوائز الست التي نالها من المهرجان القومي للسينما المصرية الذي انعقد قبل فترة.

»دم الغزال«، وإن اتسم بواقعيته الموحشة القاسية التي تتجه نحو التراجيديا ذات الطقس الحزين، إلا أنه في الوقت ذاته يمثل خروجاً عن المألوف الذي قدمته السينما المصرية طيلة الفترة الماضية حين يجري تناول القضايا الاجتماعية وتناقضات الحياة من فقر وثراء وظهور الجماعات الإرهابية المسلحة من قعر الحياة العربية.

فالسيناريو والقصة كتبهما قبل 3 سنوات واحد من أفضل فناني مصر »وحيد حامد« الذي غامر وأنتج الفيلم على حسابه الخاص، أما الإخراج فهو لمخرج يمثل رؤية جديدة للواقعية السينمائية »محمد ياسين«، بينما احتشد نخبة من نجوم السينما المصرية لبطولة الفيلم التي كانت موزعة وغير محددة في نجم واحد ـ وهذه إحدى حسنات الفيلم وخروجه على الأنماط التقليدية لمجمل الإنتاج السينمائي العربي.

ولا يخفى على الجمهور الأداء الراقي لكل من هذه الأسماء: نور الشريف، يسرا، منى زكي، صلاح عبدالله، عبد العزيز مخيون، محمود عبدالله، عمرو واكد، ويجب أن لا ننسى الدور الكبير لمدير التصوير المبدع محسن أحمد في إظهار الفيلم بصورة تختزل الكلام والنص في لقطات مكثفة تعبر عن إحساس واع بالمكان والوجوه.

أما الموسيقى التصويرية فالموسيقار لا يعلى عليه في عمق الإحساس وتجريد اللحن من مبتغاه الفني المحض للوصول به إلى محاكاة النص والأداء والمشهد والتعبير عنه بصورة أقرب إلى التجريد، وهو الموسيقار الكبير عمر خيرت، وبالتالي فنحن أمام عمل تجسدت فيه ـ ونجازف لنقول ـ لأول مرة مزايا »السينما الكاملة« بعيداً عن أي خلل في الأداء أو الإخراج أو القصة أو العوامل الأخرى.

تدور أحداث الفيلم في إحدى المناطق العشوائية في القاهرة وهو حي »امبابة« في أواسط التسعينات حيث يتحول طبال »محمود عبد الغني« الذي يقف وراء راقصة في المناطق الشعبية إلى أمير لجماعة إسلامية في المنطقة، لتدخل هذه المنطقة بعدها في سلسلة أحداث مؤلمة تنتهي بموت »حنان« الفنانة منى زكي التي تمثل روح الوطن وتمثل »مصر« بكل تناقضاتها.

أما افتتاح القصة، فيكون مع حفل زفاف الفتاة اليتيمة »حنان« من مدمن »حشيشة«، ليتحول الفرح إلى كارثة كبيرة حين تقتحم الشرطة المكان وتلقي القبض على العريس ومجموعة أخرى من سكان الحي نتيجة حيازتهم وتعاطيهم للمخدارت.

وهنا؛ تظهر شخصيتا »ريشة الطبال« الذي أداه محمود عبدالله و«البلطجي« الذي أداه بعفوية فنية جميلة الفنان »عمرو واكد« في التنافس على نيل قلب فتاة الحي اليتيمة »حنان« بعد دخول زوجها الموعود السجن، وبعد »علقة ساخنة« ينالها الطبال على يد البلطجي يقرر الثأر لنفسه عبر الانضمام إلى مجموعة أصولية إرهابية تجد فيه جسراً جديداً لتنفيذ مآربها التدميرية.

وتستمر القصة بانتقال »حنان« برفقة كفيليها »نور الشريف« و»صلاح عبدالله« للعمل في نادٍ رياضي تديره شخصية ثرية من طبقات المجتمع العليا هي الفنانة »يسرا« وتدور الأحداث بعدها إلى حين قيام مواجهة مباشرة بين »أمير الجماعة الإسلامية ـ الطبال سابقاً« وقوات الأمن وأجهزة الدولة في ملاحقة دامية يسقط فيها العشرات من الأبرياء آخرهم الفتاة اليتيمة »حنان«.

وحول هذه الجزئية ورغم اعتراض بعض النقاد ومنهم »طارق الشناوي« حول الإدانة التي يحملها الفيلم للجميع في قتل الحب والسلام على أرض مصر، من جماعات مسلحة وأجهزة دولة لا تعبأ إلا بالحفاظ على الكرسي وطبقات منحطة من الجانبين الثري والفقير؛ رغم هذا الانتقاد فإن الفيلم يتجاوز حدود الواقعية القديمة التي تحاول دائماً إظهار براءة طرف دون آخر، ويدخل ضمن عالم واقعية سينمائية حديثة لا تعترف بالمجاملات وتنقل الواقع كما هو وكما يعرفه الإنسان العربي.

لقد استطاع وحيد حامد ونجومه أن يقدموا عرضاً يعتبر الأفضل لغاية الآن في تاريخ السينما المصرية الواقعية، كما أنه امتاز بجرأة في الطرح في مواجهة الطرفين اللذين قضا حياته في نقدهما وفضح أساليبهما التي تبتعد كل البعد عن الحس بمسؤولية الوطن والمواطن »الحكومة ـ الجماعات الإرهابية«.

وكأنه بذلك يحاول صياغة نظرته بطريقة جريئة بعيداً عن الانحياز في تجسيد الخراب الذي يمثلانه، حيث تم توجيه النقد لوحيد حامد كثيراً عن أفلامه السابقة التي تناولت موضوع »الإرهاب« كفيلمي: الإرهاب والكباب، وطيور الظلام، وكأنه بذلك يعلن شهادة وفاة وولادة في آن معاً، وفاة أسلوبه القديم في أفلامه السابقة، وولادة لأسلوب جديد لم تعتد عليه السينما العربية بعد في تجسيد الواقع الاجتماعي دون مجاملة أو خوف.

أما شخصية »حنان« التي أدتها بكل عمق وعفوية الفنانة القديرة منى زكي، فهي تمثل ـ كما قلنا وكما يمكن استيحاء ذلك من قبل المشاهد ـ مصر بكل ما تحمله من عذابات وحب وضياع وإهمال وسلام ومتناقضات يبدو أن »أم الدنيا« قد أصابت بها جميع شقيقاتها العربيات، ورمزية شخصية »حنان« أبعد ما تكون عن الصورة المباشرة لما ترمز إليه.

فقد كان أداء النجمة »منى زكي« والسيناريو المكتوب لها بعناية ينتقل من صورة تجريدية إلى أخرى، وكأننا أمام مشهد تشكيلي لا يشابهه شيء إلا واقع الأوطان المبتلاة بعقدة »الحكومة« التي تدوس بأقدامها كل من يقف بمواجهتها وعقدة »الجماعات الإرهابية« التي تمثل فئة سطحية متخلفة تريد العودة بالناس إلى الجهل والتخلف،.

وهذه المقاربة بين بعض الشخصيات المتطرفة التي ارتكز عليها وحيد حامد في فيلمه ليست من بنات خياله أو من أفكاره العلمانية كما أراد البعض أن يسوّق، كما أن العارفين بالشأن السياسي المصري يعلمون أن قصة الفيلم حقيقية وقعت أحداثها بين أعوام 1991 ـ 1994 مع اختلاف بعض التفاصيل التي استدعاها العمل الفني، وأن أبناء حي »إمبابة« الفقير قد أطلقوا آنذاك على هذا البلطجي الذي أطال لحيته لقب »رئيس جمهورية إمبابة« خوفاً منه واستهزاءً بما وصلت إليه حالتهم من انفلات أمني.

ختاماً فإن »دم الغزال« يمثل حالة استثنائية بتوصيفه الفني لحالة التعدد الطبقي في العالم العربي، حيث هناك خطان لا ثالث لهما، فإما أن تموت بغيظك وجوعك ويأكلك الفقر والفاقة في أحياء البؤس، أو أن تنطلق في عالم الأثرياء »ذ.م.م ـ شركة ذات مسؤولية محدودة« وتدوس على كل شيء بأقدامك.

وهذا يذكرنا بزيارتنا لإحدى الدول العربية قبل فترة حين كنا جالسين في شارع مرفّه كأنه أحد أحياء باريس أو لندن أو »بيفرلي هيلز« وحين أردنا التجول في الناحية الأخرى لذلك الشارع عبر قوس تاريخي مقام هناك.

نصحنا رفاق رحلتنا من أبناء البلد بعدم عبوره لأنه يمثل خطراً علينا، لم نعبأ وعبرنا القوس لنجد أنفسنا في بؤرة كبيرة للمرض والفقر والفساد والمخدرات وكل الأشياء التي تندى لها البشرية، والفرق بين الحيين »الراقي« و«الفقير« هو بمثابة قوس تاريخي وطني، ويبدو أن أحياء وحيد حامد الفقيرة التي صور فيها معظم مشاهد أفلامه »إمبابة« »الباطنية« وغيرها من أحياء الفقر في مصر، هي ذاتها أحياء »بلاطة« الفلسطيني، وحي »الصدر« العراقي.

وحي »البقعة« الأردني..، لكن ما يميز تلك الأحياء عن الحي الذي ذكرناه عن العاصمة العربية هو أن هناك قوساً يفصل بينها وبين الأحياء الراقية، وربما عملت بعض الحكومات العربية بمقترح إنشاء »قوس« شبيه بالذي تكلمنا عنه!

البيان الإماراتية في 10 يوليو 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك