*هل ينجح حسن اقلا فيما فشل فيه الآخرين؟

* السيناريو كتبه شبان مراهقون عن حياتهم وتجاربهم وعلاقاتهم مع الآخرين ويمثله شباب مجهول يقف أمام الكاميرا لأول مرة 

أعتقد جازما أن مغامرة «أوقات فراغ» لو تسني لها النجاح.. فإنها قد تغير من مسار السينما المصرية كلها خلال المواسم القادمة.. وأقول «مغامرة» وأنا أعني تماما ما أقول.. إذ أي وصف آخر يمكننا أن نطلقه علي هذا المشروع «المجنون» الذي أقدم عليه حسين القلا.. حسين وافق علي شراء سيناريو كتبه مراهقان هاويان وعهد به إلي مخرج شاب يقدم علي تحقيق أول فيلم طويل له.. بعد أن ساعد عددا من المخرجين المصريين في أفلامهم ثم غامر مرة ثالثة بأن جعل كل أبطال فيلمه من شباب مجهولين يواجهون الكاميرا لأول مرة.. ويلعبون ربما لأول مرة في تاريخ السينما المصرية.. أدوارا تتناسب مع سنهم التي تتراوح بين السابعة عشرة والتاسعة عشرة من العمر!!

إذن «الحكاية» بأجمعها.. حكاية تقف علي حدود «اللامعقول» هذا اللامعقول الذي لو حقق نجاحا سيصبح من أكثر الأمور معقولية.. في سينما تحطمت أشرعتها تماما.. وسارت تتقاذفها أمواج متناقضة ترميها جنبا علي صخور حادة.. وأحيانا أخري تجذبها تيارات هادرة إلي أعماق سحيقة.. دون أية بارقة أمل.

نحن إذن أمام سيناريو كتبه شبان مراهقون عن حياتهم وعن تجاربهم وعن علاقتهم ببعضهم وبالآخرين من جيلهم.. عن الهوة التي تفصلهم عن أسرهم وأهاليهم.. عن موقفهم من الحب والجنس.. عن موقفهم من أنفسهم.. عن حيرتهم تجاه المستقبل الذي ينتظرهم.. عن الفراغ العاطفي والنفسي الذي يحيط بهم ويحاصرهم.. عن المخدرات التي يلجأون إليها لكي لا يواجهوا حاضرا قاتما ومستقبلا لا لون له.. وعن «الحب» الذي أصبح مجرد كلمة.. يتلاعبون بها.. وعن السماء الشاحبة السوداء التي حجبت عنهم كل قمر.

حاتم.. الشاب الرقيق والمدلل.. أكثرهم ثراء.. وأشدهم قلقا.. الذي يحيا في دائرة منعزلة تماما عن أهله الأثرياء.. الذي لا تربطه بهم إلا رابطة المال.. يعتقدون أنهم يقومون بكل واجباتهم نحوه عندما يحققون له ماديا.. كل ما يرغب به.. والذي يحاول أن يجعل من السيارة التي يركبها نموذجا مختلفا عن كل السيارات الأخري.. وكأنه بذلك يحقق أمنية بعيدة له في التميز والاختلاف.

يحب زميلة له.. «منة» التي تحيا بدورها تناقضات عصرها وجيلها.. فهي تقرر فجأة أن ترتدي الحجاب.. وتفاجيء رفاقها.. وحاتم الذي تحبه بمظهرها الجديد.. ولكن سرعان ما تتخلي عن الحجاب فجأة كما ارتدته فجأة.. وذلك في حفل عيد ميلادها.. الذي أرادت أن تظهر فيه بمظهر جميل يثير إعجاب زملائها.. إنها تحب حاتم.. كما تحب أي فتاة مراهقة شابا.. يملك كل المواصفات التي تحلم بها من هي في مثل سنها.. ولكن تناقضاتها.. تجعلها ترفض يوما أن يقبلها.. ولكنها في مرة ثانية لا تمانع من أن تذهب معه إلي أقصي الحدود وتمنحه نفسها دون تردد.

وهنا تدخل علاقة هذين الحبيبين في منحني جديد.. إذ يصبح أهاليهم طرفا قاطعا في هذه العلاقة.. خصوصا بعد أن تعترف «منة» لأختها الكبري بما فعلت.. فتقوم هذه بدورها بإبلاغ أبيها وأمها.. ويأخذ الأب الأمور مأخذا جديا ويقابل والد الفتي.. ويخبره بما فعل ابنه.. وهنا تظهر المفاجأة التي لا يتوقعها أحد.. فالفتي المدلل يرفض تماما إصلاح خطئه.. والزواج بالفتاة التي غرر بها لأنه لا يقبل أن يتزوج من فتاة أسلمت له نفسها حتي لو كان يحبها.. (!!) ووالده يجبره علي الزواج منها.. في مشهد تختلط فيه السخرية بالشجن.

زواج سريع.. ينتهي بطلاق سريع.. ودون أن يلتقي العاشقان القديمان حتي بنظرة واحدة.. وعندما توافق المطلقة الصغيرة علي الزواج بأحد أساتذتها «مدرب الرياضة» وترقص سعيدة في ليلة فرحها.. يقف الفتي العاشق المحترق بين مبادئه وعواطفه في ركن الفندق الكبير.. يشهد موت حبه الذي لم يعرف كيف يحافظ عليه.. وموت أحلامه كلها.. التي نمت وترعرعت.. ثم ماتت قبل الأوان.

قصة حب عادية.. ربما شهدنا مثلها عشرات المرات.. لكنها من خلال الطريقة التي يقدمها بها كاتبا القصة والسيناريو عمر جمال ومحمود محمد.. تبدو طازجة ندية.. غارقة بدموع لم تذرف آهات مكتومة.. لجيل يعيش تناقضاته كلها.. يرفض الحب عندما يدنو منه.. ويفضل أن يحلم به عوضا عن أن يعيشه.

وهناك الفتي الفقير «أحمد» الذي يحيا مع أب قاس.. يعامله معاملة مهينة لأنه حريص علي مستقبله.. يريد له أن ينجح في دراسته.. وأحمد يري عبث الدراسة.. وجموع العاطلين المتخرجين حوله بالعشرات.. إنه لا يجد أية وسيلة اتصال مع أهله.. فهو دائم الكذب عليهم.. يعيش حالة بوهيمية قلقة.. يزيدها حدة بدء إدمانه علي المخدرات.. التي أصبحت قاسما مشتركا بين الشباب كلهم.. إنها الوسيلة التي يواجهون بها واقعا لا يريدونه.. والوسيلة التي تمنحهم فرصة الهرب إلي عالم مزيف خادع يجدون فيه تعويضا عن واقعهم.

هؤلاء الشباب يشكلون شلة.. تختلف تماما في جذورها.. ولكنها تتشابه في ردود أفعالها وفي موقفها من الدنيا ومن الأسرة.. ومن المجتمع كله.

أحمد يحب هو أيضا زميلة له تدرس الصيدلة.. «مي» التي تحاول جاهدة أن تعيده إلي الواقع وأن تبعده عن جو المخدرات وأحلامها الزائفة.. وأحمد يكذب عليها كما يكذب علي أسرته وكما يكذب علي نفسه.. إلي أن تأتي الساعة الحاسمة.. حيث يكتشف والده كذبه ويطرده من البيت.

وهنا كما نتوقع جميعا.. لابد لـ «أحمد» أن يواجه نفسه.. خصوصا بعد أن أدارت له الفتاة التي يحبها ظهرها بعد أن يئست هي الأخري.. من كذبه المستمر.. ومن هروبه من المواجهة.. لقد أصبح أحمد معلقا بين السماء والأرض.. لا يعرف كيف يضع قدمه علي الأرض التي هربت منه.. ولا كيف يحلق بسماء يعجز عن الارتفاع إليها.. إنه مثال حقيقي لابن الطبقة المتوسطة الذي أضاعته أحلامه ورمي نفسه في دائرة من الكذب.. التفت حوله كطوق من النار.. ومنعته من تحقيق أبسط آماله.

هناك أيضا «عمرو» أكثر أعضاء الشلة وعيا بما يريد.. لقد دفعته أسرته قسرا إلي كلية لا يحبها.. إنه يحلم بأن يكون صحفيا وأن يدرس الصحافة في كليتها المتخصصة «الإعلام».. وأسرته تقف سدا في وجه أية محاولة يقوم بها لتحقيق نفسه وآماله وطموحه.

إن العقلاني الوحيد بين زملائه.. يفكر كيف يحفر لنفسه في مجتمع رملي متحرك موطئا لقدم.. وهناك طارق المرح.. مهرج الشلة.. وروحها الحزينة.. الذي يموت بشكل عابث.. ودون أدني سبب ميتة مجانية مضحكة.. تسبب للشلة كلها شرخا في القلب.. وتجبرها لأول مرة وربما لآخر مرة علي مواجهة النفس والتساؤل حول وجودهم.. أين يقفون وإلي أين يسيرون.. وما هو هدف حياتهم.. إن كان لها هدف أصلا.

نماذج.. عابثة بالحياة.. نحس بوجهها من خلال كلامها الساخر.. ومواقفها التي لا تعرف هل نضحك منها أم نبكي عليها.. ما هو الحب بالنسبة لهؤلاء الشباب.. ما هي الحياة.. ما هي الأسرة.. هل الصداقة والزمالة وحدها مهما اشتدت كافية لأن تكون «درعا» يحميها من الطعنات التي توجهها لها الحياة.. متي ستزول هذه العصابة السوداء التي وضعوها حول أعينهم.. وتجعلهم يرون الحياة كما هي؟

ولكن هل يرغبون حقا برؤية الحياة كما هي.. وكما تبدو لهم بكل قبحها ووحشيتها.. ولا مبالاتها وقسوتها؟

حتي الحب.. بات وهما.. حتي الأسرة أصبحت خدعة.. ضاعت المسئوليات كلها.. ضاع الحذر.. ضاعت القيم.. وأصبح كل يسير في درب يتقاطع أحيانا مع درب زميله.. أو ينفصل عنه بشكل لا رجعة فيه.

السياسة.. لا تبدو واضحة في اهتمامات هؤلاء الشباب.. فهم لا يدركون أنهم ثمار سياسة ومجتمع وضع لهم قواعد.. وقيما.. عجز عن أن يجعلهم يؤمنون بها.. فتاهوا تماما في دروب مختلفة.. أراد لهم النظام أن يكونوا علي الهامش.. وبقوا فعلا هامشيين لا قيمة لهم ولا هدف.. لقد تجردوا عن إنسانيتهم.. وأمسكوا بإنسانية مزيفة أضاعتهم وأقامت بينهم وبين الآخرين ستارا عازلا.. لا يمكن خرقه.

في فيلم كهذا.. ومن خلال سيناريو يرسم بصورة تثير الرعب جوا شبابيا قائما مليئا بيأس داخلي.. حيث تموت القيم كلها.. بما في ذلك الحب نفسه بانتظار «بعث» جديد لا نعرف عنه شيئا.. يصبح الإخراج مهمته صعبة حقا.. لأن علي المخرج أن يخلق «جوا» قبل أن يروي «حادثة».. وأن يرسم معالم شخصية نري تصرفاتها من الخارج وعلينا نحن أن نحس بما يختلج في أعماقها من الداخل.

ولقد أدرك «محمد مصطفي» أهمية أن يجد المعادل البصري لكل هذه الأفكار المتناثرة.. التي رماها الكاتبان الشابان كـ «شقائق النعمان» في حقل أخضر.. حمراء كالدم ترتجف نشوة وتثير الحزن بنفس النسبة التي تثير فيها البهجة.

ولقد نجح المخرج الشاب في الدخول إلي هذا العالم المغلق الذي تمثله هذه الشلة التي نراها ربما لأول مرة في السينما المصرية.. تتكلم بلهجة لم نعتد سماعها علي الشاشة.. وإن كنا نسمعها باستمرار في بيوتنا وحاراتنا ومقاهينا.. لغة حارة.. مشتعلة لها مفرداتها ولها اصطلاحاتها.. ولها موسيقاها.

لقد فتح محمد مصطفي فيلمه.. علي مدينة ملاهي.. يتوه فيها أفراد شلتنا بين أنوار مبهرجة زائفة وضحكات مصطنعة ورعب وهمي.. ثم انتهي فيلمه.. والشلة كلها معلقة في دائرة هوائية انقطعت الكهرباء عنها فباتت معلقة بين السماء والأرض.. تنادي مستنجدة ولا أحد يسمعها.. وتغيب الصرخات بين الصدي والاستغاثة.. ولا أحد يبالي.. ولا أحد يسمع وليست هناك وسيلة للإنقاذ.

نهاية سوداء مرعبة.. تجعلنا نواجه واقعنا.. ونسأل أنفسنا.. ما مدي مسئوليتنا فيما نراه.. ألسنا نحن الذين صنعنا هؤلاء؟!.. من هو المجرم الحقيقي بيننا.. نحن أم هم؟!

أوقات فراغ.. صرخة حقيقية من القلب.. صرخة تثير الفزع والتأمل.. نور كاشف يوجهه الفيلم من خلال أبطاله.. إذا استطاع الجمهور أن ينقذهم وأن يسمع استغاثتهم.. فربما أمكنهم أن يوجهوا مآرب السينما المصرية.. نحو بر الأمان.

لنذكر إذن أسماء هؤلاء الشباب: كريم قاسم.. وأحمد حاتم وأحمد حداد وعمرو عادل وراندا البحيري وصفا تاج الدين.. الذين عاشوا وجعلونا نعيش معهم كابوسهم وجنتهم المزيفة.. وخفقات قلوبهم البريئة.. وسذاجتهم وبراءتهم التي أفسدناها نحن بكل إرادتنا.. ثم وقفنا لنحاكمهم وندينهم.

لنذكرهم واحدا وحدا ولنذكر وجوههم النضرة الجميلة المضطربة.. المليئة بقلق مكتوم.. ورغبات مكبوتة.. وغضب يستعد للانفجار.. فمن يدري.. قد تتحول الأمور يوما ما.. فيجلسون هم علي مقاعد القضاة.. ونجلس نحن في قفص المتهمين.

جريدة القاهرة في 20 يونيو 2006

بعد رحيله بـ 57 سنة

نجيب الريحاني.. قلب إنسان في جسد فنان يبكي.. ويضحك

زكي مصطفي

حياته كانت عدة مسرحيات في مسرحية واحدة

هل كان الريحاني سيعلن إسلامه علي يد الشيخ المراغي؟

ماذا لو لم تكن هناك مادة لـ «الفلسفة»؟  

هذا غير منطقي بالطبع ولكن لو لم توجد هذه المادة لابتكرها نجيب إلياس الريحاني.. صاحب أهم مقولة مسرحية عن الدنيا.. قالها بشكل هزلي خفيف.

اللي تعلمه لينا المدرسة عن الدنيا في 15 سنة تعلمه لينا ليالي الفقر في 15 يوما.

ظلت هذه الكلمة عالقة في وجدان ومشاعر الناس ولم تشاركها نفس القوة غير كلمة قطب المسرح الدرامي الكبير «يوسف بك وهبي» عندما قال: وما الدنيا إلا مسرح كبير!

فالمسرح المصري كان عالقا بين كفتي ميزان هذين العملاقين.. الريحاني.. ووهبي.. أحدهما في كفة الدراما والتراجيديا.. والثاني عالقا في كفة الكوميديا الفلسفية.. وفي الثامن من شهر يونيو الحالي... تحل الذكري رقم 57 لنجيب الريحاني.. أو... ملك الكوميديا الناطقة بالعربية.. والذي رحل عن دنيانا في مثل هذا اليوم من عام 1949.

< أطول يوم الثلاثاء

ظل يوم الثلاثاء هو اليوم الوحيد الذي يدمي قلب نجيب الريحاني.. ففي هذا اليوم طرد من المدرسة لأنه لم يدفع المصاريف.. وفي هذا اليوم أيضا طرد ورفت من عمله بشركة السكر بكوم أمبو بالصعيد.. وكاد يموت بإطلاق النار عليه من زوج غيور ارتبط الريحاني بقصة عاطفية مع زوجته في يوم الثلاثاء أيضا.. لذلك كان الريحاني يكره هذا اليوم.. وها هو يوم الثلاثاء يأتي لنتحدث عنه فيه!! حتي إنه قال لخادمه إنه سيموت يوم الثلاثاء إلا أنه مات يوم الأربعاء!

< عراقي.. مصري.. عربي أصيل

لا يوجد سبب واحد وراء هجرة إلياس الريحاني من «بغداد» إلي «القاهرة» إلا طلب الرزق علي وجه التحديد وهذا ما حدث بالفعل حيث استقر الأب في حي «باب الشعرية».. بالتحديد في حارة «درب مصطفي» مع زوجته المصرية «لطيفة» ليمتزج الدم العراقي بالدم المصري ليكونا معا ذلك الشاب الفيلسوف المجدع، والرومانتيكي.. الحالم.. ولكن إلياس الريحاني لم يمهله القدر ليعيش مع أسرته الصغيرة.. فلقد توفي فجأة.. أثناء دراسة الابن نجيب بمدرسة الخرنفش.. والتي كان يدرس فيها بنظام اللغة العربية، واللغة الفرنسية ليجد الريحاني نفسه فجأة في الشوارع باحثا عن عمل حتي ولو كاتب باليومية في محل للفول المدمس.

< شقاوة.. مبكرة

كانت الشقاوة تطل من عين نجيب الريحاني.. فهذا العمل لم يهنأ به.. فلقد عاكس زوجة جزار الحي بالعباسية حيث مطعم الفول... وكاد يقتله.. حتي ترك العباسية كلها هاربا إلي بيت خاله الذي أعطاه خطاب توصية للعمل في شركة السكر بكوم أمبو.

وفي قطار الدرجة الثالثة نام واقفا حتي وصل الشركة وتم تعيينه علي الفور واستقبله الباشكاتب صديق خاله المقرب ودعاه للعشاء في منزله ولولا امرأة الباشكاتب اللعوب لاستقر هناك كموظف عادي ولكن اكتشاف الباشكاتب لعلاقة زوجته مع الريحاني جعلته.. يفصله.. علي الفور من عمله ليعود مرة ثانية وجها لوجه مع الجوع والحرمان.. وشظف العيش.. وعاد للقاهرة باحثا عن عمل.. وقف في طابور الباحثين عن عمل أمام كافة البنوك حتي قابل صديقه «عزيز عيد» فأخبره أنه يعمل في البنك الزراعي وأنهم يبحثون عن موظف بمرتب أربعة جنيهات شهريا... فقال الريحاني إنه هذا الموظف.. وأن راتبه أربعة آلاف مليم مش بطال.

< الممثل الفاشل

لم يكن هناك عمل محدد الملامح يقوم به الريحاني مع صديقه عزيز عيد بالبنك الزراعي.. وكانت حجرتهما بالبنك عبارة عن.. ورشة إعداد لهما حيث يقومان معا بالتدريب علي أشهر الروايات العالمية خاصة الفرنسية ودخل عليهما مدير البنك ذات مرة ووجدهما يتحاوران الأول الريحاني في شراسة السفاح.. بينما عزيز عيد يقوم بدور المستكين والضحية.. قال الريحاني سأمزقك وأقتلك أيها الشرذمة الحقيرة.. وعزيز عيد يقول له: ارحمني أرجوك... فلم يتمالك مدير البنك نفسه وخرج من البنك ليبلغ الشاويش المكلف بالحراسة وأمام ضابط القسم قالا إنهما كانا يتدربان علي إحدي المسرحيات لأنهما يرغبان في التمثيل.. فطردهما مدير البنك ولكن بعد أن أعطي لكليهما مكافأة عن مدة العمل.

خرج الريحاني إلي الشارع مرة ثانية وبحوزته المكافأة مع عزيز عيد، ومن هنا استطاعا تكوين فرقة مسرحية مع روز اليوسف وحسن فايق واستيفان روستي وأمين صدقي وحدث خلاف ما بين عزيز عيد وروز اليوسف.. فانفرط عقد الفرقة واصطحب استيفان روستي... الريحاني إلي أحد المسارح ليقدما معا دورا هزليا من وراء ستار بعابدين مع ممثلة فرنسية عارية.. حتي تم إغلاق الملهي فجأة.. والتحق بعدها الريحاني بفرقة إخوان عكاشة وقام بأداء دور «ملك النمسا» وضحك الجمهور علي هذا الممثل الذي يشبه موظفي الأرشيف ولا يمكن أن يكون ملكا.. لدمنهور.. لا النمسا.. وأخبره جورج أبيض بأنه أسوأ ممثل رأته عيناه وعليه أن يبحث عن عمل آخر غير التمثيل!!

< بديعة مصابني.. 10 نساء في امرأة واحدة!

أقبلت الدنيا علي نجيب الريحاني وصار من أهم الممثلين الكوميديين في مصر.. ونافس بفرفته بربري مصر الوحيد.. علي الكسار.. وصار بعد مسرحية «كشكش بك» ومسرحية «العشرة الطيبة».. ومسرحية «حمار وحلاوة».. و«اديلو جامد».. من نجوم الكوميديا والمسرح في مصر واستطاع بعد فترة وجيزة أن ينتقل بفرقته إلي مسرح ريتز بشارع عماد الدين وتعددت علاقاته الغرامية.. والسبب في ذلك يرجع لفلسفته عن المرأة الخاصة به وهو ما عبر بإحدي المسرحيات: إنني أموت في الهواء الذي يهف من ناحية طراطيف فساتينهن.. طول عمري محتار.. مين من الستات السمينة أو الرفيعة؟ الطويلة أم القصيرة؟ السمراء أم البيضاء؟ كلهن حلوين.. كلهن جميلات أحبهن كلهن.. أحب النوع من أوله لآخره.. تماما كما تحب الفاكهة وتحتار أن تختار أي نوع منها المشمش أم الخوخ؟ الفراولة أم المانجو؟ وعلي العموم أنا عيني مش فارغة.. واللي بيصادفني باكله: خوخة.. مشمشة.. خيارة.. بلحة.. مفيش مانع!!

إلا أن هذا العاشق لصنف الحريم كله.. لم يحب إلا بديعة مصابني وظلت هي الحب والجرح حتي آخر يوم من عمره.. ولولا أنه كان يصرف ويبعزق نقوده.. ولولا أنها كانت عملية للغاية وتبحث عن المكسب في كل شيء لاستمر هذا الزواج الذي غيرت فيه بديعة مصابني.. ملتها.. من الأرثوذكسية إلي السريانية الكاثوليكية.. وقاما بتبني ابنة من بيروت قام الريحاني بتسجيل بياناتها علي اسمه كأب لها وبديعة كأم أيضا.. حتي كان الطلاق لأن الريحاني كان فيلسوفا يحب الحرية فيما بديعة مصابني كانت تبحث عن الهدوء والاستقرار وبزوج يعشق العمل.. لا السهر واللهو... ويعيش حياة البوهيمية، حتي إنها قالت عنه إنه عاشق ممتاز... وزوج خائب!

< المغامرة الكبري

كان تأثير هذا الطلاق قويا للغاية علي نفسية الريحاني.. فلقد وقفت بديعة مصابني كامرأة عملية.. سريعا علي قدميها بينما الريحاني ترنح كثيرا.. وظلت بديعة هي عشقه وجرحه.. وذهب إليها باكيا لكنها رفضت العودة إليه قائلة:

ـ لم أكن أعرف أنك تجيد الأداء التراجيدي أيضا!!

وبالفعل.. حاول الريحاني تقديم التراجيديا والمسرحيات الجادة علي المسرح الخاص به.. وقدم بالفعل مسرحية «المتمردة» والتي صرف عليها الريحاني ألوف الجنيهات كدعاية لها.. وبعد ثلاث ليال من الضحك علي أداء الريحاني انصرف الجمهور الذي لم يتعود من الريحاني إلا علي الابتسامة الصادقة التي تضحك القلب وتجعل العقل يفكر ويتأمل... حتي كان الإفلاس عقب تلك المغامرة الكبري.. إلا أنه استطاع الصمود وعاد إلي ما كان يقدمه من كوميديا تاركا عرش التراجيديا للملك المتفرد يوسف بك وهبي!

< مكتشف سامية وتحية

تمتع نجيب الريحاني بذكاء فطري... فعندما عاصرت السينما المسرح وصارت منافسا قويا له... وجد نفسه يدخل مجال السينما.. ولعله مع يوسف بك وهبي قد برعا في الأداء السينمائي مثلما برعا في الأداء المسرحي.. نجح الريحاني في تقديم أفلام «سي عمر»، «سلامة في خير» و«أبوحلموس» و«غزل البنات» وهو الفيلم الوثيقة حيث اجتمع كل عمالقة الفن المصري، في هذا الفيلم وشارك أيضا فيه محمد عبدالوهاب ويوسف بك وهبي.. استطاع نجيب الريحاني تقديم سامية جمال في «أحمر شفايف» وتحية كاريوكا في «لعبة الست» ونجحت هذه الأفلام.. ومازالت الأجيال الحالية تتابعها.. وكأن الريحاني لم يرحل عن دنيانا!!

< مفاجأة مصطفي أمين

أحب نجيب الريحاني في آخر سنوات حياته.. امرأة كانت مهتمة به وبشئون بيته الخاصة.. وهي السيدة فيكتورين نعوم.. وكان الريحاني وقتها تربطه علاقة صداقة قوية مع الإمام الشيخ المراغي.. شيخ الأزهر.. وكان يستمع إلي آيات القرآن الكريم ويحب سماع الشيخ محمد رفعت.. وفكر في إعلان إسلامه وإشهاره لكنه كان يؤجل ذلك من عام إلي عام.. وهذا كله علي مسئولية الكاتب الكبير «مصطفي أمين» ليظل الريحاني لعبة في يد الأقدار تذيقه مرارة الفقر والحرمان وتعوض بالشهرة والثراء تدفعه دفعا نحو الحب والمرأة والحياة وتحرمه من زوجته وحب عمره بديعة مصابني.

عاش ذلك الإنسان في جسد الفنان وكانت حياته هي مسرحياته وأفلامه.. ولكن من فرط فانتازيتها ثم تجميعها في مسرحية واحدة هي مسرحية «الفيلسوف» زعيم الفكاهة الراقية... أو نجيب إلياس الريحاني.

جريدة القاهرة في 20 يونيو 2006

 

سينماتك

 

د. رفيق الصبان يكتب: عن مشروع مجنون جدا

نجاح «أوقات فراغ» يغير مسار السينما المصرية كلها!

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك