يعود المخرج والناقد السينمائي الياباني كيجو يوشيدا في كتابه عن مواطنه ياسوجيرو أوزو إلى حادثتين منفصلتين لا يمكن نسيانهما وهو في طريقه للتدليل على مشوار هذا المخرج الكبير الذي لم يعترف إلا بالصمت نقيضاً لهذه الفوضى المفرطة في العالم الذي يعيش فيه.

في بلادنا لم نلتق كثيراً بأفلامه، إذا ما قارناه بشهرة أكيرا كوروساوا وناغيزا أوشيما، والراحل مؤخراً شوهي إيمامورا. ربما نذكر الفيلم الأكثر شهرة له عندنا، ونعني به "مذاق الساكي". ومع ذلك لن يكون صعباً تذكر أوزو، كل من يريد أن يفعل ذلك بغية تلمس الطريق إليه، وعليه أن يعود إلى الذكرى الأولى في كتاب يوشيدا المعنون "أوزو أو السينما المضادة".

يقول يوشيدا إن لقاءً جمعه إلى أوزو مع عدد من المخرجين اليابانيين ربما يكون سببا رئيسا لكتابه هذا، وكان قد كتب نقداً لفيلم "نزوة أخيرة" أكد فيه بأن هذا الفيلم لا ينتمي إلى أسلوب أوزو "المعادي" للسينما السائدة.

يتذكر يوشيدا أن أوزو جاء وجلس قبالته وسكب له الشراب بصمت في سهرة وصفت بالمأتمية لقلة الكلام الذي تبودل فيها. وما إن بدأ شراب الساكي يفعل فعله حتى توجه أوزو إليه بكلمات مقتضبة قائلاً: "إن مخرجي السينما كالعاهرات اللواتي يصطدن الزبائن تحت الجسور وهم يرتدون معاطف القش...".

وتعود الذكرى الثانية إلى نهاية أوزو الفجائعية، وهو قد قضى بالسرطان في مشفى أوشانو ميزو في اليوم الذي بلغ فيه عامه الستين، وكان ذلك في الثاني عشر من كانون الأول عام 1961.

هذه الخاتمة الحزينة لمخرج لم يعتد أن يقول كلاماً كثيراً في حياته، أو هو قد تعوّد القول المخاتل كما تشهد على ذلك أفلامه الكثيرة نسبياً (54 فيلماً)، ربما تشكل في جانب آخر منها امتداداً لوصف العاهرات في السينما. فقد وصف السينما وهو يغط في نومته الأبدية بأنها "كتابة درامية وليست مجرد سلسلة من الحوادث".

يفترض كيجو يوشيدا أن أوزو قد سلمه في هاتين الحالتين مفتاح كتابه هذا قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد. فأوزو هنا كان يقدم تعريفاته النهائية للفن الذي اختزل شاعريته المفرطة الى حد حمله كل تلك التفاصيل المملة في الحياة نفسها على محمل الجد، ومن دون الالتفات إلى الوراء بخصوص ذلك السرد الذي يتشكل منه العالم وعلى مرأى كل واحد منا. ذاك أن أعمال أوزو لم تكن في الواقع سوى عالم غامض يطفو فيه المعنى من دون توقف، درجة إجبارنا على استخدام تعبير "الأوزوية"، ونحن ننحني على تفحص أعماله. وللحق فإن من يرغب في دراسة هذا التعبير الذي يختزل كثافة نقدية مفخمة تخص هذا المخرج فقط، عليه أن يبدأ من طوكيو نفسها التي تحتل عوالمها مجموعة من أفلامه ("جوقة طوكيو"، "صبية طوكيو"، "امرأة من طوكيو"، "نزل في طوكيو"، "الرحلة إلى طوكيو"). وقد يفسر هذا الأخير كل رموز عالمه، باعتباره العمل المكتمل، ذلك أنه يكشف عن عمق هذا الفن ويقدم الدلائل السخية التي تسمح بفك هذه الرموز وقراءة طلاسمها.

هناك في فيلم "الرحلة إلى طوكيو" ـ 1953 ـ زوجان عجوزان يعيشان بدعة وراحة بال في قرية تقع قبالة بحر داخلي. وإذ يقرر هذان الزوجان في لحظة أن يسافرا إلى طوكيو لزيارة أبنائهما، تقوم الزوجة العجوز بسؤال زوجها عن الوسائد القابلة للنفخ وعما إذا كانت موجودة في الحقيبة المعدة لسفرهما. ينفي الزوج ذلك، ويؤكد لها أنه كلفها بأخذها، فيما هي تنفي أن تكون قد شاهدتها، ويصر الزوج على أنه أعطاها لها.

لا تعود الرحلة من أجل زيارة الأبناء مهمة في الفيلم. ها هنا الوسائد القابلة للنفخ، التي تساعد المسافر على النوم، تحتل الأمكنة "المميزة" من مجمل حوارات الفيلم، وكل تلك التحضيرات المرتقبة للرحلة.

هذه "اللاحادثة" هي التي تكشف في الواقع عن دفق عاطفي لهاتين الشخصيتين الوديعتين المسالمتين، وهما يغرقان في الرتابة المملة. وربما تجيء هذه الرتابة "المزعجة" للمشاهد لتزيده شكوكاً بوجود براءة من هذا النوع في العالم. فعدم وجود مشكلة في هذه البداية المتقنة يقود للاعتقاد أن الوسائد القابلة للنفخ تشارك في تلك المحادثة، وهذا ما يدعو يوشيدا إلى تمليك هذه الأشياء الصماء نظرة من دون الافتراض أنها تمتلكها، ولكنها تظل هنا الوحيدة القادرة على ملاحظة ما يجري، وهذا ما يمكن أن يفسر حيرتنا أمام الأشياء التي تعتذر عن عدم دقة النظر البشري كما تظهر في فيلم أوزو. وهذا هو بالضبط ما يرغب يوشيدا في التأكيد عليه، وهو أن الأشياء هنا تشاهدنا تماماً كما الوسائد. وهو ما يجعل من السينما المضادة تشكيكاً بكل شيء يمكن أن يقال عنها وفيها ومن وجهة نظر الأشياء. هنا تصبح الوسادتان القابلتان للنفخ موضوعاً بين شخصين من دون أن يشعر المشاهد بذلك على الفور، أو حتى من دون أن يشعر به أبداً. ومع ذلك فإن نظرة الوسائد تستمر حتى بعد مغادرة الزوجين إلى طوكيو وهي تتطابق مع نظرة أوزو نفسه. وبالرغم من أن صاحب هذه النظرة كان متعلقاً بمدينة طوكيو، وهو قد ولد فيها، فإنه لم يرغب أبداً بوصفها على الرغم من أنها سكنت أفلامه. ليس ثمة وصف للمدينة، بل للطريقة التي يملكها الناس وهم يعبرون عن أنفسهم. وأوزو هنا لا يبحث عن إعطاء معنى للأشياء من حوله، بل إنه يسهم بإضافة نوع من الارتباك إلى استحالة وصف هذه المدينة التي لايجعلنا نرى لها أي لقطة. وبطريقته هذه يقدم الدليل على أنه لم يكن يؤمن أبداً بتلك الفكرة البسيطة القائلة بأن على السينما أن تظهر كل شيء بطريقة ثابتة من خلال نقل المعنى وقد تصفى من شوائب الشك.

ولد ياسوجيرو أوزو في 12 كانون الأول عام 1903، قريباً من معبد فورو كارا فوكوكا، وقد كان أصغر إخوته الخمسة في كنف عائلة تاجر أسمدة بالجملة. وبالرغم من أن سجل أوزو الشخصي يكاد يعتبر هامشياً، فلم تسجل في "حولياته" الشخصية أية أحداث بارزة خلافاً لسيرته السينمائية الحافلة، وبالرغم من أن الحقبة التي تكون فيها وعيه كانت مضطربة.

أفلامه كانت هادئة مثله، وفي سنواته الأخيرة أخذت قصصه الصغيرة تذكر بأن حياته كانت كذلك أيضاً، وما استخدام مؤلف الكتاب لعبارة "أوزوية" إلا للتأكيد على أنه لا يستخدمها فقط للحديث عن أعماله، ولكن للتعبير أيضاً عن حياته الهامشية وهو العازب المثالي الذي كان يكره مشاغل الحياة اليومية، وقد اجتهد في تبسيط حياته الخاصة باقصائها إلى الهامش من أجل أن يركز على عمله كسينمائي. وما إكثاره من الصمت، إلا لأن العالم الذي يستوطن أفلامه كان هادئاً للغاية.

وقد شغف أوزو بالتعبير عن عالمه السينمائي من خلال رموز لا تمت بصلة للسينما كقوله "إن تصوير أفلام مختلفة كل مرة يشبه أكل أرز بالكاري، ثم أكل لحم مشوي بعد المعكرونة. إنني أجد ذلك تعبيراً لمجرد التعبير، فأنا أتصرف كالطاهي المتخصص في الصويا، وحتى لو بدت أفلامي متشابهة في نظر الآخرين إلا أنها تعبر كلها عن أشياء مختلفة ومتجددة، تماماً كالرسام الذي يسعى دائماً إلى رسم الوردة نفسها".

وظل أوزو مخلصاً لاستعاراته من خارج السينما حتى نهاية حياته، ولم يقل شيئاً خالصاً عن الفن، وبقي غامضاً، ومخادعاً، فطلاقة لسانه كانت طريقته للاحتفاظ بصمت عميق، فها هنا تنكشف أفلامه التي ظلت بمثابة ألغاز حتى بالنسبة إليه، وقد عجز هو نفسه عن فكها.

وهكذا، ففي الأزمنة التي كانت تتغير من حوله ثمة قصص كاملة تتربع وتشهد على اللامبالاة الواضحة. فهو، بعد "انتصار" السينما الناطقة على ينبوع السينما الصافية، ظل يتعلق ببعض الأحداث الخالية من الأهمية مما أمكن اعتبارها كفصول جانبية جعلته يحاول إخفاء الحكاية في أفلامه، وذلك الى حد القول إنه عكف على إخراج أفلام تتكلم عن المآسي العائلية الخالية من أية مأساة. ولربما أراد تحقيق أفلام خالية من السيناريو من دون التصديق فعلياً بأن أوزو لم يكن يأخذ مطلقاً القصة بعين الاعتبار، أو أنه كان يسعى إلى تفريغها من محتواها بالكامل. ذلك أن أوزو، ومن خلال روايته لقصصه، كان يكره قدرة المشاهد على فكّ رموزها ما أن يبدأ بالسرد، وبقدر ما كان يصر على رفض الحكايات الكبيرة، فإنه ظل على حذر مماثل بخصوص المونتاج. فهو، بدلاً من سرد حكاية تخضع لمنطق مترابط، كان يقوم بصنع مونتاج غامض لا تتأثر فيه الصورة بمرارة السرد الذي يقبل عليه، وهذا ما جعله يبتعد عن تقنيات المونتاج، حتى أنه رفضه في النهاية مجرباً شيئاً من التركيب العائم الذي يشوبه الصمت العميق. وقد ابتكر صوراً في أفلامه كلها لن تكون إلا النظرة التي تلقى على الأشياء.

أوزو السينمائي المخاتل، المخادع، لم يعبر عن نفسه إلا من خلال المعاني المزدوجة للأشياء من دون معرفة نواياه الحقيقية. كان يرفض القواعد السينمائية، ويؤكد لمن يرغب في سماعه أن السينما هي التعبير عن الحرية الذي يتجاوز كل القيود، ووضعيات الكاميرا لا تأتي من دعابة، ومع ذلك فإنه لم يستطع أن يقترح إلا قصصاً بالكاد تكون قابلة للسرد، وتصل دائماً بعد فوات الأوان.

وهكذا، كما الأشياء بعرف هذا المخرج الكبير، فإن القصص أيضاً تمتلك نظراتها، وكل أولئك الذين أدركوا الطريقة التي تتأملهم بها، لم يكونوا يملكون بالتأكيد حيلة أخرى.

وياسوجيرو أوزو، القامة السينمائية الكبيرة مثل كوروساوا وميزوغوتشي، وناروسي، أراد وهو على فراش الموت أن يستنطق كلمتين فقط لطالما بدتا متناقضتين في أفلامه: "دراما" و"أحداث"، وهو قد أراد في آخر توصيف له أن يقول إن السينما، باعتبارها تقنية تعتمد على تصوير دراما الإنسان، عليها أن تأخذ في الاعتبار الأحداث، فلسنا نحن من يشاهد الفيلم، بل إن الفيلم هو من يشاهدنا. فهل أراد أوزو في اغماضته الأخيرة أن يعرّف السينما المضادة للسينما نفسها بالقول إن "السينما كتابة درامية، وليست مجرد تسلسل للأحداث". ربما يكون الأمر كذلك... فقد أدرك منذ أول فيلم له أن هذا العالم لم يكن سوى خلل وفوضى، وهو من طلب أن يكتب على قبره "فوضى العالم غير المنتهية".

كان ذلك تصعيداً درامياً منه للعب بالصمت جاء على شكل إضافات من الإيجاز الجريء في كتابة درامية ظلت تعنون بها أفلامه... ومن دون تسلسل الأحداث المطلوبة..؟!.

المستقبل اللبنانية في 27 يونيو 2006

 

الفيلم الأمريكي البريطاني (الأخوان جريم Brothers Grimm)

مغامرات ضاحكة ضد السحر تنقصها الإثارة والحرية!

د. نهاد إبراهيم 

أغلب الناس وربما كل الناس تتمني سراً أو علناً أن تعمر في هذه الدنيا الواسعة وتدوم رحلتها إلي الأبد، لإحساس قهري متسلط عليها أن مشوارها الجميل قصير جدا مهما طال.. وإذا كان العلم قد قدم بعض الحلول العملية المنطقية المتفائلة ليعيش الإنسان زمنين وليس زمنا واحدا من خلال آلة الزمن العجيبة مثلا، فهذا ما نسميه سحرا العلم الذي لا يقاوم. لكن ما بالنا بالسحر ذاته الذي يعتمد علي التعويذات واللعنات وما إلي ذلك؟ هل يستطع فعلا التحكم في عجلة الوقت وإدارة عقارب الساعة حسب رغباته الشخصية، وهل الحياة في زمنين هي مجرد إضافة شخص ما إلي مجموعة موجودة من قبل، أم أنه يسلب حيزا علي وجه الأرض ليس من حقه في كل الأحوال وعلي حساب غيره؟

رغم أن الفيلم الأمريكي البريطاني المشترك "الأخوان جريم/ The Brothers Grimm إنتاج عام 2005 ومن إخراج تيري جليام حقق نجاحا متوسطا طبقا لتقديرات النقاد العالمية، فقد اخترنا التوقف أمامه لأنه يطرح إشكالية التعامل مع الزمن وكيفية التفاهم معه؛ وهو موضوع مثير مٌحمّل بتساؤلات فلسفية كثيرة ولو كان بعضها يكمن ما بين السطور. أراد الفيلم تخفيف وطأة وثقل تيمة التحكم في الزمن، فلجأ إلي ثلاث وسائل مجتمعة.. أولا اختيار الجو الفانتازي والمغامرات في الزمن القديم الذي يفتح باب فضول واسعا في حد ذاته، ثانيا اللجوء إلي المعالجة الكوميدية المتعددة الأنواع لتتواصل مع المتلقي من أقصر طريق، ثالثا اختيار الأخوين جريم الشهيرين ليكونا بطلي الأحداث من البداية إلي النهاية بما لهما من باع طويل لدي المتلقي الذي يعرف مدي تأثيرهما علي تاريخ الفولكلور والأدب الشعبي في العالم أجمع. وهذه بالطبع ليست أول مرة تلجأ فيها السينما العالمية إلي تنصيب الأخوين جريم بطلين للعمل الفني، لتحقيق أساس المصداقية المستمد من الاعتماد علي شخصيتين حقيقيتين، ولفتح شهية المتلقي ليتعرف علي أسرار هذين الشقيقين اللذين غيرا مجري تاريخ الأدب.

اختار السيناريست إرين كروجر لأحداثه الدوران في زمن قديم في ريف يقع في قلب إمبراطورية نابليون المترامية الأطراف، وهناك كان الأخوان جريم يتنقلان من قرية إلي بلدة صغيرة وسط بسطاء الشعب يرويان حكاياتهما ومغامراتهما عن الجان والسحر والصراعات بينهما كممثلين للقوي البشرية بعقلها وعلمها وخيالها وإصرارها علي قهر العدو، وبين القوي الغيبية بما لديها من وسائل السحر والخوارق التي لا تنتهي ولا تقهر من وجهة نظرها. لكن السيناريست والمخرج البريطاني تيري جليام طرحا وجهة نظرهما أيضا في الأخوين جريم وفي العصر ذاته الذي تلجأ فيه الشعوب إلي تصديق الحكايات الخرافية، عندما تكون أملها الوحيد في رفع الظلم عنها إذا كان الواقع المحيط لا يحقق لها أغراضها، فهذه الشعوب تعيش وقوع هذه الحكايات بالفعل بكل ما فيها من مخاوف وأمل ورجاء ومخاطر، دون التطرق إلي باب التسلية مثلما نسمع نحن ونستمتع بالحكاية من بعيد لبعيد. ثم أضاف السيناريست مع المخرج المرحلة الثانية من وجهة نظرهما، عندما نصبا بخفة دم شركا للمتلقي ولأهل قرية بسيطة شاهدنا فيها عمليا تجربة الأخوين جاك جريم (هيث ليدجر) وويل جريم (مات ديمون) وهما يطردان جنيا شريرا يسيطر علي أحد البيوت القديمة المهجورة، ثم اكتشفنا في النهاية أن كل هذه القوي المعادية الغاشمة تمثيلية وهمية من تأليف وتمثيل وإخراج الشقيقين جريم، وأن كل هذا السحر والجان وما شابه من صنع أصدقائهما المعاونين لهما لإيهام الناس بقدراتهما بهدف كسب المال اللازم للحياة، وبهدف تدوين هذه الحدوتة في كتابهما الشهير ليكون لهما السبق في جمع هذه المادة الشعبية وتخليدها وتخليد أنفسهما أيضا.

لكن المخرج مع فريق عمله مدير التصوير نويتون توماس سيجل والمونتير ليزلي ووكي والمؤلف الموسيقي داريو ماريانيللي تعاملوا مع هذه الأجواء القديمة بحذر رغم المعالجة الكوميدية، ولم يغلقوا باب التصديق والتفاعل مع الأخوين جريم تماما، لكنهما أيضا لم ينفيا عنهما التهويل واختلاق القصص الوهمية مطلقا، ومن حسن حظهما أن الناس كانت تميل بالفطرة لتصديقهما بفعل الفقر والقهر والخوف والجهل. من هذا المنطلق جاءت المرحلة الثالثة من وجهة نظر السيناريست والمخرج عندما وضعا ويل وجاك جريم في تجربة حقيقية بالفعل ضد قوي سحرية بما لا ينفي وجود السحر والسحرة علي الإطلاق، وبما يسمح لهما أيضا بالتعامل مع الأوهام علي أنها حقيقة هذه المرة؛ لكن المهم هل سيتحول البطلان الوهميان إلي بطلين حقيقيين أم سيصبحان أكذوبة كاملة مثل صديقهما الجني المزور؟! فبفضل سمعتهما التي سبقتهما استدعاهما أهل قرية تقع تحت سيطرة الحكم الفرنسي ليحلا لغز اختفاء عدد من فتيات القرية دون سبب واضح في غابة مسحورة مخيفة، وأخيرا اكتشفا بمساعدة الفتاة الجريئة أنجيليكا (ينا هيدي) أن هناك في هذا البرج العالي بقايا أميرة قديمة (مونيكا بللوكي) كانت غاية في الجمال وغادرت العالم منذ زمن بعيد، وهي تستخدم تعويذة سحرية لعينة لتخفي عدة أفراد من أجل استعارة شبابهم وحياتهم، لتحل محلهم في الزمن الحاضر حتي تعيش إلي الأبد ولا تحزن علي جمالها البائد بعد الآن!

أجواء مشوقة مثيرة نجح المخرج مع فريق عمله في صنعها تجمع بين توجهات ومتطلبات الفانتازيا والكوميديا والعصور القديمة بالتناسب مع عقليات الشعوب وظروفها، فلجأ إلي الخدع البصرية السمعية دون فلسفة لأن البيئة ذاتها بسكانها لا تحتمل ذلك، وتعامل مع كل الأشياء من أقرب زاوية ممكنة لإسقاط أي مسافة بين المتلقي والشخصية وصراعاتها. وحتي عندما كان يبتعد قليلا في لقطة بانورامية ويعرقل الإيقاع الداخلي للصورة ويحيطها بجمل موسيقية غامضة أو حالة صمت موحية للتعامل مع لحظات السحر والترقب والخطر الغامض الذي لا يعرف مصدره أو كيفية التعامل معه، كان سرعان ما يعود أدراجه إلي التعامل مع كل شيء من أقرب نقطة من خلال إيقاع معتدل بعدما تستعيد الموسيقي مرحها بفعل بساطة ومقالب ومناكفة الأخوين جريم الطيبين، من أجل التأكيد علي تجاوز حدود الغيب والوقوف علي أرض الواقع للتعامل بجدية مع صراع هذه الأميرة التي تريد أن تتحدي آليات الزمن وناموسه الأكبر، وتحقق الخلود غير المكتوب للبشر كجسد لكن ربما كسيرة أو ذكري أو إنجازات في أفضل الأحوال.

رغم أن المخرج تيري جليام هو صاحب عدة أفلام متميزة مثل "برازيل" 1985 و"اثنا عشر قردا" 1995 بالإضافة لكونه ممثلا وكاتب سيناريو وفنان رسوم متحركة، لكنه زج بنفسه في بعض مناطق ضعف بصري مضافة إلي بعض مناطق الضعف الدرامي، من أبرزها عدم تمتع كل المواقف بقوة ودقة التصميم والفكر والتنفيذ بما يتناسب مع الجو الفانتازي الكوميدي السحري الممتزج بالواقع، واللجوء إلي الحلول السهلة التقليدية التي حجبت وقللت من تأثير الكثير من المفاجآت التي تستحث تفاعل وتعاطف المتلقي، وظهور الصورة السينمائية كقزم يحاول القفز لإظهار نفسه بفعل الانغلاق في أماكن محدودة دون سبب واضح ودون توظيف المتاح بدينامية متطورة، مع الابتعاد عن المنظور السياسي المهم والخلط أحيانا بين متطلبات الكوميديا وعدم التعمق في القضية بما يكفي؛ فجاء الفيلم هادئا خفيفا مقيدا قليل الإثارة أكثر من اللازم.

جريدة القاهرة في 27 يونيو 2006

شوهاي إيمامورا

رحيل سينمائي: الحياة .... ملعونة ومقدسة

علي زراقط 

في حوالي تسعة عشر فيلماً على امتداد خمسة وأربعين عاماً من العمل السينمائي رسم شوهاي إيمامورا المجتمع الياباني، بالحركة واللون، مجتمعاً بعيداً عن الصورة المسبقة للحلم الذي يتصوره السائح عن القوى الاقتصادية الأولى في آسيا ما بعد الحرب، بعيداً عن أناقة الكيمونو، عن نقاء حدائق الزن، و غرابة السومو. بدلاً عن هذه العوالم، صنع إيمامورا على الشاشة عالماً تسكنه العاهرات، القوادون، السارقون الصغار، الفلاحون المسالمون، ممثلو البورنو المتوسطو الدخل، والقاتلون المأجورون؛ مجتمعاً للمخلوقات الضعيفة، يحافظ على غرابةٍ وحسية تنقلها لنا العين الحزينة، الغاضبة، القاسية والحساسة.

قد يكون شوهاي إيمامورا الذي توفي في الثلاثين من أيار الفائت، واحداً من أعظم مخرجي القرن العشرين، أو قد يكون مجرد ثائر صغير، متسكعٍ يحاول أن يلهو بعدسته في العوالم المغلقة لأسفل المجتمع الياباني بعد الحرب العالمية الثانية. من داخل السوق السوداء، وأحضان المومسات الرخيصات التقط إيمامورا الشاب أنفاسه وأفكاره. هناك تعرّف على الحياة وراقبها وتعلم عن المخلوق الضعيف الذي هو الإنسان. منذ ان كان طالباً في مدارس النخبة الحاكمة في طوكيو، بدأ ميله نحو الطبقات العاملة ينمو، وبدأ بتربية نوعٍ من الكره "لزيف المجتمعات المخملية وكذبها". حاول الخروج من حصار "المجتمع الراقي"، وكانت الفرصة مواتية عندما أعلن الأمبراطور هزيمة اليابان في الحرب، يقول: "كنت في الثامنة عشرة وكان الأمر رائعاً. فجأةً أصبح كل شيء حراً. بدأنا نتكلم عن أفكارنا الحقيقية ومشاعرنا من غير اخفاء أي شيء. حتى الجنس أصبح حراً، أما السوق السوداء فقد راجت في ذلك الوقت".

بدأ حياته المهنية كمساعد مخرج في العديد من الأفلام مع عدد من المخرجين المعروفين، أمثال يازوجيرو أوزو الذي يتفق معه على رؤيته التقليدية للبنى الاجتماعية، فهو كان يرى العالم من أسفل. تأثر بالمخرج "يوزو كاواشيما" الذي اهتم للطبقات الدنيا من المجتمع، وقد كتب إيمامورا مراراً وتحدث عن أثر كواشيما في تكوين الموجة اليابانية الجديدة. لم تظهر أي أفلام لإيمامورا حتى أواخر الخمسينات من القرن الماضي حين أخرج في عام 1958 ثلاثة أفلام هي "رغبات لا متناهية"، "محطة نيشي زينغا" و"رغبات مسروقة" حيث رسم بورتريهات للأماكن التي عرفها وافتتن بها، وبدت أول مظاهر سينماه الآتية.

في عام 1961 قدم "خنازير ومعارك"، الفيلم الأول المميز لخط إيمامورا السينمائي. في فيلم ساخر بسوداوية، يروي إيمامورا قصة شاب و فتاة يربيان الخنازير ويبيعانها بطرق غير شرعية للقوات الأميركية المتمركزة في اليابان. هنا نبدأ بالتقاط أول الأنفاس والخطوط العريضة التي تحكم أسلوبه، استخدام الحيوانات كرمز، تمثيل الجشع الانساني، النظرة الاخراجية التي تميل إلى فنتازيا محدودة عندما تهرب الخنازير في نهاية الفيلم. يبقى الدافع غير المرئي في أعمال إيمامورا هذه النظرة الى المرأة، المرأة الخاطئة والتي تسعى إلى الحرية. قد تكون هذه الصورة عن المرأة مما التقطه من صداقاته الغريبة أيام الجامعة. صادق المومسات ونادلات البارات. "لم يكن متعلمات. كن فظاتٍ ووقحات، إلا أنهن كن أيضاً عاطفيات بشدة، وقد واجهن كل عذاباتهن بعزيمة. تعلمت أن أحترمهن بشدة". هذه الصورة عن المرأة الفظة والوقحة طبعت صورة المرأة في الكثير من أعماله. هي أيضاً المرأة المقهورة التي تتحمل وحيدة مأساة شعب كامل في مرحلة زمنية تشهد تغيراً جذرياً في بنية المجتمع، في يابان ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما في فيلم "المرأة الحشرة" مثلاً (إنتاج 1963)، أم في اليابان القديمة في فيلم "لم لا؟!" (انتاج1981) حيث تقف المرأة شاهدةً على فترة الانفتاح على الغرب في القرن التاسع عشر، بعد قرون من الانعزال، أو المرأة اليابانية المعاصرة في فيلم "حية الماء" ( انتاج 1997). المخرج الذي قضى شبابه الأول في أسفل المجتمع، يصادق القوادين والمومسات، من الطبيعي أن يرى العالم من وجهة نظر مختلفة. من الطبيعي أن يبني عالماً من الشخصيات التي تصبح أبطالاً بالصدفة وبالضرورة، شخصيات لا تمتلك الحكاية في الحالات العادية.

قد يكون فيلم "المرأة الحشرة" المثال الأفضل لمراقبة نمط إيمامورا في بناء الشخصيات، وفي التدخل الاخراجي. الشخصية الرئيسية هي توم، امرأة ريفية تنتقل إلى المدينة خلال فترة الحرب كي تعمل في أحد المصانع، تصبح ناشطة في تجمع العمال، ثم تنجب بلا زواج، ثم تتحوّل مومساً، وتتقلب إلى أن ينتهي بها الأمر خادمة في المنازل. خلال هذه الرحلة يخونها الجميع ويتخلون عنها، العشاق، الإبنة، أصحاب العمل والعمال. إلا أنها تستمر في الصراع على الرغم من ذلك. تبدو القصة ميلودرامية في البداية، إلا أن إيمامورا يبتعد بالكاميرا عن التداخل في السياق الدرامي، يمنع التفاعل العاطفي من خلال اتخاذ موقف المراقب أو، إذا ما أردنا التدقيق أكثر، موقف المتهم.

حتى في مشاهد العنف تبدو الكاميرا خارجة في محاولة لإعطائها صبغة مراقبة التصرف الانساني. كاميرا تخون موضوعها، أو حتى تجرمه، تلك هي كاميرا شوهاي إيمامورا. كاميرا قاسية وحادة ببرودتها، ثم بجمال هذه البرودة. كاميرا محيرة في هذه الصيغة المتآلفة بين الجمال البارد، والقسوة. أمام هذه الحيرة لا يبدو إيمامورا المخرج متبنياً للغة عدسته، فها هو يتسلق المشهد من خلال التشبيه، أو الاستعارة. فلنتذكر هنا اسم الفيلم "المرأة الحشرة"، ثم فلنربط بين المشهد الأول للفيلم والقصة. في بداية الفيلم نرى مشهداً طويلاً لحشرة ما تحاول أن تتسلق تلة من أوساخ، إلا أنها تقع في كل مرة لتعود و تحاول مراراً. في مقاربة، أو استعارة تكفي كي تجعل الفيلم متورطاً عاطفياً إلى جانب المرأة من خلال تشبيهها بهذه الحشرة المناضلة، ويسمح للكاميرا أن تكون كاميرا علمية دارسة مستغرقة في التأمل، كأنما تستمتع بألم الآخرين. صيغة مفردة تحمل إيمامورا إلى صفاف المخرجين الشعراء، الجامعين للمفارقات في لغة سينمائية فذة.

في فيلمه التالي "رغبة مدنسة" (1964)، يختار مثالاً نسائياً آخر. ساداكو التي يتم اغتصابها فتقرر الانتحار كما تملي عليها التقاليد، إلا أنها وخلال تناولها غذاءها الأخير، تتملكها الرغبة بالحياة، ثم، مع مرور الوقت، رغبة بالرجل الذي اغتصبها، فتبني علاقة معه، ثم يموت المغتصب كي تبقى ساداكو امرأة قوية تتحكم بالأشياء التي لطالما تحكمت بها. بين صورة ساداكو وتوم في الفيلمين، تبدو أفعال المرأتين في كثير من الأحيان غامضة أو غير مبررة، وفي كل الأحيان خارجة عن التقاليد والمألوف، إلا أنهما تطوران رغبة غير محدودة في الحياة. فالمرأة هي الحياة، أو، إذا ما توخينا الدقة، هي استعارة للتعبير عن الحياة. فها هو إيمامورا يبني فيلمه الأخير "مياه دافئة تحت جسر أحمر" (2001) بين المرأة ومنحها لأسباب الحياة. فهي الكنز الذي يبحث عنه ساسانو الذي يواجه مشكلة في حياته الزوجية. يرحل إلى الريف باحثاً عن الكنز الذي قيل له عن وجوده في تلك المنطقة، ليتعرف إلى سايكو المرأة التي لها ميزة بيولوجية تجعلها كلما بلغت النشوة تجعل المياه الدافئة تتدفق إلى النهر فتكثر الأسماك ويتمكن الصيادون عندها من الرزق الوفير. هذه المرأة التي إذا ما أحبت تمنح الحياة هي المرأة التي هجس بها في أعماله. يكرم إيمامورا المرأة في هذا المكان ويحتفي بها من خلال شعرية حادة ونضرة، ترحل إلى حدود الاستعارة، فالمرأة هي الكنز وهي الحياة.

تتجلى هذه الشعرية من خلال بنائه لعوالم غريبة، مليئة بالتشابيه والاستعارات التي تبدو السمة الأبرز في لغته السينمائية. لغة شعرية تذكرنا ببينويل، المخرج الأسباني، وتفتح الباب أمام مقاربات كياروستامي ومخملباف. تتميز لغة إيمامورا بغرابتها، ودهشتها وهشاشة البناء على التشبيه، فتخاف على البناء أن يقع فيتهدم، إلاأن جمال البناء يكمن في هشاشة أساسه، تماماً كما البناء على الماء، أو كما العرزال على غصن شجرة. تبدو أفلام إيمامورا معلقةً بين الحقيقة الباردة وحميمية الخيال، بين قساوة الحياة وطرافة المواقف والشخصيات الغريبة. لا يتوانى عن أن يبني فيلماً كاملاً كما "حية الماء" (1997)، الذي نال عليه السعفة الذهبية للمرة الثانية بالاشتراك مع فيلم "طعم الكرز" لكياروستامي، على تشبيهه الإنسان بحية الماء. الحياة الرتيبة التي يعيشها الانسان أشبه بحياة حية الماء، يرسم إيمامورا في الفيلم "بورتريه" عن حياة الصيادين في الريف الياباني، متدخلاً في إضفاء لمسة سوريالية على الشخصيات: الكهل الذي يتكلم إلى حية ماء، الشاب الذي يحضر مهبطاً لرجال الفضاء، المرأة التي تكتفي بآلة التدليك وتهمل صديقها، وصياد يوزع وصفات طعام تبدو كما لو كانت دروساً في الحكمة. ضمن هذا العالم الرتيب، ينوع إيمامورا الإيقاع مستخدماً ثلاثة أنماط، الأول سريع وعنيف عندما يكتشف الرجل خيانة زوجته فيقتلها، ثم بطيء عندما يخرج من السجن ليلتقي بالشخصيات التي تتقاطع، ثم كوميدي بسيط في النهاية عندما تأخذه رغبته إلى امرأة ينقذها من الموت. بين المرأة التي قتلها والمرأة التي أنقذها يبدأ الفيلم وينتهي. كما في جميع أفلامه يبدو إيمامورا هاجساً بقيمة الرغبة وتأثيرها على حياة المرء، الرغبة بالجنس، بالمتعة وبالحياة.

يجري إيمامورا خلال مسيرته حواراً حول القيمة الأخلاقية للنفس البشرية، مؤرخاً لضعفها وقوتها، فمنذ "المرأة الحشرة" إلى "الإباحيون" (1965) الذي يتحدث عن الوفاء إلى الحبيب أو الحبيبة، في الوقت الذي تسكنه العلاقات المحرمة، وسفاح القربى، مروراً بـ "نزهة ناراياما" الذي نال السعفة الذهبية في كان 1983، الذي يتحدث عن العلاقة بين الموت والحياة، وبين الآباء والأبناء، وصولاً إلى "المطر الأسود" عام 1989 الذي يتحدث عن الحرب وآثارها، من خلال عائلة نجت من قنبلة هيروشيما النووية.

أمام الهواجس الكثيرة التي تعبق بها نتاج إيمامورا، لا يمكننا إلا إن ننحني إلى هذا الشاعر السينمائي، كما انحنى هو للحياة وحملها مدافعاً عنها وعن المتعة فيها، ماراً بكل المحرمات، من الجنس إلى القتل. بنى إيمامورا على مدى خمسين عاماً من العمل السينمائي عالماً ملعوناً بلعنة الشعر مسحوراً بسحر الضوء، عالماً مستعاراً كتشبيه لم يكتمل. ابن الطبقة البرجوازية الذي ولد غنياً وعاش فقيراً، اختار العالم السفلي كمختبرٍ للرغبات البشرية، ورآه المكان الأكثر حقيقة.

المستقبل اللبنانية في 25 يونيو 2006

 

سينماتك

 

ياسوجيرو أوزو:

الوسائد القابلة للنفخ تنظر إلينا

فجر يعقوب

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك