من البديهي أن على أي سينما في العالم تهدف الى أن تكون صناعة أن تقوم على حلقات اربع هي الإنتاج والبنية التحتية التقنية ثم التوزيع والإستغلال. خلاف ذلك, قد توجد الافلام مهما كانت قيمتها ومهما كانت الجوائز المحلية والعالمية التي تحصدها, اما السينما, فلا. و"السينما التونسية" (ونستعمل هذا التعبير لعادة تداوله) تعيش منذ ولادتها الفنية مع "عين الغزال" لشمامة شكلي (1924) وولادتها شبه الصناعية مع تأسيس "الساتباك" ومختبرات "قمرت" الحكوميين (1957/ 1965) إزدواجية, او في الحقيقة إنفصاماً بين نظامين إنتاجيين متناقضين: نظام القطاع العام ونظام القطاع الخاص. فلا هذا كان قطاعاً عاماً بأتم معنى الكلمة كما كان الحال في مصر والجزائر والعراق وسورية ولا ذاك كان قطاعاً خاصاً كما هي الحال في المغرب (نوعاً ما) ولبنان. وإن كان هذا الإنفصام مثرياً في البعض من جوانبه إذ يترك للنظامين حرية التعايش حتى وإن عول القطاع الخاص على أموال القطاع العام لإستمرار نتاجه "التجاري", إلا انه حال دون وجود بنية تحتية تؤمن على الاقل إستمرارية الانتاج السينمائي. فمنذ فيلم "الفجر" لعمار الخليفي (1966) حتى فيلم "فريب" الذي انتهى من إخراجه معز كمون عن رواية "بروموسبور" لحسن بن عثمان, لم تنطلق حركة الإنتاج بصفة ثابتة ونسق مكثف حتى أنه لم يتعد معدل الإنتاج فيلمين او ثلاثة في السنة (في أقصى الحالات) على رغم الصدى الكبير الذي تلقاه الافلام التونسية في المحافل السينمائية الدولية. أضافة الى ذلك تشهد هذه السينما إنحساراً في علاقتها بجمهورها المحلي, ما جعلها فريسة لإتهامات عدة منها أنها "فرنكوفونية" المنحى بسبب الإنتاج المشترك مع جهات فرنسية, نخبوية الطابع جراء اسلوب طرحها, "هدامة للمعتقدات والعادات" لطروحاتها الفكرية والفنية غير المألوفة, إلخ... والاسباب عدة, متداخلة ومتشابكة أهمها: الغموض في سياسة الدولة إزاء شؤون السينما خصوصاً والشؤون الثقافية عموماً حتى وإن تعهدت بأن يصل معدل موازنة وزارة الثقافة (أضيفت إليها أخيراً شؤون الشباب والترفيه) الى واحد في المئة من موازنة الدولة العامة لسنة 2004, فإذ لا تبخل الدولة بالدعم المالي, فإنها من جهة أخرى لا تعمل على إيجاد الآليات المؤسساتية والقانونية لمراقبة ما يؤول إليه هذا الدعم. فتونس لا تملك مركزاً وطنياً للسينما يراقب تكلفة الافلام, ويقترح سن القوانين الخاصة بالسينما, ويحافظ على الارشيف وعلى سالب الافلام, إلخ... والدولة لا تعمل على إسترجاع نسبة مئوية ولو ضئيلة من الدعم في حال نجاح الفيلم في السوق التونسية او الخارجية, وبالتالي يصبح الدعم منحة, ونحن نعرف أن الهبات قد لا تذهب حيث يجب ويمكن من خلالها "تدجين" بعض السينمائيين. والدولة لا تملك تذكرة موحدة لما تبقى من قاعات السينما وبالتالي فهي غير قادرة حتى على المحافظة على مصالحها المالية من الضرائب التي تقتطع على كل تذكرة سينما إلى غير ذلك من المسائل التى تخص الرؤية العامة... 400 ترخيص غياب رأس المال الخاص في ميدان الإنتاج السينمائي على رغم أن الوزارة منحت اكثر من 400 ترخيص لشركات "سمعية/ بصرية". يتسم رأس المال الوطني بالطفيلية الثقافية على رغم الحوافز المهمة كقانون الإستثمار الثقافي, ما جعل وزير الثقافة يعترف بأن: "نسق الإستثمار(...) دون المأمول على رغم الحوافز والتشجيعات المتوافرة لأن الإستثمار في الثقافة بالنسبة الى المستثمر غير مضمون". إلا أن الوزير لم يذهب إلى عرض الاسباب التي تجعل من الإستثمار في الثقافة (ومن بينها السينما) إستثماراً "غير مضمون" ولم يكشف السقف المأمول منه. فلا المصارف ولا الشركات الكبرى التونسية ترى في الإستثمار السينمائي (ولا حتى التلفزيوني الذي تتحكم فيه الدولة التي فتحت أخيراً مجاله للخواص) صفقة مربحة, فهي غنية عنها وغنية من دونها. وبإمكانها أن تربح معنوياً وسياسياً بهبات تقدمها لأحد فرق كرة القدم المشهورة او لصندوق التضامن عوض أن تستثمر في الثقافة وفي السينما خصوصاً أن الميدان غير مربح حتى لأصحابه. 30 قاعة فقط غداة الإستقلال, كانت تونس تملك شبكة من قاعات السينما تتعدى المئة قاعة. واليوم, بعد خمسين سنة, لا يوجد في الجمهورية أكثر من ثلاثين قاعة لعشرة ملايين نسمة. هناك في تونس ولايات (محافظات) داخلية خالية من أي قاعة سينما على رغم أن وزارة الثقافة تقدم دعماً ملموساً بقدر 700 ألف دينار لأكثر من 20 قاعة, دعم يتراوح بين 30 ألف دينار و 100 ألف للقاعة الواحدة من دون التثبت من عناوين المصاريف. إن أنحسار شبكة القاعات كارثة إذ ان القاعات هي المنفذ والعلاقة الوحيدة مع الجمهور الذي هو رأس مال السينما أياً كان النظام الإنتاجي. فإن غابت قاعات السينما, أصبحت العملية السينمائية مقطوعة عن جذورها (جمهورها المحلي) وبالتالي تفقد معناها الثقافي بفقدانها جدواها التجارية. فعلى سبيل المثال, إن تونس الكبرى (ثلاث محافظات: تونس/ إريانة/ بن عروس) وبكثافة سكانية تتعدى المليونين, لا تملك أكثر من 12 قاعة سينما, اكثر من نصفها متمركز في وسط المدينة وفي حال غير لائقة من وسائل العرض والراحة. لقد إنتهت الطوابير الطويلة التي كانت ترافق في منتصف الثمانينات عرض أي فيلم تونسي (500 ألف متفرج لفيلم "السيدة" لمحمد الزرن), إذ إن فيلماً مثل "نغم الناعورة" لعبداللطيف بن عمار وعلى رغم قيمته الفرجوية والفكرية والفنية ودعم وسائل الإعلام له, لم يجذب أكثر من 50 ألف متفرج. الحال نفسها واجهها "عرائس الطين" للنوري بوزيد و"موسم الرجال" لمفيدة التلاتلي و"الساتان الاحمر" لرجاء العماري و"بدوين هاكر" لنادية الفاني وأفلام أخرى. ما جعل المخرج رضا الباهي يعدل عن عرض "صندوق عجب" في قاعات السينما والتوجه به إلى التلفزة لبثه فيها من دون المرور بقاعات السينما. وهي بادرة خطيرة لم يسبق أن شاهدناها في البلاد. فإضافة الى إنقلاب في مقاييس أصحاب دور العرض الذين باتوا يرفضون عرض فيلم تونسي (وهو ما حدث لفيلم "الكتبية" لنوفل صاحب الطابع), أفرغ الشارع التونسي ليلاً من رواده جراء الحل الامني الذي توخته السلطات في صراعها ضد الاصوليين. وبالتالي, ذهبت السينما ضحية هذا الإفراغ فتبدلت نوعية المشاهدين إذ هجرت العائلات والنساء قاعات السينما التي أصبحت مرتعاً للهامشيين وسواهم الذين فرضوا نوعية معينة من الافلام الاجنبية والعربية السخيفة, أفلام قائمة على الحركة والإيحاءات الجنسية الساذجة (أكبر قاعة في البلاد وهي "الكوليزي" المطلة على الشارع الرئيسي للعاصمة تقدم أفلاماً جنسية قديمة في نسخ متهرئة). وحتى الثقافة السينمائية التي كانت مفخرة تونس والسبب الرئيسي في نشوء وإشعاع أيام قرطاج السينمائية, إنحصرت مع انحصار فعل الجامعة التونسية لنوادي السينما وغياب فادح لـ"سينيماتيك" (خزينة الافلام) تمكن جمهور السينما (ولو المثقف) من وجود بديل عن ضحالة السوق وقلة ذوقها. أين ذهبت ساتباك؟ البنية التقنية التحتية من مختبرات لتحميض الافلام وتوضيب الالوان ومزج الصوت الى غير ذلك من العمليات التقنية, ذهبت هي الأخرى هباء لسوء تصرف في المال العام. فحلت شركة "الساتباك" (كانت مدانة بمبلغ 250 مليون دينار حتى العام 1980) وأودعت مختبرات "قمرت" إلى "قناة الأفق" على أن تعيد تجهيزها فلم تفعل, بل إكتفت بتقديم دعم ميكانيكي للأفلام التونسية بـ50 ألف دينار للفيلم الواحد... مقابل حقوق بثه. وبالتالي أصبحت العمليات التقنية تجرى في فرنسا, ما رفع في تكلفة الافلام التي أصبح متوسطها يتراوح بين المليون والمليون واربعمئة الف دينار وهو مبلغ لا تقدر السوق المحلية على استرجاع ولو ربعه. الامر الذي يقيد اكثر فأكثر الإنتاج السينمائي التونسي ويجعله رهينة المنتج المشترك الأجنبي. حالياً, تتهيأ وزارة الثقافة لتوقيع إتفاقية مع المنتج العالمي, التونسي طارق بن عمار (صاحب مختبراتLTC الفرنسية) لإرساء قطب تكنولوجي سمعي/ بصري مقابل منحة من الدولة بمليون وخمسمئة الف دينار. كانت اليد العاملة السينمائية في تونس, لفترة نشاط شركة "كارتاقو فيلم" لصاحبها طارق بن عمار, من أجود واتقن ما هو موجود في السينما العربية وبرهنت على ذلك عبر أعمال ذات قيمة عالية مثل "قرصان" رومان بولنسكي وأفلام لروسلليني وزيفيرللي وكومنشيني وآخرون وبذلك النشاط كونت العديد من التقنيين ذوي الكفاءات العالية وعديد المخرجين الذين سيحيون السينما المحلية في ما بعد. ومع إنتقال نشاط الشركة المذكورة إلى اوروبا, تقلص تصوير الافلام الاجنبية في تونس. وأمام قلة الإنتاج المحلي, باتت السينما التونسية يتيمة حتى في تقنييها الذين لم يعد يجدوا فرصاً للعمل إلا ما ندر. والسبب في ذلك - خلافاً عما هو موجود في المغرب - صعوبة الإدارة التونسية في منح تأشيرة التصوير وإن منحتها, صعوبة أخرى في السماح للمعدات التقنية بدخول البلاد... إن في تونس اليوم اكثر من 400 شركة إنتاج سينمائي وسمعي/ بصري لا نجد من بينها إلا 4 او 5 شركات تعمل فعلاً في حقل السينما وجلها ملك للمخرجين الذين, أمام فقدان الثقة في المنتجين المهنيين, آثروا القيام بالإنتاج بمفردهم. أما البقية فهي تعمل في حقل الإعلان والكليبات وأفلام المؤسسات ولا علاقة لها بالسينما. لنضف إلى ذلك, الفتور الذي أصاب "جمعية السينمائيين التونسيين" (تكونت عام 1970) التي باتت تحت كلكل رئيسها الابدي, المخرج علي العبيدي ("برق الليل" و"رديف 54" وقد حصل أخيراً على دعم الوزارة لفيلمه "اللمبارة", الذي رفضت دعمه لجنة قراءة السيناريوهات, فهجرها السينمائيون الذين لا كلمة ولا قوة لهم في الإصلاحات الميدانية التي تتخذها الوزارة. وبالتالي, باتت سياسة الدولة مجرد إنعاش بضخ المال (450 ألف دينار للمشروع الواحد بمعدل خمسة مشاريع للسنة). هذه هي العلل الخمس الاساسية وأخرى ثانوية, لم نذكرها هنا, وكلها موضوعي تعرقل وجود سينما تونسية بحق مضموناً واسلوباً وتجارة. وما دامت سلط الإشراف تكتفي بالدعم المادي من دون البحث في هيكلة ناجعة تعطي لميدان السينما مكانته وتضعه على السكة الصحيحة, فإن الافلام التونسية ستبقى دائماً ذلك السنونو المعلن عن الربيع. والحقيقة المرة, أن اليوم ليست هناك لا سينما تونسية ولا من هم يحزنون... بل أفلام يتيمة وإن جريئة, أصبح جمهورها يطالب بمراقبتها لأنه يعتقد خطأ أنها لم تعد تقدم صورته التي يريد... جريدة الحياة في 11 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أي مصير لـ "السينما التونسية"؟ خميس الخياطي |
|